كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

تعالى فيها ، وهذا فقر الصدّيقين والمقرّبين وكمّل العارفين ولاينايه وجود الأموال الكثيرة كما كانت لكثير من الأنبياء والأولياء ، بل السلطنة الظاهرة ، كما كانت لدواد وسليمان وذي القرنين.

قال بعض العلماء : وهذا الفقير رتبته فوق الزاهد ، لأنّ الزهد كمال الأبرار فهو سيّئة بالنسبة إلى المقرّبين ، وسرّه أن الزاهد في الدنيا يشارك محبّها في الاشتغال عن درجة الشهود وإن خالفه في الكيفيّة بكونه مشغولاً ببغضها وسالكاً في بعده مسلك القرب ، فيرجى في حقّه الوصول إلى مقام الشهود وكون الثاني مشغولاً بحبّها وسالكاً مسلك البعد فلا يتصوّر في حقّه.

والحاصل كما لايجتمع حبّان في قلب واحد ، فكذا لايجتمع الحبّ والبغض معاً فيه.

أقول : قد بيّنا أنّ من مراتب الزهد ترك كلّ ما يشغل عن الله تعالى ، فلو فرض كون البغض شاغلاً عنه تعالى لزمه الترك حتّى تصدق عليه تلك المرتبة من الزهد ، والمعتبر في حقيقة الزهد هو ترك الدنيا خاصّة ، فكما يصدق بتركها لأجل كونها شاغلة عن الله أي يكون الباعث عليه الالتفات إلى ذلك ، فكذا يصدق به إذا كان الباعث عليه الاشتغال بالله تعالى ، فإنّ الاشتغال بكل شيء يستلزم ترك الاشتغال بضدّه ، فيصدق عليه الزهد من حيث إنّه تارك للدنيا لله تعالى ، ويصدق عليه هذه المرتبة من حيث إنّه مشغول بالله عن كلّ شيء ، على أنّ الشاغل عن الله هو الالتفات إلى ما يبغضه لانفس البغض.

وقد مرّ ما يدلّ على بغض الأنبياء والأولياء للدنيا ، وكيف يكون مطلق الزهد كمالاً للأبرار مع اتّصاف أشرف الأنبياء به وهو سيّد المقرّبين وأشرف الأوصياء به وهو سيّد الصدّيقين ، وكذا موسى وعيسى ويحيى عليهم‌السلام وغيرهم من أنبياء الله المرسلين.

٢٤١

تلخيص

تلخّص ممّا ذكر كون المعيار في رجحان أحدهما على الآخر قلّة صدّه عن سلوك الآخرة وسهولة الوصول به إلى السعادات الدائمة ، وهو متفرّع على حبّ العبد للدنيا وعدمه ، فإنّه الصاد عنها لا وجود متاع الدنيا لديه ، فكم من فقير يشغله الفقر عن المقصد وكم من غنيّ لا يشغل بغناه ولايصدّ ، بل يعينه على تقواه ويمدّه إلى ما فيه صلاح آخرته ودنياه ، فالغنيّ المحب لها مشغول عن الله تعالى بوصالها ، والفقير المحبّ لها مشغول عنه بفراقها ، فكلّ من كان علاقته بها أقلّ كان أفضل ، ومع التساوي فالغنيّ أكمل كما عرفت.

وأنت إذا أحطت خبراً بما فصّلناه كنت في سعة من استخلاص نفسك عن تطويلات القوم في مقام الترجيح ، وذكر كل منهم الشهواهد العقلية والنقلية على رأية الغير الصحيح ، وعلمت أنّ ما فعله بعض الأعلام من عدّ الفقر من الفضائل والغني من الرذائل غلط عظيم ناش من عدم التعمّق التامّ في المقام ، فإن الغناء في نفسه ممدوح ، لأنّه صفة كمال وليس من جنس الملكات حتى يقال إنّه فضيلة أم رذيلة.

وكذا حبّه لاستجلاب وجوه الخير منه أو لكونه صفة ممدوحة فضيلة وليست برذيلة.

نعم حبّه للتوصّل به إلى المشتهيات رذيلة ، الا أنه بعينه حبّ الدنيا وغيره ممّا أشرنا إليه سابقاً ، وأمّا الفقر فإنه صفة نقص في نفسه ، وليس من جنس الملكات حتّى يقال إنه رذيلة أو فضيلة ، وملكة البذل والانفاق حتى يصير فقيراً تبذير محرّم ، كما مرّت إليه الاشارة.

نعم إذا علم إنه لايتوصّل إلى الكمالات المطلوبة منه الا بالفقر كان حبّه له ممدوحاً من باب المقدّمة ، وهذا كمال أنّ الخوف في نفسه نقص وإنّما يعدّ كمالاً لو كان من الله تعالى لاستجلاب كما به ، فما لم يؤدّ إليه بل أدىّ

٢٤٢

إلى نقص في العقل أو الدين يكون من الرذائل ، فكذا الفقر ، ولذا ورد في ذمّه من الأخبار ما لاتحصى ، واستعيذ منه في الأدعية.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من ابتلي بالفقر فقد ابتلي بأربع خصال : الضعف في يقينه ، والنقص في عقله ، والرقّة في دينه ، وقلّة الحياء في وجهه ، فنعوذ بالله من الفقر » (١).

وأمّا عدم حبّ الدنيا فهو الزهد ، ولا دخل له بالفقر والغني لاجتماعه مع المال وعدمه ، وهو واضح.

إرشاد

ينبغي لمن قدّر له الفقر أن لا يكرهه ولا يجزع عليه ، فإنّ العالم بالأصلح قدّر له ذكل فلا يشكون الا إليه لو لم يمكنه الرضا بما آثره عليه وأن يتوكّل عليه تعالى ويثق في قدر ضرورته بما لديه قانعاً بالكفاف آيساً ممّا في أيدي الناس فلا يتملّق للأغنياء ويسمّيه تواضعاً ، فإنّ تواضع مثله لهم هو التكبّر عليهم من حيث أنهم أغنياء ، كما ورد في الأخبار ، ولايداهنهم في الخوض في الباطل طمعاً لما عندهم من الحطام العاجل ولا يقتر بسبب فقره عن العباة ، لما عرفت من كونه أسهل وصولاً معه إلى السعادة ، وأن يبذل قليلاً ممّا يزيد عن قوته ، فإنه أفضل من إنفاق الأغنياء كما ورد في الأخبار.

ثم إن علم أنّ ما يعطيه غيره من المال حرام وجب عليه الامتناع عنه ، وإن علم أنه شبهة أو حلال فيه منّة استحبّ له ردّه ، وإن علم أنه هدية محلّلة بغير منة استحب قبوله تأسّياً بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، وإن كان من الصدقات مطلقاً نظر في استحقاقه لها ، وإن كان رياء وسمعة حرم عليه أخذه لأنه إعانة له على إثمه.

ثم بعد سلامته من هذه الآفات إن كان سالكاً الآخرة اقتصر على قدر الحاجة لكونه رفقاً من الله تعالى والزائد ابتلاء وفتنة واختيار

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٢ / ٨١ ، جامع الأخبار : الفصل ٦٧ ، ص ١٢٨ ـ ١٢٩.

٢٤٣

ومحنة لينظر ما يفعل به ، فإن عصاه عذّبه والا حاسبه ، الا أن ينوي إنفاقه على المستحقين إذا اطمئنّ من نفسه بعدم الافتتان بعد الأخذ.

تتميم

ينبغي للفقير التعفّف عن السؤال ما استطاع ، لأنّه فقر معجّل وحساب طويل وهو حرام لتضمّنه الشكوى عن الله تعالى وذهاب ماء الوجه والذلّ عند غيره تعالى ، وإيذاء المسؤول غالباً بتعريضه بالالحاح لشتم السائل [ وضربه ] (١) وسائر المعاصي والأذيات أو الاعطاه استحياء وإلجاء أو سمعة ورياء حتّى [ لا ] (٢) ينسب إلى البخل ، ولذا ورد أشدّ المنع منه.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « مسألة الناس من الفواحش ». (٣)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما من عبد فتح على نفسه باباً من المسألة الا فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر ». (٤)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الصدقة لاتحلّ الا لفقر مدقع أو غرم مفظع ». (٥)

وبايع صلى‌الله‌عليه‌وآله قوماً على الاسلام واشترط عليهم السمع والطاعة ، ثمّ قال لهم خفية : ولاتسالوا الناس شيئاً ، فكان بعد ذلك يقع المخصرة من يد أحدهم فينزل لها ، ولايقول لأحد ناولنيها. (٦)

قال سيّد الساجدين عليه‌السلام : « ضمنت على ربّي أن لايسأل أحد أحداً من غير حاجة الا اضطرّته حاجة المسألة يوماً إلى أن يسأل.

ونظر يوم عرفة إلى رجال ونساء يسألون فقال عليه‌السلام : « هم شرار خلق

__________________

١ ـ ساقط من « ج ».

٢ ـ ساقط من « ج ».

٣ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٣٧.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ١٤١ و ٢ / ١٠٧ و ٧ / ٣٣٨.

٥ ـ جامع السعادات : ٢ / ٩٦ ، وفيه : « إن المسألة لاتحلّ » ، وراجع أيضاً الكافي : ٤ / ٤٧ ، باب النوادر من كتاب الزكاكة ، ح ٧.

٦ ـ هذا مأخوذ من حديثيين فصدره إلى « لاتسالوا الناس شيئاً » في المحجة البيضاء : (٧ / ٣٣٧) وذيله فيه (٢ / ١٠٦).

٢٤٤

الله ، [ من حاجة ] » (١) الناس مقبلون على الله وهم مقبلون على الناس » (٢) وهذا كلّه ، مختصّ بعدم الحاجة ، وأما معها فلابأس سواء بلغت أقصاها كالجائع الخائف على نفسه بالموت أو المرض أو كانت مهمّة كالجاجة إلى الكراء مع القدرة على المشي بمشقّة أو دونها أيضاً كالحاجة إلى الإدام مع وجود الخبز ، الا أن الأول راجح ، بل واجب ، والثاني مرجوح ، والثالث أشدّ كراهية بشرط الخلوّ عن الشكوى والذل ولايذاء بإظهار الحاجة تعريضاً مع الشكر لله سبحانه عند الصّديق [ والسخيّ ].

وبالجلمة : معرفة درجاتها وأوقاتها موكولة إلى العبد واجتهاده فيما بينه وبين الله تعالى فمن فمن كان يقينه أقوى وأظهر ووثوقه بمجيء رزقه من الله أتمّ وأوفر وقناعته بقوت أكثر ، فله المقام الأعلى عند الملك الأكبر.

فصل

القناعة ملكة توجب اكتفاء النفس في تحصيل المال وصرفها (صرفه ظ) على قدر الكفاف. [ الممدوح شرعاً وعقلاً ] بدون كدّ شديد وتعب ماله من مزيد وحرص مورث لطول الأمل وترك صالح العمل والخوض في غمرات وجوه تحصيل المقتنيات وصرف أنواع الحيل والتدبيرات وإيقاع النفس لتحصيلها في أنواع الأخطار والآفات وصنوف الذلّ والمهانات ، ولاريب أنها من أمّهات الفضائل ، إذ يمكن معها غالباً الفراغ لتحصيل أمور الدين والوصول إلى منازل المقرّبين.

وقد أسلفنا لك في الحرص ما يكفيك في تحصيلها والأخبار في مدحها وذمّ ضدّها أي الحرص ممّا لاتحصى.

فقد روي أنّ موسى سأل ربّه وقال : « أيّ عبادك أغنى؟ فقال : أقنعهم

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٢ / ١٠٥.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٢ / ١٠٥.

٢٤٥

لما أعطيته ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نفث روح القدس في روعي أنّه لن تموت نفس حتّى تستكمل [ أقصى ] رزقها ، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب ». (٢)

وقال الصادق عليه‌السلام : « مكتوب في التوراة : ابن آدم كن كيف شئت ، كما تدين تدان ، من رضي عن الله بالقليل من الرزق قبل الله منه اليسير من العمل ، ومن رضي باليسير من الحلال خفّت مؤونته وزكت مكسبته ، وخرج من حدّ الفجور ». (٣)

إلى غير ذلك.

وهي تستلزم عزّاً للنفّس واستغناء عن الناس كما أنّ الحرص يستلزم ذلاً وطمعاً بما في أيديهم.

وقد ورد في مدح ذاك وذمّ هذا كثير من الأخبار.

ففي النبوي : « عليك باليأس عمّا في أيدي الناس فإنّه الغنى الحاضر ». (٤)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليس الغنى من كثرة العرض ، إنّما الغنى غنى النفس ». (٥)

وقال الباقر عليه‌السلام : « اليأس عمّا في أيدي الناس عزّ المؤمن في دينه ». (٦)

وقال الصادق عليه‌السلام : « ثلاث هنّ فخر المؤمن وزينتته في الدنيا والآخرة : الصلاة في آخر الليل ، ويأسه عمّا في أيدي الناس ، وولايته للامام من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ». (٧)

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٥١.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٥١ مع اختلاف وما بين المعقوقتين في « ج » فقط.

٣ ـ الكافي : ٢ / ١٣٣٨ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب القناعة ، ح ٤.

٤ ـ جامع السعادات : ٢ / ١٠٧.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٥١.

٦ ـ الكافي : ٢ / ١٤٩ ، كتاب الإيمان والفكر ، باب الاستغناء عن الناس ، ح ٦.

٧ ـ الوسائل : كتاب الزكاة ، الباب ٣٦ من أبواب الصدقة. ح ٨.

٢٤٦

فصل

السخاء ملكة شريفة بها يسهل الانفاق فيما يليق به ، وكفاه فضلاً كونه من أظهر صفات الأنبياء والأوصياء ، كما قال الكاظم عليه‌السلام :

« ما يعث الله عزّوجلّ نبيّاً ولا وصيّاً الا سخيّاً ، ولا كان أحد من الصالحين الا سخيّاً » (١).

فلا يكفي مجرّد الانفاق إذا لم يكن عن طيبة نفس ، بل يكون حينئذ متسخيّاً الا أنه سبيل للوصول إليه ، إذ لاتحصل الملكة الا بتكرّر الفعل تكلّفاً حتّى يعتاد عليه.

ثم إنّ له مراتب كثيرة ، فمن أدّى واجب الشرع والمروّة ، [ والعادة ] (٢) ممّا يستقبح المضايقة فيها عرفاً كان في أوّل درجة من السخاء ، ثم يترقّى بالازدياد بقدر ما يتّسع له نفسه طلباً للفضيلة على درجات مختلفة باختلاف قدر المال وحاجة المحتاجين وفضلهم وورعهم وقرابتهم وغير ذلك ، ويسمّى في جلمة هذه الدرجات جواداً إذا كان قصده مجرّد الفضيلة دون الأغراض الدنيوية من الخدمة والثناء وغيرهما ، وأرفعها الإيثار ، كما قال تعالى :

( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ). (٣) وإيثار علي عليه‌السلام لنفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على نفسه في ليلة المبيت على الفراش وسائر معاركه وغزواته مشهور ، حتّى أنزل الله في حقّه :

( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله ). (٤)

وكذا إيثاره عليه‌السلام لقوته في ثلاث ليال متواليات حتّى أنزل الله فيه :

( ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ). (٥)

__________________

١ ـ الكافي : ٤ / ٣٩ ، كتاب الزكاة ، باب معرفة الجود والسخاء ، ح ٤.

٢ ـ ساقط من « ب ».

٣ ـ الحشر : ٩.

٤ ـ البقرة : ٢٠٧.

٥ ـ الانسان : ٨.

٢٤٧

فمن أراد الاقتداء به واتباع منهاجه فليجتهد في المحافظة عليه مهما أمكنه.

فقد ورد في الخبر : « أن موسى عليه‌السلام قال : يارب أرني بعض درجات محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمته ، قال : يا موسى إنك لن تطيق على ذلك ، لكني أربك أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة [ فضلته ] عليك بها وعلى جميع خلقي ، فكشف له عن ملكوت السماء فنظر إلى منزلة كادت أن تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله تعالى فقال : يارب بماذا بلغت به إلى هذه الكرامة؟ فقال : بخلق اختصصته به من بينهم وهو الايثار ، ياموسى لايأتيني أحد منهم قد عمل بالايثار وقتاً من عمره إلا استحييت من محاسبته وبواته من جنتي حيث يشاء ». (١)

واعلم أن بذل الأموال المترتب على الجود والسخاء يتناول ما أوجبه الشارع كالخمس والزكاة والكفارات والنذورات والواجب من النفقات وما ندب إليه من تطوع الصدقات وأنواع الهدايا والضيافات والحق المعلوم والقرض ، وما يبذل لحفظ الحرمة ووقاية العرض والمنافع العامة ، وما يجري من الخيرات كالمساجد والمدارس وإجراء القنوات ونسخ المصاحف والكتب العلميات وغيرها مما فصل أحكامها في الفقهيات ، ووردت في فضلها الأخبار الكثيرة ، مضافاً إلى الآيات ، فلا نتعرض لها خوفاً من التطويل والاطناب ، وإنما نذكر قليلاً مما لها من الغايات والأسرار الدقيقة وبواطن الآداب ، فنقول :

من جملة غاياتها امتحان الموحدين لله ، المدعين لحبه ، المؤمنين بمواعيده في فراق محابهم التي يتمتعون منها ويتأنسون في عالم الحس بها والمدعين لمحبه رسوله وذريته الطاهرين وأداء حقوقهم في النصح والهداية ، ثم تطهير النفس عن رذيلة البخل التي هي من خبائث الملكات المهلكات كما

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٨٠ ، وما بين المعقوقتين ساقط من « ج ».

٢٤٨

أشرنا إليه ، فإنّها لاتطهر الا بتكلّف الذل وتكريره حتّى تعتاد فتبدّل ملكة البخل بملكة السخاء ، ثم شكر المنعم المفضل ، فكما يستحقّ بإعطاء نعمة البدن الشكر بالعبادة البدنية والمجاهدات النفسيّة فكذا يستحقّ بإعطاء نعمة المال الشكر بالعبادة المالية ، وما أقبح بالغني المسلم أن ينظر إلى فقير محتاج إلى القوتفلا يؤدّي حق الشكر على أن لم يجعله مثله في الاحتياج.

ومن جملة فوائدها تكفير مظالم العباد التي ركبته في معاملاته معهم بها ، وفي خصوص الكفّارات تأديب العاصي بالرياضات على ما صدر منه من الخطأ والسيّئات ومقابلة المعاصي الصادرة عنه التي استحقّ بها العقاب ، وازدياد النعم التي لم يستحقّها ، ودفع البليا والمصائب الدنيوية التي استحقها بدعاء الفقراء المؤمنين ، وهذا كما أنّه السرّ في ترغيب الأغنياء في إعانة الفقراء والمساكين فكذلك هو السرّ في اختيار الفقر كثير من أوليائه الصالحين ، كما أوحى الله تعالى إلى موسى عليه‌السلام لمّا شكا إليه تعالى من إجراء رزقه على أيدي بني إسرائيل :

« هكذا أصنع بأوليائي أجري أرزاقهم على أيدي البطّالين من عبادي ليؤجروا فيهم ». (١)

ثم من أعظم الغايات حصول التشبّه بالمبدأ بسببه ومدخليّته في النظام الأصلح.

وأمّا الآداب الباطنة للصدقات فمنها اغتنام الفرصة بخطور الخير من باطنه تعجيلاً لادخال السرور في قلب الفقير وحذراً من عوائق التأخير آفاتها التي معظمها لمّة الشيطان حيث يعد الفقر ويبتلي العبد بالنسيان ، وصون الفقير عن ذلّ السؤال حتى يتحقّق الاحسان ، والا فهي معاوضة بما بذله من ماء وجهه ، كما ورد في الأخبار.

ومنها : إعلان المعطي بواجبها ترغيباً للناس بالاقتداء به إن لم يستح

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٣٦.

٢٤٩

الفقير منه وأمن المعطي من الرياء ، كما ورد النصّ به ، وإسراره بمندوبها ، كما ورد أيضاً الا مع اطمينان النفس عن آفات الاعلان والقصد إلى ترغيب الناس عليه.

وأمّا الآخذ فيختلف حكمه باختلاف الأحوال والأشخاص الموجب لاختلاف القصد ، فإنّ بعض النفوس تميل إلى الإسرار خوفاً من سقوط منزلتها عند الناس ، أو إفضاء علمهم به إلى عدم إعطائهم إيّاه بعده وبعضها تميل إليه لإبقاء التعفّف وستر المروءة وصيانة الناس عن الحسد وسوء الظنّ والغيبة ، وبعضها تميل إلى الاظهار حثاًّ للمعطي على الزيادة بتطييب خواطره وللناس على الاعطاء بإعلامهم كونه من المبالغين في شكر الاحسان ، وبعضها تميل إليه لاقامة سنّة الشكر والتحدّث بالنعمة ، وإذلال النفس بكسر جاها وغير ذلك من الأغراض الصحيحة والفاسدة.

ولكلّ منها علامات بها يمكن التمييز ، بعضها ظاهرة وبعضها خفيّة ، كميل النفس إلى الشكر في حضور المحسن أكثر من غيبته وبالعكس وغير ذلك.

فالأولى أن يلاحظ ويعلم ما هو الأقرب إلى خلوص النيّات وأبعد عن دقائق الآفات التي تشتبه كثيراً على أرباب الكياسات ، فإنه العلم الذي به يحصل النجاة ، وهو الذي فضّل قليل منه على كثير من العبادات ، فإنّ به حياتها كما أنّ بجهله مماتها.

ومنها : الاحتراز من المنّ بالاظهار عند الناس ، وطلب المكافاة بالشكر والمدح والتعظيم والخدمة والمتابعة وغيرها [ والأذى ] (١) بالتحقير والتعيير والاهانة وتقطيب الوجه والقول السيّء والاستخدام.

قال الله تعالى : ( يا أيّها الّذين آمنوا لاتبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى ). (٢)

__________________

١ ـ ساقط من « ب ».

٢ ـ البقرة : ٢٦٤.

٢٥٠

والأخبار كثيرة ، وما أشدّ جهل من يمنّ على الفقير [ أو يؤذيه ] (١) أو يستعظم ما يعطيه مع أنّه لا يعطيه الا من ماله الذي أودعه الله إيّاه وجعله حمّال متاعبه لجهله وحماقته ، كما عليه قولهم عليهم‌السلام : « إنّ الله شرّك الفقراء في أموال الأغنياء ». (٢)

ولو سلّم فلا ريب أنه من عطائه تعالى ، فلو أعطيت عبداً لك أموالاً كثيرة ث أمرته بإعطاء قليل منها لغيره ووعدته عليه أضعاف ذلك من الجزاء الجزيل والأجر الجميل ، فلو منّ عليه في ذلك كان منّه في غاية القباحة ، بل كان العبد في غاية الحمق والوقاحة ، ولو تأمّل علم أنّ الأمر بالعكس ، فإنه استحقّ بواسطته من رضا الله وحسن ثوابه ما لايمكن أن ينسب إلى الدنيا بما فيها ، فكان الأولى بحاله الاعتذار عنه والامتنان منه والتواضع والانكسار لديه ، وإظهار الخجلية من قلّة ما أهدى إليه ، سيّما بالنسبة إلى الذرّية العلويّة احتراماً لأجدادهم سادات البريّة ، وتأسّياً بالله تعالى في ذلك ، حيث شرّكهم بنفسه إعظاماً لهم وإكراماً ، فليكن احترازه من الاستعظام ووضع المنّة عليهم أكثر ، وتواضعه بالنسبة إليهم أوفر.

ومنها : إعطاء الأحبّ إليه الأبعد عن الشبهة ، فإنّه تعالى طيّب لايقبل الا مايكون أطيب ، فمن يدّخر الطيّب لنفسه وينفق الري في سبيل ربّه إن كان قصده في الانفاق هو وجه الله خاصّة كان مؤثراً لنفسه عليه تعالى ، وإن كان طمع الثواب في الآخرة كان مؤثر للملك العارية على الملك الذي لايفنى ، ولو فعل ذلك بضيف ورد عليه لكان من أقبح الاهانة ، فكيف يفعل بالله سبحانه مع كون ما يعطيه منه تعالى ، وقد أرشد الله إلى ذلك بقوله : ( وأنفقوا من طيّبات ما كسبتم ). (٣) وقال : ( لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا

__________________

١ ـ ساقط من « ج ».

٢ ـ الوسائل : كتاب الزكاة ، الباب ٢ من أبواب المستحقّين للزكاة ، ح ٤ ، وفيه : « إنّ الله تبارك وتعالى أشرك بين الأغنياء والفقراء في الأموال ».

٣ ـ البقرة : ٢٦٧.

٢٥١

تحبّون ). (١)

وقد ورد في الأخبار التماس الدعاء من الفقراء ، وأنه يستجاب لهم فيكم ولايستجاب لهم في أنفسهم.

وقيل : إنه نوع جزاء ، وأرباب القلوب لا ينفقون إلّأ خالصاً لوجه الله ، لا يريدون جزاءاً ولا شكوراً.

والحق أن التماس الدعاء حقيقة طلب مكافاة من الله تعالى لا من السائل ، إذ مطلوب المعطي فعل الله تعالى ، فإنّ الإجابة منه سيّما إذا كان القصد الباعث على الالتماس ورود الأمر به شرعاً وكون الدعاء الملتمس رضا الله تعالى عنه فافهم.

ومنها : أن يكون إعطاء واجب الصدقات للمستضعفين من الشيعة دون خلّص المؤمنين والعلماء المتّقين العارفين بآل محمد حقّ المعرفة واليقين ، فإنها أوساخ الناس فلا يرضى لهم بها.

وفي الخبر عن الصادق عليه‌السلام : « فأمّا من قويت بصيرته وحسنت بالولاية لأوليائهم والبراءة من أعدائهم معرفته فذلك أخوكم في الدين أمسّ بكم رحماً من الآباء والأمّهات المخافين ، فلا تعطوه زكاة ولا صدقة ، فإنّ موالينا وشيعتنا منّا كالجسد الواحد ، يحرم على جماعتنا الزكاة والصدقة ، وليكن ما تعطونه من إخوانكم المستبصرين البرّ وارفعوهم عن الزكاة والصدقات ، ونزّهوهم عن أن تصبّوا عليهم أو ساخكم ، أيحبّ أحدكم أن يغسل وسخ بدنه ثم يصبّ على أخيه المؤمن؟ إنّ وسخ الذنوب أعظم من وسخ البدن ... » (٢).

فليخصّ بالهدايا والصلات من أطيب ما له كما ذكرنا من كان من أهل المزيّة والاختصاص بشدّة اليقين بالله تعالى دون الأكثر الذين لايؤمنون بالله

__________________

١ ـ آل عمران : ٩٢.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٢ / ٩٣ نقلاً عن الإمام العسكري عليه‌السلام في التفسير.

٢٥٢

الا وهم مشركون ، فيقولون من ضعف يقينهم : لولا فلان لهلكت ، لولا فلان ما أصبت ، كما ورد عن الصادق عليه‌السلام ، وبالستر والعفاف وتحمّل مشاقّ الفقر في سبيل الله تعالى. وليخصّ من بينهم الأقارب وذوي الأرحام المحتاجين ، حتّى يجمع فضيلتي الانفاق وصلة الرحم معاً ، فقد ورد : « لا صدقة وذو رحم محتاج ». (١)

ومنها : إنفاق المعيل على عياله والتوسعة عليهم خالصاً لوجه الله ، إذ لا عمل الا بنيّة ، واحترازه عن الوجوه المحرّمة والمشتبهة واقتصاده في التحصيل والانفاق حتى لا يضيّعهم ولا يضيع بهم ومراعاته التساوي بينهم في كيفيّة الانفاق وكمّيته ، بل لا يفضّل نفسه عليهم فيهما.

ومنها : قصد امتثال الأمر والتسنّن بسنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والاستيناس والموادّة مع الاخوان في الهدايا والضيافات دون الرياء والمباهاة. وتخصيص الفقراء والأتقياء والجيران والأقارب بالمزيد. ويهتمّ في إكرام الضيف بالتواضع وطيب الكلام ، ونفاسة الطعام وسائر ما ينبىء عن الاحترام بدون الاسراف الحرام.

ومنها : قصد الامتثال والثواب في الإقراض ، ودفع ضرورة أخيه المؤمن بطلاقة وجه ، ويسر كلام ، وسهولة قضاء ، وترك الطب ما لم يعلم أنّه قادر على الأداء ، وإبراء ذمّته مع العلم بعجزه ، كما وردت به النصوص.

ويتفرّع عليه ترك ما شاع في عصرنا من ارتكاب وجوه الحيل الشرعية في استجلاب الأرباح من المديونين ، فإنّه مضافأً إلى الإشكال في حلّيته نوع معاملة دنيويّة مناف للخلوص وقصد القربة في النيّة.

وبالجملة ، فالآداب كثيرة اقتصرنا منها على القليل احترازاً عن الإطناب والتطويل.

__________________

١ ـ الوسائل : كتاب الزكاة ، الباب ٢٠ من أبواب الصدقة ، ح ٤.

٢٥٣

فصل

للورع معنيان :

أحدهما : الكفّ عن المعاصي بأسرها ، وهو من فضائل القوتين معاً ، ولا حاجة إلى ذكره علي حدة ، إذ بعد الاطلّاع على ذمّ كلّ معصية ومممدح تركها يعلم كونه من أعظم المنجيات والفضائل ، بل هو المقصود في علم الأخلاق بالنسبة إلى العامة.

وثانيهما : ملكة الاجتناب عن المال الحرام ، وما يمكن أن يؤدى إليه ، وهو من فضائل القوّة الشهويّة ، وهوالمقصود بالذكر هنا ، ولما كان لطبّ النفوس تأسّ بطبّ الأبدان كما أشير إليه مراراً ، فكما أنّ الطبيب يحكم على الحلو كلياً بالحرارة ، ثم يجعل للحارّ أنواعاً على درجاتها في الشدّة والضعف ، فكذا نحكم على كل حلال بالطيب ، وكلّ حرام بالخباثة ، الا أنّهما على درجات فيهما.

ولما كان حصر مراتب الحرارة من الطبيب في أربع على سبيل التقريب ، فكذا نقتدي به في حصر درجات الورع في أربع تقريباً ، لأن في أفراد كل منها تفاوتاً لاينحصر.

فنقول :

أوّل درجة ورع العدول ، أي الاجتناب عمّا ينافي العدالة ويوجب الفسق في ظاهر الشريعة ، ممّا هي مبسوطة في الكتب الفقهيّة فروعاً وشقوقاً وأدلّة ، وفيها تفاوت عظيم ، فإنّ المغصوب قهراً أغلظ من المكتسب بالمعاملة الفاسدة تراضياً ، ثم المغصوب من اليتيم قهراً أغلظ من غيره ومن الفقير أغلظ من الغني ، ومن العالم أغلظ من غيره وهكذا ، ولولا اختلاف درجات المعاصي لما كان لاختلاف دركات النيران معنى.

وثانيها : ورع الصلحاء ، أعني التوقّي عن الشبهات التي يأتي فيها الاحتمالات بحيث لايجب اجتنابها ، وسيجيء ما يجب اجتنابه منها ،

٢٥٤

فتلحق بالحرام.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « دع ما يريبك إلى ما لايريبك ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خذ بالحائطة لدينك ». (٢)

ومرجعه إلى الورع عن الحرام أيضاً ، لأنّ من الحرام حراماً بيّناً وحراماً مشتبهاً بالحلال ، ولكلّ منهما مراتب شدّة وضعفاً ، وقد أشرنا إلى الأول وكذا الثاني ، فإنّ الشبهة في النكاح سيّما إذا دارت المرأة بين الزوجة والبنت أو الأخت مثلاً أشدّ من غيرها ، فكلّما قوي احتمال الحرمة فيها كان أشدّ ، لكن لامجرّد الاحتمال الغير المستند إلى دلالة فإنّه كالعدم ، والورع فيه وسواس كالممتنع من أكل الصيد لاحتمال أن تزلق من يد الصيّاد بعد وقوعه في يده (٣) ، أو مستعير دار غاب المعير عنها فيخرج المستعير عنها ويقول لعلّه مات وانتقلت إلى الوارث ، فإنّ الشبهة المحذورة إنما تنشأ من الشكّ ، أعني تقابل اعتقادين ناشئين من سببين ، فما لاسبب له لا ينعقد في النفس حتّى يساوي الآخر ، فلا عبرة. به كما أنّ من سئل عن صلاة الظهر التي صلاّها قبل هذا بعدّة سنين كانت ثلاثاً ، لم يتحقق قطعاً أنها أربع ، فلعلها كانت ثلاثاً ، لكنه لا يكون شكاً بين الثلاث والأربع لعدم استناده إلى سبب. فمثل هذا النمط لايعد من الشبهات (٤) ، بل الشبهة ما اشتبه على المكلف أمره بتعارض اعتقادين صدرا من سببين مقتضيين ومنشأه أربعة :

أحدها : الشك في سبب الحلّ والحرمة سواء كانت الحرمة معلومة قبل

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢١٣ ، والوسائل : كتاب القضاء ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٣.

٢ ـ الوسائل : كتاب القضاء ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، ح ٤٢ ، وفيه : « وتأخذ ... ».

٣ ـ يعني يحتمل ملكية الصيّاد الأوّل له بالحيازة ثمّ أفلت من يده فصاده الصيّاد الثاني.

٤ ـ بل يعدّ لعدم اعتبار الاستناد إلى سبب في صدق الشبهة ، ولكن لايجب الاعتناء بها

٢٥٥

ثم وقع الشكّ في المحلّل ، كمن رمى صيداً فجرحه ثم وقع في الماء ثم صادفه ميتاً ، فلا يدري هل مات بالغرق أو بالجرح ، فيجب الاجتناب عنه في ظاهر الشرع ، عملاً بالاستصحاب ، أو بالعكس ، كالماء الطاهر المشكوك في وقوع نجاسة فيه وإن جاز التهجّم فيه في ظاهر الشرع ، لكن تركه من الورع ، أو يظنّ بالمحلّل ظنّاً مستنداً إلى دليل شرعي كحلية صيد رماه فغاب ثم أدركه مستاً وليس عليه أثر سوى سهمه فهو كحلّية الجنين بذبح أمّه ، ولعلّه مات قبل الذبح أو لم ينفخ فيه الروح ، أو بالعكس فيجب الاجتناب ، وإن استند إلى القرائن (١) تأكّد فيه الورع ، وإن لم يوجب تركه الفسق.

الثاني : اختلاط الحلال بالحرام بحيث لا يتميّز عن الآخر ، وقد ذهب بعض المحقّقين إلى التفصيل بين المحصور ، فأوجب فيه الاجتناب نظراً إلى وجوب المقدمة ، وأنّ الحكم بحلية المجموع يستلزم الحكم بحلّية الحرام اليقيني ، وغير ذلك من الأصول المفصّلة ي محلّها ، وغير المحصور فلم يوجب بل جعل الاحتياط فيه مهما أمكن من الورع نظراً إلى لزوم العسر والحرج وغير ذلك ممّا فصّل في محلّه ، والنصوص في الانائين والثوبين المشتبهين يعضده ، ولكنّ الأخبار في خصوص موارد المحصور متّفقة المقالة واضحة الدلالة على حلّية المجموع ، وتفصيل الكلام يطلب من محلّه ، فالورع في المحصور آكد (٢).

الثالث : اتّصال السبب الموجب للحلّ بمحرّم لا يقتضي فساد العقد ولا إبطاله.

إمّا في مقارناته كالبيع وقت النداء في يوم الجمعة والمذبوح بالسكّين المغصوب وفي تسميته شبهة نوع تسامح لكون الحلّ والعصيان معلومين ، فلا

__________________

١ ـ يعني الظنون الغير المعتبرة شرعاً.

٢ ـ التحقيق وجوب الموافقة القطبعية في اطراف العلم الإجمالي في الشبهة المحصورة ، ولا دلالة للأخبار على حلّية المجموع ، والتفصيل يطلب من مظانّه ، فالورع في المحصور لازم.

٢٥٦

شبهة ولعلّه لكراهته ، والمكروه يشبه المحرّم.

أو لوا حقه كبيع العنب من الخمّار وغيره ممّا يفضى إلى المعصية وفيه خلاف بين الأصحاب ، والأخبار مختلفة ، والتفصيل يطلب من محلّه فالورع على القول بالحلّ والجواز آكد.

أو مقدّماته كالأكل من شاة معلوفة بالحرام أو مرعيّة في مرعى حرام ، وقد اهتمّ السلف في مراعاة الورع في هذا النمط ويظهر من الأخبار شدّة الاهتمام بشأنه أيضاً. وفيه مراتب : أشدّها ما بقي أثره في المتناول أو في عوضه كالمبتاع في الذمّة المؤدّى ثمنها من غصب أو حرام وله أيضاً درجات يشتدّ في بعضها ، والورع في كلّها مهمّ.

الرابع : تعارض الأدلّة المقتضية للحلّ أو الحرمة من الأدلة الشرعية ، كتعارض نصّين أو عمومين وغيرهما ، فإن لم يتمكّن من الاجتهاد أو من الترجيح كان الورع واجباً ، وإن رجّح ما يخالفه تأكّد فيه الورع. وله أيضاً درجات شتّى مثل ما يقوى فيه دليل المخالف وفي الترجيح دقّة وغموض ، وما يتاخم الوسواس كالزبيب المطبوخ في الطعام خوفاً من كونه عصيراً محرّماً ،

أو الامارات المتعارضة كخبر عدل بالحرمة والآخر بالحلّ أو فاسقين بهما وهذا ممّا يستحسن فيه الورع ، وله أيضاً درجات في الشدّة والضعف

أو الاشتباه في الصفات التي بها يناط الحكم كأن يوصى لفقهاء البلد فيعلم أنّ المتبحّر في الفقه داخل فيه ، والمبتدي المشتغل بالتعلّم منذ يوم أو شهر لايدخل فيه ، وبينهما درجات لاتحصى ، فيقع الشكّ في بعضها والورع في الاجتناب ، ولعلّه أغمض مثارات الشبهة ، لأن بينها صوراً يتحيّر المفتي تحيّراً لازماً لا محيص له عند فيها ، إذ يكون المتّصف بالصفة في درجة متوسّطة بين المتقابلين لا يظهر ميله عن أحدهما إلى الآخر ، وكذا الصدقات المصروفة إلى المحتاجين فمن لاشيء له محتاج يقيناً ، ومن له مال كثير غني كذلك ، ومن له بعض الأثاث والأشياء من الثياب الدار والكتب وغيرها

٢٥٧

يستشكل فيه ، فإنّ قدر الحاجة لايمنع وهو غير محدود ، وإنّما يدرك تقريباً ويتعدّى منه النظر إلى سعة الدار وقيمتها وكونها في محلّ مرغوب وحصول الاكتفاء بمادونها ، وكذا الأثاث والكتب. وتعظم الحاجة إلى هذا الفن من الورع في الوصايا والأوقاف. فهذه مثارات الشبهة ولو اجتمعت على واحد كانت أغلظ ، فأوّل درجة نافعة من الورع في الآخرة هذه ، أعني ترك الشبهات بأسرها ، فإنّ الحرام المشتبه وإن حلّ في ظاهر الشرع لكن لا يرتفع عنه خاصيّة الحرمة ، كما لايرتفع أثر السكر من الخمر بحلّيتها من عدم العلم بها ، ولايخلص من إهلاك الطعام المسموم بأكله مع الجهل به.

ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات ، وهلك من حيث لايعلم ». (١)

ومن خواصّه انه يورث قسوة في القلب لايبالي معها عن الحرام البينّ ولا برهان عليه أقوى من التجربة والعيان ، فإن أغلب علماء السوء إنما نشأ تهتّكهم وفساد أعمالهم من أخذ الشبهات من عطايا الحكام وجوائزهم وهدايا الرعايا المشابهة للرشى.

ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « سيأتي علي الناس زمان يستحلّ فيه السحت بالهديّة » (٢) مع كون أموال الرعية بأسرها من جنس الشبهات لقلّة معرفتهم بالأحكام الشرعيّة ، وشدّة حرصهم في اقتنائها من دون تعمّق في وجوه حرمتها وحلّها ووصول الأيدي الخبيثة العادية إلى جلّها بل كلّها بحيث لايمكن الآن القطع بحلية الأقوات ، لكون المياه والأراضي مغصوبة ، ولا بحلية اللحوم والدسوم لكون المواشي والحيوانات منهوبة ، وهذه نار استطار شررها في البلاد ، وعمّ ضررها بين العباد ، فأكثروا بسببها من الفسق والفجور وقست قلوبهم وغرّهم بالله الغرور ، واجترؤوا على هتك ناموس

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٣٥ نقلاً عن الكافي (١ / ٦٨) وفيها : « ارتكب المحرّمات ».

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٧٤.

٢٥٨

الشريعة وسلطت أيدي الفجّار والظلمة على الرعية ، ولم يبق أحد الا وقد ابتلي بأنواع المهالك الدنيويّة والأخروية ، لأجل صعوبة المدخل الحلال الذي لايتطرّق إليه شائبة شبهة ورد في الأخبار ما ورد.

ففيها قال تعالى : « يابن آدم اجتنب ما حرّمت عليك تكن من أورع الناس ». (١)

وفيها : « من طلب الدنيا حلالاً في عفاف كان في درجة الشهداء ». (٢)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أكل الحلال أربعين يوماً نوّر الله قلبه وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ». (٣)

وطلب بعض منه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يصير مستجاب الدعوة فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أطب طعمتك يستجب دعوتك ». (٤)

ولو كان المراد من الحلال هذا الذي نحكم بحلّيته ظاهراً لكان آكله مستجاب الدعوة وانفتح من قلبه ينابيع الحكمة ، ونحن مانرى في هذا الزمان منه أثراً سوى قسوة القلب والشقاوة.

فإن قلت : ما دلّت الأدلة القطعية كالسنّة والاجماع على حلية مثل عطايا الحكام وجوائزهم والهدايا التي وغير ذلك يكون حلالاً بيّناً ، فكيف تطلق عليه لفظ الشبهة مع ما ذكرت من أنّه لابدّ فيها من الشكّ ، ولاشكّ مع وجود الدليل القطعي ، كما لا يخفى.

قلت : نعم ، لكن حليتها قطعاً إنّما هي بحسب الظاهر ، لا في نفس الأمر ، فإن المال المأخوذ غصباً في نفس الأمر الغير المعلوم ظاهراً كيف نحكم بكونه حلالاً بيّناً في نفس الأمر ، كما أنه لا معنى لحلية الخمر الغير المعلوم أنّه خمر في نفس الأمر ، وإن كان بحسب الظاهر حلالاً ، فإنّ قاعدة

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٧٧ ، كتاب الايمان والكفر ، باب الورع ، ح ٧.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٢ / ٢٠٣.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٠٤.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٠٤.

٢٥٩

التحسين والتقبيح العقليين تستلزم إناطة الأحكام بهما ، فالقبيح بالذات كيف يصير بالشك حسناً ، وكذا العكس ، ومعنى كونه في ظاهر حلالاً أنّ الأصل عدم كون هذا الفرد الخارجي خمراً أو مغصوباً مثلاً لا أنّه مع فرض الخمريّة والغصبية حلال ، وقد بيّنا لك أنّ أثر الحرام لاينفكّ عنه بصيرورته في الظاهر حلالاً ، فقد تبيّن أنّ الاشتباه إنّما هو في كون هذا الفرد الخارجي من أفراد الحرام الواقعي أو الحلال الواقعي ، ولذا تطلق عليه الشبهة في الموضوع.

ولو كانت الحلية الظاهرية المنوطة بالظن كافية في إخراجه عن حدّ الشبهة لم يحصل مصداق للشبهة أصلاً ، فإن كلّ ما لم يتحقّق كونه حراماً فالأصل حليته في ظاهر الشريعة ، الا ما ثبتت حرمته قبل الشكّ فتستصحب ، فلايبقى وجه لتثليث الأحكام ، فافهم فإنّه من مزالق الأقدام ،

هذا مع أنّ في كثير من المواضعيشتبه على الانسان من طرف النفس الحرام المحض البيّن ، كما في أغلب ما تعارف إطلاق الهدية عليه ، فإنه بعد التأمل يعرف كونه وشوة محرّمة ، وإنّما هو تلبيس من الشيطان وانخداع من النفس ينكشف بعد سلب الأغراض الشهوية ، فإنّ باذل المال لايبذل ماله الا لغرض إما الثواب في الآجل أو جزاء في العاجل إما بتوقّع مال أو إعانة في فعل معيّن ، أو تقرّب إلى قلب المهدى إليه بطلب محبّة إما للمحبّة في عينها أو للتوصّل بها إلى عوض ورائها ، وكلّ ذلك على درجات يحرم الأخذ في أكثرها ، ويتشكل الأمر في القليل منها ويحل في الأقلّ ، فلابدّ من التفصيل في ذلك.

فنقول : أمّا الثواب في الآخرة فإنّما يتصوّر بأن يكون المصروف إليه محتاجاً أو عالماً أو منتسباً بنسب ديني أو صالحاً متديّناً.

والأوّل لايحلّ له الأخذ الا مع علمه باتّصافه به.

وكذا الثاني ، الا أن يكون في العلم على الحدّ المعلوم للمعطي من

٢٦٠