كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

والترفّع ، بل للهداية أو الارشاد ، ودفع بدع أهل العناد ، أو طلب الحق الاسترشاد ، فيكون من لوازم الثبات في الايمان ونتائج قوّة المعرفة وكبر النفس ، وقد أمر الله به نبيّه فقال : ( وجادلهم بالّتي هي أحسن ). (١)

الا أنّ له آداباً وشروطاً لو قام بها ووفّاها حقّها فقد قام بحدودها واقتدى بالسلف فيها ، فإنّهم ماكانوا يناظرون الا لله وفي الله. وله علامات :

منها : أن لا توقعه الا مع رجاء التأثير ، ولا يكون هناك ما هو أهمّ منه ، لأنّه إذا كان في الواجب على الوجه المشروع كان من فروض الكفايات ، فلو عارضه عيني أو كفائي أهمّ منه لم يجز الاشتغال به. وأن يمكن له العمل برأيه باجتهاده حتّى إذا بان له الحقّ على لسان خصمه انتقل إليه ، فالمقلّد لايمكنه الانتقال مع ظهور ضعفه لديه ، فلا فائدة له فيه. وأن يكون مناظرته في مسألة مهمّة واقعة أو قريبة الوقوع دون الفروض النادرة ، أو البحث في التعريفات بانقوض والتزييفات. وأن يكون في الخلوة أحبّ إليه من المحافل ، لكونها أجمع للهمّ وأقرب إلى صفاء الفكر وأبعد عن الأغراض الفاسدة. وأن يكون كمنشد ضالّة يشكر متى وجد الحقّ في يده أو يد غيره ، فلايرى خصمه خصيماً ، بل معيناً فيفرح من جريان الحقّ على لسانه ويشكره لا أنّه يخجل ويسود وجهه ويجتهد في دفعه ، ولايكون مناظرته الا مع البارع المتفرّد حتّى يستفيد منه.

وأمّا الفرد المتبادر الشائع بين علماء الدنيا من المناظرة والجدال وهو ما كان بقصد الغلبة والافحام وإظهار الفضل وقصد المباهاة والمماراة واستمالة وجوه الناس فنسبته إلى الفواحش الباطنة كشرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من كونه مهيّجاً لها كالحسد ، حيث لايخلو عنه صاحبه ، فإنه يغلب تارة فيحمد عليه ، وتارة يغلب فيحمد كلام غيره ، فمادام يذكر أحد بقوّة

__________________

١ ـ النّحل : ١٢٥.

٢٨١

العلم والنظر يحسده ويحبّ انصراف وجوه الناس عنه إليه.

والتكبّر على الأمثال والأقران حتّى إنّ أرباب هذه الخصلة الخبيثة يقاتلون على القرب من وسادة الصدر ، والتقدّم في الدخول من مضائق الطرق.

والحقد لمن يرجّح كلام خصمه أو يتوقّف فيه ، إذ لايمكن اتّفاق المستمعين على ترجيج كلامه ، ولو قلّل خصمه الاعتناء به والالتفات بكلامه الغرس في صدره من الحقد له ما لا ينقلع عنه مدّة عمره.

والغيبة حيث لاينفكّ عن حكاية قول الخصم وتزييفه إن اقتصر على الواقع (١) وإن تعدّى كان كذباً وبهتاناً.

وذمّ المصغى إلى كلام خصمه والمقبل عليه بنفسه ، ونسبته إلى الجهل والحمق وتزكية النفس ، حيث لاينفكّ عنها في أثناء المجادلة بأنّي لست ممّن يخفى عليه أمثال هذه وأنا المتفرّد وأنا كذا وكذا إمّا صلفا أو للحاجة إلى ترويج كلامه.

والتجسّس عن عيوب الأقران والخصوم حتى إنّ بعضهم إذا سمعوا بورود عالم إلى بلد تفحّصوا عن خفايا أحواله واستخراج مقابحه حتى يدّخروها لتفضيحه وتخجيله لو مسّت الحاجة إليه إمّا تعريضاً على سبيل التشبيب مع الحياء أو تصريحاً مع الوقاحة ، والفرح بمساءتهم والغمّ من مساءتهم كالتباغض بين الضرّات بحيث لو رأيى الخصم ارتعدت فرائصه وتغيّر لونه واضطرب فكره.

والنفاق لاضطرارهم إلى ملاقاة خصومهم ومحبيّهم وأشياعهم فلابدّ لهم من التودّد اللساني وإظهار الشوق.

__________________

١ ـ مجرّد حكاية قول الخصم وتزييفه إن اقتصر على الواقع ليس غيبة ولذا قيّده الشهيد الثاني رحمه‌الله بكون الحكاية في معرض التهجين والذّم والتوهين ، وكذا أبوحامد. فراجع منية المريد : ٣٢٦ والمحجة البيضاء : ١ / ١٠٤.

٢٨٢

وفي النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا تعلّم الناس العلم وتركوا العمل ، وتحابّوا بالألسن وتباغضوا بالقلوب وتقاطعوا بالأرحام لعنهم الله عند ذلك ، فأصمّهم وأعمى أبصارهم » (١)

والاستكبار عن الحقّ وكراهته ، والحرص على المماراة فيه حتّى إنّ أبغض شيء عنده ظهور الحقّ على لسان الخصم ، ولو ظهر تشمّر لجحده بأقصى جهده وبذل أنحاء الحيل في ردّه فيصير المراء طبيعيّاً بحيث لا يسمع كلاماً الا وينبعث من طبعه داعي الاعتراض عليه حتّى في أدلّة القرآن وألفاظ الشرع ، فيضرب بعضها ببعض.

والرياء ، وهو عمدة مقاصده لحبّه إطلاق ألسنة الناس بمدحه ، وصرف وجوههم إليه.

هذا حال الأكابر والعقلاء المعتبرين من أهل الخصومات والجدال والمراء ، ويتشعّب منها خصال اخر كالأنفة والغضب والبغضاء والطمع وحبّ المال والجاه للتمكّن من الغلبة والمباهاة والأشر وتملّق الحكّام والسلاطين للأخذ من حطامهم والاستعانة بهم على تزييف خصومهم والتجمّل بفاخر الثياب والمراكب والخوض فيما لايعني وكثرة الكلام وقسوة القلب والغفلة عن الله سبحانه.

وأمّا سفهاؤهم وأدانيهم فأكثر ما يؤول إليه أمرهم في المناظرة الضرّب والشتم والكلم وتمزيق الثياب والأخذ باللحى وسبّ الوالدين والأساتيد والقذف وغيرها من الفواحش الظاهرة.

فظهر أنّ الجدال والمراء والخصومة من أمّهات الخبائث ، ولذا ورد في ذمّهما ما ورد.

قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « إيّاكم والمراء والخصومة ، فإنّهما يمرضان

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ١ / ١٠٥ ، وفيه : « في الأرحام ».

٢٨٣

القلوب على الاخوان ، وينبت عليهما النفاق ». (١)

وقال الباقر عليه‌السلام : « الخصومة تمحق الدين وتحبط العمل وتورث الشكّ ». (٢)

وقال موسى بن جعفر عليه‌السلام حينما سئل عمّن يحسن الكلام في الدين هل يجوز له ذلك؟ : « المحسن وغير المحسن لايتكلّم فيه فإنّ إثمه أكبر من نفعه. (٣) وغير ذلك.

لايقال : قد يترتّب على المجادلة والمناظرة في الدين فوائد دينية كرغبة الناس بسببها في طلب العلم ، إذ لولا حبّ الرئاسة لاندرست العلوم والتقويّ بها على دفع المبطل المجادل والمنع عن ضلالة المستضعفين بإضلال ذلك المضلّ.

قلت : نعم قد ذكرنا أنّ من المجادلة ما هو ممدوح ، ولذا أمر الله بها نبيّه ومناظرات الأئمّة عليهم‌السلام مع المخالفين مشهورة ، وفي كتب السير والأخبار مسطورة ، لكن بشروطها وآدابها المذكورة ، وأمّا مع فقدها فهي موبقة مهلكة لصاحبها وإثمها له أشدّ من سائر المعاصي ، وإن انتفع بها غيره كالشمع المحرق لنفسه الذي يستضيء به غيره فصلاح غيره ، في هلاكه.

ولذا ورد : « إنّ الله يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر » (٤).

وربما أهلك غيره أيضاً إن دعاه إلى مالأجله هلك كالنار المحرقة الآكلة لنفسها وغيرها ، ولذا قال الصادق عليه‌السلام :

« إذا رأيتم العالم محبّاً لدنياه فاتّهموه على دينكم ، فإنّ المرء يحوط على ما أحبّ ». (٥)

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٣٠٠ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب المراء والخصومة ، ح ١.

٢ ـ المحجة البيضاء : ١ / ١٠٧ نقلاً عن توحيد الصدوق : ٤٧٦.

٣ ـ المحجة البيضاء : ١ / ١٠٨ نقلاً عن توحيد الصدوق : ٤٧٧.

٤ ـ المحجة البيضاء : ١ / ١٠٩.

٥ ـ الكافي : ١ / ٤٦ ، كتاب فضل العلم ، باب المستأكل بعلمه ، ح ٤ ، وفيه : « فإنّ كلّ محبّ لشيء يحوط ما أحبّ ».

٢٨٤

فتيقّظ يا حبيبي منرقاد الغفلة ولاتظنّن بعلام الغيوب أن تخفى عليه خافية من خفايا القلوب ، فإذا لم يقبل في أدنى عبادة ظاهرة منك الا ما كان خالصاً لوجهه الكريم ، فكيف يقبل من علمك الذي هو أشرف الطاعات والعبادات وبه يصل العبد إلى أفضل السعادات مالا أثر فيه من ابتغاء وجهه الأعلى ، وكان غاية همّك فيه الوصول إلى قليل من متاع الدنيا.

فصل

الكذب هو الخبر الغير للواقع. فإن كان باعثه الحسد والعداوة كان من رذائل الغضبية ، وإن كان حبّ المال والطمع أو الاعتياد عليه من الاختلاط مع الكذّابين كان من رذائل الشهوية.

وقد يطلق على النبية الغير الخالصة لله تعالى ومرجعه إلى الرياء ، وسيأتي حكمه إن شاء الله ، وعلى العزم الغير الثابت المشوب بالضعف والتردّد ، فيقال : إنّه كذب في العزيمة ، وقد يعزم وقد يعزم على فعل لعدم مشقّة فيه ، ثمّ إذا حصل التمكّن وهاجت الشهوات انحلّت العزيمة فيقال : إنّه كذب في الوفاء بها ، ولعلّهما من رذائل الشهويّة.

وقد يستعمل في الأفعال إذا دلّ ظاهرها على ما يخالف الباطن ، ويمتاز حينئذ عن الرياء باعتبار عدم الخلوص لله فيه دونه ، إذ ربّ واقف على هيأته خاضع لله في صلاته لاينوي بها غيره تعالى ، بحيث يدلّ على إقباله بشراشره إليه تعالى مع ذهول قلبه عنه تعالى وتوجّهه إلى أمور الدنيا ، وماش على هيئة الوقار بحيث يجزم من يشاهده باتّصافه به مع خلّوه عنه فهو كاذب في عمله ، وليس مرائياً لعدم التفاته في غاية فعله إلى الغير ، وهذا ينبعث في كلّ من الثلاثة.

ثم إنّ للفضائل النفسية مباديء وحقائق ولوازم وغايات ، فمن نالها بأسرها كان صادقاً محقّقاً فيها ، والا فكاذب ، فالخوف منه تعالى له مبدء هو

٢٨٥

الإيمان به ، وحقيقة هي تألّم الباطن واحتراقه ، وآثار هي اصفرار اللون وارتعاد الفرائص والبكاء والإعراض عن المشتهيات الحسيّة ، وغايات هي المواضبة على الطاعات والاجتناب عن السيّئات ، فمن آمن به تعالى بدون تحقيق له وظهور آثاره ولوازمه أطلق عليه اسم الخائف منه تعالى ، لكنّه خوف كاذب.

قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « إيّاكم والكذب فإنّ كلّ راج طالب ، وكلّ خائف هارب ». (١)

وقال الصادق عليه‌السلام لمّا قيل له قوم يعملون المعاصي ويقولون نرجو فلايزالون كذلك حتّى يأتيهم الموت : « هؤلاء قوم يترجّحون بالأماني ، كذبوا هؤلاء ليسوا براجين ، إنّ من رجا شيئاً طلبه ، ومن خاف من شيء هرب منه » (٢)

فقد تبيّن من ذلك أنّ مجرّد الاقرار بالشهادتين مع فقد اليقين الحقيقي والتعظيم لله ورسله وأوليائه والاهتمام في امتثال أوامرهم ونواهيهم كذب في دعوى الايمان.

ثمّ إنّ الكذب من أقبح الذنوب وأشنعها ، قال الله تعالى :

( إنّما يفتري الكذب الّذين لايؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ) (٣) ( فاعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ). (٤)

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « المؤمن إذا كذب بغير عذر لعنه سبعون ألف ملك ، وخرج من قلبه نتن يبلغ العرش ، وكتب الله عليه بتلك الكذبة سبعين زنية أهونها كمن يزني بأمّه ». (٥)

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٣٤٣ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكذب ، ح ٢١.

٢ ـ الكافي : ٢ / ٦٨ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الخوف والرجاء ، ح ٥.

٣ ـ النحل : ١٠٥.

٤ ـ التوبة : ٧٧.

٥ ـ البحار : ٧٢ / ٢٦٣ نقلاً عن جامع الأخبار ، مع اختلاف.

٢٨٦

وقال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « لايجد العبد طعم الايمان حتّى يترك الكذب هزله وجدّه ». (١)

وقال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : « اتّقوا الكذب الصغير منه والكبير في كلّ جدّ وهزل ، فإنّ الرجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير ». (٢)

وقال الباقر عليه‌السلام : « إنّ الله تعالى جعل للشرّ أقفالاً ، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب ، والكذب شرّ من الشراب ». (٣)

وعن العسكري عليه‌السلام : « جعلت الخبائث كلّها في بيت وجعل مفتاحها الكذب ». (٤)

إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

وأشدّ أنواعه الكذب على الله ورسوله والأئمّة عليهم‌السلام وكفاه ذمّاً كونه مفطراً لصوم الصائم في ظاهر الشريعة على الأقوى.

ومن جملته الافتاء ممّن لا أهليّة له ، ومن هو أهل له بما لايتحقّقه.

قال الصادق عليه‌السلام : « القضاء أربعة ، ثلاثة في النار وواحد في الجنّة » وعدّ من الثلاثة من حكم بالحقّ ولم يعلمه. (٥)

وقال الباقر عليه‌السلام : « من حكم بما لم يعلم فقد ضاد الله فيما أحل وحرم » (٦).

وحسبك دالاً على شناعته أنّه تعالى أوعد نبيّه ـ مع كونه أحبّ خلقه إليه وأكرمهم لديه وعلّمه بأنّه لاينطق عن الهوى ـ بقوله :

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٣٤٠ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكذب ، ح ١١ ، وفيه : « عبد ».

٢ ـ الكافي : ٢ / ٣٣٨ ، كتاب الإيمان واكفر ، باب الكذب ، ح ٢.

٣ ـ الكفاي : ٢ / ٣٣٩ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكذب ، ح ٣.

٤ ـ البحار : ٧٢ / ٢٦٣ نقلاً عن جامع الأخبار.

٥ ـ الوسائل : كتاب القضاء : الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، ح ٦.

٦ ـ الكافي : ١ / ٥٨ ، كتاب فضل العلم ، باب البدع والرأي والمقائيس ، ح ١٧ ، وفيه : « من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لايعلم ، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادّ الله حيث أحلّ وحرّم فيما لايعلم ».

٢٨٧

( ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثمّ لقطعنا عنه الوتين ). (١)

وأثبت به الفسق والظلم والكفر في آيات متواليات.

ثمّ أفحشها بعده شهادة الزور واليمين الكاذب وخلف الوعد.

قال تعالى : ( واجتنبوا قول الزور ) (٢) ( يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون * كبر مقتاً عند الله ... ) (٣)

والأخبار في ذمّ الثلاث لاتحصى.

وعلاجه ـ بعد التفكّر فيما ورد في ذمّه وما يترتّب عليه من الهلاك الأبدي وسقوط الكاذب في الدنيا عن القلوب ، فلا يعتني أحد بقوله ، وما يترتّب عليه من الخجلة والاقتضاح ، حتّى إنّه تعالى يسلّط عليه النسيان ، كما ورد في الأخبار (٤) ، والتذكّر لما ورد في مدح الصدق ـ أن يقدّم التروّي إذا أراد الكلام ، فإن كان كذباً هجره تكلّفاً حتّى يعتاد عليه ، وأن يجالس الصادقين ، ويحترز عن الاختلاط مع الكذّابين.

تنبيه

قبح الكذب ذاتّي ، فيختصّ حرمته بما لايكون فيه مصلحة عارضية أو كانت في الصدق (٥) ، والا زال قبحه وارتفع إثمه ، بل يجب إذا ترتّبت عليه مصلحة واجبة كإنقاذ المسلم من القتل وحفظ عرضه وماله ، ويستحبّ أو يباح إذا ترتّبت عليه مصلحة مستحبّة أو مباحة كالإصلاح بين الناس ، والغلبة في حالة الحرب وتطييب خاطر الزوجات والأولاد.

والأخبار وإن وردت في خصوص الثلاثة الا أنّه يلحقها ما يساويها في

__________________

١ ـ الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.

٢ ـ الحج : ٣٠.

٣ ـ الصف : ٢ ـ.

٤ ـ الكافي : ٢ / ٣٤١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الكذب ، ح ١٥.

٥ ـ الظاهر أنّ المراد فرض وجود مفسدة في الصدق في هذا القسم.

٢٨٨

المصلحة أو يترجّح عليها من باب الأولويّة أو اتّحاد الطريق ، لكن ينبغي الحتراز عنه مالم يضطرّ إليه ، والاقتصار على الواجب ، فالكذب لمصلحة الجاه أو المال المستغني عنه لعلّه محرّم لعدم إيجابه ضرراً أو فساداً أو إعداماً للوجود ، غايته فوات بعض الحظوظ النفسانيّة ، وأمّا ملا يستغنى عنه فينبغي للعاقل أن يوازنه بمحذور الصدق ، ويلاحظ أيّهما أشدّ محذوراً وأعظم وقعاً في نظر الشارع ، ويحترز عنه (١) ، ومع التردّد يميل إلى الصدق عملاً بالأصل.

تفريع

الأولى في مقام يجوز فيه الكذب العدول إلى التعريض والتورية مهما أمكن ، وهو المراد من قولهم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ، إذ معالاستغناء عنه يكون كالتصريح ، إذ خطر الكذب ناشىء من تفهيمه المخاطب خلاف الواقع ، وهو حاصل في التعريض أيضاً ، نعم إذا اضطرّ إليه وجاز له الكذب الصريح لصحّة قصده وحقّية نيّته ، حيث إنّ حس الصدق لدلالته على الحقّ ، وهذا أيضاً لارادته الخير والمصلحة طالب له ، فكأنّه صادق في الحقيقية ، وإن كان كاذباً في الصورة ومفهماً لما هو خلاف الحقّ ، كان التعريض أولى ، لكونه أقرب منه بحسب الصورة أيضاً ، وإن شارك الكذب في تفهيم خلاف الواقع.

وقال الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى في قصّة إبراهيم : ( بل فعله كبيرهم ) (٢) ما فعل كبيرهم وما كذب إبراهيم ، قيل : وكيف ذاك؟ فقال : إنّما قال ( فاسئلوهم إن كانوا ينطقون ) (٣) أي إن نطقوا فكبيرهم فعل ، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً ، فما نطقوا وما كذب إبراهيم.

__________________

١ ـ وظيفة المكلّف إن لم يكن مجتهداً في أمثال هذه الموارد الرجوع إلى مقلّده.

٢ ـ الأنبياء : ٦٣.

٣ ـ الأنبياء : ٦٣.

٢٨٩

وسئل عن قوله : ( أيتها العير إنكم لسارقون ) (١) فقال : « إنهم سرقوا يوسف عن أبيه ».

وعن قول إبراهيم : ( إني سقيم ) (٢) فقال : « ما كان سقيماً وما كذب ، إنما عنى سقيماً ف دينه ، أي مرتاداً » (٣)

فظهر أن التعريض مطلقاً مما لايجوز ، نعم قد يباح لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للعجوزة لاتدخل الجنة عجوز ، وفي عين زوجك بياض. (٤)

ثم إن من الكذب الجائز ماجرت به العادة ف المبالغة كقولك : قلت لك مائة مرة ، إذ ليس المقصود تعيين العدد بل تفهيم الكثرة ومنه ما يتحقق ف الاستعارات والتشبيهات ، وسائر أنواع المجازات ، إذ الغرض تفهيم المناسبة والمبالغة لا الحقيقة والمساواة من جميع الجهات.

فصل

الجاه ملك القلوب بالطاعة والانقياد لاعتقاد الاتصاف بكمال حقيقي أو وهمي ، فحبه إن كان لحب الغلبة والاستيلاء كان من رذائل الغضبية وإن كان لحب الحظوظ النفسانية والمشتهيات البهيمية حيث يتوصل به إليها كان من رذائل الشهوية وإن كان من الجنسين كان من رذائلهما معاً ، وهو الغالب في حدوثه ، والآيات والأخبار في ذمه مما لاتحصى.

قال الله تعالى : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) (٥)

__________________

١ ـ يوسف : ٧٠.

٢ ـ الصافات : ٨٩.

٣ ـ الاحتجاج : ٢ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٣٤.

٥ ـ القصص : ٨٣.

٢٩٠

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حبّ المال والجاه ينبتان النفاق في القلب ، كما ينبت الماء البقل ». (١)

وقال الصادق عليه‌السلام : « فوالله ما خفقت النعال خلف رجل الا هلّك وأهلك ». (٢)

وقال عليه‌السلام : « ملعون من ترأّس ، ملعون من همّ بها ، ملعون من حدّث بها نفسه ». (٣)

وقال عليه‌السلام : « والله إنّ شراركم من أحبّ أن يوطأ عقبه ». (٤)

وغير ذلك مما لايحصى.

وممّا يوضح قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه ينبت النفاق هو أنّ من ابتلي بهذه الخصلة قصرت همّته على مراعاة الخلق والتودّد إليهم ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم وذلك بذر النفاق ، ويؤدّي إلى التساهل في العبادات واقتحام المحظورات للتواصل بها إلى اقتناص القلوب ، فإنّ النفاق مخالفة الظاهر للباطن قولاً أو فعلاً ، والطالب للمنزلة في قلوب الناس مضطرّ إليها وإلى التظاهر بخصال حميدة هو عار عنها ، وهو عين النفاق.

ثم الباعث لحدوث هذه الخصلة الذميمة والحرص على ازديادها إمّا دفع ألم الخوف الناشيء عن سوء الظنّ وطول الأمل حيث إنّه لطول أمله يقدّر تلف ما يحتاج إليه في معيشته ودفع ضرورته من الأقوات والأموال ، وحدوث بعض الحوادث والمصائب والأذياب ، فيحتاج إلى الاستعانة في تحصيل ما يحتاج إليه ودفع ما يريد الاجتناب عنه بتسخير قلوبهم له في ذلك ، وربما يزداد حرصه في ذلك كما يزداد حرصه في جمع الأموال بالتقديرات

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١١٢.

٢ ـ الكافي : ٢ / ٢٩٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب طلب الرئاسة ، ح ٣.

٣ ـ لكافي : ٢ / ٢٩٨ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب طلب الرئاسة ، ح ٤.

٤ ـ لكافي : ٢ / ٢٩٩ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب طلب الرئاسة ، ح ٨ ، وفيه : « بلى والله ، وإن ... ».

٢٩١

البعيدة من حدوث حادث يزعجه عن وطنه ، أو يزعج أهل الأمصار البعيدة عن أو طانهم إلى البلد الذي هو فيه ، فيحتاج إليهم في جلب نفع أو دفع ضرر ، فيطلب تسخير قلوبهم لذلك وهكذا ، فيحصل له بذلك أمن من الخوف الناشيء له من تلك التقديرات الناشئة من سوء الظنّ بالله عزّوجلّ وطول أمله.

وإمّا ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ النفس الانسانية لتجرّدها يشبه المبدء في ميلها إلى صفات الربوبية كالعلم والقدرة والكبر والعزّ والاستعلاء ، فإنّ مقتضاها التمامية ، أي التفرّد بالوجود والكمال وما هو فوقها أعني رجوع كل وجود وكمال إليه ، فكما أنّ الكمال للشمس بوجودها وحدها فلو كان معها شمس أخرى كان نقصاً في حقّها إذ لم يتحقّق فيها كمال الشمسية ، وهذا وكمالاته إليه تعالى فلا يوجب حصولها نقصاً في كماله ، كما أنّ إشراق الشمس في الأقطار لايعد نقصاً في حقها ، وإنّما يتحقّق نقصانها بوجود شمس أخرى مساوية لها في الرتبة ، بل تعدّ كمالاً له لكونها من إشراق نور القدرة الالهية ، الا أنّ ذلك لايوجب زوال حبّه وتعشّقه للكمال ، لكونه محبوباً بالذات فيطلب الممكن في حقّه أي حصول نوع من الاستيلاء له على الموجودات إمّا بالعلم والمعرفة خاصّة فيما لايقبل التغيير (١) كذات الواجب وضفاته وعالم المجرّدات ، أو فيما لايقبله ولا يتمكّن من التصرفّ فيه كالسماوات وما فيها لما عرفت من أنّه نوع استيلاء ، بل هو أعظم من ملكيّة الأعيان ، أو به وبالقدرة بالتصرّف فيه كيف يشاء فيما يقبله ويتمكّن منه كالأراضي وأجزائها بالحيازة والضبط أو الزرع والغرس والركوب والحمل والرفع والوضع والأعطاء والمنع وكنفوس بني آدم بالتسخير والتصرّف فيها بالأمر والنهي والمحبّة والاطاعة والانقياد ، ولذا يطلب استرقاق العبيد

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر : التغيّر.

٢٩٢

واستعباد العباد ولو قهراً ، فالنفس تحبّ الكمال بالعلم والقدرة لذاته ، وإنّما تحبّ المال والجاه لكونها (١) من أسباب القدرة ، ولكونها غير متناهية لاتكاد تتف النفس في طلبهما إلى حدّ وتلتذّ على حسب ما تدركه وتطلب ما هو عادم له ممّا يتصوّر إمكانه في حقّه ، لكن حبّه للجاه أكثر من المال ، لأنّ المال معرض للتلف ، ومطمع الظلمة والسارقين ، فيحتاج إلى الحفظ والحراسة ، ويتطرّق إليه أخطار (٢) كثيرة بخلاف القلوب لا حتفاظها من الآفات الا بتغير الاعتقاد ، ولأنّ التوصّل به إليه أيسر من العكس ، لأنّ الأموال مسخّرة للقلوب ، فتسخير القلوب يستلزم تسخيرها بطريق أولى ، بخلاف صاحب المال اللئيم الخسيس العاري عن الكمال ، حيث إنّه لايمكن له التوصّل به إلى الجاه ولأنّ سرايته وازدياده لايحتاج إلى مزيد كلفة وتعب بخلاف المال ، حيث يحتاج استنماؤه إلى مقاساة شديدة ونصب.

ثم إنّ علاج هذه الرذيلة الموببقة مركّب من علم وعمل ، فالعلمي أن يتفكّر في أنّه وإن كان صادقاً فيما تصوّره كمالاً من العلم والقدرة وحبّه لهما الا أنّه اشتبه الأمر عليه بإغواء الشيطان في كون الكمال الحقيقي في الاستيلاء على الملك الذي لازوال له ، والتمكّن من العزّ الذي لا ذلّ معه ، والحياة الأبديّة التي لا فناء يعتريها ، والسعادة الحقيقية التي لا قصور فيها ، فإنّ كمال المعلول في التشبه بمبدئه ، فكلما كان عن التغيّر بالعوارض أبعد كان إليه تعالى أقرب ، وهذا مما لايحصل للعبد الا بالعلم بحقائق الأشياء سيّما ما لايكون قابلة للتغيّر والانقلاب ، كالعلم بالله سبحانه وصفاته وأفعاله على نهج أجلى وأوضح وأتقن وأوفق للمعلوم ، فإنّه الاستيلاء الحقيقي الذي تترتّب عليه تأثيرات بعض النفوس في موادّ الكائنات بأنواع التأثيرات بقدر

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر : لكونهما.

٢ ـ في ج : خطا.

٢٩٣

مراتبها كما أشرنا إليه مراراً ، بل يبقى تأثيرها بعد الموت أيضاً كما تشهد به التجربة الحاصلة من الاستغاثة بالأموات وبالتحلّي بسائر فضائل الملكات حتى توجب صفاء للنفس مؤدّياً إلى الاستخلاص عن أسر الشهوات وعبوديّة قواها الشهوية والغضبية واستيلائها عليها تشبّهاً بالملائكة المقدّسين عن القوّة البهيمية والسبعيّة.

على أنّه قد يقال بعدم ثبوت قدرة للعبد بحيث يكون له كمالاً حقيقياً ، فإن حقيقتها لله تعالى وما يحدث عقيب إرادة حادثة بإحداثه تعالى (١) فتأمل.

وأمّا الاستيلاء على الأعيان بالملك والتصرّف وعلى القلوب والنفوس بالطاعة والانقياد فهو من الزائلات الفانية ، وهو في الحقيقة عجز للنفس وعبودية بالنسبة إلى قواها الشهوية والغضبية ، مضافاً إلى كونها مبعدّة عن الله تعالى بعيدة عن كمالاته الدائمية وقدرته النافذة الحقيقية ، ولو تأمّلت في الحقيقية عرفت أنّ التمكّن من لذّات الدنيا بأسرها ليس تمكّناً حقيقياً لك منها ، بل هو تمكّن لها منك وتسلّط لها عليك ، فما أشدّ اغترارك حيث تظن العجز قدرة والنقص كمالاً. نعم لابدّ من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق ، كما أنّه لابدّ من أدنى مال لضرورتها. فكما لايستغني عن طعام يتناوله ويجوز حبّه للتوصّل به إلى بقاء خادم النفس أعني البدن وحبّه لما يتوصّل به إليه أعني المال ، فكذا لايستغني عمّن يخدمه ويعينه في قضاء حوائجه ويحرسه عن شرّ الأشرار وظلمهم ، فحبّ ما يحصل بسببه في قلب الخادم ما يدعوه إلى الخدمة ، وفي قلب الرفيق ما يحسن بسببه الرفاقة ، وفي قلب السلطان ما يدفع به الشرّ عن نفسه ليس مذموماً ، فلا فرق بينهما في كون كلّ منها وسيلة إلى الأغراض ، فكما يحتاج الانسان إلى المبرز لقضاء حاجته ولو فرض استغناؤه عنه كرهه ، فكذا حبّهما لأجل التوصّل بهما إلى

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٢٣.

٢٩٤

ضروريات المعيشة ليس مذموماً كما أشرنا إليه سابقاً ، وإنّما المذموم حبّهما لذاتهما وفيما يجاوز الضرورة لتوهّم كونهما من الكمالات الحقيقة.

ولايذهب عليك أنّ الذمّ في اصطلاحنا هذا أعمّ ممّا يوجب الفسق والعصيان في ظاهر الشريعة ، فلا يحصل الثاني الا إذا حمله الحبّ لمزبور على مباشرة المعاصي أو اكتسابهما بكذب وتلبيس وغيرهما كأن يظهر للناس قولاً أو فعلاً يورث اعتقادهم فيه ما ليس فيه كالعلم والورع والنسب ونحوه العبادة ، إذ التوصّل إليها بها يؤول إلى الرياء الحرام ، كما يأتي.

نعم يستباح اكتسابهما بصفة يكون متّصفة بها كما قال يوسف عليه‌السلام :

( اجعلني على خزائن الأرض إنّي حفيظ عليم ). (١)

وكذا بستر عيوبه ومعاصيه حتى لايزول اعتقادهم فيه بعلمهم بها ، فإنّ حفظ الستر عن القبائح واجب وليس تلبيساً ، بل سدّ لطريق العلم الذي لا فائدة فيه نعم إظهار الورع مع الاتّصاف بها كذب وتلبيس.

فإذا تفكّر فيما ذكر علم خطاءه فيما دعاه إلى حبّ الجاه ، وانه لو سجد له كلّ من في الأرض كان آخره الموت ، فلا يترك العاقل ما به تحصل الحياة الدائمية لمثل ذلك ، كما قال الله تعالى :

( بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى ). (٢)

ثم إذا تفكّر فيما يستهدف لها أرباب الجاه والاعتبار من المهالك والمتاعب والأخطار كحسد الناس وقصدهم له بأنواع الأذى وخوفه دائماً على جاهه بانقلاب اعتقادهم فيه لأنّ اضطرب قلوب الناس وشدّة تغيّرها أكثر من القدر في غليانه ، فمن يسكن إليها ويبني أمره عليها فكما يبني على أمواج البحار ، واشتغاله بما يشغله عن الله ويبعده عنه من مراعاة قلوب العباد ودفع كيد الأعداء والحسّاد ويشغله عن الله ويبعده عنه من مراعاة قلوب العباد ودفع كيد الأعداء والحساد ويشغله عن لذّاته البدنيّة فضلاً عن النفسية

__________________

١ ـ يوسف : ٥٥.

٢ ـ الأعلى : ١٦ ـ ١٧.

٢٩٥

كما يعلم ن التجربة والعيان علم أنّ ذلك كلّه هموم عاجلة مكدّرة لجميع لذّاته الدنيوية عموماً ولذّة جاهه خصوصاً ، وصار سبباً لسلب اعتقاده بما توهّمه لذّة وفتور رأيه فيما كان يسعى في طلبه وقوي إيمانه ونفذت بصيرته في تحصيل اللذّات الحقيقية الدائمية وترك الالتفات إلى هذه اللذّات الدنية الدنيوية. وكلّ من أحب الله وأنس به وعرفه أحبّ الخمول واستوحش من انتشار الصيت والقبول.

وأمّا العملي فالسعي في رفع الجاه الحاصل له بتحصيل ضدّه أعني الخمول والعزلة عن مصاحبة الخلق المؤدّية إلى الغفلة ، والهجرة إلى المواضع التي لايعرفه أهلها.

ولما كان الباعث العمدة له الطمع فيما عند الناس كان علاج الطمع المذكور سابقاً أنفع شيء في علاجه والمواظبة على ملاجظة ماورد في ذمّه من الآيات والأخبار ، ومادلّ على مدح ضدّه الخمول منها ومن الآثار.

فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الله يحبّ الأتقياء الأصفياء الذين إذا غابوا لم يفقدوا ، وإذ حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ... الحديث ». (١)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ أهل الجنّة كلّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به الذين إذا استأذنوا على الامر لم يؤذن لهم ، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا ، وإذا قالوا لم ينصب لهم ... لو قسم نوره يوم القيامة على الناس لو سعهم ». (٢)

وفي بعض الأخبار : « أنّ الله سبحانه يقول في مقام الامتنان على بعض عباده : ألم أنعم عليك؟ ألم أسترك؟ ألم أخمل ذكرك؟ » (٣)

ومن تتبّع كتب السير والأخبار وتفحّص عن حال الأكابر والسلف الأخيار واطّلع على إيثارهم الذلّ والخمول مع تمكّنهم من الجاه والاشتهار أيقن بكون الخمول من صفات المؤمنين الأبرار.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١١٠ ، وفيه : « الأتقياء الأخفياء ».

٢ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١١٠.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١١١ نقلاً عن الفضيل.

٢٩٦

فصل

ومن نتائج حبّ الجاه حبّ المدح وكراهة الذمّ المستلزمين لجعل الأفعال والأقوال تابعة لأهواء الناس رجاءاً لمدحهم وخوفاً من ذمّهم وايثار رضا الخلائق على رضا الخالق بارتكاب المكروهات ، بل المحرّمات وترك السنن ، بل الواجبات والنهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتجاوز عن الانصاف.

وهذا كلّه خارج عن الايمان ، لأنّ المؤمن لاتأخذه في الله لومة لائم.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما هلك الناس باتّباع الهوى وحبّ الثناء ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لرجل أثنى على آخر بحضرته : « لو كان صاحبك حاضراً فرضي بالذي قلت فمات على ذلك دخل النار ». (٢)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا لاتمادحوا وإذا رأيتم المدّاحين فاحثوا على وجوههم التراب ». (٣)

وأشدّ مراتبه الموجب للهلاكة التوصّل إليه بالرياء في العبادات ومقارفة المحظورات.

وأهون منه التوصّل إليه بالمباحات وهو على شفا جرف الاهلاك لعدم إمكان ضبط حدود الأقوال والأفعال التي بها تستمال القلوب.

ثمّ عدم السعي في طلبه ، لكن يسرّ صاحبه ويرتاح من غير كراهة لسروره وهو أيضاً نقص للسالك المعالج لقلبه وإن لم يكن آثماً في ظاهر الشريعة.

ثم السرور به مع كراهته وتوبيخ نفسه عليه ، فإن كان في مقام المجاهدة لم يترتّب عليه ذمّ ولا ملامة ، بل يثاب عليه إن شاء الله تعالى ، والا لم يكن خالياً عن شوب نقص.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١١٢.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٣٣.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٣٣ ، وفيه : « في وجوههم ».

٢٩٧

والسبب العمدة فيه ما ذكر في حبّ الجاه من ميل النفس إلى تسخير القلوب واهتزازه منه ، سيّما إذا كان المادح ممّن يتّسع قدرته وينتفع من اقتناص قلبه ، أو كان ممّن يعتني الناس بمدحه ، وربّما يتسبّب من شعور النفس بكمالها المحبوب لها بذاته ، فإن كانت شاكّة في اتصافها به وصدر عن البصير الغير المجازف كالوصف (١) بكمال العلم من العالم عظمت اللذّة والسرور ، إذ بترتّب عليه طمأنينة بعد شكّ ، وعلم بعد جهل ، وإن كانت متيقّنة به لكونه من الكمالات الظاهرة الجليّة كاعتدال القامة وصفاء اللون حصلت لذّة ما من التنبّه بعد الغفلة ولم يكن عظيمة ، إذ لايترتّب عليه علم بعد جهل ، ولكن سكون بعد اضطراب ، وكذا إن كانت شاكّة فيه مع صدوره عمّن لابصيرة له لقلّة الاطمينان بقوله ، وإن علم انّ المادح غير صادق في المدح بطلت اللذّة رأساً.

وعلاجه أن يتفكّر في أنّ شعوره بكمال نفسه إن كان ثابتاً له في الواقع كان فرحه من فضل الله عليه أولى ، والا فإن علم أنّه معتقد لما بقوله كان حقيقاً بالسعي في تحصيل تلك الفضيلة وإزالة ضدّها عن نفسه شكراً لما أنعم الله عليه من ستر عيوبه عن أعين الناس ، ونشر الثناء الجميل الذي ليس أهلاً له ، فهو بالهمّ والغمّ أولى ، وإن علم أنّه غير معتقد له كان مستهزءاً له فهو بالهمّ والغمّ أحقّ وأحرى ، مع أنّه إن كان المدح بمثل الجاه والثورة وغيرهما من الكمالات الوهميّة ، فالفرح بها من قلّة العقل كما عرفت مراراً ، وإن كان من الفضائل النفسية فالتمدّح بها لكونها مقرّبة إلى الله وهو فرع حسن الخاتمة الذي لايعلمه الا الله ففي خطر الخاتمة شغل شاغل عن كلّ ما يفرح به. وسائر الأسباب مرجعها إلى حبّ الجاه ، وقد عرفت علاجه.

ويعلم علاج كراهة الذمّ من ضدّها ونزيدك تنبيهاً بأن قصد الذامّ منه إن كان النصح والارشاد فما أعظم حقّ إحسانه عليك ، وما أقبحك لو غضبت

__________________

١ ـ في « ج » : كما لو وصف.

٢٩٨

على من كان قصده الاحسان وأحسن إليك ، فبالحريّ أن تجتهد في إزالة ما هداك إليه من عيوبك.

وإن كان قصده الأذية وكان صادقاً فيما نسبه إليك فقد حصّلت منه ما تنتفع به من الارشاد مع الجهل والتذكّر مع الغفلة ، والتقبيح مع التذكر ، فينبغي لك أن تغتنمه وتبادر إلى إزالته عنك ، فإنّه الأهمّ بحالك.

وإن كان مفترياً عليك فلا ينبغي لك الاشتغال بذمّه أيضاً.

أمّا أوّلاً : فلأنّك وإن خلوت عنه فلا تخلو عمّا يساويها أو يكون أفحش منها ، فالأولى بحالك الاشتغال بإزالة سائر عيوبك شكراً لما أنعم الله عليك من سترها عليك ، فهو جار في الحقيقة مجرى التنبيه من الله سبحانه والارشاد إلى السعي والاجتهاد في إزالتها.

وأمّا ثانياً : فلأنّه تعالى جعله كفّارة لذنوبك ، وقد أهدى إليك خصمك بذمّه لك حسناته ، كما ورد في كثير من الأخبار ، فلو غضبت عليه وصدر منك المكافاة أو التعدّي كنت قد حرمت نفسك عمّا هو كفّارة لذنوبك ، وعن الهدايا التي أهداها إليك ، فهو في الحقيقة ظالم لنفسه ومحسن إليك ، فلا يليق بلك ذمّه أصلاً ، فاللائق بحال السالك المعالج لقلبه أن يبدّل هذه الصفة إمّا بضدّها كما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

« ويل للصائم ، ويل للقائم ، ويل لصاحب الصوف الا من فقيل : يا رسول الله الا من؟ فقال : الا من تنزّهت نفسه عن الدنيا وأبغض المحدة واستحبّ المذمّة ». (١)

ولا أقلّ من تسويتهما في نظره. وقد يشتبه على السالك فلابدّ من الامتحان الصادق بالتفكّر في علاماتها حتّى يظهر صدقه فيما يدّعيه كأن لايكون نشاطه في قضاء حوائح المادح أكثر من الذامّ ولا غمّه في ابتلائه ببليّة أكثر منه ولا مصاحبته ومجالسته أهون عليه منه ولا ذلّة الذامّ في نظره أخفّ

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١٣٧.

٢٩٩

من ذلّة مادحه وهكذا.

وبالجملة فالمعتبر استواؤهما عنده في كلّ الحالات. والله المستعان.

فصل

الرياء تسخير قلوب الناس يخصال الخير أو آثارها مطلقاً أو في العبادة خاصّة ، والباعث عليه إمّا حبّ الجاه بنيل الحكومة أو القضاء وأخذ الرشى والايتمان على الودائع والصدقات وأموال اليتامى ، فيكون من رذائل الشهويّة ، أو للتسلّط والترفّع على الناس فيكون من رذائل الغضبية ، وإمّا الطمع فيما هو عادم له من المشتهيات كحضور المجالس لمشاهدة النسوان والصبيان وإظهار الزهد والورع ليبذل له الأموال ويرغب فيه النساء فيكون من رذائل الشهوية ، أو الخوف من أن ينظر إليه بعين الحقارة أو ينسب إلى البطالة والكسالة كترك العجلة والضحك بعد اطّلاع الناس عليه والقيام بالتهجّد وسائر النوافل إذا جلس مع الصالحين وتركه في الخلوة وغير ذلك.

ثم الرياء إمّا في أصول العقائد وهو كفر النفاق سواء كان في الشهادتين أو في ضروريات الدين بالاقرار بها ظاهراً مع اعتقاد طي بساط الشرع باطناً ميلاً إلى عقائد الملاحدة وأهل الاباحة ، وهذا أسوء من المحارب لجمعه بين الكفر والنفاق.

أو في العبادة الواجبة مع التصديق بأصل الدين كالصلاة والصوم في الخلاء دون الملاء ، وهو وإن لم يكن كافراً الا أنّه شرّ المسلمين لبطلان عبادته أوّلاً ، فإن الأعمال بالنيات ، فلا يكون ممتثلاً خارجاً عن عهدة التكليف فكأنّه لم يصلّ ، وأقترانه (١) بالرياء المأثوم صاحبه والممقوت عند الله تعالى ثانياً ، فهو أسوء حالاً من التارك للعبادات حيث جمع بين معصية الله مع الاستهزاء

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر : اقترانها.

٣٠٠