أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

قاعدة لا ضرر

في احتمالات لا ضرر

اعلم أنّ فيه احتمالات ،

أحدها ما اختاره المحقّق الخراساني من كونه على نهج سائر التراكيب المماثلة له من «لا رجال» و «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» ، وحاصله الحمل على نفي الحقيقة بطريق الادّعاء ، فكما أنّه قد يثبت العنوان لغير الفرد مثل «زيد اسد» ويكون المجاز في الأمر العقلي وحاصله تنزيل وجود آثار العنوان منزلة وجود نفسه ، ثمّ الإطلاق مبنيّا على هذا التنزيل ، كذلك يصحّ نفي العنوان عن بعض أفراده ويكون المجاز أيضا في الأمر العقلي أعني تنزيل عدم الآثار منزلة عدم مؤثّرها ، كما يقال لفرد أسد ليس فيه آثار الاسديّة : ليس هذا بأسد.

ومن هذا القبيل قولنا : يا أشباه الرجال ولا رجال ، ولا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد ، ولا ربا بين الوالد وولده ، ولا غيبة لمتجاهر وأمثال ذلك ممّا لا تحصى ، فيحمل قوله عليه‌السلام : لا ضرر بشهادة تداول هذا المعنى في أمثاله من إرادة نفي الموضوع ادّعاء بمصححيّة نفي الآثار على هذا المعني ، هذا محصّل ما أفاده مع تشريح لمرامه.

ولكن فيه أنّ ما تداول فى أمثاله من التراكيب إنّما هو نفي الآثار المترتّبة على نفس هذا العنوان الذى وقع تلو كلمة «لا» كما هو المشاهد في الأمثلة المتقدّمة ، وهذا المعنى غير متمشّ هنا ؛ إذ ليس المقصود أنّ الأثر المترتّب على طبيعة الضرر منفي ، بل المقصود نفي آثار المعنون بهذا العنوان مثل البيع الضرري وأمثاله ، فالمناسب لهذا المعني أن يقال في مورد البيع المذكور : ليس هذا ببيع ، وبالجملة ، فعين الوجه الذي دعاه قدس‌سره إلى اختيار هذا المعنى من شيوعه في أمثاله لا بدّ من أن

٤٨١

يدعوه إلى طرحه ؛ لأنّ الشائع في هذه التراكيب الشائعة أيضا ما لا يتأتي في المقام.

الثاني : أن يراد بالنفي النهي ، يعني لا تضرّوا ، كما في «لا رفث ولا فسوق في الحج» ، وفيه من البعد ما لا يخفي وأمّا ما مثله فليس من هذا الباب ، كما يظهر ممّا سيأتي إن شاء الله تعالى.

الثالث : ما اختاره شيخ الأساتيد العظام شيخنا المرتضى قدس‌سره الشريف من أن يكون المراد نفي الحكم الذي يوجب الضرر ويتولّد منه الضرر على العباد ، وبعبارة اخرى : المنفيّ هو الضرر الذي ينتهي إسناده إلى الشرع ويكون هو السبب له بالأخرة ، وذلك بقرينة «في الإسلام».

فالمفاد : ما جعلت الحكم الضرري الذي يوقع العباد في الضرر ، إمّا باستعمال الضرر وارادة السبب منه ، وإمّا بتقدير المضاف ، أعني لا موجب ضرر في الإسلام.

ومثله ما اختاره بعض أساطين العصر ـ على ما حكي ـ من إرادة نفي حقيقة الضرر في المجعولات الإسلاميّة من دون حاجة إلى أحد التمهّلين المذكورين ، ويكون صحّة نفي نفس الحقيقة بملاحظة أنّ نفي المنشأ وهو إنشاء الحكم الضرري وجعله بيده ، كما أنّ المصحّح لرفع المؤاخذة في حديث الرفع بالنسبة إلى ما لا يعلمون وأمثاله أنّ إيجاب الاحتياط أو التحفّظ من الخطاء والنسيان من وظيفته ، ويكون نفي المعلول بنفي المنشأ والعلّة ، ويظهر وجه الخدشة في هذا المعنى بكلا تقريبيه ممّا سيأتي إن شاء الله تعالى.

الرابع : ما اختاره شيخنا الاستاد أطال الله أيّام إفاداته الشريفة ، وحاصل ما إفادة في مجلس الدرس الشريف أنّ جميع هذه التراكيب المشتملة على نفي وارد على موضوع غير خارج عن قسمين ، بعد اشتراك الجميع في أنّ مفادها النفي للحقيقة على سبيل الادّعاء والمجاز السكّاكي ، إلّا أنّ المصحّح لهذا الادّعاء على قسمين.

الأوّل : نفي الآثار المترقّبة من العنوان عن بعض الأفراد ، كما مرّ من مثال نفي حقيقة الأسد من بعض أفراده.

والثاني : تحقّق أسباب موجبة لانتفاء أسباب وجود العنوان في الخارج وعلله ،

٤٨٢

وذلك مثل السلطان القاهر الذي أوعد على وقوع الإضرار في مملكته ، وحينئذ قد يسند الضرر المنفيّ إلى نفس السلطان ، فيقال : ليس من ناحية السلطان ضرر في المملكة ، واخرى يطلق النفي بلا تقييده بإضافة ، فيقال : قد انتفى أصل الضرر من هذه المملكة ، وهذا يحتاج إلى ثلاثة امور.

الأوّل : أن لا يصدر من السلطان نفسه موجبات ضرر الرعيّة ، والثاني : أن يسدّ باب دواعي الإضرار الموجودة في أنفس نفس الرعيّة بعضهم بالنسبة إلى بعض ، والثالث : أن يوجب التدارك على من عصى منهم وأورد الضرر على أخيه ؛ إذ بعد تمام تلك الجهات مع فرض قهرمانيّة السلطان وشدّة سطوته وأليم عذابه يصحّ إدّعاء أنّ الضرر قد ارتفع وجوده عن الرعيّة في هذه المملكة بواسطة سدّ أبواب وجوده من جميع الجهات.

والحاصل كما أنّ من المصحّح للادّعاء المذكور في جانب نفي حقيقة الشيء انتفاء الآثار ، كذلك من المصحّح له أيضا تحقّق موجبات سدّ أبواب وجوده ، ومثل «لا جدال ولا رفث ولا فسوق» يكون من القبيل الثاني وكذلك مقامنا.

والفرق بينه وبين ما اختاره الشيخ الأجلّ المرتضى قدس‌سره القدّوسى هو اختصاص المنفيّ على ما ذكره بالوجوديّات ، فلا يشمل الأحكام العدميّة التي يلزم تحقّق الضرر من عدم انقلابها إلى الوجود ، مثل عدم المنع عن دواعي الناس لإضرار بعضهم ببعض ، بل ولو الترخيص لهم فيه ، إذ الضرر لم يتوجّه إلّا من ناحية الدواعي ، والترخيص إنّما هو صرف عدم إحداث المانع عن اقتضاء المقتضي ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ هذا الضرر تولّد من جانب الشرع ومن ناحية حكمه.

والمعيّن لما ذكرنا ما مرّ من ورود النفي على وجه الإطلاق من دون التقييد بإضافة الضرر إلى الشرع ، فالمفاد أنّ في شريعة الإسلام قد انعدم الضرر من أصله عن المتديّنين به ، وهذا لا يتمّ إلّا بالتعميم الذي ذكرنا ، هذا حاصل الكلام في بيان شرح مفاد القاعدة.

وأمّا بيان نسبتها مع سائر الأدلّة المثبتة بإطلاقها أو عمومها للحكم

٤٨٣

الضرري ، فنقول : قد ذكر شيخنا المرتضى قدس‌سره ضابطا لحكومة أحد الدليلين على الآخر ، وهو وإن كان صحيحا في نفسه ، لكن لا كليّة له ، ولا يجري في جميع الموارد الذي نقول فيها بالحكومة ، وهو أن يكون أحدهما بمدلوله اللفظي ناظرا إلى مدلول الدليل الآخر كذلك، وشارحا للمراد منه.

وبعبارة أخرى : كان منزلة الأوّل من الثانى منزلة «أى» و «أعنى» من مفسّرهما ، فكما يقدّم ظهور هذين في التفسير ولو كان في أدنى مرتبة على ظهور مفسّرهما ولو كان في أعلى مرتبة ، فمن هذا القبيل باب الحكومة أيضا ، ولازم هذا أن يكون الحاكم لو لا الدليل المحكوم لغوا ، لكونه مفسّرا بلا مفسّر ، ككلمتي «أى» و «أعني» إذا لم يسبقهما ما فسّراه ، وهذا كما ترى غير موجود في أدلّة الأمارات التي نقول بحكومتها على أدلّة الاصول؛ إذ لا يلزم لغويّة في قضيّة «صدّق العادل» لو لم يكن أدلّة الشكوك ، وهكذا الحال في مقامنا ، فلا يلزم لغويّة في قاعدة لا ضرر لو لم تكن إلّا نفسها.

فالأولى في تعيين الضابط الذي يشمل المقامين وأشباههما أن يقال : الدليلان المتخالفان تارة يكونان بحيث ينقدح في ذهن أهل العرف عند عرضهما عليهم التعارض والتكاذب ولو بدويّا ، يزول بعد العلاج بتقديم ما كان نصّا أو أظهر ، وهذا في ما إذا كان الحكم في كلا الدليلين على الموضوع الواحد مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق من العلماء.

واخرى يكونان بحيث لا ينقدح في الذهن عند العرض عليه تعارض وتكاذب بين مدلوليهما حتّى يحتاج إلى الفحص عن العلاج ، وهذا في ما إذا كان الحكم في أحدهما على الموضوع ، وفي الآخر على الحكم ، وذلك مثل دليل «توضّأ» ودليل لا ضرر في الإسلام في مورد اجتماعهما وهو الوضوء الضرري ، فالأوّل ليس له نفي وإثبات في الحكم والإرادة ، وإنّما هما في الموضوع وهو الوضوء ، والحكم ملحوظ على المعنى الحرفي.

نعم مدلول الأصل العقلائي هو الحكم على هذا الحكم ملحوظا على المعنى

٤٨٤

الاسمي ، بمعنى أنّه يجعل موضوعا ويقال : حيث لم يقيّد في الكلام بشيء مخرج لهذا الفرد الذي هو الوضوء الضرري فهو ثابت فيه ، فيعارض هذا الإثبات الذي هو مدلول الأصل وحكم العقلاء نفس المدلول في قضيّة لا ضرر الذي كان هو ابتداء سلب الحكم الذي يجيء منه الضرر ولو كان انسحاب هذا السلب إلى هذا المورد أيضا بحكم العقلاء ، ولكن مع ذا يعدّ العمل بالأصل الأوّل في قبال الثاني اجتهادا في مقابل النصّ.

وبالجملة ، وإن كان كلّ من الأصلين متقوّما بعدم ورود البيان من المتكلّم ، ولكنّ الثاني يعدّ بيانا بالنسبة الى الأوّل دون العكس ، فحيث قلنا : إنّ الحاكم متعرّض لنفس الواقع لا أن يكون بلفظه ناظرا إلى حال دليل آخر تخلّصنا عن إشكال أنّ اللازم على هذا لغويّة الحاكم بدون المحكوم مع عدم اللغويّة في «لا ضرر» و «صدق العادل» بدون محكومهما وكونهما حكمين مستقلين كسائر الأحكام ، وحيث قلنا : إنّ المدلول في الحاكم هو الحكم على الحكم وتحديده وفي المحكوم هو الحكم على الموضوع تخلّصنا عن النقض بالخاص والعام ، حيث إنّ الخاص وإن كان متعرّضا لنفس الإرادة الواقعيّة لا بما هي مدلول العام ومراد منه ، نعم هو قرينة على المراد منه بحكم العقل بضميمة المرجّح ، إلّا أنّ حكمه كحكم عامّه وارد على الموضوع.

وهذا أولى ممّا اختاره المحقّق الخراساني طاب ثراه في وجه الجمع بين القاعدة وأدلّة المتكفّلة للأحكام ، بجعلها متعرّضة للحكم الفعلي المتعلق بالعنوان الثانوي ، وجعل تلك الأدلّة متكفّلة للحكم الاقتضائى المتعلّق بالعنوان الأوّلي ، وذلك لأنّ الحكم الاقتضائي بحسب الاصطلاح عبارة عن حكم متعلّق بذات الشيء في قبال سائر الذوات المقابلة له ، من غير نظر إلى الحالات الطارئة على الذات.

كما أنّ الفعلي عبارة عن حكم ناظر إلى الطواري والحالات ، وذلك مثل دليل حليّة الغنم وحرمة الغصب ، ودليل إباحة الماء والخبز وسائر الأشياء المباحة مع دليل وجوب الوفاء بالعقد والشرط والنذر والحلف ، حيث إنّ مفاد «الغنم حلال»

٤٨٥

هو أنّ هذه الذات في قبال الخنزير مثلا حلال ، وهكذا مفاد «الماء حلال» أنّه في قبال الخمر حلال ذاتا ، وهذا المعنى لا ينافي مع حكم العنوان الثانوي بل يجتمعان ، فالغنم المغصوب حلال ذاتا وحرام عرضا ، ولهذا يتفاوت حرمته مع حرمة الخنزير فليس دليل العنوان الثانوي تقييدا وتخصيصا في الدليل الأوّلي ، وأيضا لو لم يكن دليل العنوان الثانوي وكنّا نشكّ في الحكم عند طروّ بعض الحالات لما أمكن التمسّك بالدليل الأوّلي.

وشيء من هذين غير موجود في المقام ، فإنّ القاعدة مخصّصة لبّا للأدلّة وإن كان لا تخصيص في الصورة وكان إطلاق تلك الأدلّة هو المرجع عند الشكّ لو لا القاعدة.

ثمّ لا فرق في الحكومة بالمعنى الذي ذكرنا من كون مفاد أحد الدليلين تحديد الحكم الواقعي لا مدلول الدليل بين أن يكون ذلك بلسان نفي الموضوع أو إثباته ، وبين أن يكون مدلولا ابتدائيا ، فالثاني كما قلنا في لا ضرر ، والأوّل كما في «لا شكّ لكثير الشكّ» ودليل البناء على الأربع مثلا عند الشكّ بينه وبين الثلاث ؛ لوضوح أنّ التقريب المتقدّم جار فيهما بلا فرق.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى قدس‌سره جعل لقاعدة لا ضرر حكومة على قاعدة «الناس مسلّطون» حيث ذكر في ما إذا كان تصرّف المالك في ملكه موجبا لتضرّر جاره ، وتركه موجبا لتضرّر نفسه أنّه بعد تعارضها نرجع إلى عموم «الناس مسلّطون على أموالهم».

وأنت خبير بأنّه مبنيّ على عموم القاعدة بالنسبة إلى جميع الحالات ، إذ لو كانت حكما حيثيتيّا متعرّضا لعدم حجر المالك من حيث كونه متصرّفا في ماله من غير نظر إلى الحالات لما كان معنى للحكومة كما عرفت سابقا ؛ لأنّها تخصيص في اللبّ ، ولا تخصيص في الحكم الحيثي ؛ لأنّه مجتمع مع الفعلي المخالف له ، والظاهر هو الثاني ، وذلك لأنّه هل يرضى أحد بأنّ مقتضى الناس مسلّطون جواز ضرب المالك المقمعة على رأس الغير بمحض أنّه تصرّف وتسلّط على ماله ، ثمّ خصّص بدليل تحريم الإضرار بالغير؟

٤٨٦

وهكذا بالنسبة إلى وطي عبده ؛ إذ أنّه في هذا الحال أيضا تسلّطه ثابت من حيث الماليّة ، وإنّما الحجز من جهة اخرى ، فيفرق بين الضرب بمقمعته والضرب بمقمعة الغير وبين الوطي لعبده ووطي عبد الغير.

وحينئذ فإمّا أن نقول بأنّ بين فردي الضرر أو الضرر في جانب الجار والحرج في جانب المالك تعارضا أو تزاحما ، فعلى الأوّل وإن كان ليس لنا في مقام الإثبات دليل على الحرمة ولا على الجواز ، لكن نحتمل كون الحكم ثبوتا هو الحرمة ، وقد فرضنا أنّ القاعدة لا تدفع احتمال الحرمة ، وإنّما يعمل بها في مورد حصل الأمن من احتمال الحرمة من جهات أخر ، وإذن فالمرجع هو البراءة.

وعلى الثاني فالظاهر عدم أهميّة لأحد من الضرر والحرج بالنسبة إلى الآخر في نظر الشارع ، فيصير حال تصرّف المالك بلا ملاك من حيث المطلوبيّة والميل الشرعي ، وذلك لتكاثر الجهتين في عالم المطلوبيّة ، حيث إنّ النقيضين ليسا كالضدّين في إمكان توجّه الميل نحو كليهما ؛ فإنّ قضيّة الميل سمت العدم الاشمئزاز من الوجود ، وبالعكس ، فمع وجود المصلحة في الفعل والترك معا بقدر واحد يلزم انعدام الميل والاشمئزاز عن النفس ، فيصير المتحصّل إباحة لا اقتضائيّة ، وهكذا الكلام في ممانعة الجار عن تصرّف المالك بعد تعارض الفردين فيه أيضا ، حيث إنّ منعه عن الممانعة حرج عليه ، وتجويزها حرج على المالك.

فحينئذ يمكن جعل قاعدة «الناس» مرجعا ؛ فإنّ شرط إعمالها وهو الفراغ عن احتمال حرمة المورد موجود ؛ لأنّ الفرض تكاثر الجهتين وحصول الإباحة قهرا ، فتحقق أنّ حكومة لا ضرر على القاعدة ممنوعة ، ومرجعيّة القاعدة أيضا مبنيّ على إحراز أنّ المقام من التزاحم مع تساوي الطرفين.

ثمّ الظاهر كون المقام من باب التزاحم وأنّ الشارع لا يرضى بضرر أحد من عبيده ولا حرجه ، فالقصور منحصر في إمكان حفظ كلا المطلوبين ، وحينئذ وإن قلنا : لا أهميّة ظاهرا بين الضرر والحرج ، ولكن يمكن حدوثها من جهات أخر ، فلا بدّ من مراعاة التساوي من تلك الجهات أيضا في الحكم بجواز تصرّف المذكور

٤٨٧

وجريان قاعدة السلطنة ، وذلك لأنّه كما يوازن بين فردي الضررين ولو بالنسبة إلى شخصين وكذلك بين فردي الحرجين ، فمع التفاوت نختار الأقلّ ، وليس هذا من الدوران الغير الراجع إلى الآمر.

كما لو دار الأمر بين أن يزني الإنسان زنيّة واحدة ، وبين أن يزني غيره عشرة زنيات، فإنّ أمر الآمر غير دائر ؛ لأنّه يأمر بترك كلا الطرفين ، بل الأمر هنا راجع إلى الآمر وأنّه لا محالة لا بدّ من عدم نيله إلى أحد غرضيه في مقام الأمر ، وحينئذ لا محالة يختار ما كان المحذور المذكور فيه أقلّ ولو كان الدوران بالنسبة إلى شخصين.

ألا ترى أنّ المولى الذي لا يرضى أن يتضرّر واحد من عبيده لو دار أمره بين أن يأمر أمرا يتضرّر هذا بعشرة ، أو أمرا آخر يتضرّر ذاك بعشرين ، لا محالة يختار الأوّل ، فكذلك الشارع ، كذلك هذه الموازنة يجري أيضا في فرد من الضرر وفرد من الحرج عند الدوران الآمري بينهما ، كمقامنا ، فربّما يكون الحرج الوارد على المالك من منعه من التصرّف أهون من الضرر الوارد على الجار على تقدير التجويز ، وربّما يكون الأمر بالعكس ، وربّما يتساوي الأمران ، فما ذكرنا من الرجوع إلى قاعدة السلطنة مختصّ بغير الصورة الاولى ، فإنّه في الصورتين الأخيرتين وإن كان لا يتحقّق الإباحة الشرعيّة ، لكن يكفي في مرجعيّة القاعدة المعذوريّة العقليّة من الجهات الأخر.

ثمّ اللازم من البيان المتقدّم هو الجواز العقلي لإقدام المالك ، وهو لا ينافي مع الضمان على تقدير أداء ذلك إلى تلف في ملك الجار ، فإنّ الضمان غير دائر مدار التحريم الشرعي، ولهذا نقول به في الأكل من مال الغير عند المخمصة.

بقي في المقام شيء آخر وهو أنّ شيخنا المرتضى قدس‌سره الشريف فرّق في دوران الضرر بين شخصين بين الدوران الابتدائي بينهما بأن يكون المقتضي بالنسبة إلى كليهما على حدّ سواء ، كما إذا توجّه السيل وكان نسبته إلى كلتا الدارين على السواء ، فجعله من باب تعارض الضررين ، وبين ما إذا كان المقتضي متوجّها إلى خصوص واحد منهما ، كما لو توجّه السيل إلى دار هذا ، ولو أوجد السدّة يتوجّه إلى

٤٨٨

دار جاره ، أو توجّه السهم إلى رأس هذا ، ولو تحرّك عن محلّه يتوجّه إلى رأس آخر ، فلم يجعله من باب التعارض ، بل أوجب تحمّل الضرر وعدم دفعه بإضرار الغير.

ويستشكل عليه بأنّه ما الفرق بين المقامين ، فإنّ منع صاحب الدار عن إيجاد السدّة ودفع السيل عن داره حكم ضرري بالنسبة إليه ، سواء كان توجّه السيل إلى أحدهما بلا عينه، أو إلى داره بالخصوص ، غاية الأمر معارضته بضرر الجار ، فالوجه جعل كلتا الصورتين من تعارض الضررين ، والحاصل أنّه يكفي في صحّة إسناد الضرر إلى الشارع عدم مانعيّته عن وجوده عند تحقّق مقتضيه.

ألا ترى أنّه كما يصحّ طلب عدم القتل من زيد في صورة مباشرته للقتل ، كذلك يصحّ مع مباشرة غيره وقدرته على الممانعة؟ فهنا أيضا بعد فرض أنّ مقتضي خراب الحائط وهو السيل موجود ، فعدم ترخيص الشارع للدفع يصحّح استناد وقوع الخراب إليه ، فترخيصه مع فرض وجود الداعي في نفس صاحب الدار تسبيب لخراب حائط الجار ، وعدم ترخيصه مع فرض وجود السيل المتوجّه نحو الدار ترك للممانعة عن سبب خراب حائط الدار ، فكلّ منهما مناف لقوله : لا ضرر ، بناء على أنّ من بعض مدلوله أنّ الحكم الذي يوجب استناد الضرر إلى الشرع منفيّ.

وأمّا الضرر المتوجّه إلى الغير فيمكن أن يقال : إنّ إيجاب الدفع عنه ولو مع عدم الإيراد على النفس غير مدلول لا ضرر أصلا ، ألا ترى أنّ أحدا لا يفهم من قوله عليه‌السلام : لا ضرر وجوب دفع السيل المتوجّه إلى دار الغير وإرساله إلى الصحراء ، وهكذا أمثال ذلك ممّا نقطع بخروجها عن مدلول لا ضرر ، لا كونها تخصيصا فيه.

لا يقال : هذا مناف مع ما اخترت من كون المفاد نفي حقيقة الضرر من دون تقييد، فإنّه على هذا لم ينسدّ هذا الباب من أبواب وجوده.

لأنّا نقول : يكفي في صحّة نفي الضرر على وجه الإطلاق عدم صدور موجبات الضرر من الأحكام من الشارع ومنعه عن الدواعي إلى الضرر ، وأمّا إحداث

٤٨٩

الداعي للمنع عن مقتضى الضرر فلا يضرّ تركه بصدق النفي على وجه الإطلاق.

وحينئذ فنقول : إيجاب الدفع عن الغير بإضرار النفس ضرري على الدافع ، وعدمه ليس ضرريّا على الغير بحيث شمله القاعدة ، فلا معارضة ومزاحمة هنا أصلا ، هذا.

ويمكن دفع الإشكال في صورة توجّه الضرر الى النفس بأنّ الحكم بإيجاب التحمّل والمنع عن الدفع بإضرار الغير من شئون المزاحمة واختيار الأخفّ.

توضيح ذلك أنّه لا شكّ أنّا في مبغوضات أنفسنا التي ملاكها معلوم لنا لو دار أمرنا بين ارتكاب واحد من المبغوضين المتساويين في الملاك كقتل واحد من ابنينا المتساويين في المحبوبيّة لنا ، ولكن كان طرف الترديد قتل أحدهما بمباشرتنا وتسبيبنا لأسباب القتل ، وقتل الآخر بمباشرة غيرنا وعدم المنع منّا لمباشر القتل مع قدرتنا على المنع لو لا المزاحمة ، فلا شكّ أنّا نختار الثاني ، فإنّ استناد القتل فيه إلينا استناد المعلول إلى عدم المانع ، وفي الأوّل إلى المقتضي ، والثاني أقوى من الأوّل.

إذا تقرّر هذا فنقول : الأمر في مقامنا الذي دار فيه أمر الشارع المقدّس بين منع المالك عن دفع السيل وبين عدم منعه عنه مع وجود المقتضي للدفع وإضرار الجار فيه ، والأوّل حكم ضرريّ بالنسبة إلى المالك ، والثانى بالنسبة إلى الجار ، نظير الأمر في المثال الذي ذكرنا وإن كان ليس مثلا له.

توضيح ذلك أنّ منع الشارع عن الدفع مع وجود المقتضي لضرره وهو السيل يوجب استناد الضرر إليه مع الواسطة ، فإنّه معلول المقتضي وهو السيل ، وعدم المانع أعني عدم دفع المالك ، وهذا العدم معلول لمنع الشارع ، فمنع الشارع علّة لعلّة الضرر ، لا نفس علّة الضرر.

وأمّا عدم منعه عن الدفع المذكور مع وجود مقتضيه وهو الداعي في نفس المالك يوجب استناد ضرر الجار إليه بلا واسطة ؛ فإنّه معلول المقتضي وهو داعى المالك ، وعدم المانع وهو عدم منع الشارع ، فعدم منع الشارع نفس علّة الضرر ، ولا شكّ أنّ المتعيّن عند دوران الأمر بين استناد المبغوض استنادا قريبا وبين الاستناد البعيد هو اختيار الثاني ، هذا.

٤٩٠

وينبغي التنبيه على امور ، قد عرفت سابقا لزوم ملاحظة مراتب الضرر الدائر بين الشخصين كالمالك لو منع من الحفر ، والجار لو لم يمنع وقد نقل هذا شيخنا المرتضى في رسالته المعمولة لهذه القاعدة عن بعض من عاصره ، ثمّ قال : وهو ضعيف مخالف لكلمات الأصحاب ، نعم لو كان تضرّر الغير من حيث النفس أو ما يقرب منه ممّا يجب على كلّ أحد دفعه ولو بضرر لا يكون حرج في تحمّله فهذا خارج عن محلّ الكلام ؛ لأنّ ما يجب تحمّل الضرر لدفعه لا يجوز إحداثه لدفع الضرر عن النفس ، انتهى كلامه ، رفع مقامه.

قال شيخنا الاستاد دام أيّام أبحاثه الشريفة : لا شكّ أنّا نفهم من قول الشارع : لا ضرر ، كون الضرر مبغوضا له مطلقا ، حتّى لو دار أمره بين إضرار أحد عبديه فقد فات منه في حقّ المتضرّر منهما هذا الغرض ، ومن العلوم أيضا أنّ عباده متساوون في نظره ، وبعد ذلك لا يعقل أن لا يلاحظ عند الدوران مراتب الضرر المختلفة حسب اختلاف الموارد والأشخاص حالا ومالا.

ثمّ الظاهر حيث جوّزنا للمالك إضرار الغير هو الضمان ، لعدم منافاة الإذن الشرعي مع عموم الضمان ، هذا وإن كان كلّ من هذين ـ أعني ملاحظة المراتب وثبوت الضمان ـ على خلاف ما في كلمات المشهور رضوان الله عليهم.

المغبون من البائع والمشتري إن كان عالما بمطابقة الثمن للقيمة الواقعيّة فلا كلام في أنّ حكم لزوم البيع عليه حكم ضرري ، وكذلك إن لم يعلم ، لكن أحرز ذلك بطريق معتمد عند العقلاء مثل إخبار أهل الخبرة أو تميز نفسه مع كونه من أهل الخبرة ، ثمّ انكشف خطاء الطريق فإنّ اللزوم أيضا حكم ضرري ولم يتحقّق من المغبون أيضا إقدام ؛ فإنّه وإن كان محتملا ، لكن كان غير معتنى به ، لقيام الطريق العقلائي على خلافه ، ومعه لا يصدق الإقدام على الضرر الموجب لعدم جريان نفي الضرر المبني على الامتنان في حقّه ، لوضوح كون النفي في حقّه أيضا امتنانيّا.

وأمّا إذا لم يعلم ولم يقم عنده طريق ، وكان إقدامه على البيع بالثمن المسمّى مع الجهل والترديد في مطابقته مع القيمة وعدمها لأجل شدّة الاضطرار ونحوها ، فإنّ

٤٩١

هذا الجهل لا يضرّ بصحّة المعاملة ، إنّما المضرّ هو الجهل بالثمن.

فلا إشكال أنّه يصدق حينئذ في حقّه أنّه أقدم على ضرر نفسه ، واللزوم الذي هو حكم الشارع ليس إلّا إمضاء لما فعله نفس المتعاقدين الذي منها أصل القرار ، ومنها استحكامه ولزومه ، والإقدام ناش من الجهة الثانية ، والدليل على أنّ الثاني أيضا من فعل المتعاقدين لا حكما من قبل الشارع أنّه لو صدر هذه المعاملة الواقعة عن جهل بالقيمة من الدهري الغير القائل بالشرع يصدق عندهم أنّه أقدم على ضرر نفسه.

وحينئذ فلا وجه لجريان القاعدة في حقّه لرفع حكم اللزوم مع أنّه مسوق في مقام الامتنان ، ولا امتنان في موارد إقدام المتضرّر على الضرر ، مع أنّهم رضوان الله تعالى عليهم أثبتوا خيار الغبن في غير صورة العلم بالحال ، ولم يظهر وجهه.

والغرض أنّه مع تسليم تماميّة الاستناد إلى القاعدة لإثبات الخيار لا يتمّ ما ذكروه على إطلاقه ، وإلّا فأصل إثبات الخيار الذي هو من الحقوق بالقاعدة مشكل ، إذ أوّلا فغاية الأمر ارتفاع حكم اللزوم ، وأين هو من إثبات الحقّ ، وثانيا مقتضاه رفع إطلاق اللزوم بالنسبة إلى صورة عدم بذل الغابن التفاوت وعدم إمكان إجباره ، وأمّا رفعه حتّى في صورة البذل أو إمكان الإجبار فلا ، إذ ليس اللزوم في هاتين الصورتين حكما ضرريّا ، هذا.

الثالث : لا إشكال في صدق الضرر على النقص العيني في المال ، فهل النقص القيمي أيضا مصداق له أو لا؟ ويظهر الثمر في ما إذا وضع إنسان أمتعة للبيع في دكّان بجنب دكّان إنسان آخر بائع لتلك الأمتعة إذا أوجب ذلك إمّا كساد مكسب ذلك الآخر أو تنزّل قيمة متاعه.

فإن قلنا بأنّه مصداق للضرر جرى فيه الكلام المتقدّم في تصرّف المالك في ملكه الموجب لتضرّر جاره من التفصيل بين ما إذا كان اختيار هذا الدكّان من ما بين سائر الدكاكين لغوا لا لغرض عقلائي ، فنحكم بالتحريم ، وبين ما إذا كان ذلك لغرض عقلائي يفوت هذا الغرض في مكان آخر فنحكم بملاحظة مراتب الضررين ، ونفي ما كان أرجح والتجويز مع المساواة.

٤٩٢

وإن قلنا بعدم الصدق كان العمل المذكور جائزا على كلّ حال ، ولا موقع للمعارضة والمزاحمة.

والظاهر من طريقة العلماء رضوان الله عليهم هو الثاني ، والظاهر من مفهوم لفظ الضرر عرفا هو الأوّل ؛ إذ ليس هو مختصّا بالنقص العيني ، بل القيمي عندهم من معظم أفراده ، فعدم التزامهم بالتفصيل في المثال المذكور تخصيص في القاعدة ، كما أنّ التزامهم في باب الغصب بعدم الضمان في النقص القيمي تخصيص في قاعدة من أتلف ، هذا.

الرّابع : قد يستشكل في الاستدلال بالقاعدة في موارد الضرر ، بموهونيّتها بتخصيص الأكثر ، فإنّ من لاحظ الفقه علم أنّ الخارج منها أكثر من الداخل كالتكليف بالحج والزكاة والخمس والجهاد والصوم وغير ذلك.

قال شيخنا الاستاد أدام الله أيّام إفاضاته الشريفة : يمكن دفع الإشكال عن القاعدة بأن يقال : إنّ المنفي إنّما هو الضرر الثابت في الإسلام ، أعني في الأحكام المجعولة الاسلاميّة بعد حفظ نفس الإسلام والقوانين المقرّرة فيه.

توضيح ذلك أنّ كلّ حكم من أحكام الإسلام لا ينفكّ بطبعه عن إحداث ضرر أو حرج ، والقاعدة لا ينفي هذا الضرر ، ثمّ بعد الإغماض عن هذا يكون بين أفراد هذا المضرّ بالطبع ضرريّ ، أعنى ما يزيد ضرره على ضرر أصل الطبيعة بواسطة الخصوصيات الخارجيّة ، كظلم ظالم ، أو علّة مزاج ، وغير ذلك من الأسباب الخارجيّة ، وغير ضرريّ ، أعني ما يسلم عن هذا الضرر الزائد عن مقتضى الطبيعة ، فالقاعدة ينفي لهذا الضرر الزائد بعد حفظ أصل الحكم ، وبهذا التقريب يخرج كثير من موارد توهّم التخصيص عن أفراد القاعدة كما هو واضح ، والباقي منها ليس بأكثر من الداخل ، لكن يسقط على هذا عن التمسّك في الحكم الابتدائي الضرري ، هذا.

٤٩٣

الاستصحاب

فى استصحاب الحكم المستفاد من العقل.

أمّا تقريب مرام شيخنا المرتضى قدس‌سره الشريف فهو أنّه قد يقال : إنّ موضوع حكم العقل أبدا هو البسائط ، وحكم العقل في المركّبات والمقيّدات إنّما هو من باب تطبيق تلك البسائط عليها ، مثلا حكمه بقبح الصدق الضارّ من باب حكمه بقبح عنوان الضار ، وهكذا ، وقد يقال : يمكن أن ينعقد حكمه من الابتداء في موضوع ذي جزء أو قيد.

وعلى كلّ حال لمّا لم يمكن إجمال الموضوع في نظر نفس الحاكم فلا محالة لا يمكن الشكّ في حدّ موضوع حكم العقل ، أمّا على الأوّل فواضح ؛ لأنّ معنى ذلك الجهل بأصل الموضوع ، وأنّه هذا أو ذاك ، وأمّا على الثاني فكذلك ؛ لأنّه يرجع إلى الجهل بأنّ موضوع حكمه هل هو المطلق أو المقيّد أو الناقص أو التامّ ، ولا يمكن هذا الجهل في حقّ نفس الحاكم.

والحاصل موضوع حكم العقل معلوم تفصيلا ، فإن علم بقاؤه علم بثبوت الحكم وإن علم ارتفاعه علم ارتفاع الحكم ، وإن شكّ فإن كان لأجل الاشتباه في الامور الخارجيّة كالشكّ في بقاء الإضرار في السمّ الذي حكم العقل بقبح شربه ، فلا يجوز الاستصحاب ، للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشكّ في الموضوع الذي كان يحكم عليه مع القطع ، نعم يثبت باستصحاب بقاء الضرر ، الحرمة الشرعيّة ولو كان ثبوتها سابقا بواسطة الحكم العقلي ، ولا منافاة بين انتفاء الحكم العقلي وثبوت الحكم الشرعي ، لأنّ عدم الحكم العقلى مع الشكّ إنّما هو لاشتباه الموضوع عنده ، وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعي الواقعي أيضا ؛ إلّا أنّ الشارع حكم على هذا المشتبه الحكم الواقعي بحكم ظاهريّ هي الحرمة.

٤٩٤

وإن كان الشكّ لعدم تعيين الموضوع تفصيلا ، واحتمال مدخليّة موجود مرتفع أو معدوم ، حادث في موضوعيّة الموضوع ، فهذا غير متصوّر في المستقلّات العقليّة ، لأنّ العقل لا يستقلّ بالحكم إلّا بعد إحراز الموضوع ومعرفته تفصيلا ، لأنّ القضايا العقليّة إمّا ضروريّة لا يحتاج العقل في حكمه إلى أزيد من تصوّر الموضوع بجميع ما له دخل في موضوعيّته من قيوده ، وإمّا نظريّة ينتهي إلى ضروريّة كذلك ، فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل.

فإن قلت : كيف نستصحب الحكم الشرعي مع أنّه كاشف عن حكم عقلي مستقلّ، فإنّه إذا ثبت حكم العقل بردّ الوديعة وحكم الشرع على طبقه بوجوب الردّ ، ثمّ عرض ما يوجب الشكّ مثل الاضطرار والخوف ، فنستصحب الحكم الشرعي ، مع أنّه كان تابعا للحكم العقلي.

قلت : أمّا الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي فحاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب ، نعم لو ورد في مورد حكم العقل حكم شرعي من غير جهة العقل ، وحصل التغيّر في حال من أحوال موضوعه ممّا يحتمل مدخليّته وجودا أو عدما في الحكم جرى الاستصحاب ، وحكم بأنّ موضوعه أعمّ من موضوع حكم العقل.

ومن هنا يجري استصحاب عدم التكليف في حال يستقلّ العقل بقبح التكليف فيه ، لكنّ العدم الأزلي ليس مستندا إلى قبح وإن كان موردا للقبح.

قال شيخنا الاستاد دام ظلّه نقلا عن سيّد مشايخه الميرزا الشيرازي وشيخهم الفاضل الأردكاني قدّس أسرارهما : إنّ ما ذكره قدس‌سره من أنّ إجمال الموضوع في الأحكام العقليّة غير معقول ، فيه أنّ الحكم بمعنى الإذعان الفعلي بالنسبة كذلك لا يقبل الإجمال في نظر المذعن، ولكن هذا ليس مناطا للحكم الشرعي.

والحكم بمعنى الملاءمة والمنافرة النفس الأمريّين الموجودتين لدى العقل الكامل وهو طرف النسبة التي هي متعلّق الإذعان يمكن إجمال موضوعه في نظر العقل ، ومرجع القول بعدم الإمكان أنّ العقل أبدا بين إدراك التمام وجهل التمام ولا واسطة

٤٩٥

بينهما ، ومن الواضح فساد هذا ؛ إذ كما يمكن الجهل الرأسي ، يمكن الجهل بالبعض بأن يعلم الملاك في المركّب أو المقيّد ولا يعلم قيامه بالمطلق أو بالمقيّد أو قيام ملاك آخر في المطلق.

وأمّا حديث عدم إحراز الموضوع فلا فرق بين وقوع المقيّد تحت حكم ثمّ شكّ بعد زوال قيده ، ولكن كان الباقي بحيث يراه العرف متّحدا مع الوجود الأوّل ـ حيث التزم قدس‌سره في مسألة الميسور والمعسور بجريان الاستصحاب فيه وإن كنّا قد خدشنا فيه ـ وبين وقوعه موضوعا لحكم العقل ثمّ شكّ فيه بالنحو المزبور ، إذا الموضوع مأخوذ من العرف ، ولا يفرق الحال فيه باختلاف المدرك.

نعم بناء على أخذه من الدليل يتفاوت ، ولكنّه خلاف مذاقه وما هو الحقّ ، نعم الخدشة المتقدّمة مشتركة بين المقامين ، هذا على تقدير كون الموضوع هو المقيّد أو المركّب.

وأمّا لو كان هو الأمر البسيط المنطبق عليهما فهنا تفصيل ، فإن كان مأخوذا بنحو صرف الوجود فانطبق على أوّل وجود ، ثمّ شكّ في انطباقه في الآن الثاني عليه أو ارتفاعه ، فلا يجوز الاستصحاب على ما هو الحقّ من عدم سراية الحكم من الطبيعة الملحوظة بهذا النحو إلى أفراده ـ كما بيّن في مبحث اجتماع الأمر والنهي ـ من غير فرق بين ما إذا كان الشكّ في الانطباق حكميّا أو موضوعيّا ، نعم هذا في استصحاب الحكم ، وأمّا الموضوع فلا مانع منه لو لم يكن الشكّ في سعة دائرة المفهوم وضيقها ، وإلّا فلا مجرى له أيضا ، لما حقّق في محلّه من أنّ العبرة بالشكّ الخارجي دون المفهومي.

وإن كان مأخوذا بنحو الوجود الساري ثمّ شكّ في الانطباق على مقيّد بعد زوال قيده بعد العلم به قبله ، أو كان الشكّ ناشئا من اشتباه الأمر الخارجي فأوّلا نستصحب الموضوع إن لم يكن الشكّ في ضيقه وسعته ، وإلّا فاستصحاب الحكم مبنيّ على أنّ سراية الحكم من الطبيعة الملحوظة بهذا النحو إلى ما ينطبق هي عليه بذاته ، أو بما هو من مصاديق تلك الطبيعة.

٤٩٦

وبعبارة اخرى : لا شكّ أنّ الحكم الثابت للعالم يثبت لزيد بترتيب القياس ، فيقال : هذا عالم ، وكلّ عالم يجب إكرامه ، فهذا يجب إكرامه ، لكنّ الكلام في أنّ هذا الذي وقع موضوعا في الصغرى والنتيجة هل أخذ فيه على نحو الاندماج والإجمال حيث العالميّة ، كما اخذ في الإنسان حيث الحيوانيّة والحمل مبنيّ على المغايرة بالإجمال والتفصيل ، كما في «الإنسان حيوان ناطق» أو أنّه عبارة عن الذات المجرّدة عن حيث العالميّة؟.

قد يقال بتعيّن الثاني ، نظرا إلى أنّه لولاه لزم امتناع حمل الكليّة على الطبيعي في قولنا : الإنسان مثلا كلّي ؛ لأنّ الكليّة مأخوذة في الموضوع إجمالا ، والطبيعى حينئذ يصير كليّا عقليّا يباين الخارجيّات.

ويمكن دفعه بأنّه لا يبتني مطلب الخصم على أخذ عين المحمول في الموضوع ، بل يكفيه أخذ ما يلازم صدق الحمل.

وبالجملة ، فعلى القول بالأخذ يكون الموضوع في مورد الشكّ في الانطباق غير محفوظ ، فلا استصحاب ، وعلى القول الآخر يجوز لإحراز الموضوع ، والظاهر بناء على أخذ الموضوع في الاستصحاب من العرف هو القول الثاني ، فإنّهم يرون بين الحالتين مشارا إليه محفوظا ، نعم لو كان زوال القيد مورثا للتعدّد بنظرهم أيضا فلا مجال للاستصحاب.

فإن قلت : القول بالسراية من العنوان البسيط إلى المقيّد المنطبق عليه ينافي مع ما ذهبت إليه في مسألة الأقلّ والأكثر من أنّ العبرة بذلك البسيط ، فالقاعدة هو الاشتغال ، لا بالمقيّد حتى يكون مجرى للبراءة.

قلت : المقصود هناك أنّه لا ينفع البراءة في المنطبق عليه بعد الاشتغال في البسيط المنطبق ، لا أنّ المقصود نفي السراية حتّى ينافي المقام.

* * *

٤٩٧

في حجيّة الاستصحاب في كلّ من الشكّ في المقتضي والرافع

اعلم أنّ شيخنا المرتضى قدس‌سره الشريف جعل التصرّف في لفظ «اليقين» في قولهعليه‌السلام: لا تنقض اليقين بالشكّ» بإرادة المتيقّن منه مفروغا عنه ، نظرا إلى أنّ النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلّق بنفس اليقين على كلّ تقدير ، وحيث إنّ النقض اخذ في حقيقته الإبرام والتصاق الأجزاء كان الأنسب بهذا المعنى عند تعذّره بحسب الانس الذهني رفع الأمر الثابت ، يعني ما له مقتضي الثبوت ، دون مطلق رفع اليد عن الشيء بعد الأخذ به ، فيكون الخبر مختصّا بالشكّ في الرافع دون المقتضي.

واستشكل عليه تلميذه سيّد الأساتيد العظام الميرزا الشيرازي قدّس نفسه الزكيّة بأنّه لا داعي إلى صرف اليقين عن ظاهره بإرادة المتيقّن منه ؛ إذ كما أنّ النقض الاختياري بالنسبة إلى نفس اليقين غير متحقّق وإنّما هو قهري الانتقاض ، كذلك الحال بعينه في المتيقّن الذي يشكّ المكلّف في بقائه وارتفاعه ، فإنّه أيضا إن كان باقيا فبغير اختياره ، وإن كان منتقضا ، فكذلك ، فالتصرّف في النقض بإرادة رفع اليد عملا محتاج إليه على كلّ حال ، ومعه يكون التصرّف في اليقين بلا جهة ، ومن المعلوم أنّ نفس صفة اليقين كالعهد والبيعة واليمين ممّا يصحّ استعارة النقض لها ، لما فيها من الاستحكام ، فيتخيّل كونها ذات أجزاء متداخلة مستحكمة ، فيكون الخبر شاملا لكلّ من الشكّين.

فإن قلت : على هذا يكون عدم النقض بمعنى إبقاء اليقين عملا بلحاظ آثار نفس اليقين ، وهو خلاف المراد ؛ لأنّه إبقاء عمل المتيقّن.

قلت : لمفهوم اليقين قسمان من المصاديق في الخارج ، أحدهما ما شأنه شأن المعنى الحرفي في عدم الوجود الاستقلالي في نظر صاحبه ، بحيث لا يمكن الحكم عليه وبه ، ولكن ليس على حدّ الخروج عن الالتفات والشعور إليه ، كيف والمستعمل للحرف ملتفت إلى استعماله وليس خارجا عن اختياره.

٤٩٨

والقسم الثاني ما كان موجودا استقلاليّا قابلا للحكم عليه وبه من حيث كونه واحدا من الصفات النفسانيّة ، فظاهر هذا المفهوم عند الإطلاق هو القسم الأوّل ، ولا شكّ أنّ صاحب هذا القسم يرى المتيقّن ويرى يقينه محرّكا إيّاه نحو متيقّنه ، فالعمل مستند ذاتا وبالطبع إلى اليقين ، ولا ينافي هذا مع عدم استقلاله كما عرفت.

والحاصل أنّ المتيقّن بخطاب لا تشرب الخمر وكون هذا المائع خمرا يقينه الطريقي مؤثّر طبعا ، وفاعل وذو عمل ذاتا في جوارحه بإمساكها عن شرب الخمر ، ولو فرض أنّ لهذا اليقين ولو بحيث طريقيّته أثر خاصّ به مثل التصدّق بدرهم ، فهذا العمل ليس عملا لهذا اليقين طبعا ، وإنّما حاله بالنسبة إليه حال الخمر بالنسبة إلى خطاب «لا تشرب» ، بل العمل الطبعي حينئذ ليقين آخر بذاك الخطاب الذي موضوعه اليقين الأوّل.

وبالجملة ، فرق بين العمل الطبعي والأثر الشرعي ، فالثاني عبارة عن حكم الحرمة في «لا تشرب الخمر» مثلا ، وهو مرتّب شرعا على الخمر ، والأوّل عبارة عن الكفّ والإمساك الخارجي عن الشرب ، وهو مرتّب طبعا على اليقين المرآتي ، بحيث لو كان جهلا مركّبا أيضا لكان العمل بحاله ، غاية الأمر اليقين المعتبر في الاستصحاب هو اليقين المطابق للمواقع ، وليس معنى «لا تنقض» جعل الأثر ، بل معناه كما تقدّم إيجاب معاملة المكلّف في حال الشكّ معاملته التي كان يعملها في حال اليقين ، وبعبارة اخرى : إيجاب إبقاء اليقين عملا ، ولهذا قلنا خلافا لشيخنا المرتضى ومن تبعه قدّس أسرارهم بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي كما تقدّم بيانه.

والحاصل عمل المتيقّن يكون ليقينه الطريقي ، وليس خطاب «لا تنقض اليقين» واردا عليه في هذا الحال حتّى يلزم انقلاب نظره من الطريقيّة إلى الاستقلال ، بل يرد عليه في حال الشكّ ويقول : اعمل الآن عمل ذاك اليقين.

ولا يرد أنّ العمل حينئذ لليقين بخطاب «لا تنقض» ولا ارتباط له باليقين السابق ، فإنّه يقال : نعم ، ولكن المتحرّك إليه لهذا اليقين العمل في حال الشكّ عمل اليقين السابق ، فالمكلّف يعمل عمل اليقين السابق لأجل اليقين بهذا الخطاب.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني قدس‌سره بعد أن ذكر إشكال السيّد الأجلّ الشيرازي على شيخه المرتضى قدّس أسرارهم اختار لدفع هذا الاشكال ـ أعني لزوم اعتبار

٤٩٩

النقض بالنسبة إلى آثار اليقين ـ طريقا آخر وهو جعل مفهوم اليقين حاكيا ومرآتا للمتيقّن، لا كما ذكرنا من كون مصاديقه مرايا للمتيقّنات ، قال قدس‌سره : وذلك لسراية الآليّة والمرآتيّة من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلّي ، انتهى.

وما ذكره من السراية وإن كان حقّا ، ولهذا كثيرا ما في مقام التعبير عن حكم نفس الشيء يطلق اليقين ، كما في موارد دخالته في الموضوع بنحو الجزئيّة أو الاستقلال ، فيقال مثلا : إذا رأيت زيدا فبلّغه السلام ، فإنّ الرؤية لم يؤخذ في هذا الكلام إلّا طريقا صرفا للمتعلّق ، فالموضوع هو الزيد ، لا الزيد المرئي ، ولكن لا يخفي اتّحاد هذا الطريق مع ما ذكره شيخنا المرتضى قدس‌سره ، غاية الأمر أنّه التزام بالمجاز في كلمة اليقين ، حيث اريد به المتيقّن ، وعلى هذا لا مجاز مع إمكان إرادة الشيخ أيضا عدم المجازيّة.

وبالجملة ، كلا الطريقين شريكان في أنّ المتكلّم قد حمل خطاب «لا تنقض» على نفس المتيقّنات من الطهارة وحياة الزيد وغير ذلك ، فيجيء ما ذكره الشيخ من أنّ المناسبة لمادّة النقض مخصوصة بموارد إحراز المقتضي ؛ إذ مع فرض كون اليقين في موضوع القضيّة ملحوظا على وجه الطريقيّة ، فلا يمكن ملاحظة المناسبة في مادّة النقض معه ، لتوقّفه على استقلال النظر ، فتحقّق أنّ المحيص منحصر في ما ذكرنا ، هذا.

بقي في المقام إشكال آخر وهو أنّه مع تعلّق النقض بنفس اليقين أيضا يكون المناسبة في ما إذا احرز المقتضي أتمّ من صورة الشكّ فيه ، ببيان أنّ اليقين في الاستصحاب لم ينتقض بالشكّ ؛ لأنّ اليقين متعلّق بالحدوث والشكّ بالبقاء ، وحينئذ ففي مورد كون المتيقّن ممّا له شأنيّة البقاء فكأنّ اليقين تعلّق بالبقاء أيضا فانحلّ وانفصم بواسطة الشكّ في البقاء من جهة الشكّ في رافعه ، وليس هذا في مورد ليس له شأنيّة البقاء.

والجواب أنّ مصحّح النقض في كلا الموردين أمر واحد مشترك بينهما ، وهو كون الحدوث والبقاء للعدالة القائمة بالزيد مثلا ليس في نظر العرف كعدالة زيد وعدالة بكر موضوعين حتّى لا يكون ارتباط لليقين بأحدهما بالشكّ في الآخر ، بل هما عندهم أمر واح ، فلا محالة يكون الشكّ ناقضا لليقين بهذا الاعتبار ، من غير فرق بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع.

٥٠٠