كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

ويستقيم الأمر فأنكروا بقلوبكم واتّعظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم ولاتخافوا في الله لومة لائم ... الحديث ». (١)

وقال الصادق عليه‌السلام : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن أفضل الإسلام ، فقال : الايمان بالله ، قال : ثمّ ماذا؟ قال : صلة الرحم ، قال : ثم ماذا؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... الحديث ». (٢)

وقال عليه‌السلام : « الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله ، فمن نصرهما نصره الله ، ومن خذلهما خذله الله ». (٣)

والأخبار كثيرة لاتحصى ، فإذن تبيّن انهما من أفضل الواجبات وأنّ تركهما من أبغض المحرّمات بعد الشرك بالله سبحانه كما ورد في النبوي. (٤)

وقد دلّ بعض ماتقدّم من الآيات والأخبار على كونه كفائياً.

وفي الخبر عن الصادق عليه‌السلام : « عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب على الأمّة جميعاً؟ فقال : لا ، الحديث ». (٥)

ومنه يظهر ضعف القول بوجوبه عيناً.

واعلم أنّ المنكرات إمّا مكروهة أو محرّمة ، والمنع عن الأولى مستحبّ ، والسكوت عليه مكروه ، والثاني واجب ، وهي أي المنكرات وإن أمكن استعلامها من الكتب الفقهية لاشتمالها عليها الا أنّها متفرّقة في أبوابها ويعسر الاطّلاع عليها وجمعها ولم يشيروا إلى ما شاع في المساجد

__________________

١ ـ الكافي : ٥ / ٥٦ ، كتاب الجهاد ، باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، ح ١ ، وفيه : « والفظوا بألسنتكم ».

٢ ـ الكافي : ٥ / ٥٨ ، كتاب الجهاد ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ح ٩ مع تلخيص وتغيير ، وكان عليه أن يقول : « قيل : ثمّ ماذا ».

٣ ـ الكافي : ٥ / ٥٩ ، كتاب الجهاد ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ح ١١ ، وفيه : « فمن نصرها أعزّه الله ».

٤ ـ الكافي : ٥ / ٥٨ ، كتاب الجهاد ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ح ٩ ، وورد فيه كونهما من أبغض المحرمّات بعد الشرك وقطيعة الرحم.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ١٠٧ ، الكافي : ٥ / ٥٩.

٤٤١

والأسواق والحمّامات والطرق من المنكرات ، واعتاد الناس بها ، ونحن (١) نشير إلى بعضها إجمالاً ، فممّا اعتيد عليه في المساجد ما يشاهد كثيراً فيها من إساءة الصلاة وترك شرائطها وآدابها وقراءة القرآن باللحن ، والاشتغال بالمنع عن أمثال ذلك أهمّ من الاشتغال بالنوافل لكونها فريضة يتعدّى إلى الغير فائدتها ، وهي أهمّ من النافلة التي يقتصر عليه.

ويستحب المنع عن تراسل المؤذنين في الأذان وتطويلهم مدّ الكلمات والانحراف عن صوب القبلة فيه لكونها مكروهة.

وكذا تكثير الأذان في مسجد واحد في أوقات متعاقبة بعد طلوع الفجر ، إذ لا فائدة فيه إذا لم يبق في المسجد نائم ولم ينته الصوت إلى غير من في المسجد.

وكذا الاذان قبل الصبح ، فإنّه مشوّش للصوم والصلاة الا إذا عرف بذلك.

وكذا الواعظ الخارج عن الحق في وعظه بالكذب أو البدعة يجب منعه ، ولايجوز حضور مجلسه الا لإظهار ردّه على كافّة الناس أو من أمكن منهم والا فلا يسمع أصلاً ، وإذا كان كلامه مائلاً إلى الارجاء وتجرئة الناس على المعاصي وجب منعه.

وكذا إذا تزيّن للنساء وأكثر من الأشعار والحركات والإشارات إليهنّ مع حضورهنّ وجب منعه ، ويتبيّن ذلك بقرائن الحال ، بل لاسيلم الوعظ الا لظاهر الصلاح والسكون والوقار ، والأحسن ضرب الحائل بينهنّ وبين الرجال حسماً لمادّة الفساد ومنعهنّ عن حضورها إذا خيفت الفتنة بهنّ.

ومنه أيضاً اجتماع الناس يوم الجمعة أو في شهر رمضان فيها لبيع الأدوية والأطعمة والتعويذات وقيام السؤّال وقراءتهم وإنشادهم للأشعار

__________________

١ ـ من هنا إلى آخر الفصل أخذه المصنّف (ره) من الإحياء (ج ٢ / ٣٣١٢ إلى ٣٤٣) ملخّصاً.

٤٤٢

وأمثالها ، بل قد يكون بعضها محرمة بالأصالة لكونها تلبيساً وكذباً في المسجد وخارجه فمنعه واجب حينئذ. وكذا كل بيع فيه كذب وتلبيس.

أو بالعرض كتضييق المكان على المصلين وتشويش صلاتهم عليهم.

ومنه تمكين المجانين والصبيان والسكارى من دخولها ، ولابأس بالصبي إذا لم يلعب ، ولا يحرم لعبه ولا السكوت عليه إلا إذا أخذ المسجد ملعباً ، فيجب المنع عنه حينئذ ، وكذا المجنون إذا لم يخش نطقه بفحش أو شتم أو كشف عورة أو إيذاء مسلم ، وكذا السكران ، فإن خيف منه القيء أو الأذية أو كان مضطرب العقل وجب إخراجه ، وإلا فلا.

ومما اعتيد عليه من منكرات الأسواق الكذب في المرابحة وإخفاء العيب ، فعلى العالم بكذب البائع إعلام المشتري وسكوته مراعاةً له مشاركة في الخيانة.

وكذا العالم بالعيب ، وإلا كان راضياً بضرر أخيه وهو حرام.

وكذلك التفاوت في الذراع والمكيال والميزان ، ويجب على العارف به تغييره إن أمكنه أو رفعه إلى الحاكم.

وكذا الربويات وسائر التصرفات الفاسدة ، وبيع الملاهي والتصاوير والتماثيل والأواني المتخذة من الذهب والفضة ، وثياب الحرير وقلانس التذهب.

وكذا التلبيس على المشتري في الثياب المقصورة بكونها جديدة ، وانخراق الثوب بالرفو ونحو ، وكل ما فيه تلبيس وغش ، فإنها كثيرة لاتحصى.

ومما اعتيد عليه من منكرات الشوارع وضع الاساطين والدكات متصلاً بالأبنية المملوكة ، وغرس الأشجار ووضع الخشب وأحمال الأطعمة

٤٤٣

والحبوب وغيرهما في الطريق إن كان مؤدّياً إلى التضييق والإضرار بالمارّة ولم يكن ممّا يشترك الكافة في الحاجة إليه ونحوها ربط الدوابّ الا بقدر الحاجة لأنّها مشتركة المنافع ، فلايختص بها أحد الا بقدر الحاجة التي تراد لأجلها الشوارع في العادة ، وسوق الدابة وعليها الشوك بحيث يضرّ الناس ويمزّق ثيابهم مع إمكان عدمه ، وتحميل الدوابّ مالاتطيقه ، وذبح القصابّ على الطريق أو على باب دكّانه وتلويث الطريق بالدم وطرح الكناسة على جوادّ الطرق وتبديد قشور البطّيخ أو رشّ الماء بحيث يخاف منهما التزلّق وإرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط إلى الطرق الضيّقة وأمثال ذلك.

وممّا اعتيد عليه في الحمّامات من (١) كشف العورات والنظر إليها وأخذ الصبيان والأمارد للخدمة بحيث يخشى منهم الفتنة وغير ذلك ، أو في الضيافات أي بعضها من (٢) لبس الحرير واستعمال الأواني المحرّمة والصور الحيوانية والاسراف في الطعام والبناء والمصاحبة بطريق البدعة أو اللهو واللعب المحرّمين أو ما يختلف في حليّته وحرمته وشرب المحرّمات أو أكلها واتّخاذ الفواحش فيها وغير ذلك ممّا لايمكن حصره ، وقس على ما ذكر منكرات الجامع ومجالس القضاة ودواوين السلاطين ومدارس الفقهاء ورباطات المتصوّفة وخانات الأسواق.

ومن المنكرات العامة تكاهل الناس بأسرهم عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف مع جهلهم لشروط الصلاة وآدابها في البلاد ، فكيف بالقرى والبوادي وكذا سائر مسائل دينهم ، فعلى كلّ من تعلّم مسألة أن يعلّمها الجاهل بها ، ولو كان عامياً والانسان لايولد عالماً بالشرع.

والاثم على الفقهاء أشدّ ، لأنّ قدرتهم في تبليغ العلم إلى من لايعلم أظهر وهو بهم أحرى وأليق ، والمحترف لو ترك حرفته بطل المعاش ، وهؤلاء

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر زيادتها.

٢ ـ كذا ، والظاهر زيادتها.

٤٤٤

قد تقلّدوا أمراً لابدّ منه في صلاح الخلق وحرفتهم تبليغ ما بلغ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ العلماء ورثة الانبياء ، فلا يجوز للعالم القعود في البيت مع ما يرى من مواظة الناس على هذه المنكرات مع إمكانه في حقّه واجتماع شرائطه فيه ، بل حقّ المسلم أن يبدأ بنفسه وإصلاحها باداء الفرائض وترك المحرّمات مع العلم بها بالتعلّم من أهلها ثم تعليم أهله وأقاربه ثمّ جيرانه ثمّ أهل محلته ثم أهل بلده ثم السواد المكتنف له ثم أهل القرى والبوادي وهكذا إلى أقصى العالم ، فإن قام به الأدنى سسقط عن الأبعد والا كان واجباً على كلّ من يسعه ذلك مادام جاهل على وجه الأرض باقياً ولايقدمّ عليه الا فرض عين أو كفاية أهمّ منه.

وأما أركانهما فأربعة :

أحدها : المحتسب ، ويعتبر في وجوبهما عليه كونه مكلّفاً مؤمناً ، ولايشترط العدالة على الأظهر في أفراد الحسبة الصادرة عن آحاد المكلّفين.

نعم يشترط في الناصب نفسه لتربيتهم وإرشادهم نيابة عن الرسول والأئمّة عليهم‌السلام ، مضافاً إلى سائر شروط الاجتهاد ، ويشترط القدرة أيضاً ، فلا حسبة على العاجز ولو بالخوف على نفسه من مكروه أو العلم بعدم التأثير فيه ، بل يحرم فيما يتوقّع فيه ضرر بدنيّ أو عرضيّ أو ماليّ لقوله تعالى :

( ولا تلقوا بايديكم إلى التهلكة ). (١)

وورد النهي عنه في الأخبار الا أنّ عليه أن لايحضر مجالس المنكر حينئذ ، ويعتزل في بيته الا لحاجة مهمّة أو واجب ، وهذا ممّا يختلف باختلاف الأزمان والأحوال ودرجات المكاره التي تنال بالحسبة ، والانسان على نفسه بصيرة ، ولايشترط إذن الحاكم في ما لاينجرّ إلى الفساد والفتنة من مراتب الحسبة كالوعظ بالكلام اللطيف والسبّ والتعنيف بما لايشتمل على محرّم ، والقهر الفعلي ككسر الملاهي وإراقة الخمر واختطاف الثوب منه إذا

__________________

١ ـ البقرة : ١٩٥.

٤٤٥

لم يخف مكروهاً. وأمّا ما ينجرّ إليهما فنعم على الأظهر.

والثاني : ما فيه الحسبة ، وهو كلّ منكر موجود في الحال ظاهر للمحتسب من دون تفحّص معلوم كونه منكراً من غير اجتهاد ، والمنكر أعمّ من المعصية ، فمن رأى مجنوناً يزني وجب عليه منعه ، ولايجوز للآحاد على من فرغ عنه أو علم أنّه سيأتي به الا الوعظ ، بل لو أنكر حرم يضاً ، لأنّه سوء ظنّ به ، ولايجوز التجسّس على المستتر للنهي ، والظهور يشمل الشمّ والسمع واللمس. وبالجملة هو ما يفيد العلم من دون طلب الأمارات المعرّفة.

وثالثها : المحتسب عليه ، ولا يشترط كونه مكلّفاً لما عرفت من وجوب منع الجنون والصبي عن مثل الشرب والزنا.

نعم يشترط كونه إنساناً فلا حسبة على الحيوان ، وإن وجب منع البهيمة عن إتلاف زرع المسلم مثلاً ، فإنّه ليس من قبيل الحسبة التي هي المنع عن المنكر لحق الله صيانة له عن المنكر ، بل هو لحفظ مال المسلم الواجب عقلاً ونقلاً ، فافهم.

ورابعها : نفس الاحتساب وأوّله التعرّف ثم التعريف ثم النهي ثم الوعظ ثم التعنيف ثم التغيير باليد ثم التهديد بالضرب ثم إيقاعه ثم شهر السلاح ثم الاستظهار بالأعوان والجنود.

وتفاصيل ما أشرنا إليه في الأركان موكولة إلى الكتب الفقهيّة وغيرها من مطولات الفّن.

وللمحتسب آداب يرجع حاصلها على العلم والورع وحسن الخلق.

فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لايأمر بالمعروف ولاينهى عن المنكر الا رفيق فيما يأمر به ، رفيق فيما ينهى عنه ، حليم يأمر به ، حليم فيما ينهى عنه ، فقيه فيما يأمر به ، فقيه فيما ينهى عنه ». (١)

فالفاسق يسقط أثره من القلوب ولا ينتفع بحسبته.

__________________

١ ـ إحياء العلوم : ٢ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤.

٤٤٦

فصل

التوبة عن الذنوب مبدء طريق السالكين ورأس مال الفازين ومفتاح استقامة المريدين ، وهي أصل النجاة ، وبها ينقذ من شفا جرف الهلكات ، والآيات والأخبار في مدحها وفضلها كثيرة.

قال تعالى : ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيّها المؤمنون لعلكم تفلحون ). (١)

( توبوا إلى الله توبة نصوحاً ). (٢)

والنصوح الخالص الخالي عن شوائب الأغراض.

( إنّ الله يحبّ التوّابين ). (٣)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « التائب حبيب الله ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ». (٤) وغير ذلك.

وفسّرها بعضهم بتنزيه القلب من الذنب والرجوع من البعد إلى القرب.

وقيل : إنّها ترك المعاصي في الحال والعزم على تركها في الاستقبال والتدارك لما سبق من التفريط.

وقيل : بل هي معنى ينتظم من العلم بضرر الذنوب وكونه حجاباً بين العبد والمحبوب ، والندم ، أي ألم القلب بفواته الحاصل منه ، والعزم على الترك حالاً واستقبالاً مع التلافي لما مضى فيما يقبله بالجبر والقضاء ، فالعلم مطلعها ، إذ المراد منه الإيمان أي التصديق واليقين بأن الذنوب سموم مهلكة فإذا استولى على القلب وأبصر بنور الإيمان كونه محجوباً عن مطلوبه

__________________

١ ـ النور : ٣١.

٢ ـ التحريم : ٨.

٣ ـ البقرة : ٢٢٢.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٧.

٤٤٧

مفوتاً (كذا) لمحبوبة أشرق عليه نار الندم وتألّم به كمن أشرق عليه نور الشمس بعد ما كان في ظلمة سحاب أو حجاب فرأى محبوبه مشرفاً على الهلاك حيث تشتعل نيران الحبّ في قلبه ، فينبعث منه إرادة النهوض للتدارك.

وقد يطلق على الندم وحده ويجعل الأوّل مقدّمة سابقة والأخيرة ثمرة لاحقه. ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الندم توبة ». (١)

وإليه نظر من حدّها بأنّها ذوبان الحشا لما سبق من الخطا ، ومن قال إنّه نار تلتهب وصدع في الكبد لاينشعب.

وباعتبار معنى الترك قيل : إنّها خلع لباس الجفاء ونشر بساط الوفاء.

وما يقال من أنّ الندم غير مقدور إذ كثيراً ما يقع على أمور في القلب لايريد أن يكون كذلك ، والمقدور أسبابها أعني العلم المزبور ، فلايكون داخلاً في حقيقتها لأنّها مقدورة حيث أمر بها ، ضعيف لأنّ ماله سبب مقدور يكون مقدوراً كما تبيّن في محله.

ثم التوبة لايكون الا عن ذنب سابق والا كان تقوى وورعاً ، ولذا لايصحّ أن يقال إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تائب عن الشرك ، ولا إشكال في توبة من لايقدر على الإتيان بها في المستقبل إن فسّرناها بالندم خاصّة ، كما هو الظاهر ، فإنّ عدم ترتّب بعض الثمرات لاينافي ثبوت الحقيقة مع ترتّب بعض آخر عليها كالتلافي بالتضرّع والطاعة ، وكذا إن فسّرت بالمجموع ، لأنّ جزءها العزم على الترك مطلقاً ، فإنّ عدم كونه اختيارياً يجامع كون العزم عليه اختيارياً أي لو كان قادراً على الفعل ، فلا حاجة إلى تقييده بترك ماسبق مثله وتعميم المثل بالنسبة إلى الصورة والمنزلة كما قيل (٢) ، لعدم تبادره من اللفظ ، بل مخالفته لظواهر بعض الأخبار.

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ٧٧ / ١٥٩ ، المحجة البيضاء : ٧ / ٥.

٢ ـ جامع السعادات : ٣٣ / ٥٢ ـ ٥٣.

٤٤٨

ومنه يظهر فساد ما قيل من عدم قبول توبة العنّين من الزنا الذي قارفه قبل طريان العنّة لأنّها عبارة عن ندم ينبعث منه العزم على الترك فيما يقدر على فعله ، وما لايقدر عليه قد انعدم بنفسه لا بتركه إيّاه.

قيل : لو انكشف عليه بعدها ضرره وثار منه احتراق وندم بحيث لو بقيت فيه شهوة الوقاع قمعها وغلبها فهو ممّا يرجى تكفيره ، إذا لا خلاف في قبول توبته قبلها وإن لم يطرء عليه تهييج الشهوة وتيسّر أسباب قضائها ، وليس الا لبلوغ ندمه حدّاً صرف قصده عنه ، فلا يستحيل أن يبلغه في العنّين أيضاً ، فكلّ من لا يشتهي شيئاً يقدّر نفسه قادراً على تركه بأدنى خوف والله مطّلع على نيّته ومقدار ندمه وحسرته.

والحاصل محو ظلمة الذنب يكون بحرقة الندم وشدّة المجاهدة في الترك في المستقبل معاً فإذا امتنعت الثانية لم يبعد بلوغ الندم حدّاً يقوى على محوها بدونها ، ولولاه لزم عدم قبولها ممّن لايعيش بعدها مدّة يتمكّن من المجاهدة مرّات متعدّدة ، وليس في ظاهر الشرع اشتراطه. (١)

واعلم أنّ وجوب التوبة ثابت من الآيات والأخبار وإجماع الأمّة والاعتبار ، فإنّ وجوب الأفعال وحرمتها على اختلاف مراتبها فيهما لأجل كونها وسائل إلى السعادة الأبديّة أو الشقاوة السر مدية سيّما على طريقة العدلية من عقليّة الحسن والقبح ، وكون التكليف لطفاً ، وإذا علمت انحصار السعادة الحقيقية في لقاء الله تعالى في دار القرار علمت أنّ المحجوب عنه شقي محترق بنار الفراق في دار البوار.

وإذا تبيّن لك أن لا حاجب عنه الا اتّباع الشهوات وارتكاب السيّئات لكونها إعراضاً عن الله [ وانساً بالعالم الفاني ، ولا مقرّب إليه الا قطع العلائق عنها والإقبال بالكلّية إليه طلباً للأنس ] (٢) بذكره الباقي علمت أيضاً

__________________

١ ـ القائل في الإشكال والجواب هو أبوحامد كما في المحجة البيضاء : ٧ / ٧٤ ـ ٧٥.

٢ ـ ساقط من « ج ».

٤٤٩

انّ الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب ، ولايتمّ الا بالثلاثة المشار إليها التي هي حقيقة التوبة كما عرفت. ومقدّمة الواجب واجبة عقلاً وشرعاً ، ولا ينافيه كون الندم والألم ضرورياً لايدخل تحت الاختيار ، لأنّ سببه اختياري ، والوجوب بالاختيار لاينافيه.

ثمّ إذا علمت أنّ العلم المزبور من الايمان وأنّه من علوم الأعمال التي لايمكن الخروج عن عهدتها الا إذا صارت باعثة على فعل أو ترك فمن لم يترك الذنب بعد العلم بضرره كان فاقداً لهذا الجزء من الايمان.

ولذا ورد « أنّ الزاني لايزني حين يزني وهو مؤمن » (١) ، حيث لم يرد من الايمان فيه العقائد الحقّة لعدم منافاتها للزناوأمثاله ، بل الايمان بكونه مبّعداً عن الله تعالى ، سبباً لمقته ، فالعاصي ناقص الإيمان لأنّه نيف وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله الا الله وأدونها إماطة الأذى عن الطريق والتوحيد بالنسبة إليه كالروح للانسان يوجب فقده فقده بالمرّة والطاعات بمنزلة الصورة والجوارح لا يتحقّق كمال النوع الا بها ، فالمقرّ بالشهادتين بدونها كإنسان فاقد الجوارح والأعضاء والآلات في كونه قريباً من الممات شبيهاً بالأموات لأنّ إيمان لم يثبت أصله في اليقين ولا فروعه في الأعمال لم يثبت على عواصف الأهوال ، وخيف عليه الختم على أسوء الأحوال الا ما سقي بماء الطاعات على مرّ الدهور وتعاقب الأوقات حتّى اتّصف بالدوام والرسوخ والثبات ، وهذا قاطع نياط قلوب العارفين خوفاً من دواهي الموت التي لاثبات معها الا للأقلّين ، فكما أنّ الصحيح الخائض في مضرّات المطعومات مغرور باستناده إلى صحّة بدنه في ظنّ عدم الممات لعدم وقوعها فجئة في أغلب الأوقات بل يمرض الصحيح ثم يصير من الأموات فكذا الموحّد المنهمك في معاصي الرحمن فإنّها كالمطاعم المضرّة بالنسبة إلى الأبدان فيخاف سواء الختم بسلب الايمان وبه يخلّد في النار كسائر المشركين والكفّار ، فإن وجب على الخائف

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ١٣.

٤٥٠

من هلاك بدنه الحفظ عن أكل السموم ومضرّات الطعوم ومع أكله لها التقيّأ والاخراج من المعدة كيف كان على الفور والبدار تلافياً لبدنه المشرف على الهلاك والتبار مع أنّه لا يفوت بها الا الدنيا الدنيّة الفانية ، فبالحري أن يكون متناول سموم الذنوب أولى بالتدارك لما فاته من النعيم المقيم والملك العظيم ، وما يتوقّع من فواته من العذاب الأليم ونار الجحيم ، فالبدار يا إخوان الحقيقة وخلّان الطريقة إلى التوبة الرفيعة الأنيقة قبل أن يعمل سموم الذنوب بروح الايمان ما لا ينفع بعده الاحتماء وينقطع عنه تدبير الأطبّاء ، فلا ينجع نصح العلماء الأبرار ويحقّ القول عليكم من الله القهّار بالخسار والبوار ، فيقول :

( وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فاغشيناهم فهم لايبصرون * سواء ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لايؤمنون ). (١)

تاكيد وتنصيص

قوله تعالى : ( توبوا إلى الله جميعاً ) (٢) يعمّ الجميع مع أنّ معناها الرجوع عمّا يبعّد عن الله تعالى وعادته تعالى جارية بحصول كمال غريزتي الشهوة والغضب قبل حصول كمال العقل ، لحصوله غالباً في الأربعين وإن تمّ أصله عند مراهقة البلوغ ، وظهرت مباديه بعد سنّ التميز ، فإذا كان كمال الأوّلين قبله فقد سبق جند الشيطان واستولى على المكان وأنس القلب بمقتضياتهما بالعادة ، وتعسّر عليه النزوع عنها ، فبعد ظهور العقل الذي هو حزب الله شيئاً فشيئاً إن لم يبلغ حدّ كماله سلمت مملكة القلب للشيطان اللعين وحقّ منه قوله : ( فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين ). (٣)

وإن بلغه كان أوّل شغله قمع جنوده بمفارقة العادات وردّ الطبع قهراً إلى العبادات ، وهذا معنى التوبة.

__________________

١ ـ يس : ٩ ـ ١٠.

٢ ـ النور : ٣٣١.

٣ ـ ص : ٨٢.

٤٥١

وليس في الوجودات الخارجية من لم يسبقه قوّتاه الشهويّة والغضبية على العقلية فكانت الأوبة عن مقتضياتهما إلى مقتضياته التي هي حقيقة التوبة ضرورية وحكماً أزليّاً مكتوباً على كلّ البرية. سنّة الله التي قد خلت في عباده ، ولن لسنّة الله تبديلاً.

وحينئذ فعلى الكافر التوبة عن كفره ، وعلى التابع في إسلامه لأبويه غافلاً عن حقيقته ، التوبة عن غفلته ، وعلى من فهم ذلك واسترسل وراء الشهوات التوبة عنها بالكفّ عن المقتضيات ومراعاة حدود الله فيها وفي الطاعات.

واعلم أنّك لا تخلو أبداً عن معصيته في جوارحك ، ولو فرض فلا تخلو عن رذائل نفسك والهمّ بها ، وإن سلمت فلا أقلّ من الخواطر المتفرّقة المذهلة عن ذكر الله ، ولو سلمت فلا أقلّ من غفلة وقصور في معرفة الله وصفات جماله وجلاله وعجائب صنعه وأفعاله ، وكلّ ذلك نقص يجب الرجوع عنه ، ولذا تجب التوبة في كلّ حال. حتّى قال أشرف الخلق صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وإنّه ليغان على قلبي حتّى أستغفر الله في اليوم واليلة سبعين مرّة ». (١)

ولا ينافي إطلاق القول بالوجوب ، إذ لايراد منه الشرعي الذي يشترك فيه كافّة الخلق لاختصاصه بالمحرّمات وترك الواجبات الواردة في ظاهر الشريعة ، ممّا لو اشتغلوا به لم يخرب العالم والا لاختلّ النظام وفسدت المعائش ، بل بطلت التقوى أيضاً ، بل المراد منه الشرطي أي ما لابدّ منه للوصول إلى المطلوب والقرب إلى المحبوب ، ولايكفي فيه الأوّل لكونه بمنزلة أصل الحياة والباقي بمنزلة الجوارح والآلات كما أشرنا إليه ، وفيه كان اهتمام الأنبياء والأولياء والأمثل من العلماء ، ولأجله رفضوا الدنيا وأهلها ، ولو تفكّرت في احوالهم وتدبّرت في آثارهم وصرفت الهمّة في فهم أخبارهم عرفت أنّ التوبة لازمة في كلّ نفس للسالك البصير ولو عمرّ

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ١٧.

٤٥٢

عمر نوح من غير مهلة وتأخير ، فإنّ العاقل إذا ملك جوهرة نفيسة فضاعت منه من غير فائدة بكى عليها ، ولو صار ضياعها سبباً لهلاكه اشتدّ بكاؤه عليها ، وكلّ ساعة من العمر من أنفس الجواهر الّتي لابدل لها حيث توصله إلى سعادة الأبد وتنقذه من شقاوة السرمد ، فإن ضيّعها في الغفلة خسر خسراناً مبيناً ، وإن صرفها في المعصية هلك هلاكاً عظيماً ، فلو لم يبك عليه كان مصيبته بهذا الجهل من أعظم المصائب حيث لايمكّنه من معرفتها لغفلته.

« الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ». (١)

نقل عن بعض العرفاء أنّ ملك الموت إذا ظهر للعبد أعلمه أنّه قد بقي من عمره ساعة لايستأخر عنها طرفة عين ، فيبدو له من الأسف ما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضمّ إليها ساعة أخرى ليستعين بها على تدارك ما فاته فلا يجد إليه سبيلاً ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) (٢) ( ولن يؤخّر الله نفساً إذا جاء أجلها ) (٣).

ولذا قال تعالى : ( وليست التوبة للّذين يعملون السيّئات حتّى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن ) (٤) بل ( إنّما التوبة على الله للّذين يعلمون السوء بجهالة ثمّ يتوبون من قريب ) (٥) أي عن قرب عهد بالخطيئة بأن يتندّم عليها ويمحو عنه أثرها بحسنة يردفها بها قبل أن يتراكم الرين على القلب فلا يقبل المحو ، وتارك التوبة بالتسويف على خطر الرين فلا يمكنه الإمحاء وخطر الممات فلا يمكّن منه ، وذلك أنّ كلّ شهوة يتبعها العبد يرتفع منه ظلمة إلى قلبه كما يرتفع من نفسه ظلمة إلى المرآة الصّقيلة فإن تراكمت صار ريناً كما يصير بخار النفس مع تراكمه خبثاً. ( بل ران على قلوبهم

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٤٢ ، شرح ابن ميثم على المائة كلمة : ص ٥٤.

٢ ـ سبأ : ٥٤.

٣ ـ المنافقون : ١١.

٤ ـ النساء : ١٨.

٥ ـ النساء : ١٨.

٤٥٣

ما كانوا يكسبون ). (١)

ومع تراكم الرين يصير طبعاً كالخبث المتراكم الّذي طال بقاؤه في المرآة حيث يغوص في جرم الحديد ويفسده فلا يقبل التصقيل ، فكما لابدّ من التدارك فكذا لابدّ في رفع آثار المعاصي مضافاً إلى تركها تداركها بالطاعات حتّى تنمحي ظلمتها بنورها.

هذا حال تصقيل الظلمة العارضة بعد الجلاء ، وأمّا أوّله ففيه شغل طويل لأنّ إزالة الصدأ عن المرآة أسهل من عمل أصلها ، وإلى ما ذكرناه أشير فيما ورد عن الصادقين عليهم‌السلام : « أنّه ما عبد الا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء ، فإن تاب ذهب ذلك السواد ، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض ، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً ، وهو قول الله عزّوجلّ : ( كلّابل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) (٢) ». (٣)

وممّا فصّلناه علم أنّ وجوب التوبة فوري ، فما ذهب إليه بعضهم من عدم فوريّتها استناداً إلى بعض الأخبار كقول الصادق عليه‌السلام في خبر زرارة : « إنّ العبد إذا أذنب ذنباً أجّل من غدوة إلى الليل ، فإن استغفر الله لم يكتب عليه » (٤) وأمثاله ممّا وقعت الاشارة إليها في باب الرجاء ضعيف لما عرفت من الأدلّة العقلية الدالّة على فوريّتها.

والأخبار المذكورة لاتنافيها ، ولعلّ ذلك تفضّل منه تعالى بتأخير العذاب لا أنّه استحقاق منّا له ، يدلّ عليه قول سيّد العابدين عليه‌السلام في دعاء التوبة :

__________________

١ ـ المطفّفين : ١٤.

٢ ـ المطفّفين : ١٤.

٣ ـ الكافي : ٣٣ / ٢٧٣ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ، ح ٢٠.

٤ ـ الكافي : ٢ / ٤٣٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الاستغفار من الذنب ، ح ١.

٤٥٤

« إذا كان جزائي في أوّل ما عصيتك النار » (١) ، مع أنّه مقتضى إطلاقات الأوامر الشرعيّة أيضاً.

فعلى هذا لو تركها المكلف كان ذلك الترك أيضاً ذنباً يجب التوبة عنه وتأخير التوبة عن هذا أيضاً ذنب آخر ، وهكذا إلى أن يحصل أعداد لاتتناهى من الذنوب في زمان متناه.

وهذا هو السرّ في تفسير الباقر عليه‌السلام الاصرار بترك التوبة [ في قوله تعالى : ( ولم يصرّوا على ما فعلوا ). (٢) ] (٣) فافهم.

تفريع

إنّك إذا فهمت معنى التوبة علمت أنّ صحيحها مقبول ، فإنّ القلب نقيّ في الأصل ، كلّ مولود يولد على الفطرة ، وإنّما تغيّرها الذنوب وتظلمها ، ونار الندم تدفع غبرتها ، ونور الطاعة ظلمتها كنور النهار الماحي لظلمة الليل ، والصابون المزيل لوسخ الثوب ، فالقلب يوسّخ بالشهوات كالثوب يوسّخ بالكثافات ، وماء الدمع يغسله ، ونار الندم ينظّفه كتنظيف الصابون والماء الحارّ للثوب الوسخ.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : في قوله تعالى : ( إنّ الحسنات يذهبن السيّئات ) (٤) : « كما يذهب الماء الوسخ ». (٥)

والقلب النقيّ مقبول عند الملك الكريم كما قال :

( الا من أتى الله بقلب سليم ). (٦)

فعليك يا حبيبي بالتوبة المزكّية للقلوب عن أو ساخ المعاصي والذنوب ،

__________________

١ ـ الصحيفة السجاديّة : الدعاء ١٦ ، في الاستقالة.

٢ ـ آل عمران : ١٣٣٥.

٣ ـ في « ج » فقط.

٤ ـ هود : ١١٤.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٢٥.

٦ ـ الشعراء : ٨٩.

٤٥٥

والا فالقبول ممّا سبق به القضاء ( قد أفلح من زكّيها ) (١) ( وهو الّذي يقبل التوبة عن عباده ) (٢) ( غافر الذنب وقابل التوب ) (٣).

قال بعض العرفاء : إنّ الله عباداً نصبوا أشجار الخطايا نصب روامق القلوب وسقرها بماء التوبة فأثمرت ندماً وحزناً فجنّوا من غير جنون وتبلّدوا من غير عيّ ولا بكم وأنّهم لهم البلغاء الفصحاء العارفون بالله ورسوله ، ثم شربوا بكأس الصفا شربة فورثوا الصبر على طول البلاء ، ثم تولّهت قلوبهم في الملكوت وجالت فكرتهم بين سرادقات حجب الجبروت واستظلّوا تحت رواق الندم وقرأوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع حتّى وصلوا إلى علّو الزهد بسلّم الورع فاستعذبوا مرارة الترك للدّنيا واستلانوا خشونة المضجع حتّى ظفروا بحبل النجاة وعروة السلامة وسرحت أرواحهم في العلى حتّى أناخوا في رياض النعيم وخاضوا في بحار الحياة وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتّى نزلوا بفناء العلم واستقوا من غدير الحكمة وركبوا سفينة الفطنة وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتّى وصلوا إلى رياض الراحة ومعدن العزّ والكرامة. (٤)

تلميع

كلّما كان ألم الندم وتأثير القلب به أشدّ كان تكفير الذنوب أرجى وعلامة صدقه تبدّل حلاوة المعاصي في القلب بالمرارة.

وفي الاسرائيليات : « أنّ نبيّاً سأل من الله قبول توبة عبد بعد اجتهاده سنين في العبادة فقال : وعزّتي لو شفع فيه أهل السماوات والأرض ما قبلت توبته ، وحلاوة ذلك الذنب الذي تاب منه في قلبه » (٥) ولا يستحيل ذلك ،

__________________

١ ـ الشمس : ٩.

٢ ـ الشورى : ٢٥.

٣ ـ غافر : ٣.

٤ ـ إحياء العلوم : ٤ / ١٥ عن ذي النون المصري.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٦٣.

٤٥٦

فإنّ المتناول للعسل الذي فيه سمّ لم يدركه واستلذّ منه إذا مرض وطال مرضه وتناثر شعره وفلجت أعضاؤه فقدّم إليه مثله وكان في غاية الجوع والشهوة تنفّر منه وكرهه قطعاً ، بل كره مطلق العسل لشبهه به فذوق كلّ ذنب كالعسل وأثره كالسمّ فلا تصحّ التوبة الا بمثل هذا الاعتقاد ، ولعزّته عزّت التوبة وفقد التائبون.

وينبغي له اعتقاد ذلك في كلّ ذنب لم يرتكبه أيضاً كما أنّ المتناول للعسل المزبور يتنفّر من الماء الذي فيه السمّ أيضاً فلا مدخل لخصوصيّة الذنب بل الباعث للسمّية مخالفة الأمر وهو جار في الجميع ، فهذا شرط الندم.

وأمّا القصد المنبعث منه فلابدّ من تعلقه بترك كلّ محظور وأداء كلّ فرض في الحال ويرد فكره فيه إلى أوّل يوم بلغ فيه ويفتّش يوماً فيوماً فينظر إلى ما فرط فيه من الطاعات وقارفه من الذنوب فيطيل الندم والبكاء ويقضي العبادات ويخرج من مظالم العباد ويذيب عن بدنه كلّ لحم نبت من المشتهيات المحرّمة والمشتبهة.

قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « الاستغفار اسم واقع على ستّة معان : أوّلها الندم على ما مضى ، ثمّ العزم على ترك العود إليه أبداً ، وأن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلى الله أملس ليس عليك تبعة ، وأن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها تؤدّي حقّها ، وأن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد ، وأن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ، فعند ذلك تقول : أستغفر الله ». (١)

وينبغي أن تكون الطاعة من جنس المعصية كي يتمّ العلاج بالضدّ ، فإنّ البياض يزال بالسواد دون الحرارة والبرودة وإن كان لكلّ من الطاعات نوع

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الحمكة ٤١٧ مع اختلاف.

٤٥٧

تضادّ مع كلّ معصية ، ولذا تؤثر مطلقاً الا أنّ الثقة بما ذكرناه أظهر.

وممّا يدلّ على كون الضدّ كفّارة للضدّ أنّ حبّ الدنيا والسرور بها رأس كلّ خطيئة ، وهو أثر اتّباعها فكلّ أذى يصيبك يبعدك عنها وتتجافى بالهموم والغموم من دارها.

وفي الخبر : إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له عمل يكفّرها أدخل الله عليه الغموم ليكون كفّارة لذنوبه. (١)

وربما يقال : إنّ الهمّ ظلمة الذنوب وشعور القلب بموقفه للحساب.

والأخبار الدالّة على تكفير المصائب الدنيوية حتّى الشوكة تدخل في الرجل كثيرة ، فحبّ الدنيا خطيئة ، والتمتّع منها متمّمها والحرمان عنها كفّارتها ، ولابدّ من عقد قلبه مع الله عقداً مؤكّداً وعهداً موثّقاً أن لا يعود إليها وإلى أمثالها ، ومن مهمّاته إذا لم يكن عالماً تعلّم ما يجب عليه ويحرم حتّى يتمكّن من الاستقامة.

إزالة وهم

قيل : لايصحّ التوبة عن بعض المعاصي دون بعض ، فإنّ الندم حالة يوجبها العلم بتفويت المعاصي للمحبوب من حيث كونها معصية وكلّها متساوية من هذه الحيثية ، فرتبة التائب لاتنال الا بالندم وهو لايكون الا عن مخالفة الأمر لتي تعمّ المعاصي بأسرها ، وكما لايصحّ عن بعض المتماثلات دون بعض كشرب الخمر من هذا الدنّ دون ذاك ، لأن الدنّ آلة والمعصية واحدة ، فكذا المختلفات لأنّ أعيانها آلات لها والأصل واحد.

وفيه أنّ التوبة عن بعضها كالكبائر دون غيرها ، أو بعض الكبائر دون بعض ممكن من حيث كون المتروك أعظم إثماً من غيره ، فلا يستحيل الندم على الأعظم دون الأهون ، وقد كثر التائبون في القرون الماضية ولم يكن

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٦٦.

٤٥٨

أحد منهم معصوماً ولم يشترطها أحد ، على أنّه ما من مؤمن الا وهو خائف نادم على معاصيه ضعيفاً أو قويّاً ، الا أنّ لذّة نفسه منها لشهوته أعظم من ألمه بخوفه لجهله أو غفلته أو غير ذلك ، فربما تبلغ الشهوة في بعض المعاصي مبلغاً لايقوى عليها الخوف المزبور ، وربّما تضعف بحيث يقوى عليها ، ولو لا ذلك لما تصوّر من الفاسق الصيام والصلاة مثلاً.

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « التائب من الذنب كمن لا ذنب له ». (١) ولم يقل من الذنوب.

ومنه يظهر فساد التشبيه بالمتماثلات لاتّحاد نوع الشهوة فيها فلا معنى لقمعه أحدها دون مثلها بخلاف المختلفات لاختلاف قدرها فيها ، وكذا الكثير دون القليل لكثرة العقوبة التي يخاف منها في الأوّل فيكثر الخوف بحيث يقاوم الشهوة بخلاف الثاني فلا يقاومها.

تقسيم

التائب إمّا يكون له شهوة في الذنب لكنّه يجاهد نفسه فيه أم لا ، والثاني إمّا أن يكون سكونه عليها لفتور في أصل الشهوة أو لأن قوّة يقينه وجهاده بلغ مبلغأً قمعها عن نفسه فتأدّب بآداب الشرع ، والثالث أفضل ممّا قبله ، إذ الجهاد ليس مقصوداً لذاته ، بل للوصول إلى هذه المرتبة والواصل إلى المطلوب أحسن من السالك الغير الواصل ، ومن ظفر على خصمه فاسترقّه فهو أعظم من المشغول بجهاده ، ولايعلم كيف يسلم ، والأوّل أفضل من الثاني ، فإنّ جهاده يدلّ على قوّة يقينه دونه وكون الثاني أسلم لايدلّ على كونه الأفضل ، والا لكان الصبيّ والعنّين أفضل من البالغ [ والفحل ] (٢) ، فالعزّ في الأخطار ، والشهامة شرطها الاقتحام في الأوغار.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٧.

٢ ـ الزيادة أثبتناها من المحجة البيضاء : ٧ / ٧٥.

٤٥٩

تقسيم آخر

التائب إن وثق (١) بعزمه على الترك وهو يريد الاشتغال بما هو الأهمّ بحاله من المعارف وغيرها فنسي ذنبه والاحتراق والبكاء عليه لأجله فهو أفضل ممّن لم يصل إلى هذه المرتبة وإن اشتغل بالاحتراق والبكاء جاعلاً ذنبه نصب عينيه ، لأنّه ممنوع بعد من الوصول إليها ومحجوب عن درك المطلوب والوقوف في الطريق عائق عن الوصول إلى المحبوب ، ولايغرّنّك بكاء الأنبياء ونياحهم على ذنوبه فإنّه تنزل منهم إلى الدرجات اللائقة بحال أمّتهم ، إذ بعثوا لارشادهم فعليهم التلبّس بما ينتفعون به وإن كان أدون عمّا يليق برتبتهم ، فإنّ الأمم في كنفهم كالصبيان في كنف الآباء والمواشي في كنف الرعاء.

تقسيم آخر

التائب إمّا أن يستقيم على توبته إلى آخر عمره ولايعود الا إلى الزلّات الّتي لايخلو غير المعصوم عنها وهو السابق في الخيرات المبدّل سيّئاته حسنات وتوبته النصوح ونفسه المطمئنّة ولأهل هذه المرتبة طبقات ، فمن ساكن عن الشهوات ومشتغل بالمجاهدات ، ومراتب المجاهدة غير محصورة لاختلافها بالقلّة والكثرة والمدّة والأنواع والأعمار.

وإمّا أن يستقيم عليها في الكبائر وأمّهات الطاعات دون الصغائر ، لكن من دون قصد وتعمّد ، بل ابتلاء يبتلى به في مجاري الأحوال ، وكلّما ابتلي به ندم وجدّد العزم على الاحتراز ، فنفسه لوّامة ، وهو وإن كان أدون من الأول الا أن رتبته أيضاً عالية لأنّ الشرّ معجون بطينة الانسان قلّما ينفكّ عنه أحد ، غاية الأمر السعي في غاية الأمر السعي في غلبة الخير على الشرّ حتى يثقل ميزان الحسنات.

( الّذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش الا اللّمم ). (٢)

__________________

١ ـ في « ب » وفّق.

٢ ـ النجم : ٣٢.

٤٦٠