كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

تفريع

فإذ علمت وجوه الحبّ فاعلم أنّه لا مستحقّ له من جميع هذه الوجوه الا الله تعالى فلا محبوب حقيقة الا هو ، وكلّ من ينسب إليه الحبّ فلنسبته إليه تعالى لا لذاته والا كان جهلاً في معرفة الله ومعرفة محبوبه ، إذ كيف يصلح للحبّ من هو مع قطع النظر عنه تعالى عدم محض.

فإثبات الحبّ لغيره تعالى مجاز محض ، بل وهم وخيال.

أمّا حبّ الشخص لنفسه ووجوده وكماله فبيّن أنّ وجود كلّ أحد فرع وجوده تعالى وظلّ له ، فلا وجود له من ذاته ، بل عدم محض لولا فضله تعالى بالإيجاد ، وناقص لولا فضله بالكمال ، وهالك لو لا فضله بالإبقاء ، فوجوده ودوامه وكماله به ومنه وإليه ، فيرجع محبة كل أحد لوجوده إلى محبّته لوجود ربّه وإن لم يشعر به ، وكيف يتصوّر حبّك لنفسك من دون محبّتك لمن به قوامك ، مع أنّ من أحبّ الظلّ أحبّ الشجر الذي به قوامه بالضرورة ، ومن أحبّ النور أحب الشمس التي بها قوامه لامحالة ، والحال أنّ مانحن فيه أولى من ذلك وأحقّ ، فإنّ تبعيّة النور للشمس والظلّ للشخص (١) ليست الا موهومة للعوام ، إذ في الحقيقة هما فائضان من الله موجودان به بعد حصول الشرائط ، كما أنّ أصل الشخص والشمس وجميع مايعرضهما من اللون والشكل وسائر الأوصاف كذلك.

وأمّا الالتذاذ والإحسان مطلقاً فمعلوم انحصارهما فيه تعالى ، لأنّه خالق كلّ ما يلتذّ به ومبدع الإحسان وذويه وفاعل أسبابه ودواعيه.

وأمّا الحسن والجمال والكمال فهو الجميل الخالص بذاته ، الكامل بذاته لاغير ، وغيره تعالى ممّا يطلق عليه الجميل والكامل غير خالص عن شائبة النقصان ، إذ لايخلو لامحالة عن نقص الحاجة والإمكان ، مع ما عرفت من أنّ الجمال الباطني المعنوي أقوى وأشدّ تأثيراً من الصوري الظاهري ، وحقيقة

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر : « للشجر » وكذا في الخطّ الأتي.

٦٠١

الجمال المعنوي هي وجوب الوجود وكمال العلم والقدرة المنحصرة في الله تعالى ، فحبّ الجمال الناقص الصوري إذا كان ضرورياً لاينفكّ عنه عاقل فحبّ الجمال الأقوى الأكمل أحقّ وأحرى بل لا محبوب الا هو حقيقة.

باده خاك آلودتان مجنون كند

صاف اگر باشد ندانم چون كند

سيّما مع ماعرفت من استناد كلّ جمال صوري ومعنوي إليه تعالى ورجوع كلّ كمال وحسن وبهاء إليه وتفرّه عليه ، فكل محبّ لجميل محبّ في الحقيقة لمن هو خالق الجميل ، الا أنّه محتجب تحت حجب الأسباب غير شاعر لأجل ذلك بما هو الأصل في الإحباب.

هذا ، مع أنّ عمدة جمال المخلوق علمه بالله وبصفاته وأفعاله وقدرته على إصلاح نفسه وتسخيرها تحت عاقلته بالتخلية عن الرذائل والتحلية بالفضائل وإصلاح غيره بالهداية والإرشاد والنصح والسياسة ، وكلّها إضافات إليه تعالى ، فيرجع حبّها إلى حبّه تعالى.

وأمّا المناسبة الخفيّة والمجانسة المعنوية فقد تبيّن لك فيما سلف أنّ للنفس الناطقة التي هي من عالم أمره وشعلة من مشاعل جلاله ونوره وبارقة من بوارق جماله وظهوره مناسبة مجهولة مع بارئها ، ولذا استحقّت خلافته تعالى.

وورد في الخبر : « انّ الله خلق آدم على صورته » (١) ولأجلها تنقطع إليه تعالى عند انقطاع حيلتها في الحوادث النزلة بها ، وقد تظهر هذه المناسبة الخفيّة بالمواظبة على النوافل بعد إحكام الفرائض.

وهذا موضع زلّت فيه أقدام أولي النهى والأحكام وتحيّرت فيه أفهام أولي البصائر والأفهام ، فوقعوا في الحلول والاتّحاد أو التشبيه تعالى الله عن ذلك ، وقلّ من وقف واستقام على الصراط المستقيم الا من اعتصم بحبل الله وفاز بقلب سليم.

__________________

١ ـ إحياء العلوم : ٢ / ١٦٨ وراجع توحيد الصدوق : ص ١٥٢ ـ ١٥٣.

٦٠٢

ومن مناسباتها الخفيّة ما عرفت من ميله وقربه إليه تعالى في الصفات الربوبية والأخلاق الالهيّة وأمر بالتخلق بها حتّى يصير بها قريباً مناسباً منه.

وأمّا العليّة والمعلولية فظاهرة لا سترة فيه ، وباقي الأسباب ضعيفة نادرة ، واعتبارها نقص في حقّه تعالى.

ثم إنّه يتصوّر في الخلق مشاركة بعضهم لبعض في الصفة الموجبة للحبّ فيوجب ذلك نقصاً في حبّ بعض الشركاء ، والله تعالى لا شريك له ولا نظير في أوصاف الجلال والجمال وجوباً وجوباً وإمكاناً ، فلا يتصوّر في حبّه شركة ولايتطرّق إليه نقيصة ، فهو المستحقّ لأصل المحبّة وكمالها ، ولا متعلّق للمحبّة الا هو وإن لم يتمّ ذلك لأحد الا بالمعرفة التامّة ، فسبحان من احتجب عن أبصار العميان احتجاب الشمس عن أبصار الخفافيش غيرة على ماله من الجمال والجلال وتجلّى لأوليائه العرفاء بما له من البهاء والكبرياء حتى لم يحبّوا سواه ولم يحنّوا إلى ماعداه في حال من الأحوال.

تنوير

قد صرّح الحكماء بأنّ الأشياء المختلفة لاتتألّف تألّفاً تامّاً يحصل منه الاتّحاد بخلاف المتماثلات المتشالكة حيث يشتاق بعضها إلى بعض ويحصل منها الحبّ والوحدة والاتّحاد ، وذلك لأنّ التغاير من لوازم الماديّة ، فالجواهر البسيطة لكونها متشاكلة ومتماثلة يحنّ بعضها إلى بعض ويحصل من تألّفها اتّحاد حقيقي في الذات والحقيقة حتى لا يبقى بينها مغايرة واختلاف أصلاً والمادّيات لشدّة تباينها وتغايرها لو حصل بينها إلف وشوق كان غايته تلاقي السطوح والنهايات دون الحقائق والذوات ، فلا يبلغ درجة الاتّحاد والجوهر البسيط المودع في الانسان أعني الروح الانساني إذا صفا عن أخباث الطبيعة وخلص عن سجنها بالتطهّر عن العلائق المادّية وتخلّى عنها انجذب بحكم المناسبة المشار إليها إلى عالم القدس واشتاق إلى أشباهه من الذوات النورية المجرّدة. ثم إلى نور الأنوار ومنبع الخيرات واستغرق في مشاهدة جمال الحق

٦٠٣

ومطالعة جلاله ، وانمحى في أنوار تجلياته المفاضة عليه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على خاطر ، ووصل إلى مقام التوحيد الذي هو من أعلى المقامات ، وهذا وإن أمكن حصوله له في حال التعلّق بالبدن والتجرّد عنه كما عرفت في بحث السعادة الا أنّك عرفت أيضاً أنّ الشهود التامّ والابتهاج الصافي عن شوب كلّ كدر لايحصل الا بعد التجرّد وأنّه وإن لاحظ بنور البصيرة في هذه النشأة جمال الحقّ الا أنّه في الأغلب غير خال وإن بلغ مابلغ عن كدورات الطبيعة ، وأنّ الصافي منه لو حصل له مرّ كالبرق الخاطف ولذا إنّ الدنيا سجنه ويشتاق أبداً إلى خلاصه من هذا السجن الذي به احتجب عن مشاهدة محبوبه والوصول إلى مطلوبه ، ويقول :

حجاب چهره جان مى شود غبارتنم

خوشا دمى كه از آن چهره پرده برفكنم

چنين قفس نه سزاى چو من خوش الحانى است

روم به گلشن رضوان كه مرغ آن چمنم

وهذا هو آخر مراتب العشق الذي هو أقصى الكمال المتصوّر في حقّ الإنسان ، فلا مقام بعده الا وهو من ثمراته كالأنس والرضا والتوحيد ولا قبله الا وهو من مقدّماته ومباديه كالصبر والزهد وغيرهما وهو غاية منى السالكين ومنتهى آمال العارفين ، بل هو غاية الإيجاد ومنه المبدء وإليه المعاد.

تلميع

قالوا أكثر أقسام المحبّة فطريّة طبيعيّة كمحبّة المتجانسين والمتناسبين والعلّة والمعلول والجمال لذاته ، والكسبي الإرادي قليل كمحبّة المتعلّم للمعلّم ، بل يمكن إرجاعه إلى الطبيعي أيضاً ، وإذا كان الحبّ طبيعيّاً فأثره ومقتضاه أعني الاتّحاد يكون كذلك أيضاً ، ولذا إنّه أفضل من العدالة المثمرة للاتّحاد الصناعي ، بل لا حاجة معه إليها ، لأنّها فرع الكثرة المحوجة إلى الاتّحاد القسري كما عرفت ، بل صرّح قدماؤهم بأنّ قوام عالم الوجود

٦٠٤

ونظامه بالمحبّة الفطرية الثابتة بين الموجودات بأسرها من الأفلاك والعناصر والمركّبات كما لا يخلو شيء منها عن الوجود والوحدة ، إذا الحبّ والشوق إلى التشبّه بالمبدأ رقّص الأفلاك وأدار رحاها. ( بسم الله مجريها ومرسيها ). (١)

ولأجله مالت العناصر إلى أحيازها الطبيعيّة والمركبات بعضها إلى بعض.

سرّ حبّ أزلى بر همه اشيا سارى است

ورنه بر گل نزدى بلبل شيدا فرياد

ولما كان ظلّ الوحدة أعني الحبّ مقتضياً للبقاء والكمال وضدّه الفساد والاختلال فباختلاف درجاتهما تختلف مراتب النقص والكمال.

نعم خصّ المتأخّرون الحبّ والكراهة بالإرادي الثابت لذوي العقول وأطلقوا على ميل العناصر إلى مراكزها والمركّبات بعضها إلى بعض كالحديد إلى المغناطيس ونفرة بعضها عن بعض اسم الميل والهرب خاصّة والالف والنفرة على الحاصل للعجم من الحيوانات من الموافقة والمعاداة.

فصل

قد تبيّن ممّا ذكر ثبوت المحبّة ولوازمها لله تعالى ، وأنّه المستحقّ لها دون غيره ، وأنّ إنكار من أنكر ذلك ناش عن فراغ قلبه عنها وإلفه بعالم الحسّ حيث زعم أنّها لاتكون الا مع الجنس والمثل ، فلا معنى لها بالنسبة إلى الواجب والممكن ، وإنما المراد المواظبة على الطاعات ، فلم يدرك هؤلاء ... (٢) لذّة المناجاة والعشق والأنس والشوق مع كون كلّ من الكتاب

__________________

١ ـ هود : ٤١.

٢ ـ قال في الإحياء (٤ / ٢٩٤) : « أنكر بعض العلماء إمكانها وقال : لا معنى لها الا المواظبة على طاعة الله تعالى ».

٦٠٥

والسنّة مشحوناً من الحثّ على حبّ الله ورسوله واتّصاف الأنبياء والأولياء به وحكايات المحبّين بلغت حدّاً لايقبل الشكّ والارتياب.

( يحبّهم ويحبّونه ) (١) ( والّذين آمنوا أشدّ حبّاً لله ) (٢) ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم ـ إلى قوله ـ : أحبّ إليكم من الله ورسوله ... ). (٣)

وفي الحديث القدسي : « لايزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه فإذا أحببته ... إلى آخره ». (٤)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لايؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما ». (٥)

« اللّهمّ ارزقني حبّك وحبّ من يحبّك ... إلى آخره ». (٦)

وفي الخبر المشهور : أنّ إبراهيم عليه‌السلام قال الملك الموت : هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فقال تعالى : هل رأيت حبيباً يكره لقاء حبيبه؟ (٧)

وجاء أعرابي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : متى الساعة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أعددت لها؟ فقال : ما أعددت لها كثير صلاة وصيام الا أنّي أحبّ الله ورسوله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : المرء مع من أحبّ. (٨)

وقال علي عليه‌السلام : « إنّ لله شراباً لأوليائه إذا شربوا سكروا وإذا سكروا طربوا وإذا طربوا طابوا وإذا طابوا ذابوا وإذا ذابوا خلصوا وإذا خلصوا طلبوا وإذا طلبوا وجدوا وإذا وجدوا وصلوا وإذا وصلوا اتّصلوا وإذا اتّصلوا لا فرق

__________________

١ ـ المائدة : ٥٤.

٢ ـ البقرة : ١٦٥.

٣ ـ التوبة : ٢٤.

٤ ـ راجع الكافي : ٢ / ٣٥٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من آذى المسلمين ، ح ٨.

٥ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٤.

٦ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٥ ـ ٦.

٧ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٥.

٨ ـ المحجّة البيضاء : ٥ / ٣٤٥ ، مع اختلاف.

٦٠٦

بينهم وبين حبيبهم ». (١)

وقال في دعاء كميل بن زياد : « وقلبي بحبّك متّيماً ».

وقال سيّد الشهداء عليه‌السلام : « أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبّائك حتّى لم يحبّوا سواك ». (٢)

وقال سيّد الساجدين عليه‌السلام في دعاء أبي حمزة : « اللّهمّ إنّي أسألك أن تملأ قلبي حبّاً لك وخشية منك ... إلى قوله : حبّب إليّ لقاءك وأحبب لقائي ». (٣)

وقال في مناجاة المحبّين : « إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبّتك فرام منك بدلاً ، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً ـ إلى أن قال ـ : يا من أنوار قدسه لأبصار محبّيه رائقة ، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شائفة ، يا منى قلوب المشتاقين ، ويا غاية آمال العارفين أسألك حبّك وحبّ من يحبك وحب كل عمل يوصلني إلى قربك وأن تجعلك أحبّ إليّ ممّا سواك ... إلى آخره ». (٤)

وفي مناجاة المريدين : « وما أطيب طعم حبّك وما أعذب شرب قربك ». (٥)

وجميع الأدعية المأثورة عن الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام مشحونة من دعوى الحبّ وطلبه والالتذاذ منه ، ولايمكن حصرها.

وقال الصادق عليه‌السلام : « حبّ الله إذا أضاء على سرّ عبد أخلاه عن كلّ شاغل ، وكلّ ذكر سوى الله ، والمحب أخلص الناس سرّاً وأصدقهم قولاً وأوفاهم عهداً وأزكاهم علماً وأصفاهم ذكراً وأعبدهم نفساً يتباهى به

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٣ / ١٥٢. أسرار الشريعة ص ٢٨.

٢ ـ راجع مفاتيح الجنان : ذيل دعاء عرفة.

٣ ـ راجع مفاتيح الجنان : دعاء أبي حمزة.

٤ ـ مفاتيح الجنان : المناجاة التاسعة.

٥ ـ مفاتيح الجنان : المناجاة الثانية عشرة ، مناجاة العارفين لا المريدين.

٦٠٧

الملائكة عند ما مناجاته ويفتخر برؤيته وبه يعمر الله بلاده ، وبكرامته يكرم الله عباده ، يعطيهم إذا سألوه بحقه ، ويدفع عنهم البلاء برحمته ، فلو علم الخلق ما محله عند الله ومنزلة لديه ما تقربوا إلى الله تعالى إلا بتراب قدميه ». (١)

تبصرة

قد ظهر لك في بحث السعادة أن لكل من القوى الانسانية لذة تخصها وأذى يختص بها وأنها في نيلها بمقتضى غريزتها التي خلقت لأجلها وعدمه ، فغريزة الغضب خلقت للتشفي والانتقام ، فلذتها في حصولهما وغريزة قوة شهوة الطعام خلقت لتحصيل الغذاء الذي به يتقوم البدن ، فلذتها في نيله وكذا غيرهما من القوى ، كما أن للحواس الظاهرة والباطنة ملائمات ومنافرات طبيعية ، فكذا القلب له غريزة لذته في الوصول إلى مقتضى طبعها المخلوقة لأجله ، وهي العقل الذي خلق ليعلم به حقائق الأشياء على ما هي عليها ، فمقتضى طبعه العلم والمعرفة حتى إن الانتساب إلى العلم ولو بالأمور الخسيسة يوجب فرحاً ونشاطاً للنفس ، والجهل بها يوجب غماً وكدورة وألماً ، بل لايكاد الانسان يصبر عن التحدي والتمدح به فيما يعلمه وإن كان حقيراً في مجلس يبحث عنه أقرانه ويرتاح طبعه إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم ، وليس ذلك إلا لفرط لذة العلم واستشعار النفس بكمالها بسببه ، لأن العلم من أخص صفات الربوبية وهو نهاية الكمال كما عرفت غير مرة ، فيستشعر مما ذكر مايعجبه عن نفسه ويلتذ به.

ثم لاشك في أن العلم وإن كان كمالاً مطلقاً إلا أن لذته بقدر شرفه وشرفه بقدر شرف المعلوم ، فليست لذة العلم بالحياكة والحراثة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمور الخلق ولا العلم بالنحو والشعر كلذة العلم بالله وصفاته وأفعاله.

ولذا يختار لو خير الأشرف على غيره ، فإن كان في المعلومات ماهو

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : الباب ٩٦ ، في الحب في الله.

٦٠٨

الأجلّ والأكمل والاشرف كان العلم به ألذّ ولذّته أقوى وأعظم وأدوم.

وهل في الوجود شيء أجلّ وأعلى وأشرف وأبهى من خالق الأشياء ومكمّلها ومبدعها ومدبّرها ومزيّنها؟

وهل يمكن أن تكون حضرة أعظم في البهاء والثناء والكمال والجلال والجمال عن الحضرة الربوبية التي لايحيط بمباديء جلالها وعجائب أحوالها وصف الواصفين ، فإن أيقنت بذلك فأيقن بأنّ العلم بأسرار الربوبية من أعلى أنواع المعارف وأشرفها وأبهاها وأطيبها وألذّها وأشهاها بعد ما علمت أنّ لذّة العلم من أقوى اللذّات وأسناها ، فإن اللذّات تختلف نوعاً كالختلاف لذّة الوقاع مع لذّة الأكل ، ولذة السماع مع لذّة الرئاسة ، ولذّة الرئاسة مع لذّة المعرفة ، وكلّ نوع منها يختلف فيما تحته ضعفاً وقوّة ، كلذّة الشبق المغتلم من الجماع مع لذّة الشائب الفاتر الشهوة ، ولذّة النظر إلى الوجه البالغ في الجمال أقصاه بالنظر إلى مادونه ، والمعيار الكلّي في استعلام الأقوى من الأضعف اختيار المخيّر المتمكّن من كلّ منهما ، فإذا استمرّ اللاعب بالشطرنج على لعبه بعد حضور الطعام في وقته وترك الأكل علم أنّه عنده ألذّ منه وهكذا.

ثّم قد تبيّن لك سابقاً أنّ اللذّات الباطنة كالرئاسات والكرامات والعلوم أقوى من الظاهرة المستندة إلى الحسّ ، ولذا لايختارها عليها الا من كان خسيساً همّته ، ميّتاً قلبه ، ناقصاً عقله ، كالصبي والمجنون ، بل كلّما كمل العقل انتقل من لذّة ظاهرة إلى ماهو فوقها ، ولذا إنّ الصبي في أوّل حركته وتمييزه تظهر منه غريزة بها يستلذّ من اللهو واللعب ، وهما عنده من ألذّ الاشياء حينئذ ، ثم لبس الثياب والتزين وركوب الدوابّ حتى يستحقر معها اللهو واللعب ، ثم لذّة الوقاع حتّى يستحقر معها ما تقدّم ويتركها حين الوصول إليها ، ثم لذّة الرئاسة والتكاثر والعلوّ وهي آخر لذّات الدنيا من اللذّات الباطنية.

٦٠٩

قال الله تعالى : ( اعلموا أنّما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال الأولاد ). (١)

ثم بعد هذا تظهر غريزة يدرك بها لذّة المعرفة ويستحقر معها ما قبلها ، إذ يظهر حبّ اللعب في أوّل سنّ التمييز ، وحبّ النساء في سنّ البلوغ ، وحبّ الرئاسة بعد العشرين ، وحبّ المعارف بقرب الأربعين ، وكلّ متأخّر أقوى فهي الغاية القصوى ، وكما أنّ الصبي يضحك على تارك اللعب وطالب الرئاسة يضحك على المشتغل بالنساء ، فطالب المعارف الحقّة يضحك على أبناء الدنيا ، كما أنّهم يضحكون عليه أيضاً ، ويقول لهم : ( إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون ) (٢) فلذّة المعرفة ومطالعة جمال الحضرة الربوبية والنظر في الأسرار الإلهية ألذّ من كل شيء يتصوّر ، وغاية مايعبّر عن هذه اللذّة أن يقال : فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرّة أعين وأنّه أعدّ لهم ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وكيف لا يستحقر طالب هذه المعارف والواصل إلى مبادئها سائر اللذّات الدنيوية مع مايرى من انقطاعها بالموت وشوبها بالآلام والكدورات ، وخلوّ هذه عن هذه المزاحمات واتّساعها للمتواردين لاتضيق عنهم بكثرتهم ، فلايزال العارف في جنّة عرضها السماوات الأرض يرتع في رياضها ويقطف من ثمارها آمناً لا خوف عليه فيه ولا حزن يعتريه لأنّ ثمارها أبدية غير مقطوعة ، سرمدية غير ممنوعة لاتنقطع بالموت ، لأنّ محلّها الروح الذي هو أمر ربّاني ولا فناء له وإنّ غير الموت أحواله وقطع حجبه وشواغله. ( ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون ). (٣)

لكن إدراك هذه اللذّة مخصوصة بمن نالها ، ولايمكن إثباته لمن لا قلب

__________________

١ ـ الحديد : ٢٠.

٢ ـ هود : ٣٨.

٣ ـ آل عمران : ١٦٩.

٦١٠

له ، كما لايمكن إثبات لذّة الوقاع للعنّين.

ولعمري أنّ طلاب العلوم الرسمية وإن لم يشغلوا بالمعارف الإلهيّة الا أنّهم قد استنشقوا رائحة هذه اللذّة عند انكشاف المشكلات والشبهات التي قوي حرصهم على طلبها لكونها علوماً ومعارف أيضاً ، وإن كانت غير شريفة شرف العلوم الالهيّة فكيف بمن اشتغل بها ونال لذّتها.

ولذا قيل : « إنّ الله عباداً ليس يشغلهم عنه خوف النار ولا طمع الجنّة ، فكيف يشغلهم الدنيا؟ ».

وقد يتعجّل بعض هذه اللذّات في الدنيا لمن صفا قلبه إلى الغاية حتى قال بعضهم : اني أقول يا ربّ يا الله وأجده أثقل عليّ من الجبال لأنّ النداء يكون من وراء الحجاب وهل رأيت جليساً ينادي جليسه؟ فمقصد العارف وصله ولقاؤه وهو قرّة العين التي إذا حصلت انمحقت الهموم والشهوات واستغرق القلب بحيث لو ألقي في النار لم يحسّ بها ، ولو عرضت عليه النعيم لم يلتفت إليها لكمال نعيمه وبلوغه الغاية.

ولذا قال سيّد الساجدين عليه‌السلام : « يا نعيمي وجنّتي ويا دنياي وآخرتي » (١) بل من عرف الله عرف أنّ اللذّات المقرونة بالشهوات المختلفة كلها منطوية تحت هذه اللذّة كما قيل :

كانت لقلبي أهواء مفرّقة

فاستجمعت إذ رأتك العين أهوائي

فصار يحسدني من كنت أحسده

وصرت مولى الورى إذ صرت مولائي

تركت للناس دنياهم ودينهم

شغلاً بذكرش يا ديني ودنيائي

__________________

١ ـ مفاتيح الجنان : مناجاة المريدين.

٦١١

والله ما طلعت شمس ولا غربت

الا وأنت مع قلبي وأهوائي

ولا ذكرتك محزوناً ولا فرحاً

الا وذكرك مقرون بآرائي

وما جلست لقوم لست بينهم

الا رأيت فتوراً بين أعضائي

ولا هممت بشرب الماء من عطش

الا رأيت خيالاً منك في الماء

تذييل

قد سبق في بحث اليقين ما استبان لك أنّ الرؤية عبارة عن كمال الإدراك ونهاية الكشف وأنّها لاتسمّى رؤية لكونها العين ، بل لو خلق هذا القدر من الكشف في الجبهة أو الصدر استحقّ أن يسمّى رؤية ، وأنّه إذا كان الحال في المحسوسات كذلك فكذا في المعلومات ، فيسمّى آخر مراتب العلم بالنسبة إلى مباديه كشفاً ومشاهدة ولقاءاً ورؤية ، فكما أنّ سنّة الله جارية بأن تطبيق الأجفان يمنع من تمام الكشف بالرؤية في المحسوسات ويكون حجاباً بين البصر والمرئي ولابدّ من ارتفاع الحجاب حتّى يصدق الرؤية والا كان خيالاً لا رؤية فكذا عادته تعالى جرت بأنّ النفس مادامت محجوبة بعوارض البدن وعلائق الشهوات والصفات البشرية لم تنته إلى المشاهدة واللقاء في المعلومات الالهيّة.

ثم بعد ارتفاع تلك الحجب بالموت تبقى في النفس كدرتها ولاتنفكّ عنها دفعة بالمرّة وإن تفاوتت ، فمن النفوس ماتراكم عليها الخبث فصارت كالمرايا الفاسدة بطول تراكم الخبث بحيث لاتقبل التصقيل واصلة إلى حدّ الرين والطبع فهم محجوبون عن ربّهم أبدالآباد ، أعاذنا الله منه بمنّه وجوده.

٦١٢

ومنها مالم يصل إليه فيعرض على النار ليقمع منه الخبث العارض ويتفاوت ذلك بقدر حاجتها إلى التزكية ، وأقلّها لحظة إلى سبعة آلاف سنة.

( وإن منكم الا واردها كان على ربّك حتماً مقضيّاً ). (١)

فكلّ نفس تتيقّن بالورود عليها ولايقين لأحد بالصدور منها ، فإذا كملت التزكية وبلغ الكتاب أجله وفرغ عن جملة ماوعد الله به عباده من أحوال الموت وأهوال منكر ونكير والبرزخ والحساب والصراط وغيرها إلى أن يستوفي استحقاق الجنّة ويستعدّ بصفائه عن الكدورات حتّى لايرهق وجهه غبرة ولا قترة ولا ذلّة لأن يتجلّى فيه الحقّ ، تجلّى تجلّياً يكون انكشافه بالإضافة إلى ماعلمه سابقاً كانكشاف المرئي بالنسبة إلى المتخيّل.

وهذا هو الرؤية والمشاهدة واللقاء دون الرؤية بحسّ الأبصار فإنّه ممّا يتعالى عنه ربّ الأرباب ولو في يوم الحساب كما وردت به الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام وشهدت به بصيرة العقل بنور الاعتبار وصارت من ضروريات مذهب الشيعة كالشمس في رابعة النهار ، وإنّما المقصود هو الأوّل ، كما سئل أميرالمؤمنين عليه‌السلام : هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال : ويحك لم أعبد ربّاً لم أره ، قيل : وكيف رأيته؟ قال : ويلك لاتدركه العيون في مشاهدة الأبصارن ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. (٢)

فما دلّ بظاهره من كلماتهم على خلاف ذلك ينبغي تأويله جمعاً بينه وبين النصوص المصرّحة بخلافه ، فإنّ تأويل الظاهر بالقاطع أمر شائع وباب المجاز باب واسع.

فظهر أنّه لايفوز بدرجة المشاهدة واللقاء الا العارفون في الدنيا لأنّ المعرفة هي البذر الّذي ينقلب في الآخرة مشاهدة كما تنقلب النواة نخلة والبذر زرعاً ومن لا نواة له كيف يحصل له نخل ، ومن لم يعرف الله في

__________________

١ ـ مريم : ٧١.

٢ ـ الكافي : ١ / ٩٨ ، كتاب التوحيد ، باب في إبطال الرؤية ، ح ٦ ، مع اختلاف.

٦١٣

الدنيا كيف يراه الآخرة؟

ولمّا كانت مراتب المعارف في الدنيا مختلفة فمراتب التجلّيات في الآخرة كذلك كاختلاف النبات باختلاف البذور بسبب قلّتها وكثرتها وحسنها وضعفها وقوّتها فكما أنّ في الدنيا من يؤثر لذّة الرئاسة على الجماع والأكل والشرب ، فكذا في الآخرة من يؤثر لذّة النظر إلى وجهه الكريم على ما في الجنان من الحور والنعيم.

وإذ علمت أنّ للعارفين في معرفتهم وفكرتهم ومناجاتهم مع الله سبحانه في الدنيا لذّات لو عرضت عليهم الجنّة في الدنيا بدلاً عنها لم يستبدلوا بها وعلمت أنّها مع كمالها لانسبة لها إلى لذّة اللقاء والمشاهدة ، فكما أنّ لذّة النظر إلى وجه المعشوق في الدنيا يتفاوت بكماله في الحسن ونقصانه وكمال الحبّ والشهوة ونقصانهما وكمال الإدراك وضعفه فإنّ رؤيته من وراء الستر الرقيق أو في الظلمة أو من بعد غير رؤيته في وسط النهار على قرب منه واتّصال به من دون حائل وحجاب.

وكذا بالخلّو عن المشاغل القلبيّة والعوائق النفسية ومشوّشات الخاطر وعدمه كالصحيح على (١) المريض والمهموم المشغول قلبه بحادث يزعجه عن السكون مع الفارغ المطمئنّ ، فلو فرض عاشق ضعيف العشق ينظر إلى وجه معشوقه من بعد ومن وراء ستر رقيق مع اجتماع عقارب وحيّات تلدغه وتؤذيه وتشغل قلبه فلا يخلو حينئذ من لذّة ما من مشاهدة معشوقه ، فلو عرضت له على الفجأة حالة انهتك معها الستر واندفعت عنه المؤذيات وبقي سليماً فارغاً وهجم عليه العشق المفرط ، فانظر هل للذّة الحادثة له حينئذ نسبة إلى اللذّة الاولى ، فالبدن ستر حاجب للنفس كما أشرنا إليه ، والشهوات الحسيّة كالعقارب والزنابير والحيّات وفتور الشهوة مثال لقصور النفس ونقصانها عن الميل إلى الملأ الأعلى كقصور الصبّي عن إدراك لذّة الرئاسة

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر : مع.

٦١٤

وعكوفه على اللعب بالعصفور ، فالعارف وإن قويت معرفته في الدنيا الا أنّه لايخلو عن هذه المشوّشات وإن ضعفت في بعض الأحيان لاح عليه من جمال المعرفة مايبهر به العقل بحيث يكاد القلب يتفطّر لغظمته ، الا أنّه كالبرق الخاطف قلّما يدوم بل يعرض له من ضروريات البدن من الشواغل والأفكار مايشوّشه وينغصه ، فالحياة الطيّبة بعد الموت وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ، وسالك الآخرة مالم يصل إلى المرتبة التي أعدّ لها يكره الموت طلباً للاستكمال في المعرفة ، فإنّها بحر لا ساحل له ، وهي بمنزلة البذر في القلب كلما كثرت قويت المشاهدة وعظمت اللذّة والإحاطة بكنه صفات الله وأفعاله متعذّرة.

نعم ربما عظمت اللذّة بحيث ذهل عن هذا المعنى وتفطّن بأنّ اللذّة الحقيقية إنّما تتم بعد الموت خاصّة واشتاق إليه ، فمحبّة العارف للممموت لشوقه إلى الوصل واللقاء ومحبّته للقاء لحرصه على المعارف التي لاتتناهى طلباً لقوّة اللذّة وعظم كيفيّة المشاهدة بزيادتها ، ولذا عدّ طول العمر من أقسام السعادة وأسبابها ، وطلب في الأدعية من الله سبحانه ، بخلاف طالب الدنيا ، فإنّه يكره الموت إذا اشتدت علاقته بالدنيا واستلذّ من حطامها ، ويحبّه إذا ضاقت عليه الدنيا بحذافيرها.

تفريع

فإذ قد تبيّن لك أن أصل السعادة في حبّ الله سبحانه وأنّ الآخرة معناها القدوم على الله ودرك سعادة اللقاء وما أعظم نعيم المحبّ بملاقاة المحبوب بعد الهجران وطول مدّة الشوق من غير منغّص ورقيب وانقطاع ، فهذا النعيم على قدر المحبّة ، فكلّما ازدادت زادت اللذّة ، وهذا الحبّ ممّا لايخلو عنه مؤمن وإن لم يبلغ الأكثرون إلى درجة العشق أعني استيلاء الحبّ على القلب والجوارح وانتهاءه إلى حدّ الاستهتار ، وإنّما الوصول إليها مشروط بأمرين :

٦١٥

أحدهما : قطع العلائق وإخراج محبة غيره تعالى عن القلب فإنه كالإناء مالم يكن خالياً لم يتسع لوضع شيء فيه. ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) (١) فبقدر الاشتغال بغيره تعالى ينقص حب الله تعالى كما أنه بقدر ما بقي في الاناء من الشيء الذي كان فيه أولاً لايتسع لشيء آخر ، وإلى هذا التجريد والتفريد أشار تعالى بقوله : ( قل الله ثم ذرهم ). (٢)

وقد أشرنا فيما سبق إلى سبيل قلع حب الدنيا وعلائقها.

والآخر : قوة المعرفة واستيلاؤها على القلب وهي تجري مجرى إلقاء البذر في الأرض بعد تطهيره عن الحشيش ومهما حصلت المعرفة تتبعها المحبة ولايوصل إلى المعرفة بعد قطع العلائق إلا الفكر الصافي والذكر الدائم والجد البالغ والنظر المستمر في الله وصفاته وملكوت سماواته وسائر مخلوقاته والواصلون إليها بذلك على قسمين :

أقواهما من كان معرفته بالله تعالى أولاً ثم يعرف به غيره ، وأضعفهما العكس ، وإلى المرتبتين أشير في الكتاب الإلهي :

( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ). (٣)

وقال السجاد عليه‌السلام : « بك عرفتك وأنت دللتني عليك ... ولولا أنت لم أدر ما أنت ». (٤)

وقال أبوه عليه‌السلام : « كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو ألمظهر لك ». (٥)

وهذا وإن كان غامضاً صعباً على أفهام الاكثرين فالآخر متسع

__________________

١ ـ الأحزاب : ٤.

٢ ـ الأنعام : ٩١.

٣ ـ فصلت : ٥٣.

٤ ـ مفاتيح الجنان : دعاء أبي حمزة الثمالي.

٥ ـ مفاتيح الجنان : ذيل دعاء عرفة.

٦١٦

الأطرفا متكثّر الشعوب والأكناف ، فما من ذرّة من المخلوقات الا وفيها عجائب آيات دالّة على كمال قدرة الله وحكمته وجلال الله وعظمته كما أشرنا في فصل التفكر ، وإنما لايصل الناس إلى المعرفة مع وضوح الطريق وسهولة مأخذة لإعراضهم عن التفكّر واشتغالهم بحظوظ النفس ، كيف لا وأوضح ما أودع فيها من العجائب النفس الانسانية وهي مع كونها أوضح شيء على الأنسان نفسه مجهولة عليه وذلك عقوبة للخلق بما أعرضوا عن الله واستخفّوا بعظائم نعمائه وجلائل آلائه. ( نسوا الله فأنساهم أنفسهم ). (١)

وقد أشرنا في الفصل المذكور إلى أنّ عجائب ملككوت السماوات والأرض ممّا لايمكن أن يحيط بها الأفهام ، فإنّ القدر اليسير الذي تصل إليه أوهامنا مع قصورها ممّا ينقضي فيه الأعمار دون إيضاحه ، ولانسبة له إلى ما أحاط به علم العلماء ولا له إلى ما أحاط به علم الأنبياء ولا له إلى ما علم الله سبحانه وتعالى ، بل كلّ ما عرفه الخلائق أجمعون لايستحقّ أن يسمّى علماً في جنب علم الله تعالى.

( قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ). (٢)

فانظر ياحبيبي ما تيسّر لك في عجائب صنع الله تعالى وانبذ الدنيا وراء ظهرك واستغرق العمر في الذكر والفكر عساك تحظى منها بقدر يسير تنال به ملكاً عظيماً.

تفريع

قد علمت أنّ المؤمنين مشتركون في أصل الحبّ لاشتراكهم في أصل الإيمان ، الا أنّ تفاوتهم فيه كتفاوتهم في المعرفة وفي حبّ الدنيا لأنّ تفاوت

__________________

١ ـ الحشر : ١٩.

٢ ـ الكهف : ١٠٩.

٦١٧

الأشياء إنّما يكون بتفاوت أسبابها وليس حظّ الأكثر من المعرفة الا تلفيق بعض ماقرعه (١) سمعهم من الأسماء والصفات وحفظه فربّما تخيّلوا لها مايتعالى عنه الربّ تعالى وهؤلاء الضالون ، وربّما آمنوا بها إيمان تسليم من دون تصوّر معنى صحيح أو فاسد فاشتغلوا بالعمل ولم يبحثوا عن المعنى وهؤلاء الناجون السالمون ، والعارفون بالحقائق هم المقرّبون ، فالفرق في المعرفة الحاصلة لهم بالإجمال والتفصيل ، فالعامي ومن يتلوه يعلم حسن صنع الله وإحكامه وإتقانه إجمالاً ، ويعتقد ذلك ولأجله يحبّه أيضاً ، والبصير العارف يطالع تفصيل صنع الله فيها حتى يرى في البعوض مثلاً من العجائب مايبهر به عقله ويتحيّر فيه لبّه وتزداد بذلك لامحالة عظمة الله وجلاله في قلبه ، ثم تزداد بسبب ذلك حبّه له.

وقد عرفت أن هذا الاطّلاع التفصيلي بحر لا ساحل له ، فلا جرم يتفاوت بتفاوت مراتب العلم والمعرفة مراتب المحبّة لا أصلها.

ومن جملة أسباب أختلاف مراتب الحبّ اختلاف أسبابه المشار إليها في صدر المبحث ، فإنّ حبّه تعالى لأجل نعمته وإحسانه ربّما يتغيّر بتغيّر الإحسان فلا يتساوى حبّه في حالتي الشدّة والرخاء والسرّاء والضرّاء.

وأمّا من يحبّه لذاته تعالى ولكونه مستحقّاً للحبّ بسبب كماله وجماله وعظمته فلا يتفاوت أصلاً ، وقس على ذلك سائر الأسباب. والتفاوت في المحبّة سبب للتفاوت في السعادة الاخروية.

( وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ). (٢)

تلميع

من الضروريات الأوليّة كون الباري تعالى من أجلى الموجودات

__________________

١ ـ كذا في النسخ ، والظاهر : « الا تلقّن بعض ما قرع سمعهم » كما يظهر من المحجّة البيضاء : ٨ / ٥٠.

٢ ـ الإسراء : ٢١.

٦١٨

وأظهرها ، إذ كلّ موجود فإنّما يستدلّ على وجوده ببعض صفاته المحسوسة دون بعض وبه نفسه دون الموجودات الأخر بخلافه تعالى ، فإنه يدلّ عليه كلّ موجود.

وفي كل شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

في وجوب الوجود وعلّيته لجميع الأشياء ، فأظهر الأشياء في علمنا نفوسنا ، ثم محسوساتنا الظاهرة ، ثم الباطنة ، ثم المدركات العقليّة وكلّ منها لها مدرك واحد وشاهد ودليل على وجوب وجود خالقها ومدبّرها وعلمه وحكمته وقدرته ، هذا مع قضاء الضرورة بوجود موجود قائم بذاته ، أي ما يكون صرف الوجود مقوّماً لغيره من الموجودات بأسرها ، بحيث لولاه لم يتحقّق مصداق للوجود أصلاً.

( الله نور السماوات والأرض ). (١)

أي الظاهر في نفسه المظهر لغيره فمبدأ الإدراك هو المدرك وكلّ مدرك فإنّما يدرك أوّلاً وجوده وإن لم يشعر به ، والظاهر بنفسه أظهر من المظهر بغيره بالبديهة ، فإن كانت حياة الكاتب ظاهرة عندك مع أنّه لايشهد عليها والا شاهد واحد من حركة يده فكيف لايكون ظاهراً ما لايتصوّر في عالم الوجود من داخل نفوسنا وخارجها [ شيء ] الا وهو يشهد على وجوبه وعظمته وجلاله وينادي بلسان حاله بأن لا وجود له بنفسه ولا حركة بذاته ، يشهد به تركيب الأعضاء وائتلاف العظام واللحوم والأعصاب ومنابت الشعور وتشبّك (٢) الأطراف وسائر أجزائنا الظاهرة والباطنة.

فكان الحريّ أن يكون معرفته تعالى من أوّل المعارف وأسبقها إلى الأفهام وأسهلها على العقول والأحلام ، فما يترائى من خلاف ذلك ليس الا من جهة أنّ شدّة ظهوره وشهادة كلّ مدرك محسوس ومعقول وحاضر

__________________

١ ـ النور : ٣٥.

٢ ـ في المحجّة البيضاء : (٨ / ٥٢) : تشكّل.

٦١٩

وغايت به من دون تفرقة بعضها لبعض صارت سبباً لذهول العقول عن إدراكه ، وليست خفائه وغموض مدركه كسائر المخفيات الملتبسة.

وكما أنّ الخفاش يبصر بالليل دون النهار لا لخفاء النهار بل لشدّة ظهوره وضعف بصر الخفاش ، يبهره نور الشمس إذا أشرقت فلا يرى شيئاً الا مع امتزاجه بالظلمة وضعف نوره وظهوره ، فكذا عقولنا قد انبهرت لضعفها وقصورها وغاية استغراق جمال الحضرة الربوبية وشمول نورها ونهاية إشراقها ظهورها حتّى لم يشدّ عنه ذرّة من ملكوت السماوات والأرض ، ولاغرو في ذلك ، إذ الأشياء تستبان بأضدادها وما عمّ وجوده حتّى لم يبق له ضدّ عسر إدراكه.

ولو اختلفت الأشياء في الدلالة أدركت الفرق سريعاً كالشمس المشرقة على الأرض لحصول العلم بأنّ نورها عرض يحدث في الأرض ويزول عند غيبتها ، فلو كانت دائمة الإشراق لا غروب لها لكان يدخل في الظنون أن لاهيئة في الأجسام الا ألوانها ، إذ ما كنّا نرى في الأسود الا السواد والأبيض الا البياض ، وما كنّا ندرك الضوء وحده ، لكن لمّا غابت الشمس وأظلمت المواضع حصلت التفرقة وعلم أنّ استضاءة الأجسام كانت من ضوء عارض وصفة حادثة فارقتها بالغروب ، فعرف وجود النور من عدمه ، فالله أظهر الأشياء وبه ظهرت كلّها ، ولو كانت له غيبة أو تغيّر لانهدّت السماوات والأرض وبطل الملك والملكوت وأدركت التفرقة بين الحالتين في الدلالة ، لكن لمّا كانت دلالته عامة على نسق واحد ووجوده دائماً في كلّ الأحوال مستحيلاً خلافه فلا جرم أورث ظهوره خفاء ، لكن هذا حال الضعفاء الذين يحتاجون في الدلالة على وجوده تعالى بمشاهدة معلولاته وتغيّراتها.

وأمّا القوّي البصير فلا يرى الا الله ولا يعرف الا إيّاه ويذهل عن الأشياء من حيث هي بل يراها من حيث كونها من صنائعه تعالى.

فهذا هو السبب الأصلي في قصور الأفهام عن معرفته تعالى ، وقد

٦٢٠