كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

المناظرة مع العلماء في المجالس التي هي أمّ الخبائث ومصدرها ، وقد ورد التأكيد فيها في الأخبار كثيراً.

ومنها : اهتمامه بعلم الباطن ومراقبة القلب ومعرفة سبيل الآخرة وسلوكه إذ ينبعث منه الفيوضات الغيبية وينكشف به المعارف الحقيقية كما تقدّم ما يدلّ عليه وتقويته لليقين بتحصيل لوازمه وفروعاته التي تشير إليها.

ومنها : أن يكون منكسراً حزيناً متطرّقاً صامتاً ظاهراً منه أثر الخشوع والخشية ، بحيث يكون النظر إليه مورثاً لتذكّر الله تعالى ، وسيماه دالاً على علمه.

وفي الخبر : « إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يقول : يا طالب العلم إنّ العلم ذوفضائل كثيرة ، فرأسه التواضع ، وعينه البراءة من الحسد ، وأذنه الفهم ، ولسانه الصدق ، وحفظه الفحص ، وقلبه حسن النيّة ، وعقله معرفة الأشياء والأمور ، ويده الرحمة ، ورجله زيارة العلماء ، وهمّته السلامة ، وحكمته الورع ، ومستقرّه النجاة ، وقائده العافية ، ومركبه الوفاء ، وسلاحه لين الكلمة ، وسيفه الرضا ، وقوسه المداراة ، وجيشه مجاورة العلماء ، وماله الأدب ، وذخيرته اجتناب الذنوب ، وزاده المعروف ، ومأواه الموادعة ، ودليله الهدى ، ورفيقه محبّة الأخيار ». (١)

وقال بعض العلماء : خمس علامات لعلماء الآخرة ، مفهومة من خمس آيات :

الخشية ، من قوله : ( إنّما يخشى الله من عباده العلماء ). (٢)

والخشوع ، من قوله : ( خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ). (٣)

__________________

١ ـ الكافي : ١ / ٤٨ ، كتاب فضل العلم ، باب النوادر ، ح ٢. وفيه : « محاورة العلماء وماؤه الموادعة ».

٢ ـ فاطر : ٢٨.

٣ ـ آل عمران : ١٩٩.

١٢١

والتواضع ، من قوله : ( واخفض جناحكم لمن اتّبعك من المؤمنين ). (١)

وحسن الخلق ، من قوله : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ). (٢)

والزهد ، من قوله تعالى : ( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن ).

ولما تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ) (٣) فقيل : ما هذا الشرح يارسول الله؟ فقال : « إنّ النور إذا قذف في القلب انشرح له الصدر وانفسح ، قيل : فهل لذلك علامة؟ فقال : التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله ». (٤)

قال الغزالي بعد نقل الخبر : يأن يكون أكثر بحثه عن علم الأعمال وما يفسدها ويشوّش القلوب ويهيج الوساوس ويثير الشرّ ، فانّ أصل الدين التوقّي من الشر ومن لا يعرفه يقع فيه ، والأعمال الفعلية قريبة ، وأقصاها المواظبة على الذكر بالقلب واللسان ، وإنما الشأن في معرفة مفسداتها ومشوشهاتها وهو ممّا يكثر شعبه ويغلب مسيس الحاجة إليه في سلوك طريق الآخرة.

قيل لحذيفة بن اليمان : نراك تتكلّم بكلام لانسمع من غيرك من الصحابة فمن أين أخذته؟ قال : خصّني به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان الناس يسألونه عن الخير وأنا أسأله عن الشرّ مخافة أن أقع فيه ، وعلمت أنّ الخير لايسبقني ، فلما رآني أسأل عن آفات الأعمال ، خصّني بهذا العلم.

وكان حذيفة أيضاً خصّ بعلم المنافقين وأفرد بمعرفة علم النفاق وأسبابه

__________________

١ ـ الشعراء : ٢١٥.

٢ ـ آل عمران : ١٥٩.

٣ ـ القصص : ٨٠.

٤ ـ الأنعام : ١٢٥.

١٢٢

ودقائق الفتن ، فكان عمر وعثمان وغيرهما يسألونه عن الفتن العامة والخاصة ، وكان يسائل عن المنافقين فيخبر بأعداد من بقي منهم ، ولايخبر بأسمائهم ، وكان عمر يسأله عن نفسه هل يعلم به شيئاً من النفاق؟ وكان إذا باسمائهم ، وكان عمر يسأله عن نفسه هل يعلم به شيئاً من النفاق؟ وكان إذا رأى جنازة نظر فإن حضر حذيفة صلّى عليها والا ترك ، وكان يسمّى صاحب السرّ. ـ انتهى ملخّصاً. (١)

ومنها : أن يكون اعتماده على ما فهمه واستنبطه من كلام الله ورسول الله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وسيرتهم تحقيقاً دون ما سمعه من الغير أو جده في كتابه تقليداً ، إذ لاحجّة في كلام الغير ولا في فعله ، سيّما مع كثرة الحوادث من الأغراض الفاسدة ودواعي الشرّ والنفاق ، فلا عبرة بغير من عصمه الله تعالى عن جميع ذلك.

ومنه ظهر أمارات علماء السوء الذين باعوا ما يهمّهم بما يهمّ غيرهم ايثاراً لقرب الخلق على القرب من الله ، وغاية آمالهم من تحصيل العلم أن يعدوا عند الجهّال وأبناء الدنيا فضلاء محقّقين ، وجزاؤهم من الله تعالى أن يخيبوا عمّا أمّلوه بل يتكدّر عليهم العيش بالنوائب ، ثم يردوا يوم القيامة مفلسين نادمين ممّا يرونه من فوز المقربين وربح العالمين (العالمين خ ل) وذلك هو الخسران المبين.

فتيقّظ يا حبيبي من نومة الغفلة. واعلم أنّ الحقّ مرّ والوقوف عليه صعب ، وطريقه وعر ، ودركه شديد ، ولذا لم يمل إليه الخلق ، ولم يرغبوا الا إلى ما هو الأسهل والأوفق بالطبيعة ، ولقد أجاد من قال :

الطرق شتّى وطرق الحقّ مفردة

والسالكون طريق الحقّ أفراد

والخلق في غفلة عمّا يراد بهم

فجلّهم عن سبيل الحقّ رقّاد

لايعرفون ولايدرون مقصدهم

فهم على مَهَل بمشون قصّاد

أعاذنا الله من شرّ النفس وجماحها ، ووفّقنا لما فيه خيرها وصلاحها.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ١ / ١٦١ ـ ١٦٢.

١٢٣

فصل

اليقين من أقوى أسباب السعادة مطلقاً ، بل في الالهيّات من أعظم أصول الايمان وأركانه وأركانه وسائر مراتبه من فروعه وأغصانه ، فهو أشرف الفضائل والكمالات والكبريت الأحمر الذي لا يظفر به الا الخلّص من ذوي السعادات ولا يصل إليه الا شرذمة نم العرفاء وقليل من كمّل الأولياء.

قال النبّي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اليقين كلّ الايمان ». (١)

وقال : « من أقلّ ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ، ومن أوتي حظّه منهما لم يبال ما فاته من صيام النهار وقيام الليل ». (٢)

هذا ، ولليقين معنيان :

أحدهما : وهو الشائع في الاصطلاحات الاعتقاد الثابت الجازم المطابق للواقع الذي لا يتصوّر فيه شكّ ، ولا يزول بشبهة ، سواء كان بديهياً أو نظريّاً ، فخرج الجهل المركّب والبسيط والشكّ ، فإن اعتبرنا الأخير في العلم كانا مترادفين ، والا كان نوعاً منه ، وعلى هذا التفسير لايوصف بالضعف والقوّة ، إذ لاتفاوت في نفي الشكّ.

ثانيها : للعرفاء والمتصوّفة وهو ميل النفس إلى التصديق بشيء واستيلاثه على القلب بحيث يصير هو الحاكم المتصرّف فيه بالأمر والنهي والمنع والتحريض ، ولاشكّ في أنّ الناس يشتركون في القطع بالموت وعدم الشكّ فيه ، لكن أكثرهم لا يلتفتون إليه ، فكأنّهم لم يؤمنوا به وفيهم من استغرق همّه فيه بالاستعداد له ، وهو بهذا المعنى يوصف بالقوّة والضعف ، ومراتبه لايتناهى بحسب استعداد الناس للوصول إليه ، ويختلف بكلا معنييه بالقلّة والكثرة بحسب المتعلّق ، فكما يقال فلان كثير العلم بكثرة معلوماته ،

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ١ / ١٥٠ ، وفيه : « اليقين الايمان كلّه ».

٢ ـ المحجة البيضاء : ١ / ١٥١.

١٢٤

فكذا يقال كثير اليقين بكثرة متعلّقاته ، وبالخفاء والظهور ، فإنّ اليقين بالبديهيّات أوضح منه بالنظريات ، وإن اتّفقت في نفي الشكّ عنه ، ومن كان استيلاء يقينه على أكثر كان أوضح عنده ممّا كان تصرّفه في نفسه أضعف وهكذا.

كذا أفاده بعض الأعلام. (١)

أقول : عروض القوّة والضعف له باعتبار أثره ، كما أنّ القلّة والكثرة تعرضه باعتبار متعلّقه ، فمعنى قولهم فلان قويّ اليقين أنّه قوي أثره فيه ، أعني الاستيلاء المذكور ، فإنّه أثر لليقين بالمعنى الأوّل ، وليس معنى آخر له وليس تفاوته بالقوّة والضعف باعتبار حقيقته حتّى يقال إنّ نفي الشك لاتفاوت فيه ، بل باعتبار اختلافه في الوضوح والخفاء ، فإنّه كلّما كان أظهر كان ترتّب أثره عليه أسرع ، وكلّما كان أخفى كان عن الترتّب المذكور أبعد.

وتفصيل ذلك أنّ الوجدان يشهد بالتفرقة بين ما يدرك بحسّ الإبصار كلأجسام أو بالخيال كصورها المرتسمة في الذهن لا من اختلافهما ضرورة اتّفاقهما ، بل بمزيد الكشف والوضوح ، حيث صارت بالرؤية أتّم وضوحاً ، كما في الرؤية في أوّل الإسفار والرؤية بعد طلوع الشمس ، فالخيال أوّل الادراك ، والرؤية كماله ، أي غاية الكشف ، وهذا الادراك له تأثير في نفس المدرك مختلف المراتب في الشدّة والضعف بحسب تفاوت نوعيه ، كما أنّ مدرك الوجه الحسن بالسماع والتخيّل لايتأثر منه مثل ما يتأثّر به مدركه بحسّ البصر ، وكما أنّ العالم بكون الأسد في الطريق بالخبر لا يتأثّر بمثل ما يتأثّر به المشاهد له حال قصده لإهلاكه من الدهشة والأضطراب ، وكذلك المعقولات التي لامدخل لحسّ الإبصار والتخيّل فيها ، فأوّل مرتبة ينفى عنها الشكّ علم ويقين ، كالعلم بوجود الأسد في الطريق من الخبر المتواتر.

وفوق هذه المرتبة في الادراك مرتبة منزّلة منزلة الإبصار تسمّى مشاهدة.

__________________

١ ـ هو أبو حامد الغزالي ، راجع المحجة البيضاء : ١ / ١٥١_١٥٤.

١٢٥

ولكلّ منهما مراتب لاتتناهى في شدّة الكشف والضعف بحسب استعداد المدرك وصفائه ونقائه عن الحجب الحسيّة وكدورة الظلمات الطبيعيّة وصقالته عن الأخباث الردّية ، والباعث لحصول الأولى بمراتبها هو الانتقال من الملزوم إلى الازم وبالعكس ، ويسمّى علم اليقين كالعلم بوجود النار من مشاهدة الدّخان فلا يترتّب عليها كثير أثر من استيلائها على القلب وتصرّفها فيه بالأمر والنّهي والقبض والبسط كما لا يترتّب على العالم بالتواتر كون الأسد في الطّريق من الدهشة والاضطراب وتغيّر اللّون ورجف الأعضاء الا قليل لايكمل به المطلوب.

وللمرتبة الثالثة مراتب مختلفة في الظهور والخفاء أيضاً الا أنّها مشتركة في تمام التأثير في النفس والبدن ، فإن كان بطريق مشاهدة المطلوب بالبصيرة الباطنة الحاصلة من التصفية وتجرّد النفس كليقين بوجود النار من مشاهدتها بالعيان وهو عين اليقين ، وقد أشار سبحانه إليه بقوله : ( ثمّ لترونّها عين اليقين ) (١).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا سأل عنه ذعلب اليماني : هل رأيت ربّك؟ « لم أعبد ربّاً لم أره » (٢).

وإن كان من مشاهدة فيضان الآثار والأنوار من المطلوب إليه بسبب ارتباط تامّ بين العاقل والمعقول واتّحاد معنوي بحيث يرى نفسه رشحة منه غير منفكّ عنه كاليقين بوجود النار من الدخول فيه فيسمّى حقّ اليقين ، ولا تحصل هاتان الدرجتان الا بعد مجاهدات عظيمة بهجر الرسوم والعادات وترك العلائق والشهوات وقطع الوساوس النفسانيّة وقلع الهواجس الشيطانيّة وقصر النظر في ملاحظة جماله ومشاهدة أنوار جلاله والاستغراق في بحر معرفته وأنسه والفناء في حضرة قدسه حتّى يحصل للنفس صفاء

__________________

١ ـ التكاثر : ٧.

٢ ـ التوحيد للصدوق : ص ٣٣٠٥ ، وفيه : « لم أكن بالذي أعبد ».

١٢٦

وتجرّد تامّ ومحاذاة لما هو فوق التمام ، فإنّها كمرآة ينعكس إليها صور الموجودات من العقل الفعّال ، فلابدّ لها من خمسة أشياء :

عدم نقصان جوهرها ، فلا يكون كالصبيّ الغير القابل القابل لتحلّي (لتجلّي ظ) المعلومات.

وصفاؤها عن أخباث الشهوات. ونقاؤها عن الرسوم والعادات ، كما يعتبر في المرآة صقالتها عن الخبث والصدا.

ومن التوجّه التامّ إلى المطلوب فلا يكون له ما يشوّش الخاطر من أسباب التعيّش والعلائق الدنيويّة ، كما يعتبر في المرآة محاذاتها لذات الصورة.

ومن تخليتها عن التعصّب والتقليد ، كما يعتبر فيها ارتفاع الحاجب بينها وبين ذات الصورة.

ومن استحصال المطلوب من ترتيب مخصوص للمقدّمات المناسبة له بشرائطها كما يعتبر فيها العثور على الجهة التي فيها الصورة.

ومن استحصال المطلوب من ترتيب مخصوص للمقدمات المناسبة له بشرائطها كما بعتبر فيها العثور على الجهة التي فيها الصورة.

فبعد حصول الشرائط المذكورة ينتقش فيها عالم الملك والشهادة لتناهيه ، فيمكن الاحاطة به ، وعالم الملكوت والجبروت بقدر ما يمكنه بحسب مرتبته لكونها من الأسرار التي لا تدرك بالأبصار ، بل بعين البصيرة والاعتبار ، وما يلوح منها للنفس أيضاً متناه ، وإن كانت في نفسها ، وبالاضافة إلى علمه تعالى غير متناهية ، ومجموع ما ذكر من العوالم هو العالم الربوبي ، لانتساب الموجودات بأسرها إليه تعالى وهو العالم المحيط بكلها ، فلا تحيط به النفس لعدم تناهية ، بل تحصل له السعادة واللذّة بقدر استعدادها وقوّتها وما يحصل لها من التصفية والتزكية وتجلّي الحقائق والأسرار ومعرفة صفاته وعظمته ، ويكون سعة مملكته فيها بقدر المعرفة الحاصلة لها بذلك ، ولعدم تناهيه لا يستقرّ النفس في مقام يكون غاية لطلبها في الكمال والمعرفة أبداً.

١٢٧

واعلم أنّ النفس في بدو الفطرة صالحة لما ذكر لكونها جوهراً ملكوتياً ، ولذا صارت قابلة لحمل أمانة الله تعالى أعني التوحيد والمعرفة ، وفاقت على كلّ موجود بالفضيلة والشرافة ، وإنما يمنعها عنه أحد الموانع المذكورة.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كلّ مولود يولد على الفطرة الا أنّ أبواه يمجّسانه ويهوّدانه وينصّرانه ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيضاً : « لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض ». (٢)

وقد عرفت أنّ الشياطين إنما يحومون عليها يغلبة الشهوية والغضبية على العقلية ، وينسدّ أبوابها بغلبة العقلية عليهما ، وينفتح أبواب الملائكة القدسية والأنوار القدوسيّة.

ثم اعلم أنّ من علامات اليقين أن يعلم صاحبه أن لا مؤثّر في الوجود الا هو ، ولا أثر الا وهو أثره ، فلا يلتفت الا إليه ولا يّتكل الا عليه ، ويستوي حالتا الفقر والغنى والصحّة والمرض لديه ، لأنه يرى جميع الاشياء بعين واحدة ، والوسائط مسخّرة تحت حكمه.

قال الصادق عليه‌السلام : « من ضعف يقينه تعلّق بالأسباب ورخّص لنفسه بذلك واتّبع العادات » ، وأقاويل الناس بغير حقيقة والسعي في أمور الدنيا وجمعها وإمساكها مقرّاً باللسان أنّه لا مانع ولا معطي الا الله ، وأنّ العبد لا يصيب الا ما رزق وقسم له ، والجهد لا يزيد في الرزق ، وينكر ذلك بفعله وقلبه. قال الله تعالى : ( يقولون بافواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون ) (٣) (٤)

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٢٧ مع اختلاف.

٢ ـ البحار : ٧١ / ٢٢١ ، المحجة البيضاء : ٢ / ١٢٥ ، بدون « والأرض ».

٣ ـ آل عمران : ١٦٧.

٤ ـ مصباح الشريعة : الباب السابع والثمانون ، في اليقين.

١٢٨

وفي حديث آخر : « حدّ اليقين أن لا تخاف مع الله شيئاً » (١).

ومن علاماته أيضاً خضوع صاحبه لله تعالى وقيامه بوظائف العبادات مع الواظبة على امتثال الطاعات فارغاً قلبه عمّا سواه ومصروفاً فكره فيما يوجب رضاه ، لأنه يدري قدرته وعظمته واطّلاعه على خفايا ضميره وعلمه بأفعاله وأعماله فيكون في مقام الشهود أبداً والاشتغال بوظائف الأدب دائماً ، كيف لا ، وقد ترى أنّ كلّ من يحضر عند ذوي الشوكة والاقتدار من الملوك وأرباب الدول ، والاعتبار مع خساستهم ورذالتهم ومجازية دولتهم ونعمتهم يبالغ في أقصى وظائف الأدب والخدمة ، ويحصل له أعلى مراتب الخوف والدهشة ، سيّما إذا علم اطلاعه على أفعاله المخالفة لأمره ورضاه ، فكيف وهو ملك الملوك وجبّار الجبابرة والمنعم الحقيقي ، العالم بما تخفيه الصدور.

فمن تيقّن بأنّه يشاهد أعماله يجتهد أبداً في الامتثال والاطاعة والدعاء.

ومن أيقن بإحسانه وحقوقه المتواترة يكون دائماً في مقام الشكر والحياء.

ومن أيقن بما هيّأه لمحبّيه ومخلصيه في دار الجزاء يكون دائماً في مقام الاخلاص والرجاء.

ومن أيقن باستناد كلّ الأشياء إليه على أحسن نظام يقتضيه الحكمة والمصلحة يكون دائماً في مقام التسليم والرضا.

ومن أيقن بالموت وما بعده من العقبات الهائلة يكون دائماً في مقام الحزن والبكاء.

ومن تيقّن يخساسة الدنيا وفنائها لم يركن إليها لما يشاهد منها عدم الوفاء.

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٥٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب فضل اليقين ، ح ١. وفيه : « قلت : فما حدّ اليقين؟ قال : الاتحاف ... »

١٢٩

ففي الخبر : « أن الكنز الذي حكى الله تعالى له صلى‌الله‌عليه‌وآله لليتيمين كان مكتوباً فيه : عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن أيقن بالدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يركن إليها ». (١)

ومن أيقن بعظمته وكمال قدرته كان في مقام الخوف والدهشة والخشوع كما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من شدّة خضوعه لله تعالى إذا مشى يظن أنه يسقط على الأرض.

ومن أيقن بكمالاته الغير المتناهية وكونه فوق التمام يكون دائماً في مقام الشوق والوله.

ولو تصفّحت كتب السير والأخبار لاطّلعت على ما كان عليه المخلصون من عباد الله تعالى وأنبيائه وأوليائه من الخوف والشوق ، وما كان يعتريهم من الارتعاش والاضطراب في الصلوات والوله والاستغراق والغشيات في الخلوات وغيرها ، وتفطّنت بآثار اليقين الحاصل لكمّل عباده المخلصين.

وفي الخبر عن الصادق عليه‌السلام : « إنّ اليقين يوصل العبد إلى كل حال سنّي ومقام عجيب » ، كذلك أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من عظم شأن اليقين ، حين ذكر عنده أن عيسى بن مريم كان يمشي على الماء فقال : لو ازداد يقينه لمشى في الهوا » ، ومنه يظهر شدّة اختلاف مراتبه حتى في الأنبياء عليهم‌السلام (٢).

فصل

من جملة الفضائل المتعلقة بالعاقلة التفكّر وهو السير الباطني من

__________________

١ ـ راجع الكافي : ٢ / ٥٩ ، كتاب الايمان والكفر ، باب فضل اليقين ، ح ٩.

٢ ـ مصباح الشريعة : الباب السابع والثمانون ، في اليقين مع تلخيص وتغيير.

١٣٠

المبادي أعني آيات الآفاق والانفس إلى الغايات أعني معرفة ما لمبدعها من الحكمة والقدرة والعظمة وهو مفتاح الأسرار ومشكاة الأنوار وشبكة المعارف ومصدر العوارف ومنبع الحقائق وجناح النفس للطيران من حضيض النقصان إلى اوج العرفان وآلة صقالتها من خبث الجهالات وصدء الضلالات ، وقد ورد الحثّ عليه في الأخبار والآيات ، قال تعالى :

( أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ) (١).

( أولم يتفكّروا في انفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما الا بالحق ) (٢).

( الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السماوات والأرض ). (٣)

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « التفكّر حياة القلب البصير ». (٤)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فكره ساعة خير من عبادة سنة » ، ولا ينال منزلة التفكّر الا من خصّه الله بنور المعرفة والتوحيد. (٥)

وعن علي عليه‌السلام : « نبّه بالتفكّر قلبك وجاف عن الليل جنبك واتّق الله ربّك ». (٦)

وقال الصادق عليه‌السلام : « الفكر مرآة الحسنات وكفّارة السيّئات وضياء القلوب وفسحة للخلق واصابة في إصلاح المعاد واطلاع على العواقب واستزاده في العلم وهي خصلة لايبعد الله بمثلها ». (٧)

__________________

١ ـ الأعراف : ١٨٥.

٢ ـ الروم : ٨.

٣ ـ آل عمران : ١٩١.

٤ ـ البحار : ٧٨ / ١١٥ نقلاً عن الدرة الباهرة ، وفيه : حياة قلب البصير ».

٥ ـ مصابح الشريعة : الباب السادس والعشرون في التفكّر.

٦ ـ الكافي : ٢ / ٥٤ ، كتاب الايمان والكفر ، باب التفكّر ، ح ١.

٧ ـ مصباح الشريعة : الباب السادس والعشرون في التفكّر.

١٣١

وعن الرضا عليه‌السلام : « ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم ، إنّما العبادة التفكّر في أمر الله تعالى ». (١)

ثم إنه لايجوز التفكّر في ذاته تعالى بل بعض من صفاته أيضاً لأنه أجلّ من أن يدرك بطوامح العقول والأحلام أو يحيط به غووامض الظنون والأوهام ، فالنظر فيه تعالى يوجب التحيّر والانسجام ولو أمكن لبعض المتجرّدين كان كالبرق الخاطف ولولاه لاحترقوا من سبحات وجهه.

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تفكّروا في آلاء الله ولاتفكروا في الله تعالى فإنكم لن تقدروا قدره ». (٢)

وأمّا ما سواه تعالى من عوالم الوجود فهو من مطارح الأنظار ومسارح الأفكار لأنه بأسره من رشحات وجوده وآثار جوده ، وفي كلّ شيء منه من عجائب صنعه وغرائب حكمته ما تعجز عن ادراك عشر من أعشارها عقول ذوي الأحكام.

فمنه ما لا يعرف أصله فلا يمكن التفكر فيه وما يعرف اجمالاً فيمكن التفكّر في تفصيله ، وينقسم إلى عالم الملكوت أي ما لا يدرك بالبصر كالعقول والنفوس والملائكة والجنّ والشياطين ولها أجناس وطبقاتت لايعلمها الا الله وعالم الملك والشهادة أي ما يدرك به وينقسم إلى عالم السماوات وعالم الجوّ وعالم الأرضين ، ولكلّ منها أنواع ولأنواعها أصناف مختلفة في الصفات والهيئات واللوازم والآثار ولا يحيط بها الا موجدها.

ولكلّ منها في حركته وسكونه ووجوده حكم ومصالح لايحيط بها الا مبدعها.

وكلّ منها شواهد عدل على وحدانيّته وكمال قدرته وحكمته وعضمته.

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٥٥ ، كتاب الايمان والكفر ، باب التفكّر ، ح ٤.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٨ / ١٩٣ وفيه : تفكروا في خلق الله ، واجع أيضاً الجامع الصغير : ١ / ١٣٢.

١٣٢

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

ولكلّ منها مرتب مرتب على النهج الأصلح والنظام الأرجح بأمر الحكيم العليم مبتدأة من الأشرف فالاشرف إلى أن ينتهي بأخس العوالم أعني الأرض.

ولا قدر لكل منها بالنظر إلى مافوقه كما لا قدر لما على الأرض من الحيوان والنبات والجماد بالنسبة إليها ، ولذا تفسد بأدنى تغيّر لها ، فلو أنّ انساناً أوتي علم الأوّلين والآخرين ولازال باقياً ببقاء السماوات والأرضين وتفكّر في عجائب صنع ربّ العالمين لم يقدر على الاحاطة بعشر من معشارها ، بل قذف قطرة من بحارها ، ولذا ترى كتب العلماء البارعين وزبر الحكماء العارفين مع غاية بذل جهدهم في بيان مجاري أفكارهم فيها وكونها مشحونة من مطارح أنظارهم فيها لم تشتمل الا على شطر من يسيرها وتضمّنت العجز عن قليل من كثيرها ، كيف ولو صرفت عمرك في الاحاطة بعجائب نوع من صغار الحيوانات من البقّة والنملة والعنكبوت والنحلة وأشباهها من ترتيب أجزائها وأعضائها مع حقارة جثّتها وصغر حجمها واشتمال كلّ منها على مصالح معدّة لها ووضع منازلها وجمعها وادّخارها لأقواتها واهتدائها إلى حوائجها وغير ذلك لم تقدر عليه ، فكيف يمكن الاحاطة بعجائب صنع الله تعالى في سائر ما في عالم الأكوان.

( قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مدداً ) (١).

ثم إنّ أحسن ما يمكن كونه مجالاً للتفكّر في عجائب صنعه هي النسخة الجامعة لجميع العوالم التي جعلها الله حجة على خلقه وكتاباً كتبه بيده وهيكلاً بناه بحكمته وانموذجاً لما أثبته في لوحه المحفوظ وشاهداً على كل غائب وحجّة على كلّ جاحد وطريقاً مستقيماً إلى كل خير وصراطاً ممدوداً

__________________

١ ـ الكهف : ١٠٩.

١٣٣

بين الجنّة والنار كما عبّر به مولانا الصادق عليه‌السلام (١)أعني الانسان من بدو خلقته من قطرة ماء منتنة وكيفيّة تقلّباته من مقام إلى مقام بما أعطي من الحواس والأجزاء والأعضاء والألوان والأشكال والاشتمال على عالم الحيوان والنبات والجماد على أحسن ترتيب ونظام عجيب متضمّن لمصالح لاتحصى إلى أن وصل إلى مقام أوتي فيه العقل والادراك تدريجاً إلى أن بلغ فيه ما بلغ وأودع فيه من عجائب الأسرار ماتدهش فيه طوامح العقول وثواقب الأنظار.

منها : قوّة الخيال التي تطوي السماوات والأرضين في آن واحد مع عرضيتها الغير المنقسمة.

وقوّة الوهم التي تستنبط المعاني الكثيرة الجزئية من حاق الأشياء في لحظة واحدة.

وقوّة المتخيّلة المركبة بعضها مع بعض ، والآخذة مافيه صلاحها وسدادها من أمر معاشها ومعادها.

ومنها : احاطة النفس مع تجرّدها وعدم مناسبتها للأجسام بوجه بالبدن وحصول نوع اتحاد بينهما وارتباط خاص.

ثم اتصافها بالصفات الكماليّة وتمكّنها من الاحاطة بحقائق الأشياء بأسرها وتصرّفها في عالمي الملك والملكوت بقوّتيه العقلية والعملية مع عجزها عن إدراك ذاتها.

ثم تطوّراتها بالأطوار المتبائنة وترقّياتها من حين تعلّقها بالنطفة القذرة إلى أن صارت متّصلة بالملأعلى.

ثم اجتماع عوالم السباع والبهائم والشياطين والملائكة فيها وإطاعة الجنّ والشياطين والكواكب والطيور والسباع لها.

ومنها : إهداؤها إلى الطبع الموزون والصوت الحسن واستنباط أنواع

__________________

١ ـ كلمات مكنونة : ١٢٥.

١٣٤

الصنائع العجيبة.

ومنها : الرؤيا وإخباره بالمغيّبات.

ومنها : صيرورة هذه النطفة القذرة ملكاً شديد البأس والبطش ، ظلاً من الله على عباده ، سبباً لانتظام النوع وفساده.

ومنها : تصرّفه في مواد الكائنات حتّى في السماوات من خوارق العادات وصنوف المعجزات والكرامات.

فلو تفكّرت فيما ذكر ومالم يذكر من عجائب صنعه تعالى المودعة في الهيكل البشري كان كلّ منها برهاناً ظاهراً على سلطانه القاهر.

وتزعم أنّك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر (١)

ومن جملتها : التفكّر في صفات الحقّ تعالى بالتفكّر في خواصّ النفس وإثبات ما يضاهيها في حصول المعرفة به تعالى فإنّ أوّل البغية آخر المدرك وأول المدرك آخر البغية ، فالمبادي تراد للغايات ، والغايات تظهر منها.

وقال عليه‌السلام : « من عرف نفسه فقد عرف ربّه » (٢).

ثم إنّك لو تفكّرت في كلّ ما يمكن أن تتفكّر فيه من عوالم الوجود المشار إليها عرفت أنه ما من ذرّة في الأرض ولا في السماء الا وهي طائعة لربّه خاضعة لأمره خاشعة من هيبته.

وعلمت أنّ جلّ منافعها ومصالحها عائدة إليك وإلى بني نوعك وأنها مخلوقة لاجلك مدبّرة في مصالحك وأنت ذاهل عن ذلك غافل عمّا هنالك.

ابرو باد وخورشيد وفلك دركارند

تاتو نانى به كف آرى وبه غفلت نخورى

__________________

١ ـ ديوان أميرالمؤمنين عليه‌السلام : ص ٢٣٦.

٢ ـ مائة كلمة لجاحظ : الكلمة الثالثة (من شرح ابن ميثم) ، ص ٥٧.

١٣٥

همه از بهر تو سرگشته وفرمانبردار

شرط انصاف نباشد كه تو فرمان نبرى

حتّى إنّ جوارحك التي تعصي بها ربّك مطيعة لأمره ، خاشعة من سطوته ، وجلة من هيبته ، خجلة عن موافقتها لك في مخالفته مع كونها بأمره ومشيئته ، ويقول كل منها بلسان حاله : أما ترى يا ضالّ من ذاالذي خلقني وأبدعني وأكمل هيأتي وصورني فأحسن صوّرتي وأو جدني فأجاد وجودي وخلقني وقلّبني في تقلّباتي وأحوالي وغيّرني في تطوّراتي انّما فعل ذلك لتهتدي بي إلى عظيم حكمته وجليل قدرته وتصرفني فيما يرضيه من طاعته ومعرفته ، فتبّاً لك يا جاهل يا قليل الحياء وتعساً لك يا مغرور يا عديم الوفاء ، وهل تظنّ أنك متمكّن بإرادتك فيما تأمرني به ومتسلّط على ماتصرفني فيه معاصيك ، كلّا بل هو الله الذي أمرني بموافقتك ولو أشار إلي بالانتقام منك أو مخالفتك لعلمت عجزك هوانك واطّلعت على ذلّك وخسرانك وستعلم عن قريب وبال ما اخترته لي ولنفسك من الظلم والجفاء.

جمله ذرّات زمين وآسمان

لشكر حقّند گاه امتحان

اى نموده ضدّ حق در فعل ودرس

در ميان لشكر اويى بترس

جزو جزوت لشكر او در وفاق

مر ترا اكنون مطيعند از نفاق

چونكه جان جان هر چيزى وى است

دشمنى با جان جان آسان كى است

تذنيب

قد تلخّص ممّا ذكرنا أنّ أحسن التفكّر هو ما كان في عجائب صنعه وحكمته حتّى يورث ازدياداً في اليقين والبصيرة بقدرته وحكمته وعظمته ورأفته وجزيل نعمته ، أو ما كان فيما يقرب العبد إلى طاعته ويبعده عن معصيته من الطاعات والفضائل والمعاصي والرذائل ، فيتفحّص في كل يوم وليلة كما أشرنا إليه عن حال قلبه وكلّ عضو من أعضائه فإن وجد كلاً منها

١٣٦

مستقيماً على وسط العدالة وملازمة الطاعة والعبادة المطلوبة منها وهاجرة من كلّ رذيلة ومعصية منهية عنها فليحمد الله على كمال التوفيق وتمام النعمة ، وإن وجدها ملوّثة بأخباث الرذائل والمعاصي فليبادر إلى معالجتها بالتفكّر في سوء الخاتمة وكونها مؤدّية إلى غضب الله تعالى والشقاوة الدائمة وتداركها بالتوبة والندم والبكاء والابتهال والتضرّع والدعاء وتحصيل فضائل الملكات وحسنات الأعمال المذهبة للسيّئات.

ومجال التفكّر في هذين القسمين وسيع ، والقدر الضروري منه للسالك يزيد على ما يستوعب فرصته من عمره لو صرفها في هذين القسمين خاصّة من فكره.

وقد كانت العادة المستمرّة لأسلافنا الصالحين المسافرين إلى المقام الأعلى أنهم يكتبون جميع المهلكات والمنجيات في جريدة ويعرضون صبيحة كل يوم أو عشية كل ليلة صفاتهم عليها ، فإذا أيقنوا بالتخلّي عن رذيلة واطمأنّوا بالتحلّي بفضيلة خطّوا عليها في الجريدة.

ثم يتفكّرون في أخرى إلى أن يوفّقهم الله تعالى للخطّ على الجميع وكانوا يرون هذا النوع من التفكّر من لوازم الايمان بالحساب ، فنعم الأسلاف السابقون وبئس الأخلاف اللاحقون ، حيث لا يشمّ من نفوسنا رائحة الايمان بيوم القيامة ولا تحصل فيها من كثرة الظلمات المحيطة بها رقّة وحزن وخوف تتبع اللوم والندامة.

ثمّ إنّ هذا النوع من التفكّر إنّما هو تفكّر العلماء الصالحين.

وأمّا الصدّيقون من الأنبياء والأولياء فشأنهم أجلّ وأرفع من ذلك لاستغراقهم في محبّة الله وانسه وفنائهم في جلاله وعظمته ، ففكر هم ليس الا الاستغراق في بحار أنوار جماله والاحتراق من نيران وصاله.

١٣٧

وأعلم انّ اللذّة الحاصلة من التفكّر بمراتبه المشار إليها ممّا لا تحصل الا مع الأنفكاك عن الرذائل الخلقية والاتّصاف بالفضائل النفسية وما أشبه حال من لم يتخلّ عنها ولم يتحلّ بها بحال من تمكّن من مشاهدة معشوقه فقام يحادثه وينظر إليه وتحت ثيابه حيّات وعقارب تلدغه ، فإنه مع شدّة الألم الحاصل له من لدغها لايبتهج ولايلتذّ من مشاهدته والتكلّم معه.

١٣٨

الباب السادس

في معالجة الرذائل الغضبية

وذكر ما يقابلها من الفضائل

ففيه أيضاً مقامان

١٣٩

المقام الأول

في ذكر الرذائل بمعالجاتها ولابدّ من ذكر جنسها مع ما هو من أعظم أنواعها ولوازمها في عدّة فصول :

فصل

أحد الجنسين من طرف الافراط التهوّر ، ويدلّ على ذمّه مادلّ على وجوب حفظ النفس عقلاً ونقلاً على أن من لا يتبع العقل في المحافظة عن الأخطار والمهالك أو لايخاف عن الزلازل العظيمة والصواعق المزعجة وأمثالها أصلاً يستحقّ أن يطلق عليه اسم الجنون والوقاحة.

وعلاجه بعد تذكّر مفاسده الدنيوية والأخروية تقديم التروّي في جميع أفعاله وارتكاب ما يجوّزه العقل دون ما يمنعه وربّما احتاج صاحبه في دفعه إلى الحذر عن بعض ما يجوّزه العقل إلى أن يقرب من الاعتدال فيأخذ بالشجاعة التي هو الوسط ويحتاط فيه حتى لايقع في جانب التفريط.

وثانيهما : الجبن أي سكون النفس عن الحركة إلى الانتقام وغيره مع كونها مطلوبة كما أن الغضب إفراطها فيها فهو ضدّ له وللتهوّر باعتبارين.

وعلى كلّ حال فهو من جانب التفريط وهو من المهلكات العظيمة ، ويتبعه من اللوازم الذميمة مهانة النفس والذلّة ، وسوء العيش ، وطمع الناس فيما يملكه ، وقلّة الثبات في الأمور ، والكسل ، وحبّ الراحة الموجبة للحرمان عن السعادات ، وتمكين الظالمين من الظلم عليه ، وتحمّل الفضائح في العرض والمال والعيال ، وعدم مبالاته بها ، وتعطيل مقاصده. والأخبار في ذمّه والاستعاذة منه في الدعوات كثيرة.

وعلاجه : تهييج الغضبية بما يبعث عليه لا متناع كون النفس عادمة لها

١٤٠