كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

ونذكر الآن حكم امتزاج قصد التقرّب بشيء آخر من الرياء وغيره من حظوظ النفس كالذي يحجّ ليصحّ مزاجه بحركة السفر ، ويتوضّا للتبريد ويصوم للحمية ويصلّي باللّيل دفعاً للنعاس عن نفسه ويغزو ليمارس الحرب ويتعلّم العلم ليسهل عليه طلب المال أو يعتزّ بين الناس ونحو ذلك ، فمهما كان الباعث قصد القربة وانضمّت إليه خطرة ممّا ذكر حتى خفّ عليه العمل بسببها فقد خرج عمله عن حدّ الإخلاص وتطرّق إليه الشرك ، وقد قال الله تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً ). (١)

وبالجملة ؛ حظوظ الدنيا قليلها وكثيرها إذا تطرّقت إلى العمل تكدّر بها صفوته وزال إخلاصه والإنسان منغمس في الشهوات ، قلّما ينفكّ فعل منه عن حظوظ عاجلة ، ومهما كان الباعث نفسها اشتدّ الأمر على صاحبها فيها.

ثم إنّ هذه الشوائب كما أشير إليها في النيّة إمّا موافقة أو مشاركة أو معينة للباعث الديني ، والإخلاص تخليص العمل عنها بأسرها وهو لايتمّ الا لمستهتر بحبّ الله مستغرق الهمّ بالآخرة حتّى لايكون رغبته في الأكل والشرب الا من حيث التقوّي بهما على عبادته تعالى والا فبابه بالنسبة إليه مسدود إذ تكتسب جميع أفعاله وحركاته الصفة الغالبة في قلبه المهتمّ بها فلا تتمّ له عبادة الا نادراً ، ولذا قال سيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ سئل عن الإخلاص : « أن تقول ربّي الله ثم تستقيم كما أمرت » (٢) أي لاتعبد هواك ونفسك ولاتعبد الا ربّك وتستقيم في عبادته كما أمرت ، فعلاج تحصيله كسر الحظوظ الدنيوية وقطع الطمع عنها بحيث يغلب على القلب التجرّد للآخرة ، فكم من عمل يتعب فيه الإنسان ويظنّ فيه الخلوص وهو مغرور لايدري وجه الآفة فيه فإنّه

__________________

١ ـ الكهف : ١١٠.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٨ / ١٣٣.

٥٤١

دقيق غامض ، وهم المرادون بقوله :

( قل هل ننبّئكم بلأخسرين أعمالاً ) (١) ( وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون ). (٢)

فلابدّ للعبد من التفقّد الشديد والمراقبة لهذه الدقائق حتى لايلتحق بأتباع الشياطين من حيث لايشعر.

تنبيه

أعظم ما يشوّش لا إخلاص هو الرياء الظاهر كان يصلّي الرجل مخلصاً فيدخل جماعة فيقول له الشيطان : حسّن صلاتك حتى ينظروا إليك بعين الوقار والصلاح ، فلا يغتابوك ولا يستحقروا بك.

ثم أن يفهم ذلك فيحترز منه ولا يلتفت إليه ويستمرّ في صلاته كما كان فيأتيه في معرض النصيحة فيقول : أنت متبوع ومنظور إليه فإذا اقتدى بك الناس كان لك ثواب أعمالهم إن أحسنت وعليك الوزور وإن أسأت ، فأحسن عملك حتّى يتأسّوا بك وهذا رياء غامض لايدركه كثير من الناس فإنّه مبطل للإخلاص لأنّ الخشوع إذا كان خيراً يرضاه لغيره فكيف لم يرض به لنفسه في الخلوة فليست نفس غيره أعزّ عليه من نفسه ، فالمقتدى به من استقام في نفسه واستنار قلبه فأنتشر نوره إلى غيره. وأمّا هذا فهو منافق ملبّس يطالب بتلبيسه ، وإن أثيب من اتّبعه.

ثم أن يتنبّه لذلك فيحسن صلاته في الخلاء على الوجه الذي يرتضيها في الملأ حتى لايقع تفاوت بين خلائه وملئه ، وهذا أغمض أنواع الرياء ، لأنّ تحسين صلاته في الخلوة إنّما كان لأجل تحسينه في الملأ ، والإخلاص مساواة الخلق مع البهائم في نظره وهذا يشقّ على نفسه إساءة الصلاة في نظر الناس ، ثم يستحيي أن يكون في صورة المرائين فهو مشغول الهمّ بالخلق في

__________________

١ ـ الكهف : ١٠٢.

٢ ـ الزمر : ٤٧.

٥٤٢

الخلاء والملأ جميعاً.

ثم أن يتنبّه لذلك فلا يلتت إليه الا أنّه لما نظر إليه الناس قال له الشيطان : تفكّر في عظمه الله وجلاله ومن أنت واقف بين يديه واستح من أن ينظر إليك وأنت غافل عنه ، فيحضر بذلك قلبه وتخشع جوارحه ويظن أنّه الإخلاص مع أنّه عين المكر والخداع ، فإنّه لو كان كذلك لكانت هذه الخطرة تخطر في الخلوة أيضاً ، ولايختصّ بحالة حضور الناس.

وعلامة الأمن من هذه الآفات أن يكون هذا الخاطر ممّا يألفه في الخلاء كما في الملأ ويكون حضور الناس عنده كالبهائم ، فمادام لم يفرق بينهما ليس خارجاً عن شوب الشرك وإن كان خفيّاً ، فإنّ بعض مراتبه أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء ، ولايسلم منه الا من سعد بعصمة الله وحسن توفيقه ، والشيطان ملازم للمتشمّرين للعبادة لايغفل عنهم ساعة حتّى يحملهم على الرياء في كلّ حركة حتى كحل العين وقصّ الشارب ولبس الثياب ، لترتّب الثواب عليها في بعض الأوقات ، وارتباط الحظوظ النفسيه بها ، والغشّ الذي يمزج خالص الذهب له درجات متفاوتة ، فمنها ما يغلب ، ومنها ما يقلّ ويسهل دركه ، ومنها ما يدقّ دركه ، وخبث النفس أغمض وأدقّ بكثير ، ولذا قيل : ركعتان من عالم أفضل من عبادة سنة من جاهل.

واعلم أنّ العمل الذي لايراد به الا الرياء فهو سبب العذاب قطعاً ، والخالص لوجه الله سبب الثواب والتقرّب إلى ربّ الأرباب جزماً.

وأمّا المشوب فظاهر بعض الأخبار أنّه لاثواب له وإن كان ظاهر بعضها خلافه ، وقد أشرنا في بحث الرياء إلى أنّه إن كان الباعث المشوب أحد المقاصد الصحيحة الراجحة شرعاً لم يبطل العمل والإخلاص ، وإن كان مقصداً دنيويّاً محضاً كان مبطلاً وموجباً للعقاب ، سواء كان أضعف أو مساوياً أقوى. هذا في الواجبات.

٥٤٣

وأمّا في المستحبّات فهي وإن لم توجب العقاب من حيث العبادة الا انّها تصير لغواً ، ويترتّب العقاب على الرياء. كذا قيل فتأمّل.

وقال بعض العلماء (١) : والذي ينقدح بحسب الاعتبار أنّ الباعث الديني إن ساواه الباعث النفسي تقاوما وتساقطا فليس العمل له ولا عليه ، وإن غلبه فهو عليه لا له ، وإن كان بالعكس فبالعكس.

فينبغي أن يكون دائماً في الاجتهاد متردداً في القبول والرد ، خائفاً من أن يكون في عبادته آفة يكون وبالها أكثر من ثوابها.

وينبغي أن لايترك مع ذلك العمل خوفاً من وباله وآفته ، فإنّه منتهى بغية الشيطان ، إذ المقصود أن لايفوت الإخلاص ومهما ترك العمل فقد ضيّعهما معاً كما فصّلنا في بحث الرياء.

وقيل (٢) : في هذا الكلام نظر ، فإنّ إطلاق الأخبار يفيد كون شوب الرياء محبطاً للثواب والعمل ، كما تقدّم بعضها ، والنهي في العبادة موجب للفساد ، وقد قال الله تعالى : ( ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً ). (٣)

وأمّا إنّ لكلّ فعل وقصد تأثيراً خاصّاً فمع امتزاج القصدين يتحقّق الأثران ويبقى الخالص بعد التقاوم ، ففيه أنّ ذلك إنّما يصحّ إذا لم يبطله ضدّه ، فإذا كان قضيّة العقل والأخبار بطلان قصد القربة بما مازجه [ من ] غيره فلايبقى له حينئذ أثر حتّى يتّصف بالزيادة ويبقى الزائد سليماً عن المعارض.

وأنا أقول : قد تبيّن لك أنّ قلع مغارس الرياء بدجاتها المتفاوتة في الظهور والخفاء بالكلّية عن القلب مشكل ، ولايمكن ذلك الا بقطع العلائق الدنيويّة بالمرّة والإقبال إلى الله بالكلّية ، وحينئذ فمتى لم يجاهد نفسه بحيث

__________________

١ ـ هو الغزالي كما في المحجّة البيضاء : ٨ / ١٣٦.

٢ ـ هو النراقي في جامع السعادات : ٢ / ٤١٠.

٣ ـ الكهف : ١١٠.

٥٤٤

يحصل له تلك المرتبة لم يتمكّن من الإخلاص الحقيقي الغير الممزوج بشيء من شوائب الرياء ولو بأنواعها الخفيّة الغامضة التي هي أخفى من دبيب انملة وحينئذ فكون الناس بأسرها مكلّفين بذلك ممّا ينجرّ إلى العسر والحرج ، بل التكليف بما لايطاق ، مع أنّه إذا خفي عليه ذلك لم يكن مكلّفاً ، فإنّ العلم شرط التكليف ، وإن قلنا بأنّ الجاهل غير معذور وأنّ مباديء العلم باختيار العبد فإنّ تحصيل تلك المباديء من العامة متعسّر بل متعذّر ، يلزم منه فساد النظام وبطلان المعائش ، وعلى هذا فالأحسن التفصيل بان الشوب الممزوج إن كان شوباً ظاهراً لا يخفى على العامّة أو خفيّا أدركه صاحبه واطّلع عليه كان مبطلاً والا فلا ، وإطلاق الأخبار منصرف إلى الأفراد ظاهرة المتبادرة التي هي مناط فهم العامّة فلا يضرّ حصول ما لايدركه العامّة إذا خفي عليه ذلك ولم يطّّلع على وجه شوبه ، بل أقول : الظاهر من الإخلاص المأمور به الإخلاص بحسب علمه الحاصل له في ظاهر الحال دون الفرد الكامل الغير المتحقّق الا بالنسبة إلى الفرد الكامل من الانسان.

فصل

في الطهارة

الطهارة لها أربع مراتب :

أحدها : تطهير الظاهر من الأخباث والأحداث والفضلات.

وثانيها : تطهير الجوارح من الجرائم والمعاصي والسيّئات.

وثالثها : تطهير القلب عن مساوي الأخلاق وذمائم الملكات.

ورابعها : تطهير السرّ عما سوى الله تعالى من المخلوقات ، وهي في كلّ مرتبة نصف العمل الذي يشترط بها ، إذ الغاية القصوى في عمل السرّ انكشاف جلال الله وعظمته وحصول الحبّ والأنس ، ولايحصل ذلك الا بارتحال ما سوى الله عنه.

٥٤٥

( قل الله ثم ذرهم ) (١) فإنّ الله وغيره لا يجتمعان في قلب واحد.

( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ). (٢)

فنصف العمل تطهير القلب عمّا سوى الله ، والنصف الآخر ظهور الحقّ وإشراق نوره ، وفي عمل القلب عمارته بالأخلاق المحمودة والعقائد الحقّة ، ولا يتّصف بها مالم يتظّف عن نقائضها ، فتطهيرها عنها نصف وتحلّيها بأضدادها النصف الآخر ، وفي عمل الجوارح عمارتها بالطّاعات ، ولايمكن ذلك الا بطهارتها واجتنابها عن المعاصي فهو نصف ، والتحلّي بالطاعات نصف آخر ، وكذا الأولى.

وإليه أشير في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الطهور نصف الايمان ». (٣)

فإنّ المقصود تخلية البدن والنفس عن الذمائم والرذائل وتحلّيها بالمحاسن والفضائل ، وهذه المراتب ممّا يتفرّع بعضها على بعض ، فلا يصل إلى طهارة السرّ ممّا سوى الله وعمارته بمعرفته الا بطهارة الجوارح عن المعاصي وعمارتها بالطاعات ، ولايصل إليها الا بإزالة الأخباث والأحداث الظاهرة وعمارة الظاهر بانظافة.

فائدة

طهارة الظاهر إمّا عن الخبث أوعن الحدث أو عن فضلات البدن والأحكام الظاهرة مستقصاة في الكتب الفقهيّة ومن الآداب الباطنيّة لطهارة الخبث وإزالة عند التخلي لقضاء الحاجة تذكير نقصه وحاجته وخيث باطنه وخسّة حاله واشتماله على الاقذار وحمله لها ، ويعتبر من استراحة نفسه عند إخراجها وسكون قلبه عن دنسها وفراغه للعبادات والمناجاة استراحة

__________________

١ ـ الأنعام : ٩١.

٢ ـ الأحزاب : ٤.

٣ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٢٨١.

٥٤٦

نفسه الناطقة القدسية أيضاً من الأخلاق الذميمة التي هي نجاسات باطنية بإخراجها وتزكية نفسه عنها وطمأنينتها بذلك وند ذلك يصلح للوقوف على بساط الخدمة ويتأهّ للقرب إلى حريم العزّ ، فكما يجتهد في إخراج النجاسات الظاهرة وتحصيل الاستراحة منها مع كونها قليلة فانية ، فعليه الجتهاد في إخراج النجاسات الكامنة الغئصة في الأعماق من ذمائم الملكات ومساوي الأخلاق وتحصيل استراحة نفسه أبداً منها.

قال الصادق عليه‌السلام : « سمّ المستراح مستراحاً لاستراحة النفوس من أثقال النجاسات واستفراغ الأقذار الكثافات فيها ».

والمؤمن يعتبر عندها أنّالخالص من حطام الدنيا والمتخلّي عن شهواتها وأقذارها كذلك يصير في العاقبة فيستريح بالعدول عنها وبتركها ويفرغ نفسه وقلبه من شغلها.

« فينبغي أن يستنكف عن جمعها وأخذها استنكافه عن النجاسة والغئط والقذر ويتفكّر في نفسه المكرّمة في حال كيف تصير ذليلة في حال ... إلى آخره ». (١)

وأن يتفكّر في أنّ هذا الشيء الكريه الذي يفرح ويحرص في دفعه هو الذي كان يشتهيه ويحرص في طلبه ويستلذّ منه ، فما كان عاقبته كذلك فليحذر من أن يأخذه من غير حلّه فيعذب أبداً لأجله.

ولطهارة الحدث أنّ يستحضر عند اشتغاله بها ان الحكمة في تكليف الشارع بها أن لايدخل في عبادة الله سبحانه ولايشتغل بمناجاته الا مع تطهير أعضائه التي باشر بها الأمور الدنيوية وانهمكت في كدوراتها والتبست منها ظلمة خرجت بسببها عن أهليّة القيام بين يديه تعالى.

فإذا علم أنّ الباعث ذلك فليتنبه منه لأنّ مجرّد ذلك لايطهّرها عنها الا بعد انضمام تطهير القلب من العلاقة بها وعزمه على الرجوع إليه تعالى ،

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : الباب ٩ في المبرز ، مع اختلاف كثير.

٥٤٧

والانقطاع عن الدنيا وشهواتها ، فإنّ الأعضاء كما عرفت خدّامه وأتباعه ، فما لم يتنوّر أوّلاً لم يسر نورانيّته إليها ولم ترتفع عنها ظلمة الأخباث والكدورات الحاصلة لها من مباشرة أمور الدنيا.

ثم إنّه أمر في الوضوء أوّلاً بغسل الوجه الذي هو مجمع أكثر الحواسّ الظاهرة التي هي عمدة أسباب مباشرة الأمور الدنيويّة ليتوجّه بوجه قلبه إليه تعالى خالياً عن تلك الأدناس ، وثانياً بغسل اليدين لمباشرتها أكثر الأمور الدنيوية والشهوات الطبيعية المانعة عن الإقبال إلى الآخرة ، وثالثاً بمسح الرجلين للتوصّل بهما إلى أغلب المطالب الدنيوية فأمر بتطهيرهما جميعاً ليسوغ له الدخول في عبادة الله والإقبال إلى الله بعد إقباله إلى الدنيا.

وفي الغسل بغسل جميع البدن ، لأنّ أدنى حالات الإنسان وأشدّها تعلّقاً بالملكات الشهوية حالة الجماع ولجميع البدن مدخل فيها كما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ تحت كلّ شعرة جنابة » (١) فكان غسله أجمع مهمّاً في التأهّل لمقابلة الجهة الشريفة.

وفي التيمّم بمسح الأعضاء بالتراب كسراً لتلك الأعضاء الرئيسة وهضماً لها بملاقاة التربة الخسيسة ، ولمّا كان القلب هو الرئيس الآمر لها بها يبعّده عن الربّ ، وهو موضع التفاته تعالى ، كما ورد « أنّ الله لاينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم » (٢) فله الحظّ الأوفر والمقام الأليق في تطهيره عن الرذائل المانعة عن تحليته بالفضائل من الأعضاء الظاهرة عند الفطن العاقل ، فإذا لم يمكنه ذلك لغاية رسوخ تلك الملكات فيها فلا أقلّ من إقامته مقام الهضم والانكسار والذلّ والعجز والافتقار ، كما أنّ في الأعضاء مع عدم التمكن من الماء يذلّلها بوضعها على التراب عسى أن يرحمه ربّه بذلّه وانكساره ، فإنّه عند المنكسرة قلوبهم فيهبّه نفحة من نفحات نوره ،

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٠٦.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٦ / ١٠٨ و ٣١٢.

٥٤٨

فيحصل للعبد بالتفطّن لهذه الإشارات حالة الاقبال إلى العبادات والتدارك لما فات.

وقد ورد عن مولانا الصادق عليه‌السلام في مصباح الشريعة ما يستنبط منه هذه الإشارات مع زيادات أخر تظهر على من راجعه.

وقال الرضا عليه‌السلام : « إنّما أمر العبد بالوضوء ليكون طاهراً إذا قام بين يدي الجبّار عند مناجاته بين يديه تعالى ، مطيعاً له فيما أمره ، نقيّاً عن الأدناس والنجاسة ، مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد النعاس وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبّار ، وانّما وجب على الوجه واليدين والرأس والرجلين ، لأن العبد إذا قام بين يديه تعالى فإنّما ينكشف عن جوارحه ويظهر ما وجب فيه الوضوء وذلك أنّه بوجهه يسجد ويخضع ، وبيده يسأل ويرغب ويرهب ويتبتّل ، وبرأسه يستقبله في ركوعه وسجوده ، وبرجليه يقوم ويقعد.

وأمر بالغسل من الجنابة دون الخلاء لأنّ الجنابة من نفس الإنسان وهو شيء يخرج من جميع جسده ، والخلاء ليس من نفس الانسان ، إنّما هو غذاء يدخل من باب ويخرج من باب ». (١)

ولطهارة البدن عن الفضلات كشعر الرأس بالحلق وشعر الأنف والحاجب وما طال من اللحية بالقصّ ، وشعر الإبط والعانة وسائر الأعضاء بالنورة ، وأظفار اليدين والرجلين بالقلم ، وما يجتمع من الوسخ والقمّل في شعر الرأس واللحية بالغسل والتسريح بالمشط ، وما يجتمع من الوسوخ في معاطف الأذنين بالمسح ونحوه ، وما يجتمع على الأسنان وأطراف اللسان بالسواك والمضمضة ، وفي الأنف من الرطوبات الملتصقة بالاستنشاق ، وما في رؤوس الأنامل ومعاطف ظهورها عقيب الأكل بالغسل وما يجتمع على البدن من الوسخ الحاصل من العرق والغبار ونحوهما بدخول الحمّام ، التذكّر لسرّها أوّلاً ، فإنّه يوجب تنوير القلب وانشراح الصدر وطرد

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٠٨ نقلاً عن علل ابن شاذان ( عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : الباب ٣٤ ).

٥٤٩

الشيطان.

ومن تأمّل في الآداب والأفعال والأقوال الواردة من الشرع وترتيبها الخاص وتخصيصها بعدد أو الابتداء بموضع أو بواحد من المتماثلات عرف اشتمالها على حكمة البتّة.

مثال ذلك أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكتحل في عينه اليمنى ثلاثاً واليسرى مرّتين ، فاليمنى أشرف فيبدأ به والتفاوت لتحصيل الوتر الذي هو من صفاته تعالى ، وخصوص الخمسة دون الثلاث ، لأنّ الواحدة لاتستوعب أصول الأجفان ، وتخصيص اليمنى بالزيادة لفضلها واختيار الزوج في اليسرى لتحصيل الإيتار في المجموع الذي هو كخصلة واحدة ، وكذا كلّ فعل ورد عنهم وإن كانت عقولنا قاصرة عن إدراك أكثرها.

ويتذكّر داخل الحمام بحرّه حرّ النار ويستفيد منه.

قال الصادق عليه‌السلام : « فإذا دخلت البيت الثالث فقل : نعوذ بالله من النار ونسأله الجنّة ، تردّدهما إلى وقت خروجك ». (١)

وذلك لئلّا يغفل عن ذكر الآخرة لحظة ، فإنّ للعاقل في كلّ مايراه ويفعله عبرة وموعظة ، وكلّ ينظر بقدر فهمه فهمه وهمّته وشغله ، فالبنّاء إذا دخل داراً معمورة نظر إلى بنائها بعين الدقّة والبصيرة والنجّار إلى أبوابها وشبائكها ، والحائك إلى ثيابها وكيفيّة نسجها وهكذا سالك طريق الآخرة لاينظر إلى شيء من الدنيا الا ويعتبر إلى أمر من أمور الآخرة ، فإن تظر إلى ظلمة تذكّر ظلمة اللحد وإلى نار تذكّر نار جهنّم ، وإلى عقرب أو حيّة تذكّر حيّات جهنّم وعقاربها ، وإلى صوت هائل تذكّر نغمة الصور ، وإلى مأء حارّ تذكّر الحميم ، وإلى مطعوم مرّ تذكّر الزقّوم ، وإلى محاسبة قوم في مال تذكّر حساب يوم القيامة ، وهكذا.

__________________

١ ـ الفقيه : ١ / ١١٣ ، باب غسل يوم الجمعة ودخول الحمام ، ح ٢٣٢.

٥٥٠

فصل

في الصلاة ، وفيه مطالب :

المطلب الأوّل :

الصلاة معجون سماوي وتركيب إلهي مركّبة من أجزاء مختلفة :

فمنها : ما هو بمنزلة الروح.

ومنها : ما هو بمنزلة الأعضاء الرئيسة.

ومنها : ما هو بمنزلة سائرها.

توضيحه : أنّ الإنسان لايكون كاملاً في إنسانيّته الا بمعنى باطني هو الروح يتوقّف [ عليه ] أصل وجوده وأعضاء محسوسة بعضها في جوفه كالقلب والكبد والمعدة والدماغ ، وبعضها ظاهر لاينعدم بانعدامه الا أنّه يرتفع به تماميّته ويصير ناقصاً كاليد والرجل وأمثالهما ، وبعضها ظاهر لايصير ناقصاً عرفاً بانعدامه الا أنّه يفوت به حسنه كا لحاجبين وتناسب الخلقة وسواد اللحية وامتزاج البياض بالحمرة ، فكذا الصلاة حقيقة مركّبة صوّرها الشارع من أمور متفاوتة تعبّدنا باكتسابها ، فروحها النيّة والقربة والحضور والإخلاص ، وأركانها من تكبيرة الاحرام والركوع والسجود والقيام كالأعضاء الرئيسة يفوت بفواتها حقيقة الصلاة ، ولاتصحّ بدونها ، وسائر واجباتها كالقراءة والأذكار والطمأنينة والهويّ ورفع الرأس ونحو ذلك بمنزلة اليدين والرجلين قد تفوت بفواتها كالعمد والجهل ، وقد لاتفوت كالسهو والنسيان والجهل في بعض المواضع ، وآدابها ومستحبّاتها من القنوت وسائر الأدعية والأذكار ونحوها ممّا لاتفوت بفواتها حقيقة الصلاة ، بل حسنها وكمالها وزيادة الثواب ، ولها أيضاً تفاوت في الفضل والثواب كتفاوت ما يفوّت حسن الإنسان في تفويت أصل الحسن أو كماله فتصير بفواتها مكروهة غير مرغوب فيها.

٥٥١

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الصلاة تحفة وهديّة تهديها وتتقرّب بها إلى حضرة ملك الملوك كفرس يهديها طالب القرب من السلاطين إليهم ، وهي تعرض عليه تعالى وترد عليك يوم العرض الأكبر ، فإليك الأمر في تقبيحها أو تحسينها ، فهل ترضى بإهداء عبد ميّت بلا روح أو فرس حيّ أعمى أو أبكم أو أصمّ أو مقطوع الأطراف أو قبيح الصورة إلى ملك من ملوك الدنيا أو تجتهد في تحصيل الفرد الأجود منها بقدر وسعك ، فإن لم ترض الا بالثاني فما بالك لاتجتهد ولاتهتمّ في تجويد هديّتك التي تهديها إلى مالك الملوك ومذلّ رقاب الجبابرة والمنعم عليك بكلّ شيء حتى بصلاتك التي تهديها إليه ، وهل (١) رضاك بالأوّل في حقّه تحقير بالنسبة إليه وهتك لناموس ملكه وسلطنته وحرمة عزّه وجبروته ، وقد ورد في الأخبار أنّ كلّ صلاة لايحسن الإنسان ركوعها وسجودها فهي أوّل خصم على صاحبها يوم القيامة وتقول : مابالك ضيّعتني ضيّعك الله تعالى. (٢)

المطلب الثاني

المعاني الباطنية التي هي روح الصلاة وحقيقتها سبعة :

أحدها : الإخلاص في النية ، وقد تقدّم.

وثانيها : حضور القلب ، أي تفريغه عن غير ما هو متلبّس به حتّى يكون عالماً بما يقوله ويفعله من دون ذهول وغفلة ، ويعبّر عنه بالإقبال والتوجّه والخشوع والخضوع ، وهو يتعلّق بالقلب بتفريغ الهمّة لها والإعراض عمّا سواها ، حتى لايكون في القلب غير المعبود ، وبالجوارح بغضّ البصر وترك الالتفات والعبث والتثاؤب والتمطّي وفرقعة الأصابع وغيرها من المكروهات التي لاتتعلّق بالصلاة.

__________________

١ ـ كذا ، والمناسب : أليس.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٦٥ ويظهر منه أنّه فهم أبي حامد من الأخبار لا أنّه خبر ، نعم نسبة إلى المعصوم النراقي في جامع السعادات : ٣ / ٣٢٣ بلفظ « قد ورد » ، ويؤيّد عدم كونه رواية أيضاً ما رواه في الكافي : ٣ / ٢٦٨ ، الحديث ٤ فراجع.

٥٥٢

والثالث : فهم المعنى زيادة على الحضور مع اللفظ لتفارقهما والناس فيه على تفاوت عظيم ، فكم من دقائق ولطائف تنكشف على بعض المصلّين في أثنائها لم تنكشف على غيره ولا عليه قبلها ، ولذا تنهى عن الفحشاء والمنكر.

والرابع : التعظيم وهو أمر وراء حضور القلب والتفهّم.

والخامس : الهيبة ، أي الخوف الناشي من التعظيم ، فمن لايخاف لايسمى هائباً ، وكم من خوف ناش عن غير التعظيم.

والسادس : الرجاء زائداً على الخوف منه لبرّه وإحسانه.

والسابع : الحياء الناشي من استشعار قصور أو تقصير في الخدمة ، وكون هذه السبعة بمنزلة الروح لها ظاهر ، إذ الغرض الأصلي كما عرفت تصفية النفس وتصقيلها ، فكلّ ما يكون أثره أشدّ فهو أفضل ، والمقتضي لصفائها وصقالتها عن الأخباث والكدورات الحاصلة لها من مزاولة الشهوات ليس الا ما ذكر ، وليس للحركات الظاهرة مدخل فيها الا من حيث التقوية كما عرفت.

هذا ، مع أن الصلاة مناجاة ، وإفشاء عمّا في الضمير ، ولامناجاة ولا إفشاء مع الغفلة وعدم الحضور وحركة اللسان على مقتضى العادة ، وكيف تصير هذه الحركة العادية مع سهولة خطبها عماداً للدين ، فاصلاً بين الكفر والإيمان ، مقدّماً على كلّ عبادة موصولاً بها إلى كل خير وسعادة ، ولذا ورد الحثّ على ذلك في الآيات والأخبار ممّا لاتحصى ، والذّم على الغفلة والوساوس الشيطانية أيضاً فيها خارج عن حدّ الاستقصاء وتظاهرت الأخبار بكون الأنبياء والأولياء في حالتها على غاية الإقبال والخشوع والخوف.

( الّذين هم في صلاتهم خاشعون ). (١)

__________________

١ ـ المؤمنون : ٢.

٥٥٣

( ولا تكن من الغافلين ). (١)

( فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون ). (٢)

وفي أخبار موسى عليه‌السلام : « يا موسى إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك ، وكن عند ذكري خاشعاً مطمئنّاً ، وإذا ذكرتني فاجعل لسانك وراء قلبك ، وإذا قمت بين يديّ فاجعل قيامك قيام العبد الذليل ، وناجني بقلب وجل ولسان صادق ». (٣)

وقال علي عليه‌السلام : « طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء ، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه ، ولم ينس ذكر الله بما تسمع أذناه ... ». (٤)

وروي انّ الخليل عليه‌السلام كان يسمع تأوّهه على حدّ ميل ، وكان في صلاته يسمع له أزيز كأزيز المرجل ، وكذلك كان يسمع من صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . (٥)

وقالت بعض أزواجه : إذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه. (٦)

وكان علي عليه‌السلام إذا توضّأ تغيّر وجهه خوفاً ، وإذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلوّن ، فقيل له في ذلك ، فقال : « جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ». (٧)

وأخرج النصل من رجله في حالة صلاته فلم يشعر بها. (٨)

وكان السجّاد عليه‌السلام إذا توضّأ اصفرّ لونه ويقول : « أتدرون بين يدي من

__________________

١ ـ الأعراف : ٢٠٥.

٢ ـ الماعون : ٤ ـ ٥.

٣ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣.

٤ ـ الكافي : ٢ / ١٦ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الإخلاص ، ح ٣.

٥ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٥١ نقلاً عن عدّة الداعي.

٦ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٥٠ ـ ٣٥١.

٧ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٥١.

٨ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٧٩ ـ ٣٩٨.

٥٥٤

أريد أن أقوم؟ ». (١)

وقال عليه‌السلام : « إنّ العبد لايقبل من صلاته الا ما أقبل فيها ». (٢)

وكان عليه‌السلام إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه وإذا سجد لم يرفع رأسه حتّى يرفضّ عرقاً ، وكان في الصلاة كأنّه ساق شجرة لا حركة له الا ما حرّكت الريح. (٣)

وخرّ الصادق عليه‌السلام مغشّياً عليه في الصلاة ، فقيل له في ذلك ، فقال : مالت أردّد هذه الآية على قلبي حتّى سمعتها من المتكلّم بها ، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته ، قيل : وكانت لسان الإمام في تلك الحالة كشجرة طور حين قالت : إنّي أنا الله. (٤)

وحينئذ تعلم أنّ من الناس من يتمّ صلاته ولايحضر قلبه لحظة ، ومن يغفل في بعضها ويحضر في بعض ، ويختلف ذلك بحسب أختلاف الحضور والغفلة في الكثرة والقلّة ، ومن يحضر في صلاته بأسرها ولايغفل لحظة لاستيعاب همّه بها بحيث لايحسّ بما يجري عليه أو بين يديه ، ولايستبعد هذا بعد مشاهدة من استغرق همّه عند الدخول على الملوك أو على المعشوق مع خساسة حظّه ، فلكلّ درجات ممّا عملوا ، وحظّ كلّ واحد بقدر خضوعه وخشوعه لما عرفت أنّ الله لاينظر إلى الجوارح ، بل إلى القلوب ولاينجو الا من أتى الله بقلب سليم.

فإن قلت : يظهر ممّا ذكرت عدم قبول ما ليس فيه إقبال وهو خلاف فتوى الفقهاء فيما سوى النيّة والتكبير؟

قلت : فرق بين القبول والإجزاء ، فمرادنا من الأوّل مايحصل له التقرّب إلى الله ، ومن الثاني ما يسقط به التكليف والخروج عن العهدة

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٥١.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٥٢.

٣ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٥٢.

٤ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٥٢.

٥٥٥

والناس مختلفون فيه ، إذ ليس التكليف الا بالمقدور ولايمكن تلكيف الجميع بالحضور في كلّ الصلاة ، بل لا يقدر عليه الا الأقلّون ، ولعدم التمكّن سقط الوجوب الا عن القدر المقدور للجميع وهو الجزء اليسير من النيّة والتكبير فاقتصر عليه ، والمرجوّ من الله سبحانه أن لايكون حال الغافل في جميع صلاته عند الله كالتارك بالمرّة لإقدامه على الفعل وإحضاره القلب ولو في لحظة.

المطلب الثالث

ثم إنّ لهذه السبعة أسباباً لاتتمّ بدونها ، فسبب الحضور الاهتمام ، فإنّ القلب يتبع ما يهمّه ويحضر عند همّه شاء أم لم يشأ ، فهو مجبول عليه ، مسخّر تحت حكمه ، فعدم حضوره في الصلاة إنّما هو لأجل حضوره فيما يهمّه من أمور الدنيا ، إذ لايبقى متعطّلاً ، ولذا تراه حاضراً إذا حضرت عند ملك من ملوك الدنيا مستغرقاً همّه فيه فلا يمكن إحضاره للصلاة الا بصرف همّه إليها وهو لايمكن الا باليقين بكون الآخرة خيراً وأبقى ، والصلاة وسيلة إليها مع حقارة الدنيا ، فعدم الحضور في الصلاة ليس الا من ضعف الإيمان ، فلابدّ من السعي في تقويته.

وسبب التفهمّ بعد الحضور إدمان الفكر وصرف الذهن إلى فهم المعنى. وعلاجه بما ذكر مع الإقبال على الفكر والتشمّر لرفع الخواطر الشاغلة بقطع موادّها من علائق الدنيا التي حدث الخاطر النفساني بسببها ، فمن أحبّ شيئاً أو أبغضه أو خاف منه أكثر ذكره ، فذكرها يغلب على القلب ضرورة.

وأما التعظيم فإنّه حالة للقلب تتولّد من معرفتين :

إحديهما : معرفة جلاله تعالى ، إذ لاتذعن النفس لتعظيم أحد الا بعد اعتقاد عظمته ، وهذه من أصول الايمان.

والثانية : معرفة حقارة النفس وذلّتها وكونها مسخّرة تحت حكمه تعالى

٥٥٦

غير قادرة على نفع أو ضرّ فيتولّد منها الاستكانة والانكسار والخشوع ، ويعبّر عنها بالتعظيم ، ولا يتحقّق بدون انضمام الثانية إلى الأولى ، إذ من استغنى عن غيره وأمن منه على نفسه لم يعظّمه ولم يخشع له ، وإن عرف جلاله وعظمته.

وأمّا الهيبة والخوف فحالة للنفس تتولّد من المعرفة يقدرته وسطوته ونفوذ مشيّته فيه ، وأنّه لو أهلك الأوّلين والآخرين لم ينقص من ملكة شيء مع تذكّر ما جرى على الأنبياء والأوصياء من المصائب وأنواع البلاء مع قدرته على دفعها ، فكلّما ازداد العلم بالله وصفاته وأفعاله زادت الخشية والهيبة.

وأمّا الرجاء فسببه معرفة لطف الله وإكرامه وعميم إحسانه وإنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنّة بالصلاة ، فإذا حصل اليقين بوعده ولطفه انبعث الرجاء.

وأمّا الحياء فسببه استشعار القصور في المعرفة والتقصير في الطاعة وعلمه بالعجز عن القيام بتعظيم حقّ الله ، ويقوى ذلك بمعرفة عيوب النفس وآفاتها وقلّة إخلاصها وخبث باطنها وميلها إلى الحظّ العاجل في جميع أفعالها مع علمها بجميع ما يقتضيه جلال الله وعظمته واطلاعه على السرائر وخطرات الضمائر وإن كانت خفيّة ، فبعد حصول هذه المعارف ينبعث الانفعال والحياء ضرورة.

ثم العلاج في تحصيل هذه الأسباب يتمّ بتحصيل معرفة الله وجلاله وعظمته واستناد الأشياء باسرها إليه وعلمه بكلّ شيء ، ولابدّ من كونها يقينيّة ليترتّب عليها الأثر ، إذ مالم يحصل اليقين بأمر لايحصل التشمّر في طلبه والهرب عنه ، وهذه المعرفة يعبّر عنها بالإيمان ، ثمّ تفريغ القلب عن مشاغل الدنيا ، إذ لا ينفكّ العارف المذكور عن المعاني المذكورة الا لتفرق الفكر وغفلة القلب الغير الحاصلين الا من الخواطر الرديّة الشاغلة فالدواء في الإحضار بعد المعرفة المذكورة رفع تلك الخواطر بدفع أسبابها وهي إما

٥٥٧

أمور خارجة مثل ما يظهر للبصر أو يقرع على السمع فإنّه قد يختطف الهمّ حتّى يتبعه ويتصرّف فيه ، ثم ينجرّ منه إلى غيره ، ويتسلسل فيصير النظر الأوّل باعثاً لفكر ، وذلك الفكر لآخر وهكذا. فعلاج هذا القسم بغضّ البصر واختيار مكان مظلم ضيّق خال عن الأشياء الملهية كما كان ذلك عادة لأكابر السلف.

وإمّا أمور باطنة في نفسه ، وهي أشدّ فإنّ من تفرّقت همومه وكثرت مشاغله وعلائقه في الدنيا لم ينحصر فكره في فنّ واحد ، بل لايزال يطير من جانب إلى آخر ، فلا يغنيه غضّ البصر وأخواته لكفاية ما وقع في القلب سابقاً في الهمّ.

وعلاجه ردّ نفسه قهراً إلى ما يشغلها به من غيره ويعينه بالإعداد له قبل التحريم بتجديد ذكر الآخرة وعظم خطر المقام بين يدي الله تعالى وهول المطّلع فيفرغ قلبه قبل التحريم عمّا يهمّه من أمور الدنيا فلا يترك لنفسه شيئاً يلتفت إليه ، فإن سكن داؤه بهذا الدواء والا فلا ينجيه الا المسهل الذي يقمع مادته من أعماق العروق بأن نظر فيما يصرفه من إحضار القلب ، ومآله إلى مهمّاته التي اهتمّ بها لأجل علائقه وشهواته فليعاقب نفسه بالنزوع عنها وقطعها لكونها مضادّة لدينه ومعاونة لعدوّه الذي هو الشيطان في إخراجه عن الجنّة التي يستحقّها بصلاته وهذا هو الدواء الحقيقي القامع للمادّة والنافع في قطع الشهوة القويّة التي لاتزال تجاذب وتجادل حتّى تغلب فتنقضي الصلاة في الجدال معها والا فالأوّل ينعف فيما يضعف من الشهوات والهموم الشاغلة لحواشي القلب ، فمن جلس تحت شجرة لمطالعة أو فكر يهتمّ به فإن أصوات العصافير تؤذيه وتشوّش عليه فكره ، فالأول بمنزلة تطهيرها بالعصا ، ثم إذا عاد إلى فكره عادت العصافير وهكذا ، والثاني بمنزلة قطع الشجرة فلا تعود العصافير أبداً ، وكذلك شجرة الشهوة إذا استقلت وتفرّعت أغصانها انجذبت إليها الأفكار انجذاب العصافير إلى الأشجار والذياب إلى الأقذار ،

٥٥٨

ويطول الشغل في دفعها ويجمعها حبّ الدنيا وهو رأس كلّ خطيئة ، فمن انطنوى باطنه عليه ومال إلى شيء منها لا ليتزوّد بها إلى الآخرة فلا يطمعنّ في أن يصفو له لذّة المناجاة ، فهمّة الرجل مع قرّة عينه ، فهذا هو الدواء ولمرارته استبشعته الطباع وصار الداء عضالاً مزمناً.

هذا كلّه في الخواطر الناشئة عن مشاغل الدنيا وعلائقها.

وأمّا الوساوس الباطلة الحاصلة من دون اختيار للعبد في خطورها مع عدم تعلّقها بعمل دنيوي فالأمر فيها أصعب وإن كان لقطع حبّ الدنيا وقلع شهواتها عن القلب مدخل عظيم فيها أيضاً ، وقد تقدّم التفصيل في ذلك في بحث الوساوس.

المطلب الرابع

في كلّ من الشروط والأركان والأفعال أسرار وإشارات ينبغي لسالك الآخرة أن لايغفل عنها ، فإذا سمعت الأذان تنبّه لنداء يوم القيامة وهوله وتشمّر للاجابة والمسارعة ، فإنّ المسارعين إلى هذا النداء ينادون بالطلف هناك ، واعرض قلبك عليه ، فإن وجدته فرحاً راغباً إلى المسارعة فأبشر بالنداء بالبشرى والفوز يوم الجزاء ، كما قال سيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أرحنا يا بلال » (١) إذ كانت قرّة عينه وسروره فيها.

واعتبر بفصوله كيف افتتحت بالله واختتمت به ، فإنّه الأوّل والآخر والظاهر والباطن ، ووطّن قلبك بالتعظيم عند سماع التكبير واستحقر الدنيا بما فيها حتّى لاتكون كاذباً فيه ، واسلب عن خاطرك كلّ معبود سواه بالتهليل ، وأحضر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأدّب بين يديه واشهد له بالرسالة مخلصاً وصلّ عليه وآله أداء لبعض حقوقهم وحرّك نفسك ووسّع قلبك وقالبك عند الدعاء إلى الصلاة وما يوجب الفلاح وما هو خير الأعمال وجدّد عهدك بالتكبير واختمه به كما بدأت واجعل بدأك منه وعودك إليه وقوامك به

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٧٧.

٥٥٩

وحولك وقوتّك بحوله وقوتّه.

واعتبر من الوقت ميقاتاً وقتّه ربّك لتقوم فيه بخدمته وتنال الفوز بحضرته ، وأظهر على قلبك السرور ووجهك البهجة بدخوله لكونه سبباً لقربك وفوزك ، واستعدّ له بالطهارة والنظافة ، ولبس ما يصلح للمناجاة كما تتأهّب للقدوم على ملوك الدنيا ، وتلقّاه (١) بالسكينة والوقار والخوف والرجاء واستحضر عظمته وجلاله وكمال قدرته ونقصانك عن القابليّة للقيام بخدمته وقصورك عن أداء وظائف الطاعة.

وإذا أتيت بالطهارة في مكانك وهو الظرف الأبعد ، وثيابك وهو غلافك الأقرب ، وبشرتك وهي قشرك وهي قشرك الأدنى فلا تغفل عن ذاتك ولبّك ، أي نفسك وقلبك فطهّره بالتوبة والندم على مافرّط والعزم على الترك في المستقبل ، فإنّه موضع نظره ، وغذا سترتت مقابح بدنك عن أبصار الخلق فاستحضر قبائح باطنك التي لا يطّلع عليها الا ربّك وطالب نفسك بسترها ، فحيث أذعنت بأنهّ لايستتر عن الله شيء الا بتكفيره بالخوف والندامة والحيء انبعثت منها جنودها فتذّل وتستكين وتقوم بين يدي الملك الحقّ المبين كالعبد المسيء الآيق المسكين الذي ندم من تفريطه في جنب مولاه في فعله فجاءه خائفاً مستحيياً راجياً لعفوه وصفحه وفضله.

قال الصادق عليه‌السلام : « أزين اللباس للمؤمن لباس التقوى وأنعمه الإيمان ». قال الله تعالى : ( ولباس التقوى ذلك خير ). (٢)

وأمّا اللباس الظاهر فنعمة من الله يستر بها عورات بني آدم وهي كرامة أكرم الله بها عباده ذرّية آدم مالم يكرم بها غيرهم ـ إلى أن قال ـ : فإذا لبست ثوبك فاذكر ستر الله عليك ذنوبك برحمته وألبس باطنك بالصدق كما ألبست ظاهرك بثوبك ، وليكن باطنك في ستر الرهبة وظاهرك في ستر

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر : تلقّه.

٢ ـ الأعراف : ٢٦.

٥٦٠