كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

به تعالى والاستحقار بمالك الملوك وتحقيره بالنسبة إلى أدنى مملوك (١) ، والتلبيس على خلق الله بتخيّل كونه من أهل التقوى والديانة.

أو في السنن المستحبّة وهو أيضاً مهلك وإن لم يكن كالثاني لوجود الجهة الثانية فيه.

أو في صافها كفعل ما تركه نقصان أو كراهة وبالعكس.

أو في زيادات خارجة عن نفسها كحضور الجماعة قبل القوم وقصد الصف الأوّل وغير ذلك ، وهو أيضاً مذموم.

أو في فعل الأفعال المباحة أو ترك المكروهة أو ما يستتبع الذّم من الناس أو سقوط الوقار في أعينهم كترك العجلة في المشء إذا رآه أحد أو تزيّنه بالملابس الفاخرة خوفاً من نسبتهم له إلى البخل وغير ذلك ، وهذا بعضه مباح وبعضه مستحبّ ، وبعضه واجب لوجوب صيانة المؤمن من عرضه ، فلا يليق بذي المرؤّات ارتكاب الأمور الخسيسة بأنفسهم عند مشاهدة الناس وإن جاز في الخلوة لكونها منافية للمرؤّة ، فتتنافي العدالة أيضاً ، الا أنّها تختلف باختلاف البلاد والأشخاص والأوقات.

وفي الخبر : أنّ الصادق عليه‌السلام نظر إلى رجل من أهل المدينة اشترى لعياله شيئاً وهو يحمله ، فلمّا رآه استحى منه فقال عليه‌السلام : « اشتري لعيالي الشيء وأحمله إليهم ». (٢)

ثمّ إنّه إمّا أن يتجرّد عن قصد القربة بحيث لولاء ترك العمل فهو الأعظم إثماً المبطل للعمل جزماً ، وكذا مع ضعف قصدها عن قصده ، وكذا مع المساواة لظواهر الأخبار الآتية.

__________________

١ ـ في « الف » كتب فوق هذه الجملة هكذا : « التفضيل لأدنى ل » والظاهر أنّ مراد الكاتب أنّ في بعض النسخ : « والتفضيل لأدنى مملوك » بدل « وتحقيره بالنسبة إلى أدنى مملوك » وفي « ب » كتبه أوّلاً ثمّ شطب عليه.

٢ ـ الكافي : ٢ / ١٢٣ ، كتاب الإيمان الكفر ، باب التواضع ، ح ١٠ ، مع اختلاف.

٣٠١

وأمّا مع رجحان قصد القربة حيث لو لم يكن لم يترك العمل لكنّه ممّا يقوّي نشاطه فقيل : إنّه لا يحبط أصل العمل ولكن ينقص الثواب أو يعاقب صاحبه على مقدار قصد القربة.

ويشهد له قول الباقر عليه‌السلام لما سئل عن الرجل يعمل الشيء من الخير فيراه إنسان فيسرّه ذلك : « لا بأس ، ما من أحد الا ويحبّ أن يظهر الله له في الناس الخير إذا لم يكن صنع ذلك لذلك ». (١)

وفي الخبر : أنّ رجلاً قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّي أسرّ العمل لا احبّ أن يطّلع عليه أحد فيطلع عليه فيسرّني ، قال : لك أجران ، أجر السرّ وأجر العلانية. (٢)

والأظهر البطلان ، أيضاً لدلالة الظواهر السمعية على اشتراط الاخلاص في النية والبطلان مع قصد الرياء والنهي عن الشرك في العبادة الموجب للفساد فيها ، كما حقّق في محلّه.

ولا دلالة للخبرين على المدّعى ، بل على صحّة عبادة من أراد إخفاؤها ، لكن سرّ مع حصول الاطّلاع اتّفاقاً ، وهو ممّا لابأس به ، سيّما إذا كان باعث سروره حسن صنع الله به بإظهاره الجميل وستره القبيح.

( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ). (٣)

فكأنّه اعتبر بحسن صنيعه به في الدنيا حسنه به في الآخرة.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما ستر الله على عبد في الدنيا الا ستر عليه في الآخرة ». (٤)

أو رغبة المطّلعين في التأسيّ به فيضاعف له الأجر بقصده السرّ أوّلاً ثم القصد الثاني.

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٢٩٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الرياء ، ح ١٨.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٦٦.

٣ ـ يونس : ٥٨.

٤ ـ المحجة البيضاء : / ١٦٤ ـ ١٦٥ ، وفيه : « على عبد ذنباً في الدنيا ».

٣٠٢

وبهذا يظهر أنّه لو كان سروره من ظهورها ابتداء لأحد هذه المقاصد الصحيحة لم يضرّ أيضاً.

وهذا كما أنّ كتمان المعاصي والاغتمام عن ظهورها كذلك أيضاً ، كما أشرنا إليه سابقاً ، وإن كان الأصل في الاخلاص استواء السرّ والعلانية ، ولذا قيل : عليك بعمل العلانية ، أي ما لو ظهر لم تستح منه الا أنّه ليس شريعة لكلّ وارد ومسلكاً يسلكه كلّ قاصد ، نعم يشترط أن لايكون الباعث على إخفائها التلبيس على الناس باعتقاد الورع فيه ، بل إمّا الانقياد للأمر به أو النهي عن الوقاحة والتهتّك ، أو دلالة ستر الدنيا على الستر ف الآخرة ، أو ايجاب ظهورها الذمّ واللوم المؤلمين للقلب ، والألم شاغل من الحضور والتوجّه إلى ما خلق لأجله ، ولذا جاز إخفاء ما يؤدّي إلى حدوثه مطلقاً نعم كمال الصدق استواء المدح والذمّ ، الا أنّه عزيز الوجود.

أو كون الخلق شهداؤه في الآخرة ، كما ورد.

أو الخوف من قصدهم إيّاه بالأذى ومعاداتهم له إذا اطّلعوا على ذنبه.

أو الخوف من صيرورة السامع بذمّه له عاصياً وهو من كمال الايمان ، ويعرف بمساواة ذمّه وذمّ غيره.

أو الخوف من سقوط وقع المعاصي عن نظره.

أو اقتداء الناس به ويختصّ بمن يقتدى به.

أو مجرّد الحياء الذي هو من كرم الطبع ، فمن جمع بين الفسق والتهتّك كان أسوء حالاً من الفاسق المستور ، ولذا يجوز غيبته. وما اشتهر من كون بعض أفراده من ضعف النفس يراد منه الاستحياء ممّا ليس بقبيح ، بل مستحبّ أو واجب شرعاً كالمامة والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بدون عذر شرعي ، ككون العاصي شائباً ، فقد ورد إجلال ذي الشيبة.

وقد يشتبه الرياء بالحياء كمن طلب من صديقه قرضاً ، فإن الرّد صريحاً من الوقاحة ، والاعطاء لمجرّد انقباض النفس من استشعار قبح ردّه مشافهة من

٣٠٣

دون رغبة في الثواب ولا خوف من الذمّ أو رجاء للمدح ـ حتّى لو كان الطلب على سبيل المراسلة ردّه ـ من محض الحياء. وإن أشكل عليه الردّ للحياء والاعطاء للبخل ، فإن أعطى خوفاً من نسبته إلى البخل أو ذمّ الناس له فقد مزج الحياء والرياء ، وكان الباعث للرياء وإن [ أعطى ] (١) لمجرّد الاخلاص وطلب الثواب بإدخال السرور في قلب أخيه المؤمن وغير ذلك فقد مزجه بالاخلاص.

وكالرياء في المباحات على ما أشير إليه سابقاً ، فربّما يظنّ أنّ الباعث عليه هو الحياء وهو غلط لاختصاصه بالقبائح العقليّة أو الشرعيّة أو العرفيّة ، فليس ذلك الا من الرياء.

ثم الرياء الجليّ ما يبعث على العمل لو لا قصد الثواب ، والخفيّ ما لايبعثه بمجرّده الا أنّه يخفف ما اريد به التقرّب في الخلوة ، ويعرف بالسرور باطّلاع الناس عليه لطلب منزلة في القلوب فيستبعد على نفسه تقصير الناس في إكرامه كأنّه يتقاضاه على عمله مع أنّه لم يطّلع عليه أحد ، فهذا لايخلو عن شوب خفي والا لم يكن وجه لتوقّعه. فعلامة الخلوص أن لا يفرّق بين حضور الانسان والبهيمة.

ثم إنّ الباعث إمّا حبّ المدح أو كراهة الذمّ أو الطمع ، ولما عرفت انّ المدة في إزالة شيء إزالة علله ودواعيه فأنفع شيء في علاجه قطع الثلاثة بما ذكر سابقاً.

ومن جملة العلاج العلمي له التذكّر لما ورد في ذمّه والتشديد فيه من الآيات والأخبار ، ثم لما يدلّ على قبحه من الاعتبار ، قال الله تعالى :

( فويل للمصلّين * الّذين هم عن صلاتهم ساهون * الّذين هم يراءون ويمنعون الماعون ) (٢) ( يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً ) (٣) ( كالّذي

__________________

١ ـ ساقط من « ج ».

٢ ـ الماعون : ٤ ـ ٧.

٣ ـ النساء : ١٤٢.

٣٠٤

ينفق ماله رئاء الناس ». (١)

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ، قيل : وما الشرك الأصغر؟ قال : الرياء ، يقول الله تعالى يوم القيامة للمرائين إذا جازى العباد بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون لهم فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء ». (٢)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يقول الله تعالى : من عمل عملاً أشرك فيه غيري فهو له كلّه وأنا بريء منه ». (٣)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا يقبل الله عملاً فيه مقدار ذرّة من رياء ». (٤)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أدنى الرياء شرك ». (٥)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ المرائي ينادى يوم القيامة يا فاجر! يا غادر يا مرائي! ضلّ عملك وحبط أجرك ، اذهب فخذ أجرك ممّن كنت تعمل له ». (٦)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث طويل : « يصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصيام وحجّ وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر الله وتشيّعه ملائكة السماوات حتّى يقطع الحجب كلّها إلى الله تعالى فيقفون بين يديه ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص الله ، فيقول الله : أنتم الحفظة على عمل عبدي ، وأنا الرقيب على نفسه ، إنه لم يردني بهذا العمل وأراد به غيري فعليه لعنتي ، فيقول الملائكة كلّها : عليه لعنتك ولعنتنا ، وتقول السماوات كلّها : عليه لعنة الله واعنتنا وتلعنه السماوات السبع ومن فيهنّ ». (٧)

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٤.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٤٠ ، مع اختلاف.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٤٠ مع اختلاف وزيادة.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٤١.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٤١.

٦ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٤١.

٧ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٤٣ ـ ١٤٤.

٣٠٥

وقال علي عليه‌السلام : « من عمل لغير الله وكله الله عمله ». (١)

وقال الصادق عليه‌السلام : « من أراد الله بالقليل من عمله أظهر الله له أكثر ممّا أراد ، ومن أراد ، الناس بالكثير ن عمله في تعب من بدنه وسهر من ليله أبى الله عزّوجلّ الا أن يقلّله في أعين من سمعه ». (٢)

وغير ذلك ممّا لا تحصى.

هذا ، مع أنّ العاقل لايرغب فيما لانفع له فيه فضلاً عمّا كان مضرّاً له ، ولو قابل ما يفوته من صلاح القلب وسلب التوفيق والبعد عن الله تعالى والتعرض لمقته وعذابه وتشتّت الهمّ وتفرّق البال في ملاحظة القلوب (٣) حيث إنّ رضاهم غاية لا تدرك ، إذ كلّما رضي به قوم سخطه آخرون ، بما يحصل له من الناس لو سلم له ذلك لم يجده الا ضرراً محضاً خالصاً من شوائب النفع.

على أنّ ايثار رضى الخلائق على رضى الخالق إنّما يتصوّر لجلب نفع أو دفع ضرّ منهم ، وأيّ قدرة لهم عليهما مع كونهم شر كاوه في العجز والحاجة إليه تعالى وكونهم عبيداً مملوكين لا قدرة لهم على صلاح أنفسهم في الدنيا فكيف بغيرهم فيها وفي الأخرى ، والمسخّر لقلوبهم بالمنع والاعطاء هو الله تعالى الرازق لهم والمتكفّل لحوائجهم والمتمّم لنقائصهم بقدر قابليّاتهم ، فلو كان قابلاً لما يطمعه من غيره الّذي لم يصل إليه الا من الله تعالى لما رجّحه عليه لأنّه الفيّاض الذي لايبخل في الاعطاء والناس بالنسبة إليه سواء.

فلو كان قلبه مستنيراً بنور الايمان وصدره مشروحاً بحقيقة الاسلام والايقان وكمال العرفان بحقيقة الوجوب والإمكان وأنّ الواجب تامّ وفوق التمام ، فما سواه إمّا شؤونات لذاته الأعلى ومظاهر لصفاته وأسماءه الحسنى

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٢٩٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الرياء ، ح ١٧ مع زيادة.

٢ ـ الكافي : ٢ / ٢٩٦ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الرياء ، ح ١٣ ، وفيه : « في عين ».

٣ ـ في ج : « في قلوب الخلق ملاحظة » بدل « في ملاحظة القلوب ».

٣٠٦

كما يدّعيه طائفة محقّقون عارفون أو ماهيّات إمكانيّة اعتبارية علماً وعيناً صادرة عنه بوجودات خاصّة ارتباطية بمحض الارادة والمشيّة كما زعمه قوم آخرون ، وأنّه لو لم يكن كذلك لم يتم دعوى كونه فوق التمام ، أو كان ما يستند إليه الأشياء بالنهج المذكور أتمّ منه وأقوى وأكمل وأبهى ، تيقّن بأنه ليس في عالم الوجود سواه وأنّ ماسواه أعدام محضة في نفسها ، فكيف يرفع اليد عنه تعالى ويطمع فيما في يد مثله في الحاجة ، ويرضى لنفسه بالذلّة والمهانة؟ ولو أعطوه شيئاً لم يخل إعطاؤهم عن المنّة والاهانة.

فلو قرّر هذه المطالب في نفسها فترت رغبته وهان ميله إلى الرياء وانقطع بشراشره إلى من إليه يرجع كلّ الأشياء. هذا مع شهادة التجربة بأنّ من آثر رضى الخلائق واقتفى أثر مدحهم وخاف من لومهم وذمّهم أخافه الله منهم وكشف عن سرّه فمقتوه وأبغضوه ، ومن آثر رضاه تعالى وأخلص له في قرباته كشف الله لهم عن إخلاصه وحبّبه إليهم وأطلق ألسنتهم بمدحه وكفّ ألسنة السوء عنه بقدرته النافذة.

ومن جملة معالجاته العملية تعويد نفسه على إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها كما تغلق في الفواحش حتّى لاتنازعه نفسه وإن شقّ عليه ذلك في بداية الأمر ، لكنّه يهون عليه بعد تدريجاً ويساعده لطف الكريم تحقيقاً ، ويمدّه من فضله وكرمه تأييداً وتوفيقاً ، والله لايضيع أجر المحسنين.

وهاهنا فوائد يحسن التنبيه عليها :

الأولى : لو عقد العمل على الإخلاص واستمرّ عليه إليه الفراغ لم يحبطه السرور بظهوره بعده لا من قبله ، ولا يعصي به أيضاً إن كان لأحد المقاصد الصحيحة والا كان عاصياً وإن كان من نفسه بالتحدّث بعده قيل بإحباطه ، لأنّ حبّ التحدّث يدلّ على انعقاد خفيّ من الرياء حال الاشتغال ، وايّد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمن قال : إنّي صمت الدهر : « لاصمت ولا

٣٠٧

أفطرت ». (١)

وقول ابن مسعود لمن قال : قرأت البارحة سورة البقرة : « ذلك حظّه منها ». (٢)

وفيه نظر ، لأنّ المؤاخذة على الخفي الذي لايشعر به صاحبه تكليف بالمحال أو بما يلزم منه الحرج المنفي.

وليس في الخبرين كون الانكار لأجل المفروض ، فلعلّه لشيء آخر.

نعم يدل عليه قول الباقر عليه‌السلام : « الإبقاء على العمل أشدّ من العمل ، قيل : وما الإبقاء على العمل؟ قال : يصل الرجل بصلة وينفق لله بنفقة فيكتب له سرّاً ثم يذكرها فتمحى وتكتب له علانية ، ثم يذكرها فتمحى وتكتب له رياء ». (٣)

والحق أنّه وإن ارتفع به اشتغال الذمّة ظاهراً فلا يجب عليه القضاء والاعادة الا أنّه لايوجر عليه ولايرفع بسببه في ميزان عمله ، بل يذمّ ويعاتب عليه.

ولو كان في الأثناء فإن كان بحيث لو لم يحدث أتمّ على إخلاصه ، لكن كان سروره لمقصد غير صحيح ، فقيل بالاثم والابطال للعمومات.

وفيه نظر ، لأنّ المتبادر من الإشراك أو كون العمل لغير الله هو كونه باعثاً أو شريكاً في البعث وليس الأمر كذلك ، فهو كقصد التبريد بالوضوء إذا لم يكن هو الباعث عليه ، فالظاهر أنّه يرتفع به اشتغال الذمّة ، لكن ليس بذاك المرفوع في ميزان الحسنات.

وإن كان باعثاً فهو الرياء المحرّم سواء كان راجحاً أو مرجوحاً أو مساوياً.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٦٦.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٦٦.

٣ ـ الكافي : ٢ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الرياء ، ح ١٦ مع اختلاف.

٣٠٨

ثم لا يذهب عليك أنّ هذا يختصّ بالعبادة المركّبة من أجزاء يتوقّف صحّتها على صحّة كلّ منها كالصلاة والصيام ، وأمّا ما لا يكون أجزاؤه كذلك كالصدقة والقراءة ، فليس كذلك ، بل يختصّ الفساد بما طرء عليه الرياء دون السابق. ولو انعكس الأمر بأن عقد على الرياء ثم ندم في الأثناء فالحكم متّحد في جميع الشقوق.

الثّانية : اختلفت الأخبار والأقوال في ترجيح عمل (١) السرّ على العلانية وبالعكس وأنت في سعة من استخلاص نفسك بعدما نبّهناك على كون المناط الأصلي في الصّحة والفساد هو القصد ، فإنّ الأعمال بالنيّات ، وإنّ لكلّ امرىء ما نوى ، فما كان أبعد عن شوائب الرياء وأقرب إلى الاخلاص كان أرفع وأثقل في ميزان الأمال سرّاً كان أو علانية ، وما كان عن الإخلاص أبعد كان خفيفاً فيه كذلك فهما سيّان بالذات.

نعم لما كانت بواعث الرياء في الاعلان أكثر وأجلى مع نهاية غموض شعبها وخفاء مداركها مع ضعف أغلب النفوس عن مممدافعتها ولابدّ للحكيم من إجراء الحكم على وفق طباع النفوس الضعيفة رفقاً بها كما أشرنا إليه في بحث الفقر والغنى ، فلذا فضّل الاسرار على الاعلان ، لكنّه مرجّح عرضي يحصل بالنسبة إلى بعض الأشخاص لا في جميع الأحيان ، كما أنّ من كان عالماً بشعبه بأسرها فطناً بمزالق أقدام العباد في مواقعها وكانت له نفس قويّة لايتفاوت بالنسبة إليها الاسرار والأعلان واقتداء الناس به وبغيره من الأمثال والأقران يكون الاعلان بالنسبة إليه أفضل حتّى يرغب الناس بسببه إلى الخيرات ويتنبّهوا على الاقتداء به في الطاعات.

ويظهر لك بهذا وجه الجمع بينها ولو تعارض فائدة اقتداء الناس به بغائلة الشوائب الخفيّة من الرياء كان الاسرار أرجح وأتمّ ، لأنّ محافظة نفسه عن الهلاك أهمّ من إرشاد غيره حتّى لايكون حسرته في يوم القيامة أشدّ

__________________

١ ـ في « ج » : علل.

٣٠٩

وأدوم.

الثالثة : لابدّ للسالك أن يعلم أنّ الشيطان باذل منتهى جهده بأقصى جدّه ـ لشدّة عداوته بصيرورته طريداً لأجله ـ في حرمانه عن السعادات المنحصر حصولها له في العبادات لما عرفت من أنّها هي التي بها يحصل التقرّب إلى الله تعالى حتّى يحبّه فيصير سمعه وبصره ويده ورجله ، وأنها الباب الذي به يفوز المرء بالمعرفة الحقيقية المخلوق لأجلها فهي السعادة الواقعيّة ، فكيف لايبذل جهده في حرمانه عنها وخذلانه وقد حلف بعزّته سبحانه وعظمة شأنه ليغوينّهم أجمعين الا المخلصين من عباده الفائزين عرفانه فيدعوه أوّلاً إلى ترك العمل ، فإن لم يجبه دعاه إلى الرياء ثم بعد يأسه عنه يقول : هنا مظنة رياء لاينفع معه العمل فالأحسن لك تركه ، فكما يجب للسالك ترك إجابته في الأوّلين فكذا الثالث.

فإن كان مطلوبة طاعة غير متعدّية إلى الغير كالصلاة والصوم والحجّ ، فإن كان باعثه الرياء من أوّل الأمر لم يشرع فيه الا بعد خلاصه عن هذه الغائلة ، وإن دخله بعد العقد أو في أثنائه فلا ينبغي له الترك لأنّه حصل له باعث دينيّ أوّلاً وباعث الرياء طار فليجاهد في دفعه وتحصيل الاخلاص وقهر نفسه عليه بلامعالجات السابقة ، فإنّه إذا كان في مقام المجاهدة مع نفسه وقهرها على ذلك سامحه الله بعظيم عفوه ورحمته ودفع عنه كيد الشيطان بجسيم منّه ورأفته.

وإن كان ممّا (١) لا يتعدّى كالامامة والوعظ والقضاء والتدريس والافتاء ، ففوائدها جسيمة وغوائلها عظيمة ، فمن منّ الله عليه بالوصل إلى مرتبة ينتفع به الناس حقيقة فإن كان ذانفس قدسيّة وقوّة عقليّة قويّة بحيث يكون الخلق في نظره ـ لاشتغاله بمراتب الاخلاص ومعرفته بعظمة الله سبحانه ـ كالبهائم أو دونها ، وجودها كعدمها ـ وما أقلّ من هذا شأنه ـ كان اللازم لمثله

__________________

١ ـ كذا في النسخ ، والظاهر زيادة « لا ».

٣١٠

التزام هذه المناصب حتى لايكون ممّن ألجمه الله بلجام من نار ، بل يستحقّ بهدايته للناس إلى سبيل ربّهم أعظم المثوبات في دار القرار. وإن لم يأمن على نفسه فالأحوط له تركها ، ولذا ورد ما ورد في عظم خطرها وآفتها ، ونقل التجنّب التامّ عن السلف عنها والاهتمام مهما أمكن في مدافعتها ، وقد أشرنا إلى بعض مايمكن الاشارة إليه في هذا الكتاب من ذمّ علماء السوء ونقل ما ورد في شأنهم ، فإن كنت منصفاً سالكاً سبيل ربّك كفتك الاشارة ، والا فلا يتأتّى لك الاهتداء ولو بألف عبارة.

ومن علامة القسم الأوّل عدم التفاوت في طريق التكلّم مع حضور الأكابر من أهل الدنيا في مجلسه وعدمه تغيّر حاله في تكلّمه ، ولو حصل من مثله أو من هو أحسن منه في فنّه وقبله الناس أكثر منه فرح به ولم يحسده وغير ذلك ممّا لا يخفى على الناظر البصير.

الرابعة : لو صار صدور العمل من واحد سبباً لصدوره عن الآخر لم يكن ذلك من الآخر رياء ، فلو حضرمن ليس من عادته التهجّد مثلاً مجلس الصلحاء فشاهدهم يتهجّدون فرغب فيه وتهجّد معهم ولو في ذلك المجلس خاصّة لم يكن رياء الا أن يكون قصده التلبيس عليهم والفرار من ذمّهم ولومهم أو الرغبة في مدحهم ، فإنّ الرياء كما يبعث على العمل فكذا الدين ، فإنّ كلّ مسلم آمن بالله ورسوله يرغب إلى الطاعات والأعمال الصالحة لولا الغفلة أو عوائق الدنيا.

الخامسة : الوساوس الحادثة في النفس المحدثة في القلب ميلاً خفيّاً إلى الرياء لاتفسد العبادة مع الكراهة لذلك الميل ومدافعة الشيطان في دفعها ، لأنّ الله لايكلّف عباده الا بما يطيقونه ويقدرون عليه ، وغايته المقابلة بالكراهة والمجاهدة بتذكّر المعالجات المقرّرة. والأخبار دلت أيضاً على عدم المؤاخذة على الوساوس كما أشرنا إليه فيما سبق. لكن قد عرفت أنّ السالك لابدّ له من المجاهدة في قلع الوساوس كلية بما أشير إليه سابقاً.

٣١١

ومراتبه في خصوص المقام أربعة أدناها الاشتغال بالمجادلة مع الشيطان في دفعها وإطاعتها إلى الفراغ ، وهذا مانع عن الحضور والتوجّه التامّ إلى الله تعالى وفيه إجابة ما لغرض الشيطان وتفريج لغمّه بصدّه إيّاه عن التوجّه ، فحاله كالذي أراد التوجّه إلى مجلس خير ينال به فائدة فعارضه فاسق في الطريق يدعوه إلى مجلس فسق فلم يجبه فلمّا أيس منه أطال معه الجدال حتّى يحرمه عن الخير ، فهو يظنّ أنّه مصلحة له في ردّ ضالّ عن ضلاله مع أنّ فيه تحصيلاً لمرامه الذي هو حرمانه عن علوّ مقامه.

ثم الاقتصار على تكذيبه ودفعه من غير اشتغال بالمجادلة ، بل يصرف الفكر بعده إلى التوجّه والحضور بالقدر الميسور ، فهو كالذي توقّف في دفع الفاسق الداعي له إلى مجلس الفسق بأدنى الدفع ، ثم ذهب ماشياً في حاجته ففيه أيضاً إجابة ما لما يتمنّاه منه في دعوته.

ثم عقد الضمير على كراهة الرياء بدون الاشتغال بالتكذيب ، فمثله كالذي لم يقف عن مشيه بدعوة الفاسق ، بل استمرّ على ما كان عليه فحرمه عن مدعاه وآيسه عمّا كان يتمنّاه.

ثم مقابلة وسوسته بفعل خير آخر وازدياد في الاخلاص والتوجّه رغماً لأنفه وحرصاً فيما يقنّطه بل يغيظه فلا يعوّد إلى وسوسة أخرى خوفاً من اقتنائه لفائدة أخرى ، فمثله كالذي يستعجل في مشيه بعد دعوة الفاسق ، وهذا أعلى مراتبه المفيد في دفع وساوسه ، فينبغي للسالك أن يعود نفسه عليه في جميع ملكاته وأخلاقه.

واعلم أنّه قد يحدث الرياء في كيفية العبادة كالتأنّي والخضوع ، فيكتفي ناقص الحظّ من العرفان في دفعه بتركها ، وهذا كالأوّل ، فإنّه وإن دفعه بذلك عمّا دعاه إليه من الرياء الا أنّه أجابه فيما أراد منه من حرمانه عن المقام الأعلى.

٣١٢

فصل

النفاق إن فسّر بمخالفة السر للعلن مطلقاً فهو أعمّ من الرياء مطلقاً ، وإن فسّر بمخالفته له في خصوص مصاحبة الناس ومعاشرتهم فبينهما عموم من وجه ، وعلى كلّ حال إن كان باعثه الجبن كان من رذائل الغضب من طرف التفريط ، وإن كان طلب الجاه كان منهما من طرف الافراط ، وإن كان الطمع في المناكح والأموال كان من رذائل الشهوة ، وهو من المهلكات العظيمة.

فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القامة ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يجيء يوم القيامة ذوالوجهين دالعاً لسانه في قفاه وآخر من قدّامه يلتهبان ناراً حتّى يلهبان خدّه ... الحديث ». (٢)

وغير ذلك من الأخبار.

وليس منه المجاملة مع المتعاديين فعلاً وقولاً ، إذا كان صادقاً فيما يظهره معهما وإن لم يكن من الصداقة التامّة. وكذا التقيّة ممّن يخاف شرّه بامجاملة معه وإظهار مدح لايعتقده فيه ليس من النفاق ، بل هي المداراة الممدوحة.

قال الله تعالى : ( ادفع بالّتي هي أحسن السيئة ) (٣) الا أنّه مختصّ بحالة الاحتياج والضرورة ، فلو فعله مع الاستغناء عن معاشرته ومجاملته كان نفاقاً محرّماً.

وعلاجه العلمي تذكّر ما ورد في ذمّه من الآيات والأخبار ، والعملي تقديم التروّي فعلاً وقولاً حتّى يسهل عليه حفظ نفسه عنه.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٨٠.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٨٠ ، مع زيادة نقلاً عن الصدوق رحمه‌الله.

٣ ـ المؤمنون : ٩٦.

٣١٣

فصل

الوقاحة عدم مبالاة النفس وانفعالها من ارتكاب القبائح وهو من رداءة قوّتي الشهوة والغضب ، وقد أشرنا إلى كونها من رذائل المهلكات.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لاإيمان لمن لا حياء له ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الايمان والحياء مقرونان في قرن واحد ، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه ». (٢)

وهي ممّا يتنفّر الطباع عن صاحبها ، وتشتمل على مهانة النفس وتستتبع كثيراً من الرذائل.

وعلاجه : التذكّر لقباحته وما يترتّب عليه من المفاسد ، ثم تكليف نفسه على تركه والالتزام بآثار الحياء الذي هو ضدّه حتّى يعتاد عليه.

فصل

طول الأمل ـ أي تقدير البقاء إلى مدّة يحتاج فيها إلى ما هو حريص في جمعه راغب في بقائه من الأهل والمال وغيرهما ـ من نتائج حبّ الدنيا ، فإنّ الانسان لمّا حصل له الانس والالتذاذ بشهواتها برهة من الزمان مضافاً إلى الميل الطبيعي ثقل على قلبه فراقها فكرهها وكاره الشيء يدفعه ويدفع أسبابه عن نفسه ويمنّيها بما يوافق مراده من البقاء فيها ووالتمتّع منها ويقرّرها في نفسه ويعكف عن (على ظ) فكر تحصيل أسبابه ولوازمه ودفع مونعه وعوائقه ، فيلهو عن ذكر الفناء والممات ولئن سنح له خواطر الاستعداد له في بعض الأوقات أقنع نفسه بالتسويف إلى أن يخطفه فجأة فينقطع إذذاك حيلته ويعظم حينئذ بليّته ويدوم مصيبته وحسرته ، ولايتصوّر المسوّف أنّ من يدعوه إلى الغد يكون معه غداً أيضاً ، وإنّما يزداد بطول المدّة رسوخاً وعلاقة

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ١٠٦ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الحياء ، ح ٥ ، عن الصادق عليه‌السلام.

٢ ـ الكافي : ٢ / ١٠٦ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الحياء ، ح ٤ ، عن أحدهما عليهم‌السلام.

٣١٤

فيصعب بسببه قطعها ويعظم عليه قلعها وقمعها.

قال بعض الأعلام : إنّه من رذائل قوّتي الشهوية والعاقلة ، وفسّره باعتقاد البقاء إلى مدّة كذا ، ففرّع عليه أن الاعتقاد يرجع إلى الجهل المتعلّق بالعاقلة والحبّ لتوابع البقاء الذي هو من شعب حبّ الدنيا. (١)

وفيه نظر ، إذ ليس معناه الاعتقاد فإنّك ترى كلّ أحد مبتلى بهذه الخصلة الذميمة الا من عصمه الله عن أدناس الطبيعة ، ولو سئل أنّك تعتقد أي تتيقّن بالبقاء إلى الغد أنكره ، فالاحتمال ممّا لايدفعه أحد عن نفسه ، نعم يرجّحون طرف البقاء إمّا بوجود علاماته كالصحة والشباب وقوّة البنية وغيرها ، وإمّا بالميل الطبيعي إلى الحياة وكراهة فراق ما استأنسوا به من اللذات ، فيجعلون احتمال الفجأة من أضعف الاحتمالات ، وهم وإن كانوا مخطئين في الترجيح المزبور لكن ليس باعثه الجهل ، فإنّ كلّ أحد يعلم بالعيان أنّه لابدّ له من الممات وأنّه لو لم يكن في الشبّان والصبيان أكثر لم يكن من الشيوخ أقلّ ، فهذا أمر لايحتاج إلى الفكر حتّى يجهله بعض الناس لكونه من المحسوسات ، بل الباعث ما ذكرناه من حبّ الدنيا والانس بلذّاتها ، ولذا ترى طول أمل الشيوخ والمعمّرين أكثر ، فهو من نتائجه وفروعه خاصّة ، نعم لو فسّر اليقين بثاني معنييه (٢) كانت هذه ناشئة عن عدمه ، لكن إطلاق الجهل عليه خلاف المصطلح في المحاورات كالعلم واليقين والاعتقاد ، مضافاً إلى أنّه يلزم منه كون جميع الرذائل الشهوية كذلك ، فالأحسن عدّه من رذائل الشهوية خاصّة ، ومن نتائج حبّ المال كالحرص.

وعلى كلّ حال فمفاسده غير خفيّة لكون جميع المعاصي ناشئة في الحقيقة من هذه الملكة الخبيثة وكلّ تقصير في عبادة أو تحصيل فضيلة ينال بها السعادة ناشىء من هذه الرذيلة.

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٣ / ٣٢ ـ ٣٣.

٢ ـ مرّ ص ١٢٧.

٣١٥

والأخبار في ذمّها ومدح ضدّها كثيرة.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ أشدّ ما أخاف عليكم خصلتان اتّباع الهوى وطول الأمل ، فأمّا اتباع الهوى فإنه يعدل عن الحقّ ، وأمّا طول الأمل فإنّه يحبّب الدنيا ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يشيب ابن آدم ويشبّ فيه خصلتان الحرص وطول الأمل ... الحديث ». (٢)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيها الناس! أما تستحيون من الله؟ قالوا : وماذا يا رسول الله؟ قال : تجمعون ما لا تأكلون وتأملون ما لا تدركون وتبنون ما لا تسكنون ». (٣) وغير ذلك.

ثم الناس فيه على مراتب :

فبعضهم يأمل بقاءه أبداً بخوضه في غمرات الدنيا وزخارفها ، وليس له من الآخرة نصيب.

ومنهم من يأمل بقاءه إلى أقصى الممكن في حقّه ، وهو أيضاً يحبّ الدنيا ويهتمّ في جمع زخارفها بما يمكن له من المسالك ، ويسعى في طلب ما يكفيه لتلك المدّة ، أو أزيد من ذلك.

ومنهم من يكون أمله أهون من ذلك ، إلى أن يصل إلى من لا يأمل أزيد من يومه ، فلا يستعدّ لغده.

وأعلى منه من يكون الموت نصب عينيه ، كأنّه يراقبه.

سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بعض أصحابه عن حقيقة إيمانه ، فقال : « ما خطوت خطوة الا ظننت أنّي لا أتبعها أخرى ». (٤)

__________________

١ ـ المحجة البيضاء :

٢ ـ جامع السعادات ، ٢ / ١٠٠ وراجع الخصال : ١ / ٧٣ ، باب الاثنين ، ح ١١٢ و ١١٣ ، والمحجة البيضاء : ٦ / ٥٠ ، تجديد نحوه.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٨ / ٢٤٥.

٤ ـ جامع السعادات : ٣ / ٣٧.

٣١٦

وإن أردت اختبار الناس أو نفسك في مقدار طول الأمل فاعتبره بما يصدر من الأعمال في جمع أسباب المعاش والأموال وشتات البال من الديون والمحاسبات والمعاملات مع الناس والاضطراب معه من خوف الممات قبل جمعها والحرص في اقتناء ما يتزّود للمعاد في يوم القيام وادّخار ما ينتفع به في دار المقام.

وعلاجه التذكّر لما يترتّب عليه من المفاسد والتأمّل فيما ورد في ذمّه والاعتبار بمن مضى من بني نوعه المشاركين له في طول الآمال ، حبث لم ينتج الا الحسرة والندامة في آخر الحال.

وأنفع شيء في علاجه : ذكر الموت ، ولذا كثر الحثّ عليه في الأخبار.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أكثروا من ذكر هادم اللذّات ، قيل : وما هو يارسول الله؟ قال : الموت ... الحديث ». (١)

وقيل له صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل يحشر مع الشهداء أحد؟ قال : « هل يحشر مع الشهداء أحد؟ قال : نعم ، من تذكّر الموت في اليوم والليلة عشرين مرّة ». (٢)

وقال : « كفى بالموت واعظا »ً. (٣)

فواعجباً ممّن يغفل عن الموت وينساه ، مع أنّه أظهر شيء وأجلاه وأسرع عدوّ يلحقه ويغشاه.

قال الصادق عليه‌السلام : « ما خلق الله يقيناً لاشكّ فيه أشبه بشكّ لا يقين فيه من الموت ». (٤)

فلعمري إنّه من الدواهي العظمى ولو لم يكن الا هو لكفى ، كيف وما بعده أعظم وأدهى ، فما أبعد الانسان عن الضحك والسرور لو علم أنّ

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٨ / ٢٤٢ نقلاً عن مصباح الشريعة (الباب ٨٣ في ذكر الموت).

٢ ـ المحجة البيضاء : ٨ / ٢٤٠.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٨ / ٢٤١.

٤ ـ الخصال : ١ / ١٤ ، باب الواحد ، ح ٤٨ ، وفيه : « لم يخلق الله » ، وفي النسخ : « أشبه بشك الأنفاس » وصحّحناه.

٣١٧

مضجعه التراب ومسكنه القبور ، وما أحراه بالبكاء والهموم والأحزان لو علم أنّ جليسه العقارب والحيّات والديدان ، فبالحريّ أن يطيل الحسرة ويكثر الفكره ويسكب العبرة.

قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « ما أنزل الموت حقّ منزلته من عدّ غداً من أجله ». (١)

وكيف لا يكون كذلك وهو في كلّ آن يمضي من عمره يقرب من الممات ويشبه الأموات.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو أنّ البهائم تعلم ما تعلمون ما أكلتم منها سميناً ». (٢)

واعلم أنّ ذكر الموت وفكره إنّما ينفع مع تفريغ القلب عمّا سواه كالذي يعزم على السفر حيث لاهمّ له الا الاستعداد له ، فمن تفكّر بهذا الطريق وكرّر التفكّر مع التعميق قلّ سروره بالدنيا وشهواتها ، وهان أمله وانكسر قلبه عن لذّاتها وأمّا القلوب المشغولة بها فهي بزخارفها مسرورة وبالتعلّق بها مغرورة ، فالعاقل من جرّد نفسه للمنيّة وهيّأه لأنواع الرزيّة ، وأكثر من ذكر نظرائه الذين نقلوا مع طول آمالهم وانتظام أحوالهم من أنس العشرة إلى وحشة الهجرة ، ومن فسيح القصور إلى مضيق القبور ، ومن الحور والغلمان إلى العقارب والديدان ، ومن النظافة وحسن الصور إلى العفونة وقبح المنظر وخلوّ المساكن والديار منهم وانقطاع الأخبار والآثار عنهم مع ما كانوا فيه من النشاط والسرور في دار الغرور والغفلة عن هذه الأهوال والطمأنينة بحسن الحال والحرص في تدبير المعاش وجمع الأموال والركون إلى الشباب وجمع الأصحاب ، فلو تفكّر في جزئيات حال واحد واحد من أقرانه وما كان كل منهم فيه في عصره وأوانه واعتبر بأنّه أيضاً من أمثالهم وسيصير حاله كحالهم وأكثر من إتيان المقابر وتشييع الجنائز وعيادة

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٨ / ٢٤٢.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٨ / ٢٤٠ ، وفيه : « لو تعالم البهائم من الموت ما تعلمون ».

٣١٨

المرضى وغير ذلك ممّا يذكّر الموت الفناء وجدّدها دائماً إلى أن يصير نصب العين حصل له التجافي عن دار الغرور ، وانقطع صرف أمله إلى دار البقاء والسرور في البين.

ثم الناس بين منهمك في الدنيا وشهواتها خائض في غمرات لذّاتها ، وبين تائب مبتديء وعارف منتهي. (١)

والأوّل لا يذكر الا ذمّاً لصدّه إيّاه عن محبوبه وكونه حاجباً له عن مطلوبه ، بل يفرّ منه ويعاديه وإن كان ولابدّ يلاقيه فلا يستفيد من ذكره الا بعداً ولا يتذكّر نصحاً ولا عهداً.

والثاني يستعدّ بذكره لاقتناء الخيرات والمسارعة إلى تحصيل فضائل الملكات ، ويكرهه خوفاً من أن يلقاه قبل الوصول إلى ما يريده ويتمنّاه وهو في هذا الحال معذور ، ولا يعدّ من طلّاب دار الغرور ولا يحسب من الذين كرهوا لقاء الله فكره لقاءهم واختار لأجل ذلك بقاءهم ، وعلامته الاشتغال بما يعدّه للمات وتهيئة زاد معاده قبل الفوات.

وأمّا الثالث فإنّما يذكره ويثنى عليه حبّاً له وشوقاً منه إليه إذ فيه لقاء الحبيب والمحبّ لاينسى ميعاد اللقاء ، ويستبطىء مجيئه غاية الاستبطاء ويعدّه فوزاً ونجاحاً ويعتقده لنفسه خيراً وصلاحاً ، لما فيه من الخلاص عن سجن الطبيعة ومشاهدة بني نوعه بأفعالهم الشنيعة والوصول إلى الدرجات العالية الرفيعة. ولذا قال علي عليه‌السلام : « فزت وربّ الكعبة ». (٢)

وأعلى منه من لايختار لنفسه شيئاً ، بل يفوّض أمره إلى الحبيب ويرضى بما قدّر له من الحظّ والنصيب ، كما قال مولانا الباقر عليه‌السلام في جواب مارضية لنفسه جابر (٣) وهو درجة التسليم والرضا وهو غاية مقصد أهل السلوك وكمّل العرفاء.

__________________

١ ـ كذا ، والصحيح : منته.

٢ ـ البحار : ٤١ / ٢ ، تاريخ أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، باب يقينه ، ح ٤.

٣ ـ سيأتي في ص ٣٤٩.

٣١٩

فصل

الغرور انخداع النفس بميلها [ ما يوافق ] (١) الهوى بسبب شبهة فاسدة تزيّنت لها.

وقد قيل : إنّه مركبّ من الاعتقاد المخالف للواقع وحبّ مقتضيات الشهوة والغضب كالواعظ الذي يقصد بوعظه طلب الجاه حيث يعتقد أنّه يستحقّ به الثواب مع رغبته إليه فيكون من رذائل العاقلة (٢) وإحدى القوتين الاخريين. (٣)

وفيه نظر ، فإنّ الواعظ المزبور قد أغفلته نفسه عن كون فعله مضراً له لقصده المنزلة فيه ، ولبّست عليه الأمر فزيّنت في نظره أنّه لكونه سبباً لهداية الناس يستحقّ به الأجر والثواب فهو وإن كان صادقاً في ذلك الا أنّه مخطىء في خصوص ما اعتقده موجباً للثواب من فعله لغفلته عن حبّ الجاه المستكنّ في قلبه ، فهذا الاعتقاد الفاسد الصادر عن الغفلة يسمّى غروراً وما استكنّ في قلبه من الحبّ المذكور لادخل له في حقيقة الغرور.

والحاصل الغرور اعتقاد كون ما قصد به الجاه موجباً للثواب دون المركب منه ومن حبّه له ، والحقّ انّه راجع إلى الجهل المركّب فيكون من رذائل القوّة العاقلة خاصّة ، وهذه الخصلة من أمّهات الخبائث ، ولذا ورد النهي الشديد عنه.

قال الله تعالى : ( فلا تغرّنكم الحيوة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور ). (٤)

وسميّت الدنيا دار غرور لتلبيسها الأمر على أبنائها وإغفالها إيّاهم عن مضارّها وعن فعل ما فيه خيرهم وصلاحهم.

__________________

١ ـ ساقط من « ج ».

٢ ـ في « ج » : « الغضبيّة » بدل « العاقلة ».

٣ ـ جامع السعادات : ٣ / ٤.

٤ ـ لقمان : ٣٣.

٣٢٠