كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

الباب الأوّل في المقدمات

وفيه فصول

٢١

فصل

الحكمة تنقسم إلى علم وعمل.

فالعلم منها هو العلم بأعيان الموجوات ، أي تصوّر حقائقها والتصديق باحكامها وما يلحق بها على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشريّة.

والعمل منها ممارسة الحركات ومزاولة الصناعات لإخراج الكمال الاستعدادي عن القوّة إلى الفعل بقدر القوّة البشريّة.

والكلام في الأوّل موكول إلى الكتب المصنفة في الحكمة النظرية.

وأمّا العلم الذي نبحث عنهم وهو العلم بالحكمة العلملية فهو العلم بمصالح الحركات الإرادية والأفعال الصناعية التي بها تنتظم أمور المعاش والمعاد وهو على أقسام ثلاثة :

أوّلها : ما يرجع إلى كل شخص بالنفراده وهو تهذيب الأخلاق.

وثانيها : ما يرجع إلى جماعة متشاركين في المنزل وهو تدبير المنزل.

وثالثها : ما يرجع إلى كل جماعة متشاركين في المدينة أو المملكة أو الاقليم وهو العلم بسياسة المدن ،ولقد ضربنا عن الأخيرين صفحاً ، وصرفنا الهمّة نحو الأوّل ، فإنّه الأعم نفعاً.

ثم إنّ مبادىء المصالح المشار إليها إمّا طبعيّة ، أي مقتضىعقول أولي البصر وتجربيّات أرباب الفكر والنظر ، فلا نخنتلف باختلاف الأعصار وتقلّبات الأدوار ، وهي ما تقدّمت إليها الإشارة ، أو وضعيّة ، أي مقتضى اتفاق بعض الآراء ، وهي الآداب والرسوم.

فإن كانت مقتضى رأي من لا ينطق عن الهوى كالأنبياء وأئمة الهدى فهي النواميس الالهية والشرائع النبوية.

٢٢

والعلم الكافل لشعب ما جاء به نبيّنا الصادع بالحق ووصيّه وأو لاده الأطهرون سلام الله عليهم علم الفقه ، ولكن جملتها مقصورة على الوضع تتقلّب بتقلّب الأيّام وتتبدّل بتبدّل أهل الملل والنحل والدول من الأنام.

ولذا خرجت تفاصيلها عن أقسام الحكمة العملية لتفحّصها عن القوانين الكليّة التي لا يتطرّق إليها التغيير ، كما لايخفى على الفطن البصير ، لكنّها إجمالاً من أقسامها كما تبيّنت في مقامها

فصل

لما كان موضوع هذا العلم نفس الإنسان من حيث يصدر عنها الجميل والقبيح بحسب الارادة ويستحقّ بها المدح والذمّ وإطلاق لفظ الشقاوة والسعادة ، فلابدّ من معرفة النفس وقواها إجمالاً من باب المبادىء وإن كان التفصيل فيه موكولاً إلى الطبيعي.

فنقول : النفس ما يعبّر عنه كل أحد بأنا وأنت وأمثالهما ، ولاشك في مغايرتها للبدن ، لأن الإنسان يغفل عن كل شيء حتى أجزاء بدنه الا عن نفسه ، ولأن البدن يتغيّر عما كان عليه من الكيف والكمّ ، ولا تغيّر لها من حين تمييزها للأشياء إلى أن يموت.

وحدّها : أنّها جوهر ملكوتي مجرد يدرك المعقولات وله تصرف في الهيكل المحسوس بتوسّط القوى والآلات.

والدليل على جوهريتها وتجردّها كونهامحلاً للمجردات كالمعانى الكلّية من المعقولات ومحلّية العرض لها محال ، وكذا الجسم لكونه ذا وضع يقبل الانقسام ،فيلزم أن يكون الحال كالمحل فلا يكون مجرّداً ، هذا خلف ، ولعدم زوال الصور الحالّة فيها بطريان غيرها عليها ، بل يعينها ، ولا كذلك الجسم لزوال كلّ شكل منه بطريان آخر ، ولمخالفتها للماديات في الآثار والخواص ، وهي وإن كانت حادثة بحدوث البدن ، لكنّها باقية بفنائه لعدم

٢٣

قيامها به بمعنى كونه محلاً لها لما عرفت ، بل هو آلة لتصرّفها ، فلا يستلزم فساده فسادها ، وهي أيضاً بنفسها لا تقتضيه ، إذ طروّ العدم على الموجود يكون من ضدّه ، ولا ضدّ للمجرّدات لكون التضاد في عالم الكون والفساد وتحقّقها فيه بتوسّط البدن ، والا فهي بالذات من سنخ المجردات ، فغذا لم يقتض ذاتها الفساد ، ولا ارتباطها بالبدن ، فلا يكون له موجب آخر.

والآثار الدالّة على بقائها بعد فنائه كثيرة ، كقوله تعالى :

( ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون ) (١).

( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ) (٢).

وفي الخبر : أرواح الشهداء تسرح في رياض الجنّة (٣).

وما دلّ على أنّ أرواح المؤمنين تجتمع ويستأنس بعضها ببعض في وادي السلام ، وأرواح الكفّار في وادي برهوت (٤).

وهذا ممّا رسخت في عقائد فرق المسلمين والكفّار جميعاً ، لابتناء سؤال المغفرة والصدقات والمنامات وغيرها عليه ، فلا تقبل العدم الا بالذات ، وعليه يحمل قوله تعالى :

( كلّ شيء هالك الا وجهه ) (٥).

نقل إنّ أبا يزيد لّما سمع قوله : « كان الله ولم يكن معه شيء » قال : والآن كما كان.

وقال المعلّم الأوّل : المجرّد حقيقة ، والحقيقة لاتبيد.

__________________

١ ـ آل عمران : ١٦٩.

٢ ـ البقرة : ١٥٤.

٣ ـ راجع مجمع البيان : ج١ ، ذيل الآية ١٦٩ من آل عمران.

٤ ـ راجع البحار : ٦ / ٢٦٨ و ٢٨٧.

٥ ـ القصص : ٨٨.

٢٤

فصل

من النفوس نفس نباتية وحيوانية وإنسانية ، وإن شئت أطلقت القوى عليها ، ولكل منها قوى متعدّدة ، كل منها مبدأ فعل خاص ، فقوى الأولى ثلاثة :

غاذية : يتم عملها بإعانة أرببع أخرى هي الجاذبة والماسكة والهاضمة والافعة.

ومنمية : يتم عملها بإعانة الغذية والمغيّرة.

ومولدة : يتم عملها بإعانتها والمصوّرة.

وللحيوانية قوتان :

قوّة على لإدراك بالآلات ، إمّا الظاهرة أي الباصرة والسامعة والذائقة والشامّة واللامسة ، أو الباطنة أعني الحسّ المشترك والخيال والوهم والحافظة والمتخيّلة.

وقوّة على التحريك الأرادي ، وهي إمّا باعثة وهي ما إذا ارتسم في الخيال أمر مطلوب الحصول حرّكت الفاعلة على الاتيان به ، فهى حينئذ قوّة شهويّة ، أو مطلوب الدفع و (١) حركاتها إليه ، فهي حينئذ قوّة غضبيّة ، أو فاعلة ، وهي تحرّك الآلات والعضلات الجسمانية بالقبض والبسط ، وجملة هذه القوى موجودة في جميع الحيوانات من الإنسان وغيره.

وأمّا النفس الانسانية فهي المختصّة بالانسان من بين الموجودات بها تميز عن غيره ، ولها قوّة النطق ، أعني إدراك الكلّيات بدون آلة جسمانية ، فإن توجّهت إلى معرفة حقائق الموجودات وقبول الفيض عن عالم المجرّدات سميّت عقلاً نظريّاً وقوّة نظريّة ، وإن تهيّأت لمزاولة الصناعات المؤدية غلى مصالح المعاش والمعاد والتأثير فيما تحت قدرته من القوى والآلات فهي عق ل عملي وقوّة عمليّة ، ولما كان تمييز النفس عن العقل بافتقارها إلى المادّة في

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر زيادتها.

٢٥

الفعل أي كلّ ما يصدر عنها من التأثير والتأثّر فهي في جميع إدراكاتها محتاجة إليها ، فقبل تعلّقها بالبدن واستعمال الآلات ليست فاعلة ولا قابلة ، وأمّا بعدهما فتحصل الصور الجزئيّة في الآلات ، الا أنّها خالية عن الصور الكلّية إلى أن تميّز به مابه تشرتك الجزئيّات عمّا به تختلف فهي قبل التمييز المذكور عقل هيولاني لمشابهتها للهيولى الأولى في خلوّها عن الصور بالفعل وقبولها لها بالقوّة ، وإذا ميزت فأوّل ما يرتسم فيها صور الكلّيات الضرورية الحاصلة من التمييز الحاصل من تكرير المشاهدات حكماً ومفهوماً ، كامتناع اجتماع النقييضين والحرارة الكلّية مثلاً ، وهي في هذه الحالة أي حصول الضروريات لها فعلاً واستعدادها لاكتساب النظريات منها عقل بالملكة ، وإذا اكتسبت النظريّات بالفعل وصارت لصيرورتها مخزونة فيها مستعدّة لا ستحضارها فهي عقل بالفعل ، وجميع ما يمكن إدراكها من المعقولات حاصلة لها بالفعل حينئذ ، الا أنها لاشتغالها بشواغل المادّة واحتجابها بحواجب البدن ليست حاضرة عندها مشاهدة لديها ، فإذا ارتفعت علاقتها بالبدن ولم يبق لها حجاب أصلاً وصار جميع إدراكاتها حاضرة عندها مشاهدة لها سميّت عقلاً مستفاداً ، وهذه غاية كمال القوّة النظريّة ، وكما أنّ مراتبها أربعة فكذا مراتب القوّة العمليّة.

أوّلها : استعمال النواميس الإلهيّة والشرائع النبويّة وامتثال الأوامر والنواهي الشرعيّة ، حيث إنها باب السلوك ومفتاح الوصول إلى المقصود ، فلا يمكن الا منه الورود.

وثانيها : التخلّي عن الرذائل والتحلّي بالفضائل وإزالة العلل الحاجبة عن التوجّه إلى عالم الملك والملكوت عن الخاطر ، حتّى يتمكّن من الوصول إليه.

وثالثها : ملكة الوصول إلى عالم القدس.

ورابعها : مرتبة الفناء والوحدة الصرفة وقصر الهمّة في النظر إلى

٢٦

الأنوار السبحانية وتزكية السرّ عمّا سواه تعالى والاستغراق في بحر كبريائه ، وهذه غاية كمال القوّة العمليّة ، والكمال الأوّل بمنزلة الصورة ، والثاني بمنزلة المادة ، فإذا جمعتهما تمّت بهما دائرة الوجود منطوياً فيها عالم الغيب والشهود.

توضيح

لكلّ شيء من الموجودات خاصيّة لايشاركه غيره فيها ، فكلّما كان صدور تلك الخاصية المختصّة به منه أتم وفيه أظهر كان بالكمال أقرب ، وإلا فهو ناقص. ألا ترى أن الفرس تشارش كثيراً من الحيوانات في مطلق العدو ، الا أنّ لها خاصية تختصّ بها في مطاوعة راكبها وخفّتها حالة العدو بحيث لأتوجد في غيرها ، وكلّما كانت الخاصية المزبورة فيها اظهر كانت في مراتب الفرسيّة أكمل وأشهر ، وكذا الإنسان له خاصية ها يتميّز عن سائر ما في الاكوان ، وإن كان مشاركاً لغيرها في جملة من الخاصيات ، فإنّ بلوغه إلى أعلى المراتب فيها لايعدّ له كمالاً لوجود من هو أعلى ربتة منه في الحيوانات والنباتات مثلاً ، بل كماله في بلوغه إلى أعلى المراتب في تلك الخاصية المختصّة به وهي ما ذكرناه من القوّتين ، فغن أو صلهما إلى أعلى مراتبهما الذي ذكرناه كان إنساناً كاملاً مستحقّاً لخلافة الله في البلاد ، مستعداً لقبول الفيض الابدي من بين العباد ، اتموذجاً لما في عالم الكون والفساد.

فصل

الأجسام الطبيعية متساوية في الجسمية ، فلا مزية لبعضها على بعض من هذه الحيثية ، بل ما كان قبوله للصور الشريفة وتأثره من المبادي العالية أظهر فهو أشرف ، أنواع الجمادات ما كانت له قوّة قبول النفس النباتيّة كالمرجان ، وهو متصّل بأخسّ أنواع النبات ، وبين أدناها إلى هذه المرتبة العليا مراتب غير محصورة من هذه الحيثية.

٢٧

ثم من أخسّ مراتب النبات إلى أشرف أنواعه وهو النخل مثلاً المتّصل بأخسّ أنواع الحيوان ، والمتّصف باغلب صفاته المترتّبة على النفس الحيوانيّة كالضعيف من الدود وبعض أنواع الحشرات المتكونّة في بعض فصول السنة دون بعض ، مراتب كثيرة شرفاً ودوناً.

وكذا من أخسّ أنواع الحيوان إلى أشرفها كالصقر أو الفرس مثلاً ، المتّصل بادون أنواع الانسان مراتب موفورة شرفاً وخسّة ، لكن جميع المراتب المتقدّمة مع شدّة اختلافها مشتركة في كون حركاتها طبيعية.

ثم بعد هذه تناط الحركة بالارادة النفسانيّة ، ولها أيضاً مراتب غير محصورة ، فكلّما كان إدراكه أدون وأضعف كان أدون من حيث الشرف ، وكلّما كان وصوله من نقصان إلى كمال بتوسّط القوى والآلات أكثر وأظهر كان أعلى وأشرف ، إلى أن يصل إلى مقام الفناء والوحدة المحضة ، يكون أشرف الموجودات ، ويتصّل به دائرة الموجود كالخط المستدير إذا بدأت بنقطة منه ثم ختمته بها فتنتفي الوسائط والترتيب والتضاد ، ويتّحد المبدأ والمعاد ( ويبقى وجه ربّك ذوالجلال والإكرام ) (١).

فظهر ممّا ذكر أنّ المرتبة الإنسانية واقعة في بدو الفطرة في أوسط مراتب الموجودات ، وانّ للانسان طريقاً إلى الأعلى بإرادته ، وإلى الادنى بطبيعته ، فإن خلّى زمام أمره بيد طبيعته تنزل يوماً فيوماً ، وحفّ بالشهوات الرديّة ، وبقي في المرتبة الادنى من مراتب الموجودات ، بحيث لايوجد أدون منها في عالم الأكوان. وإن مال بإرادته إلى الطريق المستقيم والنهج القويم والعلوم الحقّة والمعارف الحقيقية والفضائل النفسانية وتوجّه إلى نيل الكمال المركوز في جبلّته واشتاق إلى السعادة الحاصل الستعدادها في فطرته ، وصل تدريجاً إلى المقام المحمود ، إعني مجاورة الملأ الأعلى والاستنارة بأنوار الحق تعالى.

هي النفس إن تهمل تلازم خساسة

وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج

__________________

١ ـ الرحمن : ٢٧.

٢٨

آدمى زاده طرفه معجونى است

كز فرشته سرشتته زو حيوان

گر كند ميل اين شود كم از اين

ور كند عزم آن شود به از آن

ولما كان الطريق الأول سهل الحصول لا حاجة فيه إلى نيل مشقّة وبذل مجهود ، بل يكفي فيه مجرّد السكون ، والطريق الثاني صعباً عسر الحصول مفتقراً إلى مزيد جهد وكلفة وبذل مجهود دعت العناية الأزليّة والرحمة الإلهيّة إرسال الأنبياء والأوصياء الكرام والعلماء الأعلام بالشرائع المستقيمة والنواميس القويمة إلى الأنام ، كي يمدّوهم في سلوك هذا الطريق رفقاً أو عنفاً ، ويعاونوهم بالتسديد والتقويم والتأديب والتعليم. وفّقنا الله لما يحبّ ويرضى ، وأعاننا على علاج هذه النفوس المرضى.

فصل

التخلّي عن رذائل الأخلاق من أهمّ المهامّ أوّلاً ، لأنّها الحجب المانعة عن المعارف الحقيقية والصداء للنفوس الحاجبة عن النفحات القدسيّة ، فإذا اشتغلت القلوب بغيره تعالى لم يدخلها معرفته وحبّه والأنس به ، كما أنّه لامجال للهواء في الاناء المملوّ من الماء.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض ) (١).

فإذا خلتعنها استعدّت للفيوضات المتواترة ، كالمرآة مالم يذهب الصداء عنها لم تستعدّ لارتسام الصور فيها ، والبدن مالم تزل عنه العلّة لم يقبل الصحّة ، فلا تنفع طاعة الا بعد تطهيرها عن ذمائم الأخلاق ، والا فهو كقبر ظاهره زينة وباطنه جيفة ، أو كبيت مظلم وضع السراج على ظاهره فاستنار ظاهره وباطنه مظلم.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ألا إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٢ / ١٢٥ ، وفيه : « ملكوت السماء » بدون والأرض.

٢٩

لها ) (١).

فإنّ التعرّض لها تطهير القلب عن الأخلاق الرديّة ، فكلّ إقبال على طاعة وإدبار عن المعصية يثمر نوراً به يستعدّ القلب لإفاضة العلوم الحقّة.

قال الله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ) (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم » (٣).

والرحمة الإلهيّة بحكم العناية الأزليّة عامّة للخلق غير مضنون بها على أحد ، لكنها تتوقّف على تصقيل مرآة القلب وتطهيرها عن أخباث الطبيعة ، فلا حجاب من بخل من المنعم تعالى شأنه.

هر چه هست از قامت ناساز بى اندام ماست

ور نه تشريف تو بر بالاى كس كوتاه نيست

والنور الحاصل بعد صفاء القلب بعناية المنعم هو العلم الحق الذي لا مرية فيه لكونه من الأنوار الإلهيّة ، وهو الذي أشير إليه في قوله عليه‌السلام :

« ليس العلم بكثرة التعلّم ، بل هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء ». (٤)

وفي بعض الكتب السماويّة : « لا تقولوا : العلم في السماء من ينزل به ، ولا في تخوم الأرض من يصعد به ، ولا من وراء البحار من يعبر ويأتي به ، العلم مجعول في قلوبكم ، تأدّبوا بين يديّ بآداب الروحانيين ، وتخلّقوا إليّ بأخلاق الصدّيقين أظهر العلم من قلوبكم حتّى يغطّيكم ويعمّركم ». (٥)

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قال الله تعالى : لايزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي

__________________

١ ـ البحار : ٧١ / ٢٢١ مرسلاً.

٢ ـ العنكبوت : ٦٩.

٣ ـ البحار : ٤٠ / ١٢٨ نقلاً عن الفصول المختارة ، وفيه « يعلم » بدل « علم ».

٤ ـ البحار : ١ / ٢٢٥مع اختلاف.

٥ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ١٤٨ ـ ١٤٩ ، وفيه : « يغمركم ».

٣٠

يبصربه ... » الحديث. (١)

وفي كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام إشارة إليه أيضاً حيث قال : « إنّ من أحبّ عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف ، ـ إلى أن قال ـ : فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى ، قد أبصر طريقه ، وسلك سبيله ، وعرف مناره ، وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس ». (٢)

وقال عليه‌السلام في وصف الراسخين في العلم : « هجم بهم العلم على حقيقة البصرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استو حشه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأبدان معلّقة بالمحملّ الأعلى ». (٣)

وهذا العلم عبادة النفس وقربة السرّ ، فكما لا تصحّ الصلاة الظاهرة الا بتطهير من الظاهره ، فكذا لا تصحّ عبادة الباطن الا بتطهيره من الأخباث الباطنة ، كيف لا والملائكة لايدخلون بيتاً فيه كلب ، فكيف تفاض الأنوار الإليّة في بيوت مملوءه من كلاب نابحة؟ فكم من دقائق المعاني وغوامض الأسرار ، تخطر على قلب المتجرّد للأذكار والأفكار ممّا تخلو عنها كتب التفاسير والأخبار ، ولا يتفطّن بها علماء الدهور وفضلاء الأعصار ، وبعد عرضها عليهم يستحسنونها ويعلمون أنّها من تنبيهات القلوب الزكيّة وألطافه البهيّة السنيّة بذوي الهمم العالية المتوجّهة إليه تعالى بالقلوب الصافية.

فظهر أنّ ما يحصل من المجادلات الفكريّة والمباحثات النظريّة من دون

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٢٥٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من آذى المسلمين ، ح ٨.

٢ ـ بحار الأنوار : ٢ / ٥٦ عن نهج البلاغة.

٣ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٤٧ مع اختلاف.

٣١

تصقيل لمرآت النفس عن أخباث الطبيعة ممّا لا يستحقّ أن يطلق عليه الا الخوص في فنون البطاعة وتفتيح أبواب الجهالة ، فإن للعلم الحقيقي أثراً ظاهراً ونوراً باهراً وبهجة وسروراً وطمأنينة وظهوراً وانقطاعاً عن الدنيا إلى الآخرة ، وخوضاً في لجج البحار الغامرة من أبحر عظمة الله وصفاته الباهرة ، وأنّى لهم الرصول إلى سعاد ودونها قلل الجبال ودونهنّ حتوفن فما يسمونه علماً او يقيناً إمّا تصديق مشوب بشبهة أو اعتقاد جازم خال عن النور والجلاء لأجل الصداء الحاصل لقلوبهم من الجهل والعماء.

فصل

الخلق ملكة للنفس تقتضي سهولة صدور الأفعال عنها من غير فكر ورويّة ، والملكة كيفيّة نفسانيّة بطيئة الزوال ، وبالأخير خرج الحال ، وسبب وجوده الطبيعة تارة ، فإنّ بعض الأمزجة في أصل الخلقة تقتضي استعداد صاحبها لحال من الأحوال ، كالخوف بأدنى سبب ، والضحك من أدنى تعجّب ، والعادة أخرى ، كأن يفعل فعلاً بالفكر والاختيار على سبيل التكلف ، ثمّ من كثرة المداومة والممارسة يأنس به إلى أن يصدر عنه بسهولة ، ويصير ملكة له.

وقد قيل بأنّ الأخلاق كلّها طبيعية يمتنع زوالها كالحرارة للنار ، والبرودة للعلماء ، لأنّها تتبع المزاج ، وهو مما لا يتبدّل ، ولا ينافيه اختلاف مزاج شخص واحد في مراتب سنّه لتبعيّتها لجميع مراتبه.

ويؤيّده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام ». (١)

وقوله عليه‌السلام: « إذا سمعتم أنّ جبلاً زال عن مكانه فصدّقوه ، وإذا سمعتم

__________________

١ ـ مسند أحمد : ٢ / ٢٥٧.

٣٢

أنّ جلاً زال عن خلقه فلا تصدّقوه ، فإنّه سيعود إلى ما جبل عليه ». (١)

وفيه أنّ توابع المزاج من المقتضيات الممكنة زوالها لا من اللوازم ، لكون النفوس متفّقة الحقيقة ، وخلوّها في بدو الفطرة عن جميع الأخلاق والأحوال كما هو شأن العقل الهيولاني ، فهي كصحائف خالية عن النقوش وما يحصل منها إمّا من مقتضيات العادة بالاختيار والرويّة ، أو استعداد الأمزجة ، والمقتضى ممكن الزوال ، كالبرودة للماء ، ولا يمتنع انفكاله كالزوجيّة للأربعة ، والخبران بعد ثبوتهما لا دلالة لهما أصلاً.

وقيل ليست طبيعيّة ولا منافية للطبيعة ، بل هي خالية في بدو الفطرة عن جميعها ، فما يوافق مزاجه يسهل تصييرها ملكة بالممارسة والاعتياد ، وما يخالفه يصعب تحصيله فيحتاج إلى تكلّف.

ويظهر وجهه ممّا ذكرناه.

وربما يقرّر الحجّة هكذا : الأخلاق قابلة للتغيير ، وكلّ ما كان كذلك فليس طبيعيّاً والكبرى ضروريّة ، والصغرى وجدانيّة لما نجد من صيرورة الخيّر شريراً بمصاحبته وبالعكس ، وتأثير التأديب والتعليم في زوالها ولولاه لم يكن للفكر فائدة ، وبطلت السياسات.

ويؤيّده ورود الأمر به في الآيات والأخبار.

قال تعالى : ( قد أفلح من زكّيها ). (٢)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بعثت لأتّمم مكارم الأخلاق ». (٣)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حسّنوا أخلاقكم ». (٤)

وردّ بمنع الكلّية لما نشاهد من عدم قبول بعضها للتغيير سيّما ما يتعلّق بالقوّة النظريّة كالحدس والتحفّظ وجودة الذهن ومقابلاتها ، ويكفي فبول

__________________

١ ـ جامع السعادات : ١ / ٢٤.

٢ ـ الشمس : ٩.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٨٩.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٩٩.

٣٣

بعضها له لصحّة السياسات والأوامر المذكورة وتحقّق فائدة البعثة ، كما أنّ صحّة علم الطب لاتنافي عدم قبول بعض الأمراض للعلاج.

والجواب : أنّ عدم القبول في البعض على سبيل الامتناع كما هو شأن الطبيعي ممنوع ، غاية ما هناك كون بعضها عسرة الحصول صعبة القبول على مقتضى الأمزجة ، والمقتضى ليس من اللوازم كما ذكرنا.

وقيل : يكون بعضها طبيعية وبعضها عادية ، ويظهر وجهه مما ذكر مع جوابه. فخير الأقوال أوسطها. قال المعلّم الأوّل : يمكن صيرورة الأشرار أخياراً بالتأديب.

فصل

المراد من تهذيب الأخلاق تعديلها إلى الوسط من الإفراط والتفريط ، وردّ كلّ قوّة إلى كمالها ، وهو المراد من التغيير لا إماطة القوّة رأساً ، لأنّ لكلّ من القوى فائدة ضروريّة خلقت لأجلها ، وهي بمنزلة الآلة لما هو مقصود لذاته ، ولولاها لضاع المقصود الأصلي ، فتعديل القوّة الغضبية خلوّ النفس عن الجبن والتهوّر ، وكونها بحيث يحصل منه (١)الغضب المحمود شرعاً وعقلاً ، ولا يحصل المذموم كذلك ، وكذا الشهوة ، ولا ريب في إمكانه ، فكما أن النواة يمكن صيرورتها بالتربية نخلاً لوجود قوة النخليّة فيها وتوقّف فعليّتها على التربية التي هي بيد الإنسان ، فكذا تعديل قوّتي الشهوة والغضب بالمجاهدة ممكن ، وإن لم يمكن رفعها بالكلّية.

ثم أنّه تختلف مراتب التأديب والسياسة باختلاف الاشخاص في الأمزجة ورسوخ العادة ، والأسهل قبولاً لها الأطفال ، لخلوّ نفوسهم عن الأضداد المانعة ، فيجب على أوليائهم تأديبهم بالآداب الحسنة ، وزجرهم عن الأفعال الذميمة ، حتّى تعتاد نفوسهم بذلك ، والمؤدّب الأوّل هو الناموس الإلهي ، والثاني أرباب المعارف الحقّة الراسخون في العلم ،

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر : منها.

٣٤

الحاملون لها ، فيجب تقييدهم بقيود النواميس الإلهيّة ، وتنبيههم بالحكم والمواعظ الشافية.

فصل

لما كان شرف كلّ علم بشرف موضوعه ولذا كان الطب أشرف من الدباغة ، كان هذا العلم أشرف العلوم وأبهاها وأنفعها وأعلاها ، لأنّ موضوعه النفس الناطقة التي هي حقيقة الإنسان ، وهي أشرف أنواع الأكوان ، كما تبيّن في محلّه باوضح بيان ، وقد اشرنا إليه سابقاً ، ولهم عرض عريض يتّصل أوّله بأخسّ الموجودات ، ويلحق آخره بأشرفها ، وغايته إكمالها وإيصالها من أوّل مدارجها إلى أعلى معارجها ، فبه تتمّ الإنسانيّة ، وأيّ علم أشرف ممّا يوصل أخسّ الموجودات إلى أشرفها ، بل هو الاكسير الأعظم ، ولذا بالغ السلف في تدوينه وتعليمه قبل سائر العلوم ، فكما أنّ المريض لايغذّى بالأغذية اللذيذة المقوّية الا بعد نقاء البدن عن الأخلاط الفاسدة ، ولو غذي بها [ قبله ] زاد مرضه ، فكذا النفوس الغير المتخليّة عن ذمائم الأخلاق لا يزيدها التعلّم بسائر العلوم الا فساداً ، كما نشاهد في عصرنا هذا من كون بعض المتزيّين بزيّ العلماء أسوأ حالاً وأعظم شقاوة وأقسى قلباً وأشدّ جرأة على المعاصي ومتابعة الشهوات من الجهّال والعوام ، بل فساد حال هؤلاء ناش في الحقيقة منهم.

فصل

قد تبيّن لك أنّ للنفس الحيوانيّة قوّة محرّكة تنقسم إلى الشهويّة والغضبيّة ، وهي الباعث لها على الفعل بالاختيار والإرادة بعد إدراك مايلائمها بالمدركة ، وللنفس الانسانيّة قوّة عقليّة بها تدرك حقائق الأمور وتميّز الخيرات عن الشرور ، وتميل إلى فعل ما تستحسنه وترك ما تستقبحه ، فهي أيضاً باعثة الفعل والترك بالرويّة والاختيار ، لكنّها تبعث على ملازمة

٣٥

ما هو كمال لها من الاتّصال بعالم الملكوت ، والتشبّه بالملائكة المقدّسين ، والأوليان تبعثانها على ملازمة المآلك والملابس والمناكح والمشارب وفعل الأذيّات ودفع المضارّ والإقدام على الأهوال وشوق التسلّط على الناس.

وأمّا القوى المدركة الحيوانيّة فيمن شأنها الإدراكات الجزئيّة ، وليس من شأنها التحريك والبعث بالارادة ، فهي كالجنود لهذه الثلاث تعرض ماتدركه عليها ، فإن كان الحكم للعاقلة أخذ (١) من مدركاتها مايلائمها وترك ما ينافرها ، وكذا الاخريان.

وفائدة الشهويّة بقاء البدن الذي هو آلة لكمال القوّة العقليّة.

وفائدة الغضبيّة كسر سورة الشهويّة ، فإنها لتمرّدها لاتطيع العاقلة بسهولة ، بخلاف الغضبيّة ، فإنها تتأدب وتطيع بيسر.

قال افلاطون في الغضبية : هي بمنزلة الذهب في اللين والانعطاف ، وفي البهيميّة : هي بمنزلة الحديد في الكثافة والامتناع.

فمن صعب عليه تسخير الشهويّة فليستعن فيه بالغضبيّة ، وليجتهد ولاييأس من روح الله ، فإنّه تعالى وعد المجاهدين في سبيله بالهداية ، فإن طاوعت الشهوية والغضبية العاقلة اتّحدت الثلاثة ، وحصل الأثر المطلوب من كل منها في وقته ، وتحقّق الكمال المطلوب منها برأسه ، بحيث يتخيّل أنّ المؤثّر واحد بلا ضدّ منازع ، ولا جله قيل انّها قوى ثلاثة لنفس واحدة.

وهي المعبّر عنها حينئذ بالمطمئنّة لسكونها تحت حكم العاقلة ، وحينئذ صلحت النفس وقواها ، و ( قد افلح من زكّيها ) (٢) وإن لم تفوّضا إليها الأمر ولم تطاوعاها وقعت المخالفة بينها ، فكلّما صارت العاقلة مغلوبة عنهما بارتكاب المعاصي حصل للنفس لوم وندامة ، وهي المعبّر عنها حينئذ باللوّامة ، إلى أن تصير مغلوبة عنهما بالمرّة مذعنة لهما من دون دفاع

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر أخذت وتركت.

٢ ـ الشمس : ٩.

٣٦

وتجاذب ، فتؤدّي إلى انحلال الآلة وهلاك النفس وقوامها ( وقد خاب من دسّيها ) (١) ، وهي المعبّر عنها بالامّارة.

وحينئذ يصير الرئيس مرؤوساً ، والملك مملوكاً ، وهذا هو الظلم العظيم ، بل الكفر بالله الكريم ، وتعطيل نعمه وأياديه ، ووضع الشيء فيما لا يقتضيه. أعاذنا الله من نقمه بمنّه وجوده وكرمه.

فصل

قد أشرنا إلى أنّ النفوس في بدوا الخلقة خالية عن جميع الأخلاق الا أنّها مستعدّة لها وبتوسّط القوى تكتسبها وترتسم بالصور والأعمال إلى أن تتقوّم بها وتصل إلى ما هو المقصود منها ، ولمّا كانت القوى متخالفة في البعث والتحريك فما لما يغلب أحدها لم تدخل النفس في العالم الذي يخصّها فتدخل مع غلبة العاقلة في الملائكة ، والشهويّة في البهائم ، والغضبيّة في السباع.

واعلم أنّ هذا النزاع إنّما هو بين العاقلة والاخريين ، فإنّ نفوس الحيوانات لفقدان العاقلة يفها ليس فيها تنازع ، والملائكة لفقدان الاخريين في نفوسهم ليس فيها تدافع ، فالجامع لعوامل الكل المخصوص بالصفات المتقابلة هو الإنسان ، ولذا صار أشرف المخلوقات لاحاطته بجميع المراتب المتباينة وسيره في جميع المدارج المتخالفة من الجمادية والنباتية والحيوانية ولملكية ، ثم التجاوز إلى مرتبة الفناء المحض والوحدة الصرفة.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ الله سبحانه خصّ الملك بالعقل دون الشهوة والغضب ، وخصّ الحيوانات بهما دونه ، وشرّف الإنسان بإعطاء الجميع ، فإن انقاد شهوته وغضبه لعقله صار أفضل من الملائكة لوصوله إلى هذه

__________________

١ ـ الشمس : ١٠.

٣٧

المرتبة مع وجود المنازع ، والملائكة ليس لهم مزاحم ». (١)

فصل

الغاية في تهذيب الأخلاق هو الوصول إلى الخير والسعادة.

والخير إمّا غاية الوجود وهو المطلق أو آلة الوصول إليه وهو المضاف ، وهو إما ذاتي الشرف كالعقل والحكمة ، أو ممدوح كأنواع الفضائل والأفعال الجميلة ، أو خي بالقوّة ، وهو الاستعداد لما ذكر ، أو نافع في الوصول إليه كاثروة.

والسعادة وصول الشخص بحركته النفسانيّة إلى كماله ، فتختلف بالنسبة إلى الأشخاص بخلاف الخير لا شتراك الكل فيه ، واختلفوا في اختصاصها بالنفس أو شمولها للبدن أيضاً.

فقيل بالأوّل وأنها محصورة في الفضائل الأربع النفسانية ، لأن حقيقة الانسان عندهم عبارة عن النفس الناطقة والبدان آلة لهان فلو كان صاحب هذه الفضائل الأربع خامل الذكر ناقص الأضاء فقيراً ممتحناً بأنواع المحن والبلاء كان سعيداً الا مرضاً يمنع نفسه عن اقتناء تلك الفضائل الأربع كفساد العقل ورداءة الذهن ، وفرعوا عليه عدم حصول السعادة الحقيقيّة لها الا بعد مفارقتها عن البدن ، وأنّ كدورات الجسمية وأخباث الطبيعة مانعة لها عن انكشاف الحقائق لها كما هو حقّه وقبولها للآثار الحقة والأنوار الالهية وشاغلة لها بالضروريات البدنية والشواغل الجسمية ، وبعد المفارقة ترتفع عنها الحجب الظلمانية وتصفو لقبول الأنوار الحقة الربانية.

وقال المعلم الأوّل وأتباعه : بأنّ من السعادة ما يتعلّق بصحّة البدن وسلامة الحواس واعتدال المزاج ، وما يتعلّق بالأموال والأعوان حتى يتوصّل

__________________

١ ـ جامع السعادات : ١ / ٣٤ ، ونحوه في الوسائل : كتاب الجهاد ، باب وجوب غلبة العقل ، ح ٢.

٣٨

بها إلى الكرام والمواساة وسائر الأفعال الموجبة للمدح ، وما يتعلق بحسن الحديث وذكر الخير حتى يشيع ثناؤه وإحسانه بين الناس فيرغبوا إليه ويهتدوا به ، وما يتعلق بإنجاح المقاصد وحصول المآرب على مقتضى الارادة ، وما يتعلّق بجودة الذني وصحّة الفكر والسلامة عن الخطا في المعارف الحقّة ، فمن حصلت له هذه الخمسة فهو سعيد تام ، والا فهو ناقص.

ثم قالوا : يستقبح العقل أن يكون المعتقد للعقائد الحقة المواظب على الخيرات الجامع لأنواع الفضائل الكامل بذاته المكمّل لغيره الموسوم بخلافة الله تعالى المشغول بإصلاح خلق الله تعالى شقيّاً وبمجرّد مفارقة روحه عن البدن يصير سعيداً ، بل لها مراتب تحصل تدريجاً بقدر السعي والهمّة إلى أن يصل إلى أقصى مراتبها فيصير سعيداً تاماً وإن كان حيّاً ولا ينحل بمفارقة البدن.

وقال المتأخّرون : السعادة على ضربين :

أحدهما : ما يتعلق بالنفس حال تعلّقها بالبدن ، وهو الأدنى ، لأنّ لها في هذه الحالة جنبتين روحانية وجسمانية. والثانية كالآلة للأولى ، فما لم يستجمع فضائلها لا يتيسّر له اقتناء الفضائل الروحانية ، الا أنّ لها أيضاً مرتبتين أدناهما حصول الفضائل الجسمانية لها بالفعل مع الشوق التامّ إلى اقتناء الفضائل النفسانية ، وأعلاهما حصول الفعلية والشوق كليهما لها في الفضائل النفسانية ، الا أنّ التفاتها إلى تنظيم العالم الجسماني واقتناء فضائله بالعرض.

والثاني : ما يتعلّق بالنفس بعد انقطاعها عنه فهي لا ستغنائها حينئذ عن السعادة البدنية لا سعادة لها الا الملكات الفاضلة ومشاهدة الجمال الأقدس والاستغراق في بحار الأنوار الإلية. والاولى لشوبها بالآلام الدنياوية ناقصة كدرة ، ولا يحصل للنفس لا حتجابها بحجاب البدن وتقيّدها بسجن الطبيعة العقل الفعلي والانكشاف التام واللذّة الكاملة الحقيقية الخالية عن

٣٩

الكدورات ، ولو حصل لبعض المتجردين عن جلباب البدن مرّ كالبرق الخاطف ، بخلاف الثانية ، حيث أنّها لخلوصها عن الكدورات المذكورة واتّصالها بعالم القدس يشاهده كما هو حقّه ، وهي حينئذ سعادة أبدية لا انقطاع لها ولازوال ، فهذه أعلى من المرتبة الاولى ، وهن السعادة الحقيقية التامّة ، ولا تحصل إلا بعد مفارقة النفس عن البدن.

واعلم أنّ تفسير السعادة بالعشق أو الحبّ أو الزهد أو غير ذلك من الألفاظ المتداولة في ألسن العرفاء وعلماء الشريعة مبني على كونها من آثار المعارف الحقّة والوصول إلى مرتبة الوحدة الصرفة ومشاهدة تلك الحضرة المقدسة ، فهي من لوازمها الغير المنفكّة عنها ، فالسعادة في الحقيقة ليست الا تلك المعارف الحقّة كما فسّرها الحكماء الالهيّون ، وانّما وقع التعبير عن الملزوم باللازم مجازاً والمدّعى واحد.

تتميم

قيل : أول مراتب السعادة أن يصرف الهمّة نحو مصالح نفسه وبدنه من الأمور الحسّية وما يتّصل بهما بتدبير متوسّط بين الافراط والتفريط ، وهو في هذه الحالة إلى مايلزم أن يفعله أقرب ممّا لابدّ أن يتركه.

ثم أن يصرف الهمّة فيما هو أفضل من إصلاح نفسه وبدنه من غير ملابسة للشهوات الدنيوية والتفات إلى المقتضيات الحسيّة الا بقدر الضرورة ، ولهذا النوع من الفضيلة مراتب غير محصورة لا ختلاف طبائع الناس وعاداتهم ومدارج معرفتهم وفهمهم وشوقهم وعلمهم وصبرهم على المشاقّ وهممهم ، وربما كان للبخت والاتّفاق مدخل فيه أيضاً.

ثم أن يصرف الهمّة نحو الفضيلة الالهيّة وهي آخر مراتبها ، ولها أيضاً مراتب غير محصورة بحسب اختلاف الأشواق والهمم وقوّة الطبع وصحّة العقيدة وهي التشبّه بالمبدأ والاقتداء به في افعاله ، فلا يفعل الا الخير المحض ،

٤٠