كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

التفصيلية واحداً بعد واحد ، والقضاء وجودها إجمالاً في العالم العقلي مجتمعة على سبيل الإبداع ، وذلك أنّه قد لمع في محلّه بنيّر البيان واتّضح بنور البرهان أنّ واجب الوجود وإن كان علّة لجميع الأشياء ، والوجودات بأسرها فائضة من وجوده الا أنّ حدوث الحوادث لمّا كان مفتقراً إلى تصرّف الطبائع وتحريك الموادّ ، وذلك ممّا لايليق بكبريائه تعالى ، فلذا نسبت إلى الوسائط ، ولايلزم منه نفي الفاعل المختار على ماتوهّم لما حقّق في محلّه ، فيكون المعلول الأوّل على هذا واسطة لفيضان الوجود على سائر الموجودات التي بعده فكان وجوده مشتملاً على وجوداتها اشتمالاً إجماليّاً ، فيكون القضاء عبارة عمّا ذكرناه من وجودها إجمالاً في العالم العقلي ، أي المعلول الأول ، والقدر عبارة عن وجوداتها الخارجيّة المترتّبة على وسائطها في الخارج مطابقة لمّا في القضاء ، ولما كان وجود المعلول الأوّل بما يشتمل عليه من الوجودات على الوجه الكلّي مفاضاً من الوجود الواجبي الذي هو عين ذاته ، وثبت أيضاً علمه بذاته بما هو عين ذاته لاجرم كان علمه محيطاً بالكلّ على ماهو عليه إحاطة تامّة ، فنسبة القضاء إليه كنسبة القدر إلى القضاء ، ويسمّى العالم المزبور بالعناية الأولى.

وإذا ثبت جريان عادته تعالى بترتب المسبّبات على الأسباب ، وكان ذلك هوالنظام الأصلح بحالها ، فمن جملتها الصدقة والدعاء وأمثالهما ، وكما أنّ شرب الماء سبب لإزالة العطش مثلاً فلا تحصل الا به فكذلك الدعاء سبب رتّبه الله تعالى لدفع البلاء ولو لم يدع نزل به كما لو لم يعالج المريض بالدواء والغذاء ، فإنّه لايصحّ بل يموت وهو واضح.

فإن قلت : إذا كان في علم الله وقضائه السابق أنّ زيداً يدعو ويتصدّق ويندفع بذلك بليّته لدعا وتصدّق واندفعت عنه والا فلا يفعل ولايندفع عنه ، فأيّ فائدة في سعيه واجتهاده؟

قلت : هذه شبهة تورد لنفي الاختيار في أفعال العباد ، ولا ربط لها

٤٨١

بحديث منافاة الدعاء للرضا.

ومجمل الجواب : أنّ علمه تعالى ليس علّة لفعل العبد وإن طابقة فالعبد لمّا كان يفعل باختيار ، علم الله كذلك ، لا أنّه لما علم كذلك فعل العبد.

والحقّ أنّ فعل العبد مخلوق له من دون واسطة بإرادته واختياره ومخلوق له تعالى بوساطة العبد كما في سائر الموجودات ، لا أنّه ليس له إرادة واختيار في الفعل ، كما يقوله المجبّرة ولا أنّه يحصل من غير علّة واجبى كما يقوله المفوّضة ، بل هو أمر بين أمرين بالنهج المزبور ، كما وردت به النصوص عن الأئمّة المصطفين ، فالاختيار والإرادة مخلوق لله تعالى في العبد كسائر الآلات والأسباب المخلوقة فيه ، وهو لاينافي الإختيار ، فإنّ المراد من الفعل الاختياري ما كان مبدؤه الاختيار ، وأمّا صدور الاختيار أيضاً عن اختيار آخر ، فلا ضرورة تلجىء إليه ، غاية ما هناك صيرورة الفعل واجباً بسبب الاختيار وهو لاينافيه ، وتمام الكلام يحتاج إلى بسط يفوت به زمام المرام.

وبالجملة فالدعاء مباشرة سبب رتّبه مسبّب الأسباب ، والتمسّك بالأسباب جرياً على سنّة الله تعالى لاينافي التوكل ولا الرضا ، كما أنّ شرب الماء وأكل الخبز ومعالجة المريض بالدواء والغذاء لاتنافيهما.

فإن قلت : مادلّ على كراهة المعاصي ينافي مادلّ على حسن الرضا بالقضاء الا أن يقال بعدم صدورها منه وهو قدح في التوحيد.

قلت : أفعال العباد وإن كانت كسائر الموجودات بقضاء الله وقدره ، الا أنّه فرق بين المقامين حيث إنّ ماسوى أفعال العباد من الموجودات الخارجية جارية بقضاء حتم وقدر لازم منه تعالى.

وأمّا هي فمعلّقة باختيارهم وإرادتهم ومستندة إليهم ، كما وردت في الأخبار عن العترة الأطهار ، واقتضاها نور البصيرة والاعتبار للزوم الجبر

٤٨٢

و (١) الظلم من الله المجيد والعبث في التكليف والوعد والوعيد.

فالمراد من كونها بقضاء الله وقدره إمّا تعلقها بها كما فسّره أميرالمؤمنين عليه‌السلام فإنّها أسباب ذاتية للطاعة عرضيّة للمعصية. والمراد منهما هنا السببيّة في الجملة.

وإمّا كونها صادرة عن الأسباب وبتوسّط الوسائط التي هي فعل الله حقيقة ، ومنها الارادة والاختيار كما عرفت ، حيث أنّ وجوده مشتمل على سائر الوجودات وعلمه محيط بكلّ المعلومات كما أشرنا إليه.

فعلى الأوّل يكون معنى الرضا بالقضاء فيها الرضا بتكليف الشارع ووعده ووعيده بها وهو من لوازم الايمان ، ولا منافاة له حينئذ أصلاً.

وعلى الثاني تكون لها جهتان واتّصافها بالمعصية والقبح وتعلّق الأمر ببغضها وزجر أربابها من حيث تعلّقها به وكونها أفعالاً اختيارية لهم حقيقة ، واتّصافها بكونها صادرة عن قضاء الله وقدره من الجهة الأخرى ، وليس الاتصاف بالعصيان من تلك الجهة لتعلّقه بنفس الفعل الذي هو فعل العبد دون أسبابه التي هي فعل الله تعالى.

وعليك بالتأمّل فيما تلوته عليك في هذا المقام فإنّه من مزالق الأقدام ، وقد خبط فيه بعض الأعلام بما يطول بنقله الكلام.

ومنه يظهر الجواب عن المنافاة بين ما دلّ على مدح الرضا وبين ما دلّ على بغض الكفّار والفجّار ومقتهم ، فإنّهم وإن كانوا من آثار صنعه ووجودهم صارد بقضائه وقدره الا أنّ بغضهم ليس لأجل وجودهم الذي هو منه ، بل هو خير محض يجب حبّه لأجله ، وإنما هو لأجل فعلهم الصادر عنهم بإرادتهم واختيارهم وليست الشرور الصادرة عنهم من لوازم وجودهم ، فإنّ كلّ مولود يولد على الفطرة ، والا لما صحّ التكليف والثواب والعقاب ، وما ينافي ذلك بظاهره من الآثار يجب تأويله بما ليس المقام مقام ذكره.

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر زيادتها.

٤٨٣

والعجب ممّن يزعم أنّ السكوت عن المعاصي والرضا بها من مقامات الرضا مع أنّه تعالى نهى عباده عنها وذمّهم عليها وبعث أنبياءه ورسله لردعهم عنها ، وكيف يتصوّر الرضا بما يقطع بعدم رضاه تعالى بفعلها ، إذ المعصية ما لا يرضى الله سبحانه بفعلها فالرضا بها مناف لغاية الرضا ، مع أنه لو أمكن القول بصحّة الرضا بها لكونها بقضاء الله وقدره أمكن القول بصحّة فعلها أيضاً لذلك ، ويلزم منه إنكار كون المعصية معصية.

تذنيب

وأما طريق تحصيل هذا المقام المنيف فإنّما يتمّ بكمال المعرفة المستتبعة للمحبّة وتحصيل مرتبة اليقين بالتوحيد الفعلي ، وأنّه لامردّ لقضائه والكراهة لأفعاله تعالى تعجيل عقوبة من دون فائدة بخلاف الفائز بمقام الرضاء حيث إنّه دائماً في حال راحة وسرور وبهجة وحبور.

واعلم أنّ التسليم قريب من الرضا ، ويسمّى تفويضاً أيضاً ، بل هو أعلى مقاماته ، لأنّ العلاقة ملحوضة في الرضا أعني موافقة الأفعال لطبعه بخلاف التفويض حيث يلاحظ فيه قطع العلائق بالمرّة وتفويض الأمر إليه بالكليّة ، كذا قيل ، فتأمّل.

وبالجملة ؛ فهما مشتركان في كونهما من آثار المحبّة ، والمحبّ لايظهر البلاء في معرض الشكوى ، بل ينكره بقلبه أبداً حتّى قال السلف : من حسن الرضا أن لايقول هذا يوم حارّ ، وأنّ العيال تعب ومحنة ، وأنّ في العبادة ونحوها كلفة ومشقّة إذا كان على سبيل التشكّي ، أمّا إذا تعلّق به غرض سحيح فلا ينافيه ، أرضانا الله بما يحبّ ويرضى ، وجنّبنا عمّا لايحبّ ولايرضى.

فصل

التوكّل أعلى منازل السالكين وأعظم درجات الموحّدين الموقنين.

وقد ورد في مدحه من الكتاب والسنّة ما ورد :

٤٨٤

( إنّ الله يحبّ المتوكّلين ). (١)

( وعلى الله فليتوكّل المتوكّلون ). (٢)

( ومن يتوكّل على الله فهو حسبه ). (٣)

وقال الصادق عليه‌السلام : « من أعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً ، من أعطي الدعاء أعطي الاجابة ، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة ، ومن أعطي التوكّل أعطي الكفالة » ، [ ثمّ قال عليه‌السلام : أتلوت كتاب الله عزّوجلّ : ]

قال الله تعالى : ( ومن يتوكّل على الله فهو حسبة ). وقال تعالى : ( لئن شكرتم لأزيدنّكم ). (٤) وقال : ( أدعوني أستجب لكم ). (٥) » (٦)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو أنّكم تتوكّلن على الله حقّ توكّله لرزقتم كما ترزق الطيور تغدو خماصاً تروح بطاناً ». (٧)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من انقطع إلى الله عزّوجلّ كفاه الله كلّ مؤونة ورزقه من حيث لايحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ». (٨)

وهو اعتماد القلب على الله في جميع الأمور أو حوالتها إليه أو التبرّي عن كلّ حول وقوّة بإسناد الأمور كلّها إلى حوله وقوّته ، وهو موقوف على الاعتقاد الجازم بأن لافاعل الا هو ولاحول ولا قوّة الا حوله وقوّته وأنّ له تمام العلم والقدرة على كفاية العباد ، ثم تمام الرحمة والعناية ، وليس وراءها علم وقدرة ولا رحمة ولا عناية ، فمن لم يجد في نفسه حالة التوكّل وترك

__________________

١ ـ آل عمران : ١٥٩.

٢ ـ إبراهيم : ١٢.

٣ ـ الطلاق : ٣.

٤ ـ إبراهيم : ٧.

٥ ـ غافر : ٦٠.

٦ ـ الكافي : ٢ / ٦٥ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب التفويض إلى الله والتوكّل عليه ، ح ٦ ، وفيه : « أعطي الكفاية ».

٧ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ٣٧٩.

٨ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ٣٧٩.

٤٨٥

الالتفات إلى ماسواه فسببه إمّا ضعف اليقين بأحد ماذكر أو ضعف القلب بالستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بالأوهام الكاذبة ، وذلك ممكن مع حصول اليقين ، فإنّ من تناول عسلاً فشبّه بالعذرة عنده قد ينفر طبعه منه ، وكذا المضاجع للميّت ويخاف منه مع حصول اليقين بأنّه جماد لايحيى بحسب العادة ، وكم من يقين لا طمأنينة معه ، ولذا قال الخليل عليه‌السلام : ( ولكن ليطمئنّ قلبي ) (١) وكذا العكس كأرباب الملل والمذاهب ، فالتوكّل موقوف على قوّة اليقين وقوّة القلب معاً.

إشراق

قد تبيّن ممّا ذكر أنّ التوكّل حالة تثمر الانقطاع إلى الله في جميع الأحوال ، وسنذكر حقيقتها وأقسامها إن شاء الله تعالى ، وأن تلك الحالة تنشأ من علم واعتقاد بالأربعة المشار إليها ، أي الايمان بالتوحيد الذي يترجمه قولك : لا إله الا هو وحده لاشريك له ، وبالقدرة التي يترجمها قولك : له الملك ، وبالجود والحكمة التي يدلّ عليهما قولك : وله الحمد.

وبهذا يتمّ التوكّل ، ويثبت حقيقته التي هي تلك الحالة التي سنذكر البحث عنها.

والمراد من الإيمان بها صيرورتها وصفاً لازماً لقلبه غالباً عليه.

فأمّا التوحيد فهو الأصل فيه ، وهو البحر الخضمّ الذي لا ساحل له ، وليس لأحد إحاطة الكلام فيه ، والقدر الذي يمكن الإشارة إليه في هذا المقام أنّ له أربع مراتب كلّ قشر بالنسبة إلى مافوقه كالجوز.

فقشره الأعلى الذي غايته حفظ البدن عن السيوف الإقرار باللسان خاصّة كتوحيد المنافق.

وقشره الأسفل الذي غايته حصول الاسلام والنجاة من العذاب المخلّد إن توفّي صاحبه عليه ، ولم يضعّف بالمعاصي عقده إضافة التصديق بالقلب

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٠.

٤٨٦

إليه مع انشراح لحقيقته وانفساح للصدر بمضمونه وصيرورته له محسوساً مشاهداً ، ويمكن تضعيف عقده بالشبه والبدع وتقويته بالفكر والنظر في الأدلّة الكلامية.

ثم لبّه مشاهدة فاعل الأشياء واحداً وانكشاف ذلك للقلب كما هو عليه ، فيرى الأشياء متكثّرة الا أنّه يسندها إلى فاعل واحد بطريق الكشف والشهود وانشراح الصدر ، ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ). (١)

ثم الدهن المأخوذ من اللب أعني أن لا يحضر في شهوده الا الفاعل الواحد فلايرى الأشياء بجهة كثرتها ، بل بجهة كونها صاردة عن الواحد ، وهي الفناء في التوحيد على اصطلاح ... (٢) ، فإنّه إذا لم ير الا واحداً فلا يرى نفسه أيضاً لاستغراقه بالواحد ففني عن رؤية نفسه وهي غاية التوحيد ومرتبة الصدّيقين.

فإن قلت : كيف لايشاهد الا واحداً وهو يشاهد بحسّه أشياء كثيرة فكيف يصير الكثير واحداً أو كيف يكذب حسّه؟

قلت : قد يكون الشيء واحداً من جهة وعلى طور من المشاهدة دون أخرى وطور آخر ، كالانسان إذا التفت إلى جزء جزء من أجزائه العقلية أو الخارجية ، وإذا التفت إلى الكلّ المركّب من حيث إنّه شيء واحد ، فكم من مشاهد للإنسان لايلتفت إلى أجزائه أو كثرتها فكذلك ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات مختلفة يكون باعتبار أحدها واحداً والآخر متعدّداً ، ومشاهدة الوحدة تظهر غالباً كالبرق الخاطف ، وقلّما تدوم.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ الرابع ممّا لايجوز الخوض فيه ، ولايبنى عليه

__________________

١ ـ الأنعام : ١٢٥.

٢ ـ إحياء العلوم : ٤ / ٢٤٥.

٤٨٧

التوكّل والأوّل نفاق محض ، والثاني موجود في عموم المسلمين ، وقد أشرنا إلى ما به يقوى ويتأكّد ولا دخل له أيضاً بالتوكّل الا قليل منه بعد تقوية كاملة.

وأمّا الثالث فهو مبنى التوكّل ، وهو انكشاف أن لا فاعل الا الله وأنّ كلّ ما يطلق عليه اسم من الغنى والفقر والخلق الرزق والبسط والقبض والموت والحياة قد تفرّد المبدع الحقيقي بإبداعه واختراعه ، وبعد ذلك لاتنظر الا إليه ولاتخاف الا منه ، ولا تثق الا به ، حيث إنّ ماسواه مسخّرون تحت قدرته لا استقلال لهم بتحريك ذرّة.

والمانع عن هذه المشاهدة أحد أمرين :

أوّلها : الالتفات إلى الجمادات كالاعتماد على المطر في الزرع ، والغيم في الامطار ، والبرد في الغيم ، والريح في سير السفينة ووصولها ونجاتها ، ( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدّين فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون ) (١) أي يقولون لولا استواء الريح لما نجونا هذا جهل وغرور عظيم من الشيطان الرجيم كالتفات من نجا من ضرب السيّاف لرقبته بتوقّيع الملك إلى قلم الكاتب ودواته وكاغذه دون الملك الآمر والكاتب الموقع ، ولو علم أنّه لا حكم للقلم وإنّما هو مسخّر في يده لم يلتفت الا إليه ، بل ربما أدهشه الفرح بذلك عن تصوّره القلم ونحوه ، وكلّ جماد وحيوان مسخّر تحت يد القدرة كذلك ، بل أعظم من ذلك.

وثانيهما : وهو الخطر الأعظم الذي يغرّك به الشيطان بعد إياسه عن الأوّل الالتفات إلى اختيار العباد ، فيقول : كيف يكون الكلّ منه مع ماتشاهد من أنّ فلاناً يعطي ويمنع ويضرب ويقتل فكيف لاترجوه ولاتخاف منه وهو قادر عليك ، تشاهد ذلك بلاشكّ وريب ، فالقلم لايلتفت لكونه مسخّراً ، لكنّ الكاتب هو المسخّر له فتزلّ عنده الأقدام وتدهش فيه عقول

__________________

١ ـ العنكبوت : ٦٥.

٤٨٨

ذوي البصائر والأفهام ، الا من شاهد بنور الله كون الكاتب مسخّراً كالقلم وإن غلط من لم يشاهده لعجز بصره عن إدراك المسخّر [ الحقيقي له ، أي جبّار السماوات والأرضين ] (١) كالنملة التي تدبّ على الكاغذ ، فترى رأس القلم يسوّده وضيق حدقتها مانع عن وصول بصرها إلى أصابع الكاتب ، فضلاً عن نفسه ، وأرباب البصائر ينظرون بنور الله ويسمعون من كلّ ذرّة في الأرض والسماء بالنطق الذي أنطق الله به كلّ شيء حتّى سمعوا تقديسه وتسبيحه وشهادته على نفسه بالعجز بلسان فصيح ليس من لحم ودم وإنّما لم يسمعه الّذين هم عن السمع لمعزولون.

وهذا النطق مع أرباب القلوب يسمّى مناجاة السرّ ، وهو ممّا لاينحصر ، لأنّه كلام مستمدّ من بحر كلمات الله الّتي ينفد البحر قبل نفادها ، ولو جيء بمثله مدداً ، وهي من الأسرار التي قبورها صدور الأحرار ، فلا يحكون بها لغيرهم ، لأنّ إفشاءها لؤم ، وهل رأيت قطّ أميناً على أسرار الملك نوجي بخفاياه فنادى بها على الملأ من الناس ولو جاز ذلك لما وقع النهي عنه ، ولما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً » (٢) بل ذلكر لهم حتى يبكوا ولايضحكوا.

وهذا الاستماع من ذرّات عالم الملك والملكوت لايحصل الا بالإيمان بعالم الملكوت والتمكّن من المسافرة إليه واستماع الكلام من أهله ، وفيه جبال شاهقة وبحار مغرقة ، وفيافي تائهة ، ومنازل وعرة ، فمن كان أجنبيّاً عنه ولم يكن مستعدّاً للوصول إليه لم يمكنه ذلك ، بل كان اللازم عليه الردّ إلى التوحيد الاعتقادي الحاصل في عالم الملك بالعلم به بالأدلّة الدالّة على وحدة الفاعل كقولك : المنزل يفسد بصاحبين والبلد يفسد بأميرين. ( ولو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا ). (٣)

__________________

١ ـ ساقط من « ج ».

٢ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٢٦٩.

٣ ـ الأنبياء : ٢٢.

٤٨٩

وقد كلّف الأنبياء أن يكلّموا الناس على قدر عقولهم ، وقد أشرنا إلى أنّه يصلح أيضاً أن يكون عماداً للتوكّل إذا قوي ، وأن يتسارع إليه الضعف والأضطراب فاحتاج إلى حارس من الأدلة الكلامية بخلاف المشاهد حيث إنّه لو كشف له الغطاء ما ازداد يقيناً ، وإن ازداد وضوحاً.

فإن قيل : جميع ماذكر مبني على كون الأسباب والوسائط مسخّرات تحت القدرة الأزلية ، وذلك ظاهر في ماسوى أفعال العباد ، وأمّا فيها فإنّه مخالف لما يشاهد منه من حركاته وسكناته ، ولما تحقّق بالأدلّة الشرعية من التكليف والثواب والعقاب والوعد والوعيد.

قلت : قد عرفت سابقاً أنّ الأمر بين الأمرين الذي وردت به النصوص وعليه بناء الشيعة في أفعال العباد هو كون الفعل صادراً من العباد بدون واسطة باختيارهم وإرادتهم وإن كان الاختيار والإرادة كسائر الأسباب من أفعاله تعالى ضرورة استناد الممكن إلى علّة واجبة والا لزم التسلسل وهو محال.

ولو قيل : يلزم منه الجبر.

قلت : لو انكشف لك الغطاء علمت أنّك في عين الاختيار مجبور ، فأنت إذن مجبور على الاختيار ولاقصور في ذلك ، كما عرفت ، والزائد على هذا القدر ممّا لايمكن التصريح به ولا كشف الغطاء عنه الا بالانكشاف الحاصل من المجاهدات ، فالأحسن هو التأدّب بأدب الشرع ، والإعراض عن كشف الأسرار الغير الجائز عقلاً وشرعاً.

فإن قيل : هذا المعنى من التوحيد الذي بنيت عليه التوكّل وهو أنّه لافاعل الا الله ينافي ماثبت من الشرع من كون الأفعال للعباد ، إذ كيف يمكن إسناد الفعل الواحد إلى فاعلين؟

قلت : ذكرت لك أنّ الجهة مختلفة فنسبته إلى الله باعتبار استناد أسبابها إليه وإلى العبد بالاعتبار الآخر ، ولا مانع من الاطلاقين مع اختلاف

٤٩٠

الجهات ، كما لايمنع عن إطلاق القاتل على الجلّاًد والأمير ، ولذا ترى القرآن مشحوناً من هذين الاطلاقين.

( قل يتوفّاكم ملك الموت الّذي وكلّ بكم ). (١)

( الله يتوفّي الأنفس حين موتها ). (٢)

( قاتلوهم يعذّبهم الله بأيديكم فلم تقتلوهم ولكنّ ال لهقتلهم ). (٣)

( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ). (٤)

وإلى هذا المعنى من التوحيد أشار لبيد : ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّه أصدق كلمة [ قالها لبيد ] ». (٥)

وأما الثلاث الأخر فهي من متفرعات التوحيد المزبور ، إذ لايتمّ الا بالإيمان بالقدرة العامة وهو واضح ، وبالرحمة والعناية والحكمة ، فإنّ التوحيد يورث النظر إلى مسبّب الأسباب ، والإيمان بها يورث الوثوق به وهو يورث التوكّل ، فلو صدّقت تصديقاً يقينيّاً بأنّ ما حصل في عالم الإمكان مرتّب على النظام الأصلح الذي لايعترية ريب ولاقصور ولا تفاوت ولافطور (٦) على ما ينبغي وكما ينبغي وبالقدر الذي ينبغي وأنّ أفعاله جميعاً عدل محض لا جور فيه ، وليس في الامكان ما هو أتمّ منه وأكمل ، وأنّه ولو كان وادّخر مع القدرة كان بخلاً يناقض الجود وظلماً ينافي العدل ، ولو لم يقدر كان عجزاً ينافي الالهية ، وأنّ كلّ بالنسبة إلى ما تحته ، فلو لا الليل ما عرف النهار ، ولولا المرض ماعرف قدر الصحّة ، ولولا البهائم ما عرف

__________________

١ ـ السجدة : ١١.

٢ ـ الزمر : ٤٢.

٣ ـ التوبة : ١٤.

٤ ـ الأنفال : ١٧.

٥ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ٤٠٣ مع اختلاف وما بين المعقوفتين في « ج » فقط.

٦ ـ كذا ، والظاهر : فتور.

٤٩١

شرف الإنس وهكذا ، وأنّ تقديم الكامل على الناقص محض العدل ، فالكمال والنقص يعرفان بالاضافة حصل لك الوثوق التامّ بأفعاله تعالى ومنه يحصل التوكّل فإنّ الموكل لغيره في خصومة لايعتمد على وكيله اعتماداً تامّاً يسكن إليه ويثق به الا بعد علمه بكون الوكيل عالماً عارفاً بمواقع التلبيس حتى لا يخفى عليه شيء ، وقادراً على إحقاق الحقّ وإفصاحه حتّى لايداهن ولايخاف ولا يستحيي ولا يجبن في إجراء الحقّ والتصريح به ، ولايكلّ لسانه في المعارضة ، ومشفقاً على موكّله معتنياً به حتى يهمّ بأمره ويسعى في الظفر على خصمه ، وكلّما ازداد علمه بحصول هذه الخصال فيه قوي وثوقه به ولم ينزعج قلبه إلى الإهتمام بالحيلة والتدبير لدفع ما يحذره من قصور وتفوّق الخصم عليه.

وهذا العلم له مراتب غير محصورة إلى أقصاه الذي لامرتبة فوقها كما في العلم الحاصل للولد بالنسبة إلى والده بمنتهى إشفاقه عليه وسعيه في جمع الحلال الحرام لأجله ، فإن ثبت في نفسك بكشف أو اعتقاد قوي جازم بأنّه لافاعل الا هو وأنّ له منتهى العلم والقدرة على كفاية العباد وغاية العناية واللطف بهم حصل الاتّكان منك عليه وترك الالتفات معه إلى نفسك فضلاً عن غيرك ، فكنت صادقاً في قولك لا إله الا الله وقولك لاحول ولاقوّة الا بالله.

تتميم

لما تبيّن لك أنّ التوكّل عبارة عن الحالة المترتّبة على العلم بالأمور المذكورة فاعلم أنّ لها درجات ثلاث (١) :

أوّلها : ما أشرنا إليه من كون حاله في الوثوق بكفالته عنه كوثوق الموكّل بالوكيل.

وثانيها : كون حاله مع الله فيه كالطفل مع أمّه حيث لايعرف غيرها في

__________________

١ ـ كذا ، والصحيح : ثلاث درجات أو درجات ثلاثاً.

٤٩٢

جلب نفعه ودفع ضرّه ، فلو رآها تعلّق بهاولم يخل عنها ، ومع غيبتها عنه يكون أوّل سابق على لسانه يا أمّاه! فهذا قد فنى في توكّله فلا يلتفت إليه بل إلى المتوكّل عليه فقط ، وكأنّه فطري له بخلاف الأوّل ، لكونه كسباً وتكلّفاً منه وله التفات إلى توكّله وهو مانع عن دوام الشهود للمتوكّل عليه.

وثالثها : أن يكون بين يدي الله تعالى كالميّت بين يدي الغاسل فيرى نفسه ميّتاً تحت القدرة الأزليّة ، وهذا في غاية قوّة اليقين بكون الأشياء مستندة إليه تعالى ، فالصبيّ يفزع إلى أمّه ويصيح ويتعلّق بذيلها ويعدو خلفها ، بخلافه حيث إنّه انتظار محض فهو كمن يعلم أنّ أمّه من غاية إشفاقها عليه تحمله وتسقيه وإن لم يفزع إليها ولم يصح ولم يتعلّق بها ، وهذا المقام يثمر ترك السؤال والطلب منه تعالى كما قال الخليل عليه‌السلام :

« حسبي من سؤالي علمه بحالي ، كفى علمه بحالي عن مقالي ». (١)

فكم من نعمة ابتدأها قبل السؤال بدون استحقاق بخلاف ما قبله ، حيث يثمر ترك السؤال عن غيره تعالى خاصّة.

هذا ، وقد قيل إنّه في الدوام كصفرة الوجل ، فإنّ انبساط القلب إلى الأسباب طبع وانقباضه عارض ، فلا يدوم.

وأمّا الثاني فهو كصفرة المحموم ربما تدوم يوماً أو يومين ، والأوّل كصفرة مريض استحكم مرضه فلا يبعد أن يدوم أو يزول ، ولاينافي التدبير والسعي الذي يشير إليه وكيله ، ولاسيّما ما كان معروفاً من عادة الوكيل وسنّته ، والثاني ينفي كلّ تدبير سوى الدعاء والطلب منه تعالى ، والفزع إليه كتدبير الطفل في التعلّق بأمّه.

والثالث ينفي كلّ تدبير وصاحبه كالمبهوت الواله.

تنوير

ما يكون خارجاً عن الطاقة بأن لايكون له أسباب قطعية أو ظنّية لجلبها

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٣ / ٢٢٥.

٤٩٣

أو دفعها أو تكون له مع عدم التمكّن منها يكون قضيّة التوكّل فيه ترك السعي فيه بالتدبير والتحمّل والحوالة إليه تعالى رأساً ، ومالم يكن خارجاً عنها بحصول ما يتمكّن منه من الأسباب القطعية أو الظنية ، أو إمكان التوصّل إليه فالسعي فيه لاينافيه بشرط أن يكون وثوقه به تعالى في حصوله لا بتلك الأسباب ، فترك الكسب والتدبير والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة بعيد عن الحقّ ، بل محرّم في ظاهر الشريعة لثبوت التكليف بطلب الرزق بالزراعة أو التجارة أو الصناعة ، وإبقاء النسل بالتزويج وغيره ، ودفع الأشياء الموذية بما عيّن له عادة ، فإنّها أسباب جرت عادة الله بترتيب المسبّبات عليها كجريان عادته بحصول التقرّب إليه بالعبادة ونحوها.

نعم ينبغي عدم الاتّكال في حصولها عليها ، بل عليه تعالى والاعتماد على فضله ورحمته وعدم السكون إليها ، بل إلى قدرته وحكمته بتجويز قطعه تعالى الأسباب عن مسبّباتها وإعطائه السمبّبات من دون أسبابها ، وهذا في الأسباب القطعيّة أو الظنّية المطّردة النادرة التخلّف كمدّ اليد إلى الطعام للوصول إلى فيه وحمل الزاد للسفر وتحصيل بضاعة المتجر والوقاع للأولاد واتّخاذ السلاح للعدوّ والتداوي عن المرض وأمثاله.

ولاينافيه التوكّل لما عرفت ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للأعرابي لمّا أهمل بعيره وقال : توكّلت على الله : « اعقلها وتوكّل ». (١)

وقال الله تعالى : ( خذوا حذركم ) (٢) ( وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ). (٣)

( وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ). (٤)

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ٤٢٦.

٢ ـ النساء : ٧١.

٣ ـ النساء : ١٠٢.

٤ ـ الأنفال : ٦٠.

٤٩٤

وقال لموسى عليه‌السلام : ( فأسر بعبادي ليلاً ). (١)

وفي الاسرائيليات : أن موسى عليه‌السلام اعتلّ بعلّة فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علّته ، فقالوا له : لو تداويت بكذا لبرئت ، قال : لا أتداوى حتّى يعافيني الله من غير دواء ، فطالت علّته ، فأوحى الله تعالى إليه : وعزّتي وجلالي لا ابر أتك حتّى تتداوى بما ذكروه لك ، فقال لهم : داووني بما ذكرتم فداووه فبرأ ، فأوجس في نفسه من ذلك ، فأوحى الله إليه : أردت أن تبطل حكمتي بتوكّلك عليّ ، فمن أدع العقاقير منافع الأعضاء غيري؟ (٢)

وروي أنّ زاهداً اعتزل الناس وأقام في سفح جبل وقال : لا أسأل أحداً شيئاً حتّى يأتيني ربّي برزقي فقعد سبعاً فكاد يموت ولم يأته رزق ، فقال : ربّي إن أحييتني فأتني برزقي الذي قسمت لي والا فاقبضني إليك ، فأوحى الله إليه : وعزّتي وجلالي لا أرزقك حتّى تدخل الأمصار وتقعد بين الناس ، فدخل وجاؤوه بطعام وشراب فطعم وشرب فأوجس في نفسه ، فأوحى الله إليه : أردت أن تذهب بحكمتي (٣) بزهدك في الدنيا ، أما علمت أنّي أرزق عبدي بأيدي عبادي أحبّ إليّ من أن أرزقه بيد قدرتي؟ (٤)

وأمّا الموهومة كالاستقصاء في التدبيرات الدقيقة والحيل الخفيّة في تحصيل الكسب وجوهه فهي ممّا يبطل التوكّل ، إذ ليست مأموراً بها عقلاً ولا شرعاً ، بل ربّما كانت منهياً عنها ، وإنّما أمر بالإجمال في الطلب.

تبصرة

قيل (٥) : من كمل يقينه بحيث غابت عنه مطلق الأسباب ولم يبق معه الا الالتفات إلى ربّ الأرباب فسكنت نفسه بفقدها لأجله عن الاشتغال

__________________

١ ـ الدخان : ٢٣.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ٤٣٢ ، وفيه : منافع الأشياء.

٣ ـ كذا ، والصحيح : حكمتي كما في المصدر.

٤ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ٤١٥ ـ ٤١٦.

٥ ـ راجع جامع السعادات : ٣ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٤٩٥

والاضطراب لم يكن عليه التمسّك بها مطلقاً ، فإنّ مثل هذا يحفظه وكيله ويصلح أموره كفيله ويشهد له ما حكي من فعل الكمّل لذلك ، وإن لم تغب عنه ، لكن مع اعتقاد جازم بعدم استناد التأثير إليها ، بل إلى الله فلا يجوز له الإعراض عنها وإلقاء نفسه في المهالك لأجلها.

وأنا أقول : إذ تبيّن لك أن من عادته تعالى وسنّته التي لاتجد لها تبديلاً تفريع المسبّبات على الأسباب ، وعدم حصولها الا بها لزمه (١) التأسّي بسنّته تعالى في إجرائها منها ولم يجز الفضول في مثل ذلك اعتماداً على توكّله.

وينبّه عليه ما في الخبرين السابقين ، فليست لأحد قوّة اليقين كما للأنبياء والرسل المقرّبين ، والمستحسن المطلوب منه هو القدر المشترك بين القسمين من عدم الاعتماد فيها الا عليه تعالى ، وهو حاصل بالفرض ، فلا حاجة إلى التخلّف عمّا جرت به عادة الله وترك التأدّب بأدب الشارع وما اقتضته الحكمة المحضة والمصلحة الأزليّة من ارتباط المسبّبات بالأسباب.

وأمّا فعل الكمّل لما يوهم خلافه فله جهة أخرى ، وهي أنّ النفس إذا كملت بالارتياض حصلت لها قوّة وقدرة على تسخير الكائنات كما عرفت مراراً ، فهو اعتماد منهم على حصول الأسباب لهم على كلّ حال لعدم انحصارها فيما نظنّه أسباباً أو نقطع به وعدم اكتفائنا بذلك لعدم قدرتنا على سائر الأسباب ولا عليها في غير الوقت الذي جرت العادة بحصولها ، هكذا يليق أن يفهم هذا المقام فافهمه ، فإنّه من مزالق الأقدام.

ثم قيل (٢) : إنّ الاكتفاء بالاسباب الخفيّة من الجليّة كالمسافرة في البوادي التي لايطرقها الناس الا نادراً ، ليس كالإعراض عنها مطلقاً في كونه جنوناً محضاً على ما أشير إليه وحراماً صرفاً على ماثبت من الشرع ، بل الحريّ فيه التفصيل بأن المكتفي بها أن راض نفسه بحيث تصبر وتطمئنّ مع

__________________

١ ـ كذا في النسخ ، وفي هامش « ج » : « فاللازم هو التأسي ».

٢ ـ هذا كلام أبي حامد ، راجع المحجّة البيضاء : ٧ / ٤١٤ ـ ٤١٦.

٤٩٦

الجوع أسبوعاً ونحوه وتقنع بالتقوّت بالحشيش وأمثاله جاز له ذلك ، وإن جاز عدمه أيضاً اتّباعاً لسنّة الأوّلين وجرياً على العادة الغالبة والا فلا يجوز له الا التمسّك بالأسباب الظاهرة ، وذلك لأنّ عدم الجواز إمّا للنهي عن ذلك وكونه إلقاء نفس في التهلكة وإمّا لأنّ غاية التوكّل وثمرته حصول السكون إلى الله تعالى حتّى لاتشتغل نفسه بغيره ولايمنعه عمّا يبطله من الشهود ، فلو لم تسكن نفسه الا بالأسباب الظاهرة لم يجز له التخلّف والإعراض عنها ، بل يجوز لمن لاتسكن نفسه عن الاضطراب المانع لملازمة أسباب السعادة الا بادّخار مال أو ذخيرة قوت لنفسه وعياله مدّة مديدة تركه ، بل يجب عليه ذلك قطعاً ، والعلّتان مفقودتان في الاولى ، لأنّ المفروض حصول السكون المطلوب له بذلك ، وعدم هلاكه به بعد حصول الشرطين فلا مانع عنه.

وما يقال (١) : من أنّ ثقته حينئذ بها لا بالله فلم يكن متوكّلاً كلام قشري ، فإنّا إذا علمنا أنّ التمسّك بالأسباب الظاهرة بل ادّخار الأموال لاينافيه فإنّ مناطه إسناد التأثير إلى الله تعالى دونها ، فالتمسّك بها لعلمنا بأنّه تعالى لايجريها الا بها وأنّها مرتبطة في قضاء الله الأزلي بها ، فإذا لم يناف ذلك فهذا أولى فتسليم اختلاف مراتب التوكّل باختلاف مراتب اليقين وغيبوبة الأسباب عن النظر وعدمها ، ثم إنكار كون هذا الفرد توكّلاً تهافت لايليق بأهل التدقيق ، وبهذا التقرير الذي قرّرناه في كلام القائل يظهر وجه ما أورده عليه بعض الأفاضل مع جوابه.

لكن أقول ظاهر الأخبار والأدلّة الشرعية لايساعد ذلك كما أشرت إليه ، وكذا ترجيح البقاء في البلد بين الناس مع الاشتغال بالفكر والعبادة وترك التكسّب توكّلاً على الله لا على الكسب بناء على أنّه ليس من قسم الإعراض عن الأسباب فإنّ العادة جارية بوصول رزق مثله إليه ، بل رزق

__________________

١ ـ القائل هو المحقّق الفيض وتبعه النراقي ـ رحمهما الله ـ ، راجع المحجّة : ٧ / ٤١٦ وجامع السعادات : ٣ / ٢٣١.

٤٩٧

جماعة من أمثاله من الناس سيّما إذا شاهدوا منه الزهد والورع والتقوى ولم نشاهد إلى الآن من أمثاله من مات بين الناس جوعاً ، سيّما إذا كان قانعاً بالقليل فهو خلاف ما ورد في الشريعة وصدر عن أئمّتنا الهداة عليهم‌السلام ، بل هو تعرّض للذلّ وضرب على بواطن الناس وكلّ عليهم وهو مناف للحرية الممدوحة.

والتحقيق ما قرّرته لك من أن المناط في التوكّل هو الثقة بالله وسكون النفس إليه دون الأسباب فلا دخل له بوجودها وعدمها وجلائها وخفائها.

إرشاد

قد علمت أنّ عمدة ما يحصل به التوكّل قوّة القلب وقوّة اليقين فعلاج من يريد تحصيله تقوبة قلبه بما ذكر في الجبن وأضداده وتقوية يقينه بالتذكّر لما ورد في مدحه أوّلاً من الآيات والأخبار والاعتبار بحكايات الماضين ممّن توكّل فانتظمت أموره وأحواله على أحسن النظام ، وممّن لم يتوكّل بل اعتمد على الأسباب فأهلكه الله وسلّط عليه من مفرّقات المسبّبات عن الأسباب مايعجز عن إدراكه عقول المدبّرين الصارفين عمرهم في دقائق الحيل والتدابير وهي في الكتب المطوّلة مذكورة على الألسن مشهورة ، والتجربة في أحوال أهل العصر ممّا يكفيك ويغنيك عن استماع الحكايات الماضية.

ثم بالتفكّر في أنّك لمّا كنت جنيناً في بطن أمّك وعاجزاً عن السعي والاضطراب في تحصيل رزقك وصل مبدعك سرّتك بها حتّى ينتهي إليك بواسطتها فضلات غذائها ثم بعد انفصالك عنها سلّط عليها الحبّ حتّى كفلتك اضطراراً من اشتغال نار الحبّ في قلبها من الله تعالى حتّى احتملت لأجلك مرارة اليقظة والحرّ والبرد وأنواع المتاعب الغير المحصورة ، ولمّا لم يكن لك سنّ تمضغ به الطعام جعل رزقك من اللبن اللطيف ، فإنّ مزاجك يومئذ لرخاوته ما كان يحتمل الغذاء الكثيف حتّى إذا وافقك أنبت لك أسناناً قواطع لأجل المضغ وبعد كبرك هداك إلى ما يسّره لك من أسباب التعليم

٤٩٨

وسلوك سبيل الآخرة ، وفي طول هذه المدّة كنت عاجزاً عن رزقك لا حيلة لك فيه فجبنك بعد بلوغك غاية الجهل ، إذ لم تنقص عنك أسباب معيشتك ، بل زادت بقدرتك على الاكتساب ، وشفقة أبويك وإن كانت مفرطة فإنّما هي من الله تعالى وكما هو قادر على إلجائهما في هذه المدّة على الإشفاق ، فكذلك قادر على إلجاء آخرين عليك فخلق في قلوب كافّة عباده رقّة ورحمة على اختلاف مراتبها فيهم بتألّمهم بعد العلم القطعي باحتياج محتاج فينبعث منها داعية رفعه عنه فالمشفق في الأوّل كان واحداً أو اثنين والآن أكثر من ألفين ، ولقد أجاد من قال :

جرى قلم القضاء بما يكون

فسيّان التحرّك والسكون

جنون منك أن تسعى لرزق

ويرزق في غشاوته الجنين

فقد دبّر الله الملك والملكوت تدبيراً كافياً لأهلهما فمن شاهده وثق بالمدبّر وأمن بأخباره وسكن إلى ضمانه ، نعم تدبيره يصل إلى من اشتغل به صنوف النعماء من الثياب الرفيعة السنيّة والمآكل البهيّة وأمثالها وإلى من اشتغل بعبادته ومعرفته ما يسدّ جوعه ويستر عورته ، وربما زاد عليه أيضاً فلا مانع من التوكّل عليه الا ميل النفس إلى التنعّم بنعماء الدنيا والانهماك في لذّاتها ، وهذا ينافي سلوك الخرة.

والحاصل إنّ علم استناد الأشياء بأسرها إليه تعالى وعدم مدخلية غيره فيها فلا وجه لاضطرابه وعدم وثوقه ، وإن مال قلبه إلى الوسائط والأسباب فليعلم أنّ من جملتها التوكّل أيضاً لما عرفت من شهادة السمع والتجربة بكفاية الله أمر من توكّل عليه على أحسن وجه يتصوّره.

ومن علامات حصول التوكّل استواء حالته لدى الفقر والغنى والنفع والخسران وطمأنينة النفس في ذلك من دون تزلزل واضطراب ، فإنّ الاضطراب لفقد الأشياء علامة السكون إليها ، وفّقنا الله لهذا الأمر الجليل وهو حسبنا ونعم الوكيل.

٤٩٩

فصل

الشكر خلق من أخلاق الربوبيّة ، قال الله تعالى :

( والله شكور حليم ) (١) وهو مفتاح السعادة وسبب الزيادة ( لئن شكرتم لأزيدنّكم ) (٢) وبه يتحقّق الإيمان وبتركه الكفران الموجب للنيران ( ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد ) (٣) ، ولغاية فضله قرنه بالذكر ( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ). (٤)

ولعلوّ رتبتهطعن الشيطان في نوع الانسان ( ولاتجد أكثرهم شاكرين ). (٥) وصدّقه الرحمن ( وقليل من عبادي الشكور ). (٦)

وعن عائشة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قام ليلة فبكى حتّى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ، ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى ، فلم يزل كذلك حتّى أذّن بلال ، فقلت : وما يبكيك يارسول الله ، فقد غفر الله من ذنبك ما تقدّم وما تأخّر؟ قال : « أفلا أكون عبداً شكوراً؟ ». (٧)

وإذا علمت أنّ من الشكر البكاء تبيّن أنّ اللائق بحلك إدامته.

وفي الخبر : أنّ نبيّاً من الأنبياء مرّ بحجر صغير يخرج منه ماء كثير ، فتعجّب فأنطقه الله وقال : مذ سمعت قوله تعالى : ( وقودها الناس والحجارة ) (٨) أبكي خوفاً ، فسأله أن يجيره من النار فأجاره ، ثم رآه بعد مدّة يخرج مثله ، فسأله عن ذلك ، فقال : كان ذلك بكاء الخوف ، وهذا بكاء

__________________

١ ـ التغابن : ١٧.

٢ ـ إبراهيم : ٧.

٣ ـ إبراهيم : ٧.

٤ ـ البقرة : ١٥٢.

٥ ـ الأعراف : ١٧.

٦ ـ سبأ : ١٣.

٧ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٤٢ مع تلخيص.

٨ ـ البقرة : ٢٤.

٥٠٠