كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

أولى بالاعتبار كما عرفت.

وقد يطلق العدالة على معنى أخصّ ، أي الاستقامة على الحقّ ، وإقامة كلّ أحد عليه في الحقوق الخلقية ، وكذا الظلم على ما يقابله أي التعدّي عنها بالإضرار والأذية ، وسيذكر في أنواع ما يجب مراعاته بينه وبين الخلق إن شاء الله تعالى.

وإذ قد عرفت أنّ حاصل العدالة يؤول إلى أمرين ما يلزم مراعاته بين العبد وبين الخلق وما يلزم مراعاته بينه وبين الله تعالى ، وكذا الظلم فلنفصّل الكلام فيهما في مقامين ، وفي كلّ مقام في مقصدين :

٣٦١

المقام الأوّل

في ذكر أنواع الظلم بالمعنى الأعم

ويسمى جوراً أيضاً ، أي التعدّي عن الأوساط اللازمة مراعاتها ، وفيه مقصدان :

المقصد الأول

في أنواع التعدّي عن الأوساط اللازمة مراعاتها فيما بين العبد والخلق.

تمهيد

مراعاة الحقوق اللازمة مراعاتها في حصول العدالة فيما بينه وبين الخلق وتركها والتعدّي عنها حتّى يسمّى ظلماً إنّما يحتاج إلى معرفتهما مع الصحبة والمعاشرة معهم ، وأمّا مع الاعتزال والانفراد عنهم فلا ، فلابدّ أوّلاً من بيان الأفضل منهما ، فإنّ للناس اختلافاً فاحشاً في ترجيح أحدهما على الأخرى ، وظاهر كثير من قدماء الصحابة والتابعين ترجيح العزلة ، فإن بني الأمر عليه ووفّق الانسان لمرتبة الانس بالله والوحشة عن الخلق لم يحتج إلى تجشّم مراعاة حقوق العشرة وسلب رذيلة الظلم بهذا المعنى عن نفسه ، وتحصيل فضيلة العدالة كذلك ، وهذا أيضاً من فوائدها.

ونشير إلى أدلّة القولين إجمالاً ، فإنّ البسط فيها موكول إلى كتاب العزلة من الإحياء لأبي حامد ، حيث وفّاه حقّ البسط بما لامزيد عليه.

فأحسن ما يمكن أن يستدلّ به على تفضيل العزلة قول الصادق عليه‌السلام : « صاحب العزلة متحصّن بحصن الله ومحترس بحراسته ، فياطوبى لمن تفرّد به سرّاً وعلانية ويحتاج إلى عشر خصال : علم الحقّ والباطل ، وتحبّب

٣٦٢

الفقر ، واختيار الشدّة ، والزهد ، واغتنام الخلوة ، والنظر في العواقب ، ورؤية التقصير في العبادة مع بذل المجهود ، وترك العجب ، وكثرة الذكر بلا غفلة ، فإنّ الغفلة مصطاد الشيطان ، ورأس كلّ بليّة ، وسبب كلّ حجاب ، وخلوه البيت عمّا لا يحتاج إليه في الوقت قال عيسى بن مريم عليه‌السلام : اخزن لسانك لعمارة قلبك ، وليسعك بيتك وفرّ من الربا وفضول معاشك ، وابك على خطيئتك ، وفرّ من الناس كفرارك من الأسد والأفعى فإنّهم كانوا دواءاً ، فصاروا اليوم داء ثم الق الله متى شئت ». (١)

وقال عليه‌السلام : « فسد الزمان وتغيّر الإخوان وصار الانفراد أسكن للفؤاد ». (٢)

وروي أنّ معروفاً الكرخي قال له عليه‌السلام أوصني يابن رسول الله! فقال عليه‌السلام : « أقلل معارفك ، قال : زدني ، قال : أنكر من عرفت منهم ». (٣)

ولهم أدلّة أخرى ضعيفة ، إذ غاية ما يدلّ عليه بعضها حسن الاعتزال عمّا لا فائدة فيه كمخالطة الكفّار بعد اليأس عن هدايتهم ، وبعضها الأخرى كون الأليق بحال البعض ذلك ، وأخرى على حسن الخمول والتوقّي عن الشهوة ولا ربط له بالعزلة.

وأحسن ما يمكن به الاستدلال للثاني ما ورد من الثناء على نفس الالفة وانقطاع الوحشة ، قال تعالى :

( فاصبحتم بنعمته إخواناً ) (٤) ( ولكنّ الله ألّف بينهم ) (٥)

« المؤمن ألف مألوف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف » (٦) ، و « من أراد

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : الباب ٢٤ ، في العزلة.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ٥.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ٥.

٤ ـ آل عمران : ١٠٣.

٥ ـ الأنفال : ٦٣ ، وفي النسخ : « ألّف بين قلوب المؤمنين » ويمكن أن يكون اقتباساً من الآية.

٦ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٨٥.

٣٦٣

الله به خيراً رزقه خليلاً صالحاً إن نسي ذكّره وإن ذكر أعانه » (١) ، و « ما التقى المؤمنان قط الا أفاد [ الله ] أحدهما من صاحبه خيراً » (٢) ، إنّ حول العرش منابر من نور عليها قوم لباسهم نور ووجوههم نور ليسوا بأنبياء الله ولا شهداء يغبطهم النبيّون والشهداء ، فقيل : يارسول الله صفهم لنا ، فقال : هم المتحابّون في الله المتجالسون لله المتزاورون في الله » (٣) ، و « أوحى الله إلى داود ما لي أراك متفرّداً وحيداً؟ فقال : إلهي قليت الخلق لأجلك ، فقال : يا داود! كن يقظاناً وقدّر لنفسك إخواناً فكلّ خدن لايوافقك على مسرتي فلا تصحبه ، فإنّه لك عدوّ يقسي قلبك » (٤) والأخبار بهذا المضمون كثيرة.

وكذا ما يدلّ على حسن الخلق وطلاقة الوجه وقضاء حوائج المؤمنين وزيارتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وغير ذلك ممّا لايحصى.

وما يقال : إنّ غاية ما تدلّ عليه نزع الغوائل عن الصدور وحسن الخلق وذمّ سوء الخلق الذي يمتنع بسببه المؤالفة ولايدخل فيها الحسن الخلق الذي إن خالط ألف والف وإنّما منعه عنها شيء آخر.

مدفوع بأنّه مع عدم جريانه في أكثرها خلاف المتبادر من اللفظ ، وقضية الجمع بينها وبين ما تقدّم على ما يساعده القرائن والاعتبار أنّ لكل منهما فوائد وغوائل ، فمن أمن من غوائل احديهما مع حصول فوائد الاخرى له أو عدم ايتمانه من غوائلها كان الأصلح له اختيارها ، وهو أمر مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأوقات كالنكاح ، فلابدّ من التدقيق في حال النفس والوقت وما هو الأصلح بحسبه وهو متوقّف على معرفة فوائدهما وغوائلهما.

فمن فوائد الاولى الفراغ للعبادة والتفكّر والانس بمناجاته تعالى ،

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٨٥.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٨٥.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٨٦.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٨٨.

٣٦٤

واستكشاف أسرار عالم الملكوت ، فإنّ المخالطة شاغلة للنفس عنها ، ولذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة منعزلاً إلى جبل حراء حتى قوي فيه نور النبوّة ، بحيث لم يحجيه الخلق عن الله ، بل كان ببدنه مع الخلق وقلبه مع الله ، ولا يقوى على الجمع بينهما الا النبوّة أو الوالاية الكاملة ، وهو إنّما يتيسّر بالاستغراق في حبّ الله تعالى وانسه ، فلا يبقى لغيره متّسع فيه ، وليس بمستنكر مع ما ترى في الخلق من المستهترين بالحبّ من يخالطهم ببدنه ، ولا يفهم ما يقول أو يقال له لفرط عشقه فأمر الآخرة أعظم عند أهلها.

قال اويس لبعض من جاءه زائراً : ما جاء بك؟ قال : الانس بك ، فقال : ما كنت أرى أحداً يعرف ربّه فيأنس بغيره.

وقال بعضهم : من لايأنس بمحادثة الله عن محادثة المخلوقين فقد قلّ علمه وعمي قلبه وضيّع عمره ففي العزلة والخلوة انس بالله واستكثار من معرفته منه.

وقيل :

وإنّي لأستنعس وما بي نعسة

لعل خيالاً منك يلقى خياليا

وأخرج من بين الجلوس لعلّني

أحدث نفسي عنك بالسرّ خاليا

ولذا قيل : إنّ وحشة النفس عن الخلوة لخلوّها عن الفضيلة ، والاستيناس بالناس من علامات الافلاس ، وهذه من أتمّ الفوائد وأعظمها ، لأنّ الغاية القصوى هي المحبّة والمعرفة ، ولا مطمع فيهما الا بدوام الذكر والفكر الغير الحاصلين الا مع الفراغ الغير الممكن بالمخالطة.

ومنها : الاستخلاص عن المعاصي المسبّبة من المخالطة كالرياء والغيبة والسكوت من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنفاق ومسارقة الطبع من أخلاق أهل الدنيا وأعمالهم الخبيثة ، فإنّ الاحتراز عن الغيبة مع الاختلاط صعب لكونها عادة مستمرّة للناس يتفكّهون بها ويستلذّون منها ، فلو وافقتهم أثمت ولو سكت أو استمعت كنت منهم ، ولو أنكرت أبغضوك

٣٦٥

واغتابوك ، وكذا المخالطة لاتخلو عن مشاهدة المنكرات ، فإن سكت عصى والانكار معرّض للمضارّ ، وربّما انجرّ إلى معاصي اخر كثيرة ، فإنّ فيه إثارة للفتنة والخصومة وتحريكاً لغوائل الصدور ، كما قيل :

وكم سقت في آثاركم من نصيحة

وقد يستفيد البغضة المتنصّح

وكذا الرياء ، فإنه ممّا يعسر على الأوتاد والأبدال فلابدّ للمخالط من المداراة وللمداري من المراءاة فيقع فيما وقعوا ، وأقلّه النفاق بإظهار الشوق والمبالغة في إظهار التلطّف والاشفاق مع خلوّ القلب وفراغ الخاطر عنه حتى إنّ ذلك أمر بيّن لدى المستمع وكثيراً مّا تمتلىء القلوب من الأحقاد مع انطلاق الألسنة بالسؤال ، والأخير داء دفين قلّما يتنبّه له الأذكياء ، فإنّ وقع الفساد يسقط بكثرة المشاهدة إلى أن يذعن الطّبع بالميل إليه أو إلى مادونه ، فإن كثرة مشاهدة الكبائر من الأمثال والأقران يحقّر الصغائر في النفس ، بل يكفي في تغيّر الطباع مجرّد السماع ، فضلاً عن المشاهدة.

ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة » (١) ، فإن سببه انبعاث الرغبة عن القلب في الاقتداء بهم ، لكون فعل الخير مبداً للرحمة ، والرغبة مبدأ له وذكراً أحوال الصلحاء مبدأ لها ، فإذا كان الذكر كذلك فما ظنّك بالمشاهدة وكثرتها والطبع اللئيم مائل إلى اتّباع الهفوات والاعراض من الحسنات ، بل تقدير الاولى فيمن ليست فيه تنزيلاً له على قضيّة الشهوة.

وفي النبوي : « مثل الذي يستمع الحكمة ثم لا يحمل منها الا شرّ ما سمع كمثل رجل أتى راعياً فقال له : أحرز لي شاة من الغنم ، فقال : اذهب فخذ خير شاة منها ، فذهب وأخذ باذن كلب الغنم » (٢) ، ولذا تستنكر الطباع ما قلّ وقوعه من المعاصي وإن كانت صغائر كتختّم الفقيه بالذهب ولبسه الحرير دون ما شاع كالغيبة مثلاً فتفطّن لهذه الدقائق وفرّ من الناس

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ١٧ ، وفيه : « أجزر لي شاة ».

٢ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ١٨.

٣٦٦

فرارك من الأسد ، حيث لاترى منهم الا مايغفلك عن الآخرة ويهوّن عليك المعصية ، ويضعّف رغبتك في الطاعة.

ومنها : اخلاص من الخصومات والتعرّض للأخطار والفتن التي لايخلو بلد عنها.

وروى ابن مسعود أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « سيأتي على الناس زمان لايسلم لذي دين دينه الا من فرّ بدينه من قرية إلى قرية ومن شاهق إلى شاهق ومن حجر إلى حجر ، كالثعلب الذي يروغ ، قيل : ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال : إذا لم تنل المعيشة الا بمعاصي الله تعالى ، فإذا كان ذلك الزمان حلّت العزوبة ، قالوا : كيف ذلك يا رسول الله وقد أمرتنا بالتويج؟ قال : إذا كان ذلك الزان كان هلاك الرجل على يدي أبويه ، فإن ل يكن له أبوان فعلى يدي زوجته وولده ، فإن لم يكن فعلى يدي قرابته ، قالوا : فكيف ذلك يا رسول الله؟ قال : يعيّرونه بضيق اليد فيتكلّف ما لا يطيق حتى يورده ذلك موارد الهلكة ». (١) وهو وإن اختصّ بالعزوبة الا أنّه يفهم منه العزلة لعدم إمكان التزويج الا بالمعيشة المستلزمة للمخالطة اللازم منها الوقوع في الفتن والأخطار.

وقال بعضهم لمّا وبّخوه على الاعتزال وترك إتيان الجماعات والمساجد : ـ رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في محاجّكم عالية وفيما هنا عمّا أنتم في عافية. (٢)

ومنها : الخلاص عن شرّ الناس من الغيبة وسوء الظنّ والتهمة والأطماع التي يعسر الوفاء بها والكذب والنميمة والحسد ونصب المكائد في إضراره وغير ذلك ممّا يطول الكلام بتفصيله.

وقد كان بعض الأكابر ملازماً للمقابر والدفاتر ، فقيل له في ذلك ،

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ٢٠.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ٢١.

٣٦٧

فقال : « لم أر أنيساً أسلم من الوحدة ، وأوعظ من القبر ، ولا جليساً أمتع من الدفتر » (١) ، وبعضهم ملازماً للأشجار قائلاً « : إنّ فيها ثلاث خصال : إن سمع لم ينمّ وإن تفلت في وجهه احتمل ، وإن عربدت معه لم يغضب » (٢) ، ولايخلو الانسان في دينه وأفعاله ودنياه وأخلاقه من عورات يكون الأحسن بحاله سترها ولايمكن بالمخالطة.

ومنها : انقطاع الطمع عنه ، فإن رضى الناس غاية لاتدرك وتعميم الناس بجميع الحقوق متعسّر ، بل متعذّر ، والأشغال والأعذار كثيرة لايمكن إظهارها لكل أحد ، والتخصيص مورث للوحشة والبغضاء ، فإذا عمّمهم بالحرمان رضوا عنه ، وفي عكسه أيضاً فائدة جزيلة ، فإن من شاهد أهل الدنيا ومامتّعوا به من زهرتها ونعيمها فإما أن يقوى دينه ويقينه للصبر ففيه تجرّع لمرارته الذي هو أمرّ من الصبر ، أو تنبعث رغبته إلى الدنيا فيحتال في طلبها فيهلك مؤبّداً.

أمّا في الدنيا فبالخيبة عمّا يطمعه غالباً والوقوع في الأخطار والآفات والمهانة والاذلال بذلك.

وأمّا في الآخرة فبايثاره متاع الدنيا على الآخرة ولذا قيل :

إذا كان باب الذلّ من جانب الغنا

سموت إلى العلياء من جانب الفقر

ومنها : الخلاص عن مشاهدة الحمقى ومقاساة أخلاقهم ، فإنّ رؤية الثقيل هو العمى الأصغر ، وقال جالينوس : حمّى الروح مشاهة الثقلاء.

وأغلب هذه الفوائد وإن تعلّقت بالدنيا الا أنّها ربّما تؤدّي إلى الدين أيضاً ، فإنّ رؤية الثقيل يستلزم غيبته غالباً ، والاستنكار لصنع الله وغير ذلك.

ومن فوائد المخالطة التعلّم والتعليم وهما من أعظم العبادات كما أشير

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ٢٢.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ٢٢.

٣٦٨

إليه ساببقاً إذا كانا فيما يحتاج ليه لأمر الآخرة وضروري الدنيا مع صحّة النيّة فيهما وخلوصهما عن الأغراض الفاسدة ، فالاعتزال قبل التعلّم اللازم تضييع للأوقات بما لا ينفع بل يضرّ ، بل يحسب ( من الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ). (١)

وكذا ترويج العلوم بالتعليم وإرشاد الناس إلى الصراط المستقيم من أفضل الطاعات مع خلوص النيّات وحصول القابل للتعلّم الجامع لآدابه السالفة دون ماشاع في هذا العصر منهما ، فإنّ فسادهما أكثر من نفعهما كما لا يخفى.

ومنها : النفع والانتفاع بالمكاسب والمعاملات إن احتاج إليها أو قصد مقصداً صحيحاً شرعياً ، لكن لو كان عنده ما يكفيه مع القناعة كان الأفضل له العزلة لانسداد طرق المكاسب في هذه الأزمنة غالباً الا من المعاصي ، وكذا العزلة لتحصيل المعارف الحقّة أفضل من الكسب للصدقة على الناس ، ونفع الناس بماله أو بدنه وبالقيام بحوائجهم وقضائها له ثواب عظيم مع القيام بحدود الشرع فهو أفضل من العزلة للنوافل والأعمال البدنية الا أنّه لايعادل العزلة للاقبال بكنه الهمّة على الله والتجرّد لذكره والانس بمناجاته عن كشف وبصيرة لا عن أوهام فاسدة وخيالات باردة وظنون واهية لمن وفّقه الله للوصول إلى تلك المرتبة العالية.

ومنها : التأدّب ، أي الارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمّل أذاهم كسراً للنفس وقهراً للشهوات ، وهذا مما يحتاج إليه في بدو السلوك ، وأمّا بعد حصول الارتياض فلا ، إذ ليس مقصوداً لذاته ، فإنّ البدن مركب للنفس تسلك به سبيل الآخرة ، فلابدّ من رياضتها وكسر شهواتها حتى لا تهمج (٢) وينتفع بركوبه وسلوكه للطريق بالوصول إلى المقصد ، فلو اشتغل برياضتها

__________________

١ ـ الكهف : ١٠٤.

٢ ـ كذا ، والظاهر : لاتجمع كما في المحجّة البيضاء (٤ / ٣٠).

٣٦٩

دائماً بدون انتفاع منه باستعماله فيما يراد منه كان كالنائم والميّت في الخلاص عن ألم الشهوات مع عدم حصول الغاية المقصودة منها ، فالعزلة أفضل له حينئذ ، ونحوه التأديب ، أي تهذيب من كان مستعدّاً ، فإنّه لايمكن الا بالمخالطة معه كالمعلّم ، ويتطرّق إليه من الرياء وسائر الأخطار ما يتطرّق إليه ، فلابدّ من التدقيق في مقابلة ما تيسّر له منه بما يتيسر من العزلة ثم إيثار ما هو الأفضل له.

ومنها : الاستيناس بالناس في مواضع العشرة والانس كمجالس الولائم والدعوات وهو حظّ للنف في الحال ، فما يكون مشتملاً على فعل حرام محرّم ، أو مباح مباح ، فما أو مستحبّ كالانس بالملازمين لسمة التقوى بمشاهدة أحوالهم واستماع أقوالهم ، فمستحب ، ومنه ما لو كان الغرض منه ترويح القلب لتهييج النشاط في العبادة ، فإنّه يعمى إذا أكره ويتنفّر بتكليف المداومة في الرياضة والعبادة ، فلا يستغنى المتزل أبداً عن رفيق يستأنس به في بعض الأوقات ، الا أنّه يجتهد في طلب من لايفسد عليه بقيّة أوقاته ، وليكن غالب محادثته في أمور الدين والتشكّي من أحوال القلب والتفحّص عمّا به بهتدي إلى الحقّ.

ومنها : نيل الثواب بحضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة والعيدين والجماعا ، بل الإملاكات والدعوات من حيث إدخاله السرور على قلب مسلم ، وكذا إنالة الثواب بفتح الباب ليعزّوه أو يهنؤوه أو يعودوه ، فينالوا به الثواب ، أو كونه من العلماء فينالوا بزيارته الثواب.

ومنها : التواضع ، فإنّه من أفضل المقامات ولا يقدر عليه في العزلة ، بل قد يكون سببها الكبر بتحقير الناس أو خوف أن لا يوقّر ولا يقدّم أو كون عزلته أدخل في عزّته وجاهه عند الناس أو خوف ظهور قبائحه لو خالطهم فلا يعتقدوا فيه الزهد والعبادة فيستتر بها عن مقابحه إبقاء لاعتقادهم فيه ، وعلامة هؤلاء أنهم يحبّون أن يزاروا ولا يزوروا ويفرحون بتقرّب العوام

٣٧٠

والحكام إليهم ، فمن ليس مشغولاً مع نفسه بذكر الله فسبب اعتزاله عن الناس شدّة اشتغاله بالناس فلا يستحبّ العزلة الا للمستغرق بربّه ذكراً وفكراً وعلماً وعبادة ، بحيث لو خالط الناس لضاعت أوقاته وكثرت آفاته وتشوّشت عليه عباداته.

ومنها : التجارب الحاصل (١) من مخالطة الخلق ومجاري أحوالهم إذ لايكفي العقل الغريزيّ في تفهّم مصالح الدارين ، بل يفيده التجربة والممارسة ، ومن أهمّها أن يجرّب نفسه وأخلاقه وصفاته حيث لايمكن الاطّلاع عليها في الخلوة ، فإنّ كل غضوب أو حقود أو حسود إذا خلّي ونفسه لم يترشّح منه خبثه ، وهذه الصفات مهلكات في أنفسها فتجب قلعها وقمعها ، ولا يكفي تسكينها بالتّباعد عن محركاتها ، فكما أنّ الدمل الممتلي بالقيح والمدّة (٢) لايحسّ صاحبه بألمه مالم يتحرّك أو يمسّه غيره ولو لم يكن له يد تمسّه أو عين تبصره أو معه أحد يحرّكه ربّما يظنّ بنفسه السلامة ، فكذا القلب المشحون برذائل الأخلاق إنّما تنفجر عنه خباثته بالتحريك ، ولذا كان السلف يجرّبون أنفسهم بحمل قرب الماء وحزم الحطب بين الناس في الأسواق ، ويحكى عن بعض الأكابر أنّه قال : أعدت صلاة ثلاثين سنة مع انّي كنت أصلّيها في الصفّ الأوّل ، ولكن تخلّفت يوماً لعذر فما وجدت موضعي فيه فوقفت في الصف الثاني فوجدت في نفسي تشعر خجلة من نظر الناس إليّ.

ولذا قيل : إنّ السفر سمّي سفراً لإسفاره من الأخلاق ، لكونه نوعاً من المخالطة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الحكم بترجيح أحدهما على الآخر مطلقاً غلط ، بل ينبغي النظر إلى الشخص وحاله وخليطه وحاله والباعث على مخالطته والفائت بسببها من الفوائد المذكورة ويقاس الفائت بالحاصل ، فعند

__________________

١ ـ كذا ، والصحيح : الحاصلة.

٢ ـ المدّة كقلّة : ما يجتمع في الجرح من القيح.

٣٧١

ذلك يتضح الأفضل ، ويتبين من ذلك أن الاولى بحال السالك مراعاة الاعتدال فيهما.

تفريع

ثم إن تعذر عليك أن تعيش معتزلاً عن الخلق ولم يتم عيشك إلا بالمخاطة لأبناء نوعك أو كانت أصلح بحالك من العزلة لم يكن لك بد من معرفة آدابها ولمخالطة كل من تريد أن تخالطه أدب خاص على قدر حقه عليك ، وبواسطة رابطته التي بها وقعت الخلطة وأخصها القرابة وأعمها الاسلام وفيما بينهما حق الجوار وحق الصحبة في السفر أو المكتب أو الدرس أو الصداقة أو الاخوة ولكل منهما درجات فحق الرحم المحرم آكد في حقوق القرابة من غيره ، وحق الوالدين آكد في حقوق المحارم من غيرها ، وحق المسلم يتأكد بالمعرفة التي لها درجات مختلفة ، وحق الصحبة في الدرس والمكتب آكد من صحبة السفر ، وكذا للصداقة مراتب ، فإنها إذا قويت صارت اخوة ثم إن ازدادت صارت خلة ، فإن الخلة عبارة عن تخلل الحب جميع أجزاء القلب ظاهراً وباطناً واستيعابه له فالخليل أخص من الحبيب ، فالتعدي في كل من مراتبها ظلم وجور ، أي تعد عن الوسط اللازم مراعاته فيما بينه وبين الخلق ، ونحن نشير هنا إلى أنواع التعديات المذكورة في عدة فصول.

فصل

إيذاء المؤمن بل المسلم وإهانته من المحرمات ، ومستوجب للهلاك.

قال الله تعالى : ( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً ). (١)

وفي النبوي : « من آذى مؤمناً فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ،

__________________

١ ـ الأحزاب : ٥٨.

٣٧٢

ومن آذى الله فهو ملعون في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ». (٢)

و « المؤمن حرام على المؤمن أن [ يظلمه أو ] يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة ». (٣)

وفي النبوي : « قال الله تعالى : من أهان لي وليّاً فقد أرصد لممحاربتي ». (٤)

والأخبار كثيرة ، ومن عرف النسبة التي بين العلّة والمعلول والارتباط الخاص الذي بينهما علم أنّ أذيّة المسلم أذيّة الله ، فلابدّ للعاقل أن يتذكّر ذلك دائماً ويحافظ نفسه عنه حتّى لا يفتضح في الدنيا والآخرة ، ويصير له ضدّه ملكة.

فصل

من أعظم شعب الإيذاء وأنواعه التعدّي على حقوق الناس بالإضرار بهم والشائع المتعارف إطلاق الظلم عليه ، فيشمل القتل والنهب والسرقة والضرب والشتم والقذف والغيبة وغيرها من الأذيات ، ولعلّ تخصيصها عرفاً بالإطلاق لأظهريّة معناه وأكمليّته فيها.

ثم إنّ صدوركلّ منها إن كان من العداوة والحسد كان من تلك الحيثية من رذائل الغضبية ، ومن حيث إنّه ظلم وتعدّ عن الوسط اللازم مراعاته فيما بينه وبين الخلق ظلماً ، بل من الجهة الاولى أيضاً لكونها تعدّياً عن الوسط المطلوب في القوّة الغضبية ، وكذا إن كان باعثه الحرص والطمع كان من هذه الحيثية من رذائل الشهوية ، ومن حيث كونه تعدّياً عن حقوق الناس اللازمة مراعاتها في تحقّق معنى العدالة المطلوبة ظلماً.

__________________

١ ـ جامع الأخبار : ١٧٢.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣٥٨ ، وفيه : « من لسانه ويده ».

٣ ـ الكافي : ٢ / ٢٣٥ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب المؤمن وعلاماته ، ح ١٩.

٤ ـ الكافي : ٢ / ٣٥١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من آذى المسلمين ، ح ٣.

٣٧٣

فظهر أنّه لا وجه لعدّ الظلم من رذائل الغضبية والشهوية ، كما توهّم (١) ، إذ معناه التعدّي عن الحق الذي هو الوسط وهذا هو الضدّ للعدالة. نعم يمكن إلحاق خصوصيّات أفراده باعتبار بواعثها المخصوصة بكلّ منهما وإن كانت باعتبار أنّها ظلم من أفراد الظلم بالمعنى الأعم.

ثم إنّه من أعظم المعاصي شرعاً وأقبحها عقلاً ، وقد تأكّد ذمّه في الكتاب والسنّة.

قال الله تعالى : ( ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون ). (٢)

( وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون ). (٣)

( إنّما السبيل على الّذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحقّ أولئك لهم عذاب أليم ). (٤)

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ جور ساعة في حكم أشدّ وأعظم عند الله تعالى من معاصي ستّين سنة ». (٥)

وقال الباقر عليه‌السلام : « الظلم ثلاثة : ظلم يغفره الله ، وظلم لا يغفره ، وظلم لايدعه ، فالذي لايغفره الله الشرك ، والذي يغفره الله ظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله ، والذي لايدعه فالمداينة بين العباد ». (٦)

وقال الصادق عليه‌السلام : « ما من مظلمة أشدّ من مظلمة لايجد صاحبها عليها عوناً الا الله عزّوجلّ ». (٧)

« وقال عليه‌السلام : من ظلم سلّط الله عليه من يظلمه أو على عقبه أو على

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٢ / ٢١٩.

٢ ـ إبراهيم : ٤٢.

٣ ـ الشعراء : ٢٢٧.

٤ ـ الشوري : ٤٢.

٥ ـ جامع الأخبار : ١٨٠.

٦ ـ الكافي : ٢ / ٣٢٠ ـ ٣٣١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الظلم ، ح ١ ، مع تلخيص.

٧ ـ الكافي : ٢ / ٣٣١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الظلم ، ح ٤.

٣٧٤

عقب عقبة ، قال الراوي : يظلم هو فيسلّط على عقبه؟ فقال عليه‌السلام : إنّ الله يقول : ( وليخشى الّذين لو تركوا من خلفهم ذريّة ضعافاً خافوا عليهم فليتّقوا الله وليقولوا قولاً سديداً ). (١)

قيل : والظاهر أنّ مؤاخذة الأولاد بظلم آبائهم إنما هو من الأولاد الذين كانوا راضين بفعل آبائهم أووصل إليهم أثر ظلمهم أي انتقل إليهم من أموال المظلومين.

وقيل : إنّ الدنيا دار مكافاة وانتقام ، وإن كان بعض ذلك ممّا يؤخّر إلى الآخرة ، وفائدته بالنسبة إلى الظالم ردعه عن الظلم إذا سمع به ، وبالنسبة إلى المظلوم [ استبشاره بنيل الانتقام في الدنيا مع نيله الثواب في الآخرة ، فإنّ ما يأخذه هناك من دين الظالم ] (٢) لو كان له دين أكثر ممّا أخذه من ماله ، وبهذا يصحّ الانتقام على العقب وعقب العقب فإنّه وإن كان في صورة الظلم لكونه انتقاماً من غير أهله ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) (٣) الا أنّه نعمة من الله عليه في المعنى من جهة ثوابه في الدارين ، فإنّ ثوابه أكثر ممّا جرى عليه من الظلم. (٤)

أقول : مع أنّ في كونه في صورة الظلم لما ذكر تأملّاً لظهور أنّ لكلّ من المعاصي آثاراً ولوازم كاستلزام الخمر للسكر ، فلعلّه من هذا القبيل دون المجازاة والمكافاة حتّى يلزم الظلم في الانتقام من الغير على فعل الغير.

وكما أنّ الظلم قبيح مؤكّد إثمه ، فكذا الاعانة عليه ولو بمدّة قلم وربط كيس وتكثير سواد ، وهذا وإن كان كلياً في المعاصي بأسرها قال الله تعالى :

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٣٣٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب بالظلم ، ح ١٣ ، مع تغيير ، والآية في النساء : ٩.

٢ ـ ساقط من « ب ».

٣ ـ الإسراء : ١٥.

٤ ـ جامع السعادات : ٢ / ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٣٧٥

( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (١) الا أنّه منصوص في خصوص المقام.

قال الصادق عليه‌السلام : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الظلمة وأعوان الظلمة ومن لاق (٢) لهم دواةً أو ربط لهم كيساً أو مدّهم بمدّة قلم؟ فاحشروهم معهم ». (٣)

فصل

ومن شعب الإيذاء والإضرار إخافة المسلم وإدخال الكرب في وجهه وطلب عثراته والتجسّس عن عوراته وإظهارها عند الناس.

وقد ورد في خصوص كلّ منها الذمّ الشديد في الأخبار.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من نظر إلى مؤمن نظرة يخيفه بها أخافه الله يوم لا ظلّ الا ظلّه ». (٤)

وقال الصادق عليه‌السلام : « من روّع مؤمناً بسلطان ليصيبه منه مكروه فلم يصبه فهو في النار ، ومن روّعه بسلطان ليصيبه منه مكروه فأصابه فهو مع فرعون وآل فرعون في النار ». (٥)

وقال الله تعالى : ( ولا تجسّسوا ) (٦) ، ( إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذاب أليم ). (٧)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يا معشر من أسلم بلسانه ولم يسلم بقلبه لاتتبّوا عثرات المسلمين ، فإنّه من تتبّع عثرات المسلمين تتبّع الله عثراته ، ومن تتبّع

__________________

١ ـ المائدة : ٢.

٢ ـ في النسخ : « لان » وهو تصحيف.

٣ ـ جامع الأخبار : ١٨١.

٤ ـ الكافي : ٢ / ٣٨٦ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من أخاف مؤمناً ، ح ١.

٥ ـ الكافي : ٢ / ٣٨٦ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من أخاف مؤمناً ، ح ٢ ، مع اختلاف.

٦ ـ الحجرات : ١٢.

٧ ـ النور : ١٩.

٣٧٦

الله عثراته يفضحه ». (١)

وقيل للصادق عليه‌السلام : شيء يقوله الناس : عورة المؤمن على المؤمن حرام؟ فقال : « ليس حيث يذهبون ، إنّما عنى عورة المؤمن أن يزلّ زلّة أو يتكلّم بشيء يعاب عليه فيحفظه عليه ليعيّره به يوماً ما ». (٢)

فما أقبح حال من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه ، بل هو أدلّ دليل على خبث باطنه وسوء سريرته.

ومنها : إفشاء السرّ والنميمة والشماتة والسخرية ، وقد تقدّم ذكرها.

ومنها : الإفساد بين الناس ، وهو من المهلكات العظيمة.

قال الله تعالى : ( الّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ) (٣) ( ... لهم اللعنة ). (٤)

وقال : ( إنّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ). (٥)

ومنها : الغدر والخيانة في المال أو الجاه أو العرض أو غيرها ، ويدخل فيها البخس في الكيل والوزن والغشّ بما يخفى وكلّ تدليس وتلبيس.

وقد ورد في ذمّ كلّ من أقسامه نصوص كثيرة ، وفي مدح الأمانة التي هي ضدّها ، فمن تأمّل فيها وعلم أنّ الخيانة توجب في الدنيا الفضيحة والعار والعذاب الأليم في دار القرار ، والأمانة تؤدّي إلى خير الدنيا وحسن القبول في نظر الخلق والسعادة في دار البقاء سهل عليه تركها والاتّصاف

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٣٥٥ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من طلب عثرات المؤمنين ، ح ٤.

٢ ـ الوسائل : كتاب الطهارة ، أبواب آداب الحمام ، الباب ٨ ، ح ١.

٣ ـ البقرة : ٢٧.

٤ ـ الرعد : ٢٥.

٥ ـ المائدة : ٣٣.

٣٧٧

بضدّها ، على أنّ الباعث إمّا العداوة وطلب الجاه ونحوهما من رذائل الغضبية ، وإمّا الحرص والطّمع وما يشابههما من رذائل الشهوية ، فأنفع شيء في علاجها قطع بواعثها بما ذكر في محلها.

فصل

ومنها : الغيبة ، وهي أن يذكر الغير ولو إيماءاً أو رمزاً أو كتابة أو محاكاة.

وبالجملة : ما يفهم منه نقص في بدنه أو أخلاقه أو أفعاله أو أقواله المتعلّقة بدينه أو دنياه ولو في لباسه أو داره ، بحيث لوبلغه كرهه ، ويشهد لهذا التعميم بعد الاجماع المدّعى في كلام جماعة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذكرك أخاك بما يكره ». (١)

وقيل بحضرته : فلان ما أعجزه! فقال : « قد اغتبتم صاحبكم ». (٢)

وقالت عائشة : فلانة قصيرة ، فقال : « اغتبتها ». (٣)

وقال أحد الشيخين للآخر : فلان نوّام ، ثم سألا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إداما ، فقال : « تأدّمتما من لحم صاحبكم ». (٤)

وربما قيل بأنّه لاغيبة في أمر الدين ، فإنّها ذمّ لمن ذمّه الله ورسوله.

وقال الصادق عليه‌السلام : « صفة الغيبة أن يذكر أحد بما هو ليس عند الله بعيب ... وأمّا الخوض في ذكر غائب بما هو عند الله مذموم وصاحبه فيه ملوم فليس بغيبة وإن كره صاحبه إذا سمع به ، وكنت أنت معافى عنه طالباً منه وتكون مبيناً للحقّ من الباطل ببيان الله ورسوله ولكن على شرط أن لايكون للقائل بذلك مراد غير بيان الحقّ والباطل في دين الله ...

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٥٦.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٥٦.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٥٦ ـ ٢٥٧.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٠٦ ، في النسخ : « تاد تما من لحم صاحبكما ».

٣٧٨

الحديث ». (١)

وذكر عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كثرة عبادة امرأة وأنها تؤذي جيرانها ، فقال : « هي في النار ». (٢)

وذكرت عنده امرأة أخرى وأنّها بخيلة ، فقال : « فما خيرها إذن؟ ». (٣)

وهو ضعيف ، فإنّ الأخبار الناهية عن هتك أستار العباد مع ما فيها من التشديدات ممّا لا تحصى ، ولعلّنا نقلنا بعضها فيما سبق والخبر الأوّل ظاهر في المموّه المبتدع إذا صار سبباً لالتباس الحقّ بالباطل وحينئذ يجوز بل يجب كما سيأتي والآخران لا دلالة لهما على تعيين شخصهما ، فلعلّ السؤال عن أمراة تكون بهذه الصفة فلا دخل له بالمقام حينئذ ، مع أنّ مقام السؤال والاستفتاء من المستثنيات كما سيجيء.

ويدلّ على التعميم الأوّل ما روي أنّ عائشة أو مأت بيدها إلى امرأة أي هي قصيرة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قد اغتبتها ». (٤)

ولمّا رآها حكت وأومأت قال لها : « ما يسرّني أنّي حاكيت ولي كذا وكذا ». (٥)

مع أنّ سرّ النهي تفهيم القبائح ، فربما كان في بعضها أبلغ من القول ، فلو لم يعيّن لم يضرّ ، كأن يقول : ما يقوله أو يفعله بعض الناس أن بعض أهل عصرنا إذا لم تكن قرينة معيّنة من عهد أو غيره ، لأنّ المحذور نشأ من التفهيم دون ما يحصل به ، وربما جامعت الرياء وتزكية النفس تصريحاً أو تعريضاً مثل الحمد لله الذي لم يجعلنا مثل فلان ، أو كذا فيتغلّظ إثمه ، وكذا لو جامع النفاق كذلك نحو نسأل الله أن يروّح عن صديقنا فلان فقد جرى

__________________

١ ـ مصباح الشريعة ، الباب ٤٩ ، في الغيبة.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٥٦.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٥٦.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٥٨.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٣٦ ، مع اختلاف.

٣٧٩

عليه كذا ، أو مسكين فلان فقد ابتلي بكذا ، وهو كاذب فيما يظهره من التأسّف والدعاء ، وهي تشمل التصديق ، بل الإصغاء ولو ساكتاً.

فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ المستمع أحد المغتابين ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أذلّ عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره فلم ينصره أذلّه الله يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ». (٢)

وقال عليه‌السلام : « ما من رجل ذكر عنده أخوه المسلم وهو يستطيع نصره ولو بكلمة ولم ينصره الا أذلّة الله في الدنيا والآخرة ، ومن ذكر عنده أخوه المسلم فنصره نصره الله في الدنيا والآخرة ». (٣)

وعمّم التوبيخ والانكار والحكم بكونه غيبة بالنسبة إلى القائل والمستمع كما في حكاية الشيخين وغيرها.

وقد ورد في مدح نصرة المسلم والذب عن عرضه وفضلهما أخبار كثيرة :

ففي النبوي : « من ذبّ عن عرض أخيه المسلم كان حقّاً على الله أن يستقيله من النار ». (٤)

ثم ما يدلّ على ذمّ الغيبة من الكتاب والسنّة كثير ، وقد شبّهه الله تعالى بأكل لحم الميتة وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّها أشدّ من الزنا ، وإنّها أسرع في دين الرجل من الآكلة في جوفه. (٥)

وقال : « من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة الا أن يغفر له صاحبه ». (٦)

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٦٠.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٦٠ ، مع اختلاف.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٣٦١ مع اختلاف.

٥ ـ راجع المحجة : ٥ / ٢٥١ و ٢٥٥.

٦ ـ جامع الأخبار : ١٧١.

٣٨٠