أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

كان المسافة بينه وبين بلد الإمام بعيدة لا يمكن الوصول بأقلّ من شهر مثلا ، وهو قبل مضيّ الشهر محتاج إلى العمل ، ومثل هذا لم يكن نادرا.

وبالجملة منع إطلاق الشبهة في غاية المنع ، إلّا أن يقال : إنّ ايجاب الاحتياط الذي استكشفتموه من الإطلاق وجعلتموه مصحّحا للعقاب وبيانا على الواقع لا يصلح لهذا ، بيانه أنّ المتداول على الألسنة في باب طريقيّة الطرق والأمارات بناء على ما هو التحقيق من عدم الموضوعيّة والنفسيّة أحد المبنيين.

الأوّل : أنّ الطريقيّة بنفسها أمر قابل للجعل ، وهي جعل غير العلم بمنزلة العلم في كونه منجّزا عند الإصابة ومعذّرا عند الخطاء ، وحينئذ يكون التكليف المستتبع لهذا الوضع إرشاديّا صرفا ، نظير الأمر باتّباع العلم.

والثاني : أنّ الشارع يوجد موضوع الإطاعة وهو الأمر المولوي باتّباع مؤدّى الأمارة ، ومن المعلوم أنّ مخالفة الأمر المولوي يستتبع صحّة العقوبة ، لكن حيث إنّ هذا الأمر كان لأجل رعاية الواقع والاهتمام بشأنه فلا محالة لا عقوبة على مخالفته من حيث نفسه ، بل من حيث أدائه إلى مخالفة الواقع الذي هو المطلوب الواقعي ، فلا عقوبة مع عدم الأداء المذكور.

وبالجملة ، هذا أيضا سنخ من الأمر في قبال النفسي والغيري وشأنه الاتّحاد مع الأمر الواقعي لدى المصادفة معه ، وهذا معنى كونه جديّا حينئذ ، ويصير أمرا صرفا بلا ملاك في متعلّقه عند عدم الإصابة ، وهذا معنى صوريّته حينئذ ، فلا عقوبة مع عدم الإصابة ، وتكون العقوبة على مخالفة الواقع مع وجودها ، ومن هذا القبيل أيضا إيجاب الاحتياط إذا كان طريقيّا ، هذا ما تداول في الألسن.

ويمكن الخدشة فيه بأنّه إن كان مرجع هذا الأمر الذي سمّوه طريقيّا إلى أنّ الشارع لكثرة اهتمامه بالواقعيّات لم يرفع اليد عنها في حال الشكّ أيضا وأنّه بصدد استيفائها من العبد في هذا الحال أيضا ، فمعناه أنّه العياذ بالله يعاقب العبد من دون بيان ، ويرتكب ما استقلّ العقل بقبحه.

وإن كان مرجعه إلى أمر مردّد بين الجدّي والصوري كما ذكروه في هذا لم

٢١

يفدنا إلّا الاحتمال بالنسبة إلى الأمر الجدّي الذي هو المناط في حكم العقل ، وقد كان موجودا قبل هذا الأمر أيضا ولم يوجب التنجيز.

وإن قلت : إنّه بعمومه وإطلاقه ظاهر في الجديّة ، وحيث إنّه يتوقّف على وجود الواقع ، والتمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة في المخصّصات اللبيّة جائز ، نستكشف وجود الواقع في كلّ مورد مورد قام عليه الأمر الطريقي.

قلت : هذا خلاف المفروض في مقامنا أعني إيجاب الاحتياط ، فإنّه ربّما يكون نفس الآمر ـ في غير الشارع ـ أيضا جاهلا بثبوت التكليف الواقعي.

وإن كان مرجعه إلى أمر مستقلّ متعلّق بإتيان تمام الأطراف فهذا أمر نفسي لوحظ فيه المصلحة في نفس الأمر دون متعلّقه على ما هو التحقيق من إمكان ذلك ، فيلزمه استحقاق العقوبة على مخالفة نفسه حتّى عند عدم الإصابة ، وأين هذا من تنجيز الواقع والعقوبة على مخالفته على تقدير إصابته وعدم العقوبة أصلا على تقدير العدم.

ويمكن أن يقال : بين الأوامر المتعلّقة بالطرق والمتعلّق بعنوان الاحتياط فرق ، فحال الآمر في القسم الأوّل حال العامل ، فكما أنّ العامل حين عمله بخبر الثقة مثلا لا يرى جانب عدم إصابته وعدم وثاقته ولو كان هو بحسب معتقده مصيبا في نوع الموارد مع التخلّف في البعض ، لكنّه بحسب البناء القلبي والتجزّم حين العمل يلغي جانب الكذب ويأخذ بالصدق ويعمل في هذا النظر ، كذلك الآمر أيضا لا يرى في حال أمره باتّباع خبر الثقة مثلا إلّا جانب مصادفته ، ويدفع عن ذهنه احتمال الخلاف.

ففي هذا النظر إذا أمر ليس لأمره إطلاق شامل لصورة المخالفة ؛ لأنّه لم ير إلّا الموافقة ، فالعبد إن أحرز علما أنّ الطريق على خلاف الواقع فلا عقوبة عليه لفرض عدم إطلاق الأمر حال المخالفة ، وإنّ شكّ في أنّه مصادف أو مخالف فهذا الأمر صالح لتحريكه، بمعنى أنّه لو لم يتحرّك وكان في الواقع مصادفا كان للمولى حقّ أن يؤاخذه ويقول له: قد شخّصت مصادفته بنفسي ولم أجعله في عهدتك ، بل

٢٢

أمرتك بمتابعته مطلقا ، فما عذرك في الترك؟

فهذا نظير أن يشخّص المولى الظاهري صداقة شخص ويأمر بإكرامه مبنيّا على هذا التشخيص ، فإنّ العبد إذا علم بأنّ المولى أخطأ في التشخيص لا يجب عليه الإكرام ، وأمّا عند الشكّ فحجّة المولى عليه تامّة ، هذا حال الطرق.

وأمّا عنوان الاحتياط فحيث إنّه متقوّم بالشكّ ومعنى الشكّ كونه ذا طرفين وكون احتمال المصادفة والعدم متطرّقا بالسويّة فحينئذ إن خصّ الآمر أمره بتقدير المصادفة يصير لغوا ؛ إذ ما دام الشكّ لا يحرّك ، وإذا ارتفع ينقلب الموضوع ؛ إذ لا الاحتياط مع العلم ، فلا محالة يصير ملاك المصادفة حكمة موجبة لتسرية الحكم إلى صورتي المصادفة والمخالفة ، فإن صادف فليس وراء التكليف الواقعي شيء ، وهذا الظاهري أيضا منطبق عليه ، فلهذا يكون الثواب والعقاب على الواقع وإن لم يصادف ، فيصير قهرا أمرا مستقلّا ذا ثواب وعقاب مستقلّين.

والحقّ في الجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة من الأخبار أن يقال :

أمّا أوّلا فلأنّه كما قلنا في أخبار القرعة في محلّه أنّ المشكل غير المشكوك والمحتمل ، فالأوّل خصوص ما إذا انسدّ الطريق من كلّ جهة من الأمارات والأصول عقليّة وشرعيّة ، بخلاف الأخيرين ، فإنّهما أعمّ من ذلك ، وعلى هذا فالقاعدة سالمة عن التخصيص ، كذلك يمكن أن يقال بنظير ذلك في عنوان المشتبه الواقع في هذه الأخبار وأنّه عرفا مغاير للمحتمل مفهوما ، فالأوّل خاصّ بالمحتمل الذي لم يعلم أنّ عاقبته خير أم شرّ ، والثاني عام منه ومن صورة العلم بعدم شريّة العاقبة.

وعلى هذا فيصير هذا العنوان بنفسه متقيّدا بالشبهة التي يكون فيها البيان ، لأنّ ما ليس فيه البيان نعلم بعدم شريّة عاقبته ولا نحتاج في ذلك إلى تقييده بسبب التعليل وقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فتكون الشبهة البدويّة قبل الفحص والشبهة المحصورة داخلتين فيه ، وأمّا الشبهة البدويّة بعد الفحص فكونها من مصاديق المشتبه فرع إحراز وجود البيان في هذه الشبهة بالنسبة إلى السائلين وهو غير

٢٣

معلوم ، واستكشاف ذلك بدليل الإنّ إنّما هو في صورة مفروغيّة مصداقيّتها كما لو كان بدل عنوان المشتبه عنوان المحتمل ، ثمّ لو شككنا في كون المشتبه مرادفا للمحتمل أو أخصّ منه كفى في المطلوب وهو عدم الإطلاق أيضا.

وأمّا ثانيا : فهذه الكبرى المتداولة في هذه الأخبار أعني قولهم عليهم‌السلام : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» يكون من جملة مصاديقها الشبهة الغير اللازمة الاجتناب بنصّ مولانا الصادق صلوات الله عليه حيث فسّر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة» بما إذا احتمل كون المرأة اختا رضاعيّا للرجل وأنّه قد رضع من لبنها ، ثمّ علّل الاجتناب عن تزويجه بهذه القضيّة ، ومن المعلوم أنّ هذه الشبهة موضوعيّة غير لازمة الاجتناب باعتراف الأخباريّين أيضا.

والظاهر أنّ هذه الكبرى قد استعملت في جميع مواقفها من هذه الأخبار على نسق واحد ، بمعنى أن يكون المراد بالهلكة فيها أعمّ من الهلكة الاخرويّة اللازمة الاجتناب ، ومن الهلكة الاخروية الغير اللازمة الاجتناب ، ويكون المراد بالخيريّة فيها أعمّ من الوجوب والاستحباب وإن كان يحتمل أن يستعمل في خصوص المورد الذي يكون مصداقه لازم الاجتناب في الوجوب وفي خصوص ما كان مصداقه فيه غير لازم الاجتناب في الندب ، إلّا أنّه خلاف الظاهر ، وبالجملة ، فعلى هذا تكون قاصرة عن الدلالة على وجوب الاحتياط في ما نحن فيه ، وأمّا مطلق الرجحان وإن كان يدلّ عليه ، لكنّه ممّا لا نزاع فيه.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الشبهة في هذه الأخبار شاملة للشبهة الموضوعيّة وهي مجرى للبراءة بلا كلام ، فلا يمكن حفظ ظهور هذا اللفظ في العموم مع ظهور كلمة «خير» ولفظ الهلكة في الوجوب والهلكة الاخروية اللازمة الاجتناب ، فلا بدّ إمّا من التصرّف في هذه الكلمة وهذا اللفظ بإرادة مطلق الرجحان من الاولى وإرادة مطلق الهلكة من الثاني ، وإمّا التقييد في كلمة الشبهة بتخصيصها بالشبهة الحكمية ، فيكون من باب تعارض الأحوال ، ونحن إن لم نقل بأقوائيّة ظهور لفظ الشبهة فلا أقلّ من

٢٤

تكافؤ الظهورين وتساويهما ، وبذلك يسقط هذه الأخبار عن قابليّة الاستدلال.

هذا هو الكلام في هذه الطائفة التي موردها خصوص الشبهة التحريميّة ، وقد كانت هي العمدة لأساس الأخباريين لقوّتها سندا ودلالة ، وقد حصل الاستراحة منها بحمد الله تعالى ، وعلم أنّه لا محيص عن حمل القضيّة المذكورة على مطلق الرجحان ، فيكون الأمر فيها للإرشاد.

والطائفة الثانية من الأخبار هي الطائفة الآمرة بالاحتياط في موارد خاصة وهي روايتان :

الاولى : صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج «قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما ، أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ قال : بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد ، فقلت إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، قال : إذا اصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم الاحتياط حتّى تسألوا وتعلموا»

والثانية : موثّقة عبد الله بن وضّاح «قال : كتبت إلى العبد الصالح : يتوارى عنّا القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا ويستر عنّا الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذّن عندنا المؤذّنون ، فاصلّي حينئذ وأفطر إن كنت صائما ، أو انتظر حتّى يذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب عليه‌السلام إلىّ : أرى لك أن تنتظر حتّى يذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك» الخبر.

تقريب الاستدلال أنّ الرواية الاولى دالّة على وجوب الاحتياط في كلّ واقعة مشتبهة الحكم ، لأنّها المماثلة لمسألة جزاء الصيد. والثانية أيضا يظهر منها مطلوبيّة الاحتياط في كلّ شبهة حكميّة من دون مدخليّة لخصوص المورد أعني مسألة تعيين الغروب ، والشبهة في كلتا الروايتين حكميّة لا موضوعيّة.

أمّا الاولى فواضح ، وأمّا الثانية فكون الشبهة فيها موضوعيّة معناه أن يكون السائل عالما بأنّ الغروب الذي هو آخر وقت الصوم وأوّل وقت الصلاة عبارة عن استتار القرص من دون مدخليّة لذهاب الحمرة المشرقيّة فيه ، ولكن كان

٢٥

سؤاله عن الاشتباه في الموضوع الخارجي أعني تحقّق استتار في الخارج لأجل المانع عن حصول القطع كوجود الجبال والتلال أو الغيم أو نحو ذلك ، وهذا المعنى يمكن القطع بعدم إرادته من كلام السائل ، فإنّه قال : يتوارى عنّا القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا ويستر عنّا الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ، ومن الواضح أنّ هذه أمارات واضحة الدلالة على حصول الاستتار ، ويفيد القطع لكلّ من وجدت له ، فليس السؤال إلّا عن الاشتباه في الحكم الكلّي مع العلم بالموضوع الخارجي ، بمعنى كون الشكّ في أنّ الغروب الذي هو حدّ الإفطار والصلاة هل هو الاستتار ولا يلزم الصبر إلى ذهاب الحمرة ، أو أنّه ذهاب الحمرة؟ وهذه شبهة حكميّة حكم فيه الإمام بوجوب الاحتياط.

والجواب : أمّا عن الرواية الاولى فبأنّ قوله عليه‌السلام : «إذا اصبتم بمثل هذا» يحتمل فيه وجهان ، الأوّل : أن تكون كلمة «هذا» إشارة إلى السؤال ، ويكون محصّل المعنى أنّكم أهل العلم إذا سألوا عنكم عن حكم مسألة لا تدرونه فيجب عليكم الاحتياط ، والثاني : أن تكون إشارة إلى الواقعة ، يعني إذا ابتليتم بمثل هذه الواقعة المشكوك في حكمها فيجب عليكم الاحتياط فيها ، وفي كلّ من الوجهين احتمالان.

أمّا على الوجه الأوّل فالاحتمال الأوّل أن يكون المراد بالاحتياط هو الاحتياط الواجب على المفتي في مقام الإفتاء ، يعني إذا سألوا عنكم عن حكم مسألة لا تعلموه وجب عليكم أن تحتاطوا ولا تبادروا بالإفتاء ، بل تكفّوا عنه ولا تفتوا بشيء حتى بوجوب الاحتياط.

والثاني أن يكون المراد الاحتياط الواجب على المستفتي في مقام العمل ، يعني يجب عليكم أهل العلم إذا سألوكم عن المسألة التي لا تدرون حكمها أن تفتوا سائلكم بوجوب الاحتياط.

وأمّا على الوجه الثاني وهو أن تكون الإشارة راجعة إلى الواقعة ، فالحيثيات الموجودة في الواقعة المفروضة في الرواية كثيرة ، ولكنّ المحتمل الدخل منها في

٢٦

الحكم بوجوب الاحتياط اثنان ، فالاحتمال الأوّل أن تكون الحيثيّة الدخيلة هي حيثيّة كونها واقعة مشتبهة ، فقوله : إذا اصبتم بمثل هذه الواقعة يعني إذا اصبتم بالواقعة المشتبهة.

والثاني أن تكون الحيثيّة الدخيلة حيثيّة كونها مشتبهة بالشبهة المردّدة بين الأقلّ والأكثر ، فإنّ السائل كان قاطعا في مسألة رجلين أصابا جميعا صيدا واحدا بثبوت نصف الجزاء على كلّ منهما ، وكان شكّه في النصف الآخر ، فكان شكّه من باب الشكّ بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين ، فيكون المفاد وجوب الاحتياط في كلّ واقعة حصل الاشتباه فيها بين الأقلّ والأكثر ، والبناء في الشبهة بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين ، بل والارتباطيين أيضا ـ كما ياتي في محلّه ـ وإن كان على البراءة بحسب القاعدة العقليّة إلّا أنّه يكون مفاد الرواية على هذا الاحتمال تعبّدا شرعيّا في القسمين على وجوب الاحتياط.

فهذه أربعة احتمالات ، والمفيد منها بحال الأخباري اثنان :

الأوّل : أن تكون الإشارة راجعة إلى السؤال وكان المراد بالاحتياط الاحتياط الواجب مراعاته على المستفتين في مقام العمل بأن يكون المعنى : إذا اصبتم أيّها العلماء بالسؤال عن حكم تجهلون به فيجب عليكم أن تفتوا الناس بوجوب الاحتياط ، إذ يعلم منه أنّ التكليف في الواقع المشكوك في حكمها هو وجوب الاحتياط على الجميع من المفتي والمستفتي.

والثاني أن تكون الإشارة راجعة إلى الواقعة ، وكانت الخصوصيّة الدخيلة مجرّد كونها واقعة مشتبهة ، ويكون المعنى إذا ابتليتم بالواقعة المشتبهة وجب عليكم الاحتياط.

وأمّا الاحتمالان الآخران فأجنبيّان عن مرام الأخباري كما هو واضح ، إذ المفاد على أحدهما الاحتياط عن الإفتاء عند عدم العلم ، والاصولي لا يفتي بما لا يعلمه ، وما يفتي به يعلمه ، وعلى الآخر وجوب الاحتياط في خصوص الشبهة بين الأقلّ والأكثر ، فلا بدّ لصحّة تمسّك الأخباري بهذه الرواية من إثبات أظهريّة

٢٧

أحد الاحتمالين الأولين من الأخيرين ، ودونه خرط القتاد.

واحتمال كون المراد وجوب الاحتياط عند الابتلاء بالواقعة المشتبهة وإن سلّم أظهريّته بالنسبة إلى بعض الاحتمالات ، ولكن لا نسلّم أظهريّته من احتمال كون المراد احتياط المفتي عن الإفتاء بشيء أصلا عند إصابته بالسؤال عن حكم لا يعلمه.

بيان ذلك أنّ السائل في هذه الرواية قد سأل الإمام عن حكم مسألة الصيد المذكورة، وأعطاه الإمام جواب مسألته هذه عقيبها بلا فصل ، ثمّ بعد مضيّ هذا السؤال والجواب وتماميّتها يقول السائل : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، فعند ذلك قال له الإمام : إذا اصبتم بمثل هذا فعليكم الاحتياط ، وهذا يقرب كمال التقريب أن تكون الإشارة إلى السؤال.

وأمّا احتمال أن يكون المراد بالاحتياط على هذا التقدير احتياط المستفتي والمراد أنّ عليكم الإفتاء بوجوب الاحتياط ، فلا يخفى بعده واحتياجه إلى مئونة زائدة ، بل الظاهر جعل الاحتياط على نفس المفتي.

وبالجملة ، ملاحظة ذلك إمّا يوجب أظهريّة الاحتمال الثاني من الأوّل ولا أقلّ من التساوي والإجمال ، فتسقط الرواية عن قابلية الاستدلال ، وإذن فلا نحتاج إلى التمسّك في الجواب عن الاستدلال بهذه الرواية بأنّ موردها من الشبهة الوجوبيّة ، والأخباريون متّفقون على البراءة فيها كالشبهة الموضوعيّة ، إذ الحاجة إلى ذلك إنّما هي بعد تسلّم الأظهريّة المذكورة ، فتدبّر.

وأمّا عن الرواية الثانية فانّها مضطربة المتن ؛ إذ لو حملناها على الشبهة الموضوعيّة بأن كان السائل عالما بأنّ الغروب عبارة عن الاستتار ، ولكن شكّ في حصوله في الخارج من جهة الجبال والتلال أو الغيم ونحو ذلك ، فالحكم بالاحتياط المذكور في جواب الإمام يكون في محلّه ؛ إذ هو قضيّة القاعدة في هذه

٢٨

الشبهة ؛ لأنّ مقتضى قاعدة الاشتغال واستصحاب بقاء النهار هو الاحتياط (١) حتى يحصل العلم بدخول الوقت ، ولكن هذا الحمل ينافيه ، بل ينادي على خلافه صدر الرواية والأمارات التي فرضها السائل من تواري القرص واستتار الشمس وظهور ظلمة الليل وشروعه في الازدياد ، فإنّها ناصّة في عدم الشبهة في حصول الاستتار.

ولو حملناها على الشبهة الحكميّة ناسب مع صدر الرواية ، ولكن يشكل حينئذ حكم الإمام بالاحتياط ؛ إذ ليس الحكم بالاحتياط في الشبهة الحكميّة من منصب الإمام ، وإنّما هو شأن من لا يعرف الحكم ، فكان شأن الإمام أن يحكم إمّا بالصبر ، وإمّا بالإفطار.

إلّا أن يقال : إنّ وجه حكم الإمام عليه‌السلام بالاحتياط هو التقيّة عن المخالفين القائلين بكون الغروب هو الاستتار ، فكان الإمام قد ألقى الحكم الواقعي إلى السائل من كون الغروب هو ذهاب الحمرة على نحو راعى التقيّة (٢) أيضا من جهة إظهاره بكلامه هذا أنّه قد فهم من كلام السائل أنّ غرضه السؤال عن

__________________

(١) ويمكن حمله على هذا التقدير على الوجوب نظرا إلى ذلك ، وعلى الاستحباب نظرا إلى وجود الأمارات التي ذكرها. منه قدس‌سره الشريف.

(٢) ويمكن أيضا أن يكون قد راعى التقيّة في تطبيق الكبرى على المورد مع كون الكبرى هي أنّ كلّ شبهة حكميّة يجب فيها أن تأخذ بالحائطة ، فالتطبيق وإن كان تقيّة ، لكنّ الكبرى يعلم على هذا مفروغيّتها من كلام الإمامعليه‌السلام ، ولا يقال : إنّه على هذا لا يتأدّى التقيّة ، فإنّ الاحتياط ليس بمثابة الجزم بمخالفتهم ومراتب التقيّة مختلفة ، فيمكن أن يكون إظهار الحكم بصورة الفتوى والجزم مخالفا لها ، وإظهاره بصورة الاحتياط ملائما معها ، وعلى هذا يتمّ تقريب استدلال الأخباري بهذا الخبر ، وينحصر الجواب حينئذ بظهور قوله عليه‌السلام : «أرى لك» في الاستحباب ، ومعارضة هذا المعنى مع ما ذكره الاستاد دام بقاه من عدم كون قوله : «وتأخذ» متمّما للسابق وبمنزلة العلّة له ، بل كان جملة مستقلّة بعد الإفتاء بوجوب الانتظار مضمونها وجوب ستر هذا الفتوى عن العامّة. منه قدس‌سره الشريف.

٢٩

الشبهة الموضوعيّة والاشتباه في حصول موضوع الاستتار ، فلهذا أجابه بالاحتياط حتّى يعلم بهذا الموضوع ، ومن المعلوم أنّه على هذا لا يبقى محلّ للاستدلال.

وفي الرواية احتمال آخر قال الاستاد دام ظلّه : لم أر من تعرّضه ، وهو أن يكون غرض الإمام هو الافتاء بكون الغروب هو ذهاب الحمرة ، وأراد بقوله : «أرى لك» الخ الفتوى دون إراءة الاحتياط ، ويكون المراد بقوله : «وتأخذ بالحائطة لدينك» إعلام السائل على مراعاة التقيّة من المخالفين ، يعني ولكن لا بدّ أن لا تظهر دينك هذا للمخالفين ، ولا تفعل عملا يظهر لهم أنّ هذا دينك ، مثل أن تصعد على السطح لأجل استعلام أنّ الحمرة قد ذهبت أولا ، حتّى يعلموا أنّك تتفحّص عن حال الحمرة وأنّ مذهبك وراء مذهبهم.

وعلى هذا يكون المراد بالحائطة هو الحائط المعمول للدار والبستان دون الاحتياط المصطلح وإن كان هو أيضا مأخوذا منه باعتبار أنّ المحتاط كأنّه يعمل حائطا لنفسه يحفظه عن الوقوع في المهلكة ، والمراد في المقام التصدّي لإخفاء الدين وستره عن أنظار المعاندين ، يعني كما أنّ الحائط للدار والبستان يخفي ويستر ما فيها عن الأنظار ، كذلك لا بدّ لك أن تعامل معاملته مع دينك ، كأنّك تبني حوله حائطا يحجبه عن الأبصار ، وعلى هذا الاحتمال تكون الرواية أجنبيّة عن مدّعى الأخباري بالمرّة كما هو واضح.

والطائفة الثالثة : خبر التثليث الوارد في الخبرين المتعارضين وعدّة أخبار أخر الآمرة بالاحتياط ، من قبيل قوله عليه‌السلام : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» وسند خبر التثليث (١) لكونه مرويّا بطرق متعدّدة ممّا لا يقبل الخدشة ، والإمام عليه‌السلام في هذه الرواية بعد ما يحكم في الخبرين المتعارضين بالأخذ بالمشهور وترك الشاذ النادر ويعلّل ذلك بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه يقول : «إنّما الامور ثلاثة ، أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّة فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ورسوله ، ثم يستشهد بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول : قال

__________________

(١) راجع ص ٧٢٣

٣٠

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم»

تقريب الاستدلال بهذه الرواية يكون من ثلاثة أوجه : الأوّل بحكمه بترك الشاذ معلّلا بكونه ممّا فيه الريب ، وهذا التعليل وإن كان غير مذكور في كلام الإمام ، إلّا أنّه يستفاد من تعليله عليه‌السلام الأخذ بالمشهور بكونه ممّا لا ريب فيه أنّ وجه ترك الشاذ هو كونه ممّا فيه الريب ، وأيضا يستفاد ذلك من الاستشهاد بحديث التثليث ، إذ لو كان الشاذ من أفراد بيّن الغيّ لعلّله بهذا المطلب ولم يحتج إلى هذا التفصيل. وبالجملة ، فيستفاد من الرواية وجوب ترك كلّ ما فيه ريب بقضيّة عموم التعليل.

والثاني بالتثليث المذكور في كلام الإمام الحاكم بوجوب ردّ حكم الأمر المشكل إلى الله ورسوله ، ومعناه وجوب الاحتياط.

والثالث بالتثليث النبوي.

والجواب أمّا عن الوجه الأخير (١) فبأنّ مساقه مساق الروايات المتقدّمة في

__________________

(١) اعلم أنّ الفقرات الثلاث لو كانت متفرّقة بعضها عن بعض لكان الجواب بما في المتن صحيحا ، فإنّ تثليث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حاله حال أخبار الوقوف المتقدّمة ، والكلام المتقدّم فيها جار فيه حرفا بحرف ، وتثليث الإمام ناظر بمقام الحكم والإفتاء ، والتعليل بمقام أخذ الحجّة والعمل بالمضمون على أنّه حكم الله ، وكلّ ذلك أجنبي عن مرام الاصولي ، ولكنّ الإشكال كلّه من جهة اجتماع هذه الفقرات في كلام واحد ، ووقوع البعض علّة للآخر ، وجه الإشكال أنّا لو أغمضنا عن أنّ ظاهر تثليث الإمام حرمة الإفتاء بحكم المشكل ورفعنا اليد عن هذا الظهور بواسطة أظهريّة التعليل أعني تثليث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حرمة العمل ؛ إذ العكس لا يحتمل وإرجاع المشكل في كلام الإمام إلى الحرام البيّن في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضا بعيد غايته ، لكن نقول : إنّ في مقامنا موضوعين وثلاث كبريات.

أمّا الموضوعان فهما الشاذ الذي فيه الريب والمجمع عليه الذي لا ريب فيه ، ولا إشكال في اندراج ـ

٣١

الطائفة الاولى الآمرة بالوقوف عند الشبهة لكونه خيرا من الاقتحام في الهلكة ، فيكون الجواب عنه هو الجواب عنها.

وحاصله أن يقال تارة بأنّ الشبهة عبارة عن خصوص المحتمل الذي يكون في عاقبته احتمال الصعوبة ، فيختصّ بالشبهات التي يكون فيها البيان ، فلا يشمل ما نحن فيه ، لكونه فاقد البيان.

واخرى بأنّ الشبهة تشمل الشبهة الموضوعيّة أيضا ولا يجب فيه الاحتياط

__________________

ـ الثاني تحت كبرى بيّن الرشد والحلال البيّن ، فيدور الأمر في الأوّل بين تطبيق بيّن الغيّ والحرام البيّن عليه وقد عرفت انه خلاف الظاهر وبين تطبيق المشكل والشبهة ، وقد عرفت حملهما على مقام العمل ومقصود الإمام حرمة الأخذ والتديّن بما فيه الريب.

وإذن فيقرب كمال القرب أن يكون الكبرى هو وجوب استناد الإنسان قولا وعملا إلى حكم الشارع وعدم الاكتفاء في شيء من المقامين بما هو عند نفسه وحكم عقله ، والاستناد يمكن بثلاثة أنحاء الأوّل أن يحصّل من الشرع حكم العنوان الأوّلي للواقعة ، مثل حكم شرب التتن بما هو شرب التتن ، والثاني أن يحصّل من الشرع حكمه بعنوانه الثانوي أعني كونه مشتبه الحكم ، والثالث أن يكون غير محرز لحكم بشيء من الوجهين ، ولكن كان أحد طرفي الواقعة من الوجود والعدم مقطوع الموافقة مع حكم الشرع ، كما أنّ اختيار الترك في ما نحن فيه أعني الشبهة التحريميّة التي لا احتمال للوجوب في البين كذلك ، وعلى هذا فيتّسق جميع أجزاء الكلام ، فإنّ مفاد قوله : يردّ حكمه إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو عين ما ذكرنا من تحصيل الحكم والاستناد مطلقا في مقام العمل والإفتاء ، ومفاد التعليل بيان صغرى ذلك وأنّه عند الأخذ بما في وجوده الريب ينتقض هذا المعنى ، وأمّا عند طرحه وتركه فيقطع بكونه موافقا لحكم الشارع ، وهكذا ينطبق على ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم ، ومن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، وعلى هذا فيكون خروج الشبهة الموضوعيّة والحكميّة الوجوبيّة من باب التخصيص ، وذلك لقيام الإجماع على البراءة فيهما ، فقد علم حكمهما الشرعي بالعنوان الثانوي ، والجواب عن تقريب الاستدلال بهذا النحو منحصر في ورود أدلّة البراءة التي سيأتي إن شاء الله. منه قدس‌سره الشريف.

٣٢

بالاتّفاق ، فلا محيص عن حمل الرواية على الإرشاد والمعنى الأعمّ من الوجوب والاستحباب وهو مطلق الرجحان ، فيكون تابعا للموارد في الوجوب والاستحباب.

وأمّا عن الوجه الثاني فبأنّ مفاده أنّ حكم الأمر المشكل مردود إلى الله ورسوله ، ومعنى ذلك عدم جواز القول والفتوى بغير علم ، وهذا أجنبيّ عن الاصولي ، إذ هو أيضا معترف بعدم جواز القول بما لم يعلم وجواز القول بما يعلم.

وأمّا عن الثالث فبأنّ وجوب ترك ما فيه الريب في مورد الرواية متعيّن ، فإنّ موردها الخبران المتعارضان ، فالأخذ بكلّ منهما إنّما هو يكون بعنوان الحجيّة ، وشرط جواز ذلك هو العلم بالحجيّة من قبل الشارع ، فما لم يعلم من الشرع حجيّة الخبر يكون البناء على حجيّته حراما.

وبعبارة اخرى : الشكّ في الحجيّة كاف في عدم الحجيّة ، فالشاذ الذي هو مشكوك الحجيّة لا محالة يكون بخلاف المشهور المجمع عليه ، فإنّه لكونه لا ريب فيه يكون حجّة ، فالتعارض يكون بين الحجّة واللاحجّة ، ومن المعلوم أنّ وجوب الأخذ بالحجّة وترك اللاحجّة حينئذ متعيّن.

وأمّا عن الروايات الآمرة بالاحتياط فبأنّه مضافا إلى شهادة سياقها على كون مدلولها حكما إرشاديّا يرد عليها ما تقدّم في بعض الأدلّة المتقدّمة من الإجمال ، فإنّ مادّة الاحتياط عام يشمل الاحتياط في الشبهة الموضوعيّة ، وهي مجرى للبراءة بإطباق من الأخباري ، فلا بدّ من تقييد المادّة أو التصرّف في الهيئة ، فتكون مجملة ، هذا تمام الكلام في التمسّك بالمنقولات للأخباري.

وأمّا التمسّك بالمعقولات فيكون على وجوه

، منها التمسّك بالعلم الإجمالي ، وتقريبه أنّا بعد القطع ببعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقبل مراجعة الأدلّة قاطعون بالعلم الإجمالي بأنّا مكلّفون بواجبات و

٣٣

محرّمات ، وقضيّة هذا القطع والعلم الإجمالي بحكم العقل وجوب الإتيان بكلّ محتمل الوجوب، ووجوب الاجتناب عن كلّ محتمل الحرمة.

لا يقال : هذا العلم الإجمالي إنّما هو قبل مراجعة الأدلّة ، وأمّا بعدها فينحلّ إلى القطع التفصيلي بما يشتمل عليه الأدلّة من التكاليف والشكّ البدوي في ما يكون خارجا عن مداليلها ، والقاعدة في الشبهة البدويّة هي البراءة.

لأنّا نقول : لا يكون مفاد الأدلّة حصر التكليف في مداليل أنفسها ، فإنّ مفاد «أقيموا الصلاة» مثلا وجوب الصلاة مع عدم التعرّض لغيرها ، ومفاد «آتوا الزكاة» هو وجوب الزكاة بدون تعرّض لحال الغير وهكذا ، وحينئذ فلا تنافي بين العلم الإجمالي ومفاد هذه الأدلّة ، فيكون العمل بمقتضى كليهما واجبا.

فحينئذ يكون سبب تنجيز التكليف في بعض المحتملات اثنين ، وهو ما قام على التكليف فيه دليل معتبر ، فالتكليف منجّز فيه بسببين : الدليل والعلم الإجمالي وفي بعض آخر يكون واحدا وهو ما كان خارجا عن مدلول الأدلّة إمّا لإجمال الدليل أو لعدمه أو لتعارض الدليلين ، فينحصر المنجّز فيه في العلم الإجمالي ، فالمقام نظير ما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين ثمّ قام البيّنة على نجاسة واحد معيّن منهما ، فإنّه ليس مفاد قول البيّنة حصر النجاسة في هذا الواحد ونفيها عن الإناء الآخر ، بل من المحتمل نجاسة كليهما ، فالواجب الاجتناب عن كليهما ، غاية الأمر المنجّز في هذا الواحد شيئان : العلم والبيّنة ، وفي الآخر هو العلم فقط.

نعم لو قطع بأنّ النجس في ما بينهما واحد لا أزيد يضمّ هذا القطع إلى البيّنة التي جعلها الشارع بمنزلة القطع ، فيكون كما لو قطع بحصر النجس في الواحد وقطع بنجاسة هذا المعيّن ، حيث يورث هذان القطعان القطع بطهارة الإناء الآخر ، وأمّا إذا لم يكن قطع بالحصر ولا كان الحصر مفاد قول البيّنة فلا محيص عن اجتناب كليهما بمقتضى العلم في أحدهما ، وبمقتضاه مع البيّنة في الآخر.

وليعلم أنّا وإن قلنا بالإجماع من الأخباريين على البراءة في الشبهة الوجوبيّة ، لا يوجب ذلك إجمالا في هذا الدليل وإن كان يوجبه في الأدلّة النقليّة

٣٤

المتقدّمة ، والفارق أنّ الدليل هناك كان لفظيّا ، فالإجماع المذكور كان موجبا لتقييد المادّة أو التصرّف في الهيئة ، وحيث لم يكن أحدهما متعيّنا تحقّق الإجمال ، وأمّا هنا فالدليل لبيّ وهو حكم العقل بلزوم المراعاة والاحتياط في جميع أطراف العلم الإجمالي ، والإجماع المذكور على فرضه لا يكون إلّا مؤمنا من قبل الشرع بالنسبة إلى أحد الأطراف وهو الشبهة الوجوبية ، ووجود المؤمّن في أحد الأطراف لا يوجب سقوط هذا الدليل اللبّى عن الدلالة بالنسبة إلى الطرف الآخر الخالي عن المؤمّن الشرعي ، فإنّ الحجّة وهو العلم فيه موجودة والمؤمّن مفقود.

وتقريب الاستدلال بالعلم الإجمالى أنّ لنا علما إجماليّا قبل مراجعة الأخبار بوجود تكاليف من الواجبات والمحرّمات من الشارع علينا ، وإنّما قيّدنا بقولنا : قبل مراجعة الأخبار، لئلّا يقول الخصم في الجواب : نمنع العلم الإجمالي قبل مراجعة الأخبار ، لأنّ مدرك علمنا هو الأخبار ، فدائرة العلم الإجمالى مقيّدة ومحدودة بخصوص ما بأيدينا من الأخبار ، فما يكون خارجا عن الأخبار خارج عن أطراف العلم.

نظير ما لو تعلّق بالحرمة بخصوص السود من قطيع غنم ، حيث إنّ البيض خارج عن أطراف العلم ، وذلك لأنّ العلم الاجمالي حاصل قبل مراجعة الأخبار بالوجدان ، بل أهل الأديان والملل الخارجة أيضا قاطعون بأنّ أهل الإسلام مكلّفون بتكاليف جاء بها نبيّهم من قبل الله تعالى ، فالعلم الإجمالي ليس مقيّدا بخصوص ما في الكتب وما بأيدينا ، فبمقتضى هذا العلم يجب الاحتياط في جميع المشتبهات.

ثمّ لا يقدح في هذا الدليل ثبوت الإجماع في الشبهة الوجوبيّة على البراءة وإن كان يقدح في الأدلّة اللفظيّة على تقدير وجوده فيها ، حيث يوجب الإلجاء إلى أحد الأمرين من التقييد في المادّة أو التصرّف في الهيئة ، وأمّا هنا فوجود الإجماع المذكور يصير مؤمّنا في أحد الأطراف وهو الشبهة الوجوبيّة ، ومجرّد هذا لا يوجب أن يكون الطرف الآخر الخالي عن المؤمّن وهو الشبهة التحريميّة خارجا عن حكم العقل بوجوب الاحتياط.

٣٥

لا يقال : سلّمنا حصول العلم قبل مراجعة الأخبار ، ولكن يرتفع موضوعه بعد المراجعة ، وذلك لأنّ لهذا العلم قدرا متيقّنا وهو عدد مخصوص ، فإذا اطلعنا على هذا العدد من التكاليف في ضمن الأخبار ينحلّ علمنا الإجمالي إلى العلم التفصيلي بهذا القدر الذي اطلعنا عليه والشكّ البدوي في ما زاد عليه ، فالزائد يصير مجرى للبراءة.

لأنّا نقول : لا شكّ في أنّ الأدلّة الشرعيّة لا يفيد القطع بكون مواردها حكما واقعيّا ، بل هي مجرّد حجّة على مواردها ، ألا ترى أنّه لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين ثمّ قام البيّنة على نجاسة هذا المعيّن منهما فهذه البيّنة لا تفيد القطع بأنّ هذا نجس واقعي ، لاحتمال وجوده في الإناء الآخر ، بل هي تكون حجّة على نجاسة هذا الإناء.

نعم لو كان هنا أحد أمرين انحلّ العلم ، إمّا أن يكون العلم الإجمالي متعلّقا بنجاسة الواحد بشرط لا ، وإمّا أن يكون مفاد البيّنة نجاسة هذا المعيّن لا غير ، فإنّه على الأوّل يضمّ البيّنة إلى العلم ويصير المتحصّل بعد ذلك طهارة الإناء الآخر ، وفي الثاني يحكم بطهارة الآخر بدليل حجيّة البيّنة ، وأمّا لو لم يكن العلم متعلّقا بالواحد بشرط لا ، ولا كان الحصر مفادا للبيّنة فلا تنافي بين قيام هذه الحجّة مع وجود العلم الإجمالي ، غاية الأمر يكون العمل في مورد البيّنة واجبا على طبق حجّتين ، إحداهما البيّنة والاخرى العلم.

والحاصل أنّه فرق بين العلم الوجداني التفصيلي في أحد الأطراف وبين قيام الطريق الشرعي في أحدها ، سواء كان قبل العلم الإجمالي أم بعده ، فإنّ العلم الوجداني مناف في العلم الإجمالي ويوجب انهدام بنيانه ، فإنّ قوامه وهو الإجمال والترديد في المتعلّق يصير بعد العلم الوجداني زائلا ، فلا يكون في النفس ترديد وإجمال بعده ، بل ينقلب الإجمال إلى مفصّل ومشكوك ، وهذا بخلاف الطريق ، فإنّ العلم الإجمالي لا يحدث قدح في بيانه بقيام الطريق الشرعي أصلا ؛ لأنّ الترديد والإجمال واحتمال أنّ هذا نجس ، أو هذا مثلا ، موجود معه في

٣٦

النفس ، لما ذكرنا من عدم إفادة الطريق قطعا بالواقع وإنّما هو مجرّد حجّة شرعيّة ، فالعلم الإجمالي بعد الأدلّة الشرعيّة باق موضوعا غير منحلّ.

نعم هذا كلام لا يتمشى بالنسبة إلى من قال من الأخباريين بأنّ مداليل الأخبار قطعيّة كما هو واضح.

والجواب عن هذا الاستدلال بأنّ دائرة العلم الإجمالي محدودة بخصوص ما بأيدينا من الأخبار قد علم دفعه من تقريب المستدلّ ، فلا بدّ من التشبّث في الجواب بوجوه آخر ، فنقول : يمكن الجواب بوجوه :

الأوّل : إنّا سلّمنا أنّ الأخبار لا يفيد القطع ولا الانحصار ، ولكن نقول : إنّ العلم الإجمالي ليس أثره إلّا حكم العقل بوجوب امتثال التكليف المعلوم إجمالا بمقدار المعلوم الإجمالي ، فلو تعلّق العلم الإجمالي بوجود أربع أغنام موطوءة في قطيع فليس اقتضاء هذا العلم من المكلّف إلّا الاجتناب عن أربع أغنام موطوءة واقعيّة ، وحينئذ فإذا قام الطريق الشرعي الثابت الحجيّة شرعا مثل البيّنة على موطوئيّة أربع معيّنة من هذا القطيع واجتنب المكلّف عن هذه الأربع بالخصوص فقد خرج عن عهدة التكليف المزبور وسقط حجّة المولى عنه ، وذلك لأنّه قد تحقّق منه الاجتناب عن أربع أغنام موطوءة واقعيّة.

أمّا اجتنابه عن أربع أغنام فواضح ، وأمّا كونها واقعيّة فلأنّه قضيّة إيجاب الشارع على المكلّف العمل بهذا الطريق بعنوان كونه طريقا إلى الواقع وأمره إيّاه بتصديق هذا الطريق وإلغاء احتمال الخلاف فيه ، فإنّ معنى ذلك أنّ مؤدّى هذا الطريق يبنى الشارع على كونه واقعا وأوجب على المكلّف أيضا أن يبنى على كونه واقعا ، ولا يخفى أنّه لا يلزم من هذا البيان التصويب ، فإنّ هذا كلّه هو الكلام في مرحلة الامتثال مع محفوظيّة الواقعيات في محالّها وعدم تغيّرها عن حالها.

الوجه الثاني أنّ العلم الإجمالي يصير منحلّا حقيقة بعد قيام الطرق الشرعيّة ، وذلك لأنّه لو كان للمعلوم الإجمالي خصوصيّة وكانت هذه الخصوصيّة أجنبيّة عن الحكم الشرعي وكالحجر بالنسبة إليه ، ثمّ حصل العلم التفصيلي الوجداني

٣٧

للمكلّف بذات المعلوم الإجمالي في أحد الأطراف بدون هذه الخصوصيّة بمعنى بقائه على الترديد بالنسبة إليها ، فلا إشكال أنّه ينطبق المعلوم الإجمالي على هذا المعلوم التفصيلي قهرا.

مثاله : لو علم المكلّف بنجاسة خصوص إناء الزيد ، وتردّد إناء الزيد عنده في إناءات عديدة ، ثمّ حصل له العلم التفصيلي بنجاسة أحد هذه الإناءات معيّنا لا بعنوان أنّه إناء الزيد ، فلا إشكال أنّ ما هو موضوع الحكم الشرعي أعني وجوب الاجتناب هو مجرّد الماء النجس ، وأمّا القيد وهو كونه في إناء الزيد فلا دخل له في هذا الحكم أصلا ، ولا إشكال أنّه بالنسبة إلى الماء النجس لا ترديد ولا إجمال في النفس.

نعم بالنسبة إلى القيد وهو إناء الزيد الترديد باق ؛ إذ لا يعلم أنّه هذا الإناء أو هذا أو ذاك ، لكنّه لا يرتبط بموضوع الحكم الشرعي ويكون كالحجر بالنسبة إليه.

ونظير هذا بعينه ما نحن فيه ، فإنّ المكلّف لو علم بوجود النجس الواقعي مثلا في هذا الإناء أو في هذا ، ثمّ قام البيّنة على وجوده تعبّدا في هذا المعيّن فلا إشكال في أنّ موضوع حكم العقل بوجوب الامتثال والخروج عن العهدة إنّما هو أصل حكم الله ، وأمّا خصوصيّة كونه مجعولا في الرتبة الاولى أو في الرتبة الثانية الذي هو عبارة اخرى عن كونه واقعيّا أم ظاهريا فهو أجنبيّ عن هذا الحكم ، فإنّه لا فرق في حكم العقل بوجوب الامتثال بين كون الحكم من أحد هذين القسمين ، فخصوصيّة الواقعيّة والظاهريّة غير مربوطة بمرحلة الامتثال أصلا ، وإنّما المناط هو الجامع الذي يعبّر عنه في الفارسيّة ب «فرمان» ، وفائدة هاتين الخصوصيتين لا يظهر في هذا المقام ، بل في مقام الجواب عن إشكال ابن قبة المتقدّم تفصيله.

وحينئذ لا إشكال في أنّه بالنسبة إلى ما يكون المكلّف مبتلى به من نفس الحكم الإلهي لا ترديد ولا إجمال في النفس بعد قيام الطريق الشرعي ، بل ينقلبان إلى مفصّل وهو مورد الطريق ، ومشكوك وهو غيره ، نعم بالنسبة إلى الخصوصيّة التي نسبته إلى ابتلاء المكلّف وحكم عقله يكون كنسبة الحجر إليه وهو خصوص

٣٨

الواقعي يكون الترديد والإجمال باقيين في النفس ؛ لعدم العلم بوجود المجعول في الرتبة الاولى في هذا أو في هذا أو في ذاك.

فهذان وجهان يقال بهما في موارد الطرق الشرعيّة في قبال العلم الإجمالي لعدم وجوب الاحتياط في غير تلك الموارد من الأطراف ، والوجه الأوّل ليس راجعا إلى الانحلال الحقيقي، بل مرجعه إلى إلزام المولى بما التزم ، فإنّ معنى الحجّة أن يصحّ احتجاج العبد به على المولى ، كما يصحّ احتجاج المولى به على العبد ، فكما يصحّ أن يحتجّ المولى على العبد ويقول له : لم أكلت لحم الغنم الذي أخبرك البيّنة بموطوئيته؟ كذلك يصحّ أن يحتجّ العبد على المولى ويقول له : إنّ الواجب علىّ لم يكن إلّا اجتناب لحم الغنم الموطوءة ، واجتنابي عن هذا الذي أخبر البيّنة بموطوئيته أيضا اجتناب عن الغنم الموطوءة ، فالمولى يصير ملزما في الثاني كما يصير العبد ملزما في الأوّل.

فهذا نظير ما لو ضرب السلطان السكّة على الجلود ، وجعل الجلد المسكوك في محلّ الليرة ، فإنّ السلطان ملزم بأخذه من الرعيّة محتسبا له عوض الليرة ، والرعيّة أيضا ملزمون بأخذه من السلطان عوضا لليرة ، ولو رجع السلطان عن هذا الجعل ولم يأخذ الجلد في مقام الليرة رجع الرعيّة أيضا ولم يأخذوا منه ، وبالجملة ، فهذا الوجه ليس انحلالا في الحقيقة ، وإنّما هو كون العمل بالطريق قائما مقام العمل الذي يكون على العهدة.

وأمّا الوجه الثاني فهو انحلال حقيقي ، إذ بعد إلغاء الخصوصيّات التي لا دخل لها في موضوع حكم العقل أصلا ينحلّ العلم الإجمالي قطعا ، فإنّ موضوع حكم العقل هو الواجب الإلهي بما هو واجب ، والمحرّم الإلهي بما هو محرّم ، لا بما هو واجب أو حرام واقعي أو ظاهري وإنّما الواقعي والظاهري اصطلاح أحدثناه لتصوير الجمع بين هذين القسمين من الحكم ، وحينئذ فإذا علم إجمالا بواجبات ومحرّمات ثمّ قام الطرق الشرعيّة على تعيين جملة منها ، قلنا : هذا واجب وهذا واجب وهذا واجب وهكذا ، وهذا حرام وهذا حرام وهذا حرام وهكذا ، فهذه

٣٩

الجملة معلومة ، والباقي من الأطراف مشكوك ، فهذان الوجهان إن لم يلزم على أحدهما إشكال أمكن البناء على صحّة كليهما معا.

ولكن يرد على أوّلهما إشكال وهو أنّه قد مرّ منّا في البحث المتقدّم عن العلم الإجمالي أنّ المبنى في العلم الإجمالي وجهان : الأوّل أن يكون قضيّته موافقة التكليف بمقدار المعلوم الإجمالي ، والثاني أن يكون قضيّته ترك مخالفة التكليف بمقدار المعلوم الإجمالي.

فإن بنينا على الأوّل كان هذا الوجه صحيحا ، إذ للعبد أن يقول للمولى : لم يكن علي إلّا موافقة فرد واحد من خطاب : لا تأكل لحم الغنم الموطوءة ، واجتنابي عن لحم هذا الذي أخبر البيّنة بموطوئيّته أيضا موافقة لفرد واحد من هذا الخطاب بحكم حجيّة البيّنة.

وإن بنينا على الثاني فلا يستقيم هذا الوجه ؛ لأنّ الواجب على العبد ترك مخالفة فرد واحد من خطاب «لا تأكل لحم الغنم الموطوءة» وهذا لا يحصل بالاقتصار على ترك أكل لحم الغنم التي أخبر البيّنة بموطوئيّتها ؛ إذ لعلّ الغنم الموطوءة كان غيره ، فكان أكله مخالفة لهذا الخطاب ، وكان عقوبة المولى عليها صحيحة لمكان العلم الإجمالي ، فلا بدّ من الاجتناب عن جميع أفراد القطيع حتّى يحصل العلم بترك المخالفة ، وهذا الإشكال لا يجري على الوجه الثاني ؛ إذ عليه يصير العلم معدوما بالمرّة ومنحلّا رأسا.

ولكن يرد على الوجه الثاني إشكال آخر وهو أنّ هذا الوجه وإن كان مستقيما في الشبهة الحكميّة سواء كان قيام الطريق قبل العلم الإجمالي أم مقارنا له أم بعده ـ أمّا صورة القبليّة والمقارنة فواضح ، فإنّ قيام الطريق سبب لانحلال الإجمال ومانع عن تأثير العلم للتنجيز ، وأمّا صورة البعديّة مثل ما لو علم إجمالا بوجوب واحد من الظهر أو الجمعة ثمّ حصل الاطّلاع بعد يوم أو يومين مثلا على خبر صحيح بتعيين الظهر فلأنّ الاطلاع على هذا الطريق وإن كان حاصلا في الزمان المتأخّر ، إلّا أنّ حجيّته على المكلّف ثابتة من الأوّل، فإنّ المانع عن وصول

٤٠