كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

على السرّاء والضرّاء ، والسلاح على الأعداء ، والزين عند الاخلاء ، يرفع الله تعالى به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة تقتبس آثارهم ، وتقتدى بفعالهم ، وينتهى إلى رأيهم ، ترغب الملائكة في خلّتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، وفي صلواتها تبارك عليهم ، ويستغفر لهم كلّ رطب ويابس حتّى حيتان البحر وهوامّه وسباع البرّ وأنعامه ، الحديث ». (١)

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « العلم أفضل من المال بسبعة » :

الأوّل : انّه ميراث الأنبياء ، والمال ميراث الفراعنة.

الثاني : انّ العلم لا ينقص بالنفقة ، والمال ينقص بها.

الثالث : المال يحتاج إلى المحافظة (الحافظ ن خ) ، والعلم يحفظ صاحبه.

الرابع : العلم يدخل في الكفن ويبقى المال.

الخامس : المال يحصل للمؤمن والكافر ، والعلم لايحصل الا للمؤمن خاصة.

السادس : جميع الناس يحتاجون إلى العالم في أمور دينهم ولايحتاجون إلى صاحب المال.

السابع : العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه ». (٢)

وقال سيّد الساجدين عليه‌السلام :

« لوعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج ... الحديث ». (٣)

وقال الصادق عليه‌السلام :

« إنّ العلماء ورثة الأنبياء ، إنّ الأنبياء لم يورثوا درهماً ولاديناراً ، وإنّما أورثوا أحاديث ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّاً وافراً ، فانظروا علمكم »

__________________

١ ـ أمالي الطوسي ٢ / ١٠٢ ـ ١٠٣ كما في منية المريد : ١٠٨ ـ ١٠٩.

٢ ـ تفسير الرازي : ٢ / ١٨٢ ـ ١٨٣ كما في منية المريد : ١١٠.

٣ ـ الكافي : ١ / ٣٥ ، كتاب فضل العلم ، باب ثواب العالم والمتعلّم ، ح ٥.

١٠١

هذا عمّن تأخذونه ... الحديث. (١)

والأخبار أكثر من أن تحصى وأظهر من أن تخفى.

قال بعض العلماء : « العلماء ثلاثة » عالم بالله غير عالم بأمر الله ، فهو عبد استولت المعرفة الالهيّة على قلبه فصار مستغرقاً بمشاهدة نور الجلال ، فلا يفرغ لتعلّم الأحكام الا ما لابدّ منه ، وعالم بأمر الله غير عالم بالله ، وهو الذي عرف الحلال والحرام ودقائق الأحكام ، ولم يعرف أسرار جلاله تعالى ، وعالم بهما معاً فهو الجالس على الحدّ المشترك بين عالم المجرّدات والمحسوسات ، فهو تارة مع الله بالحبّ له ، وتارة مع خلقه بالشفقة عليهم ، فإذا رجع منه تعالى إليهم كان كأحدهم ، كأنّه لايعرف الله ، وإذا خلا مشتغلاً بذكره وخدمته فكأنّه لم يعرف الخلق ، وهذا سبيل المرسلين ، وهو المراد بقوله عليه‌السلام :

« سائل العلماء ، وخالط الحكماء ، وجالس الكبراء ». (٢)

فالعلماء هم الصنف الثاني أمر بمسائلتهم ، عند الحاجة إلى فتاويهم.

والحكماء هم الصنف الأوّل أمر بمخالطتهم.

والكبراء هم الصنف الثالث أمر بمجالستهم ، لأنّ فيها خير الدنيا والآخرة.

ولكلّ منهم ثلاث علامات :

فعلامة الثاني : الذكر اللساني دون القلبي ، والخوف من الخلق دون الرّب ، والاستحياء في ظاهر الناس وتركه في الباطن من الله.

وعلامة الأوّل : ذكر القلب وخوف الرجاء والحياء ممّا يخطر على القلب.

ويزيد الثالث بالجلوس على الفصل المشترك بين عالمي الغيب

__________________

١ ـ الكافي : ١ / ٣٢ ، كتاب فضل العلم ، باب صفة العلم وفضله ، ح ٢.

٢ ـ المحجة البيضاء : ١ / ٣٧ ، منية المريد : ١٢٥.

١٠٢

والشهادة ، وتعليم المسلمين واحتياج الأوّلين إليه دون العكس ، فمثله كمثل الشمس لاتزيد ولاتنقص ، والأوّل كالقمر ينقص ويكمل ، والثاني كالسراج يحرق نفسه ويضيء غيره ». (١)

المقصد الثاني : في تفصيل ما يحمد من العلوم ويذّم

العلوم إمّا شرعيّة أي مستفادة من سفرائه تعالى تحيث لايستقلّ العقل بإدراكها.

أو عقليّة كالسحاب والهندسة.

أو تجربيّة كالطبّ.

أو سماعيّة كاللغة.

والمحمود من غير الشرعيّة ما ترتبط به مصلحة دنيويّة ، فإن كانت ممّا لايستغنى عنها في قوام أمور الدنيا كالطبّ الضروري في بقاء الأبدان ، والحساب الضروري في قسمة المواريث وغيرها ، وأصول الصناعات وغيرها ، فهي من الفروض الكفائية ، وإن كانت تفيد زيادة قوّة في القدر الضروري كالتعمّق في دقائق علم الطبّ والحساب كانت فضيلة لا فريضة.

وأمّا المذموم منها ، فإنّ العلم من حيث إنه معرفة للأشياء على ما هي عليه كمال ممدوح ، وعدمه نقص مذموم ، لكن عروض الذّم له من أحد وجوه :

أحدها : أداؤه إلى الاضرار بصاحبه أو بغيره ، كالسحر والطلسمات والشعبذة ، حيث يتوصّل بها غالباً إلى الأذيّات.

وثانيها : ورود النهي عنه في الشريعة كالنجوم ، وسرّه ـ كما قيل ـ أنّ غالب أحكامم حدسيّة تخمينيّة ، فذمّه لكونه جهلاً ، ولو كان علماً كان ممدوحاً.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ١ / ٣٦ ـ ٣٧ ، منية المريد : ص ١٢٤ ـ ١٢٥ كلاهما نقلاً عن شقيق البلخي في تفسير الرازي.

١٠٣

فقد روي أنّه كان معجزة لادريس عليه‌السلام. (١)

وعن الصادق عليه‌السلام : « انّه علم الأنبياء وانّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان أعلم الناس به ». (٢)

والاصابة اتّفاقيّة ، إذ يطلع على بعض الأسباب وهناك أسباب أخر لايعلم ، فإن قدّر الله حصولها أيضاً وقعت الاصابة والا أخطا ، وما أشبهه بتخمين الأمطار من انطباق الغيم ، وتخمين سلامة السفينة من موافقة الريح ، ولذا قال الصادق عليه‌السلام : « إنّ كثيره ل يدرك ، وقليله لا ينتفع به ». (٣)

مع أنّه خوض في بطالة ، لأنّ المقدر كائن والاحتراز غير ممكن ، ولاكذلك الطبّ ، لشدّة مسيس الحاجة إليه وظهور أدلّته ، ولا التعبير أيضاً لعدم الحظر فيه ، بل ورد أنّه جزء من ستّة وأربعين جزء من النبوّة (٤) مضافاً إلى إضراره بعقائد الضعفاء ، فتعظم وقع الكواكب في نفوسهم بترتّب الآثار عليها فتلتفت إليها وتحذر من الشرور من جهتها ، ويمحو ذكر الله من قولبهم بسببها لقصور نظر الضعيف على الوسائط القريبة.

ثالثها : عظم الخطر فيه ، وعدم استقلال الخائض فيه بإدراكه ، فيستضرّ بها كما لستضرّ الطفل الرضيع أو المريض من أكل لحم الطير وأنواع الحلاوات اللطيفة ، ولذا استعيذ من العلم الذي لاينفع ، كما في المعارف الحقّة ، فإنّه كما تتحقّق باقتنائها السعادة الأبديّة ، فكذا تحصل بأدنى خلل منها الشقاوة السرمدية ، وتصير باعثاً للخلود في النار مع المشركين والكفّار.

وأمّا الشرعيّات فكلّها محمودة ، وأصلها الكتاب والسنّة المعصومية ، ويتفرّع عليها ما يفهم منهما بأقسام الدلالات اللفظية والعقلية.

فما يتعلّق منه بتنظيم مصالح الدنيا هو علم ، الفقه ، فإنّ الدنيا من منازل

__________________

١ ـ مجمع البيان : ٦ / ٥١٩ ، الآية ٥٧ مريم.

٢ ـ البحار : ٥٨ / ٢٣٥.

٣ ـ روضة الكافي : الحديث ٢٣٣.

٤ ـ الجامع الصغير : ٢ / ٢٢ ، إلا أن فيه : « رؤيا المؤمن جزء ... ».

١٠٤

الآخرة ، خلقت ليتزوّد منها ما يصلح للوصول إليها ، فلو تناولها الناس بالعدل انقطعت الخصومات ، وتعطّلت الفقهيّات ، لكن تناولوها بالشهوات فمسّت الحاجة إلى قوانين السياسات. والفقيه هو العالم بها كما أشرنا إليه سابقاً ، فهو وإن تعلّق بالدين لكن بواسطة ، فكما أنّ الحج لايتمّ الا ببدرقة تحرس الحاج عن اللصوص ، لكن الحج شيء وسلوك الطريق إليه شيء ثان ، وحراسة الحاج عن اللصوص ثالث ومعرفة طرق الحراسة وحيلها وقوانينها شيء رابع ، فكذا الحال في الدين ، والفقه منه بمنزلة الرابع.

فإن قلت : لو سلّم ذلك في الحدود والديات والقضايا والشهادات وكثير من المعاملات فلا يتمشّى في الحلال والحرام والعبادات.

قلت : أقرب ما يتكلّم فيه الفقيه إلى أعمال الآخرة الاسلام والصلاة والزكاة والصيام والحلال والحرام.

أمّا الاسلام فلا يلتفت الا إلى اللسان ، والقلب خارج عن حكنه بعزل الرسول أرباب السيوف بمجرّد إقراره به ، فيحكم بعصمة الرقبة والمال بإظهاره ، وهذا لاينفعه في الآخرة ، وإنّما النافع هناك أنوار القلوب وأسرار الغيوب ، وليس من فنّه وإن تكلّم فيه بالتبع.

وكذا يحكم بصحّة الصلاة مع الاتيان بصورة الأعمال والشرائط ، ولو كان غافلاً من أوّلها إلى آخرها ، وفائدتها انقطاع القتل والتعزير في الدنيا ، وليس فيها مزيد نفع كالمسلم لحقن الدم والمال.

ونحوه الصوم.

وأمّا الزكاة فنظره في إبراء الذمّة ظاهراً بدفع السلطان الظاهري عنه ، فلو أخذت منه قهراً حكم بالابراء ظاهراً مع أنها لا تنفعه في الآخرة ، وكما يتوسّل لتحليل كثير من المحرّمات بأنواع الحيل فإنّه يدفع التسلّط الظاهري مع كونه ضاراً في الحقيقة في الآخرة.

وأمّا الحلال والحرام فسنذكر أنّ للورع مراتب ، وإنّما نظر الفقيه في

١٠٥

أدونها التي لايخرج بها عن أهليّة الشهادة والولاية والقضاء أي الاحتراز عن المحرّمات الظاهرة ، وهذه لاينافي الاثم في الآخرة. فإذن نظر الفقيه مرتبط بالدنيا ، وإن كانت الآخرة منوطة بها ، لأنّها مزرعتها. لكنّه أشرف من سائر علوم الدنيا ، كالطبّ والحساب وغيرهما ، لكونه مستفاداً من النبوّة وناموساً إلهيّاً تنتظم برعايته أمور الدارين وبإهماله يختلّ نظام النشأتين ، فلا يستغني عنه أحد في سلوك طريق الآخرة والمجاورته بعلم الآخرة لاتّصال الجوارح بالقلب ومنشأ أعمال الجوارح الصفات القلبيّة ، فمحمودها يصدر عن مجمودها ، ومذمومها عن مذمومها ، ولورود الأمر به الحثّ عليه وعظم شأنه خطره في الأخبار وما يتعلق بالآخرة على ضربين :

أحدهما : وهو الأصل معرفة الله وصفاته وأفعاله ، وأدنى ما يلزم منه على كافة الخلق عيناً معرفة أصول العقائد بدليل إجمالي يطمئنّ به نفسه ولو كان ضعيفاً في نفسه ، ولايكتفي فيها بالتقليد على الأظهر الأشهر ، كما فصّلنا الكلام فيه في أصول الفقه.

ثم فوقه مراتب كثيرة متفاوتة بتفاوت الناس في البهمّة والاستعداد والسعي والاجتهاد ، وأعلاها من حصل له يقين على مثل ضوء الشمس بحيث لو كشف الغطاء ما ازداد يقيناً ، ولايكفي في حصوله مجرّد التعلّم والتعليم والنظر ، لما نرى من اختلافهم فيها مع اشتراكهم في التصديق بأصولها على مقامات ، ضبعضهم يرى كمال المعرفة في المعجز عنها ، وبعضهم يدّعي فيها أموراً عظيمة ، وبعضهم يحدّها بعقائد العوام ، فيحتاج اتّضاح جليّة الحق على الطالب بحيث يجري له مجرى العيان إلى رياضة وتصقيل لمرآة القلب عن صفاته الذميمة ، وهو ممكن كما أشرنا إليه ، الا أنها لتراكم خبثها وصداها بالحواجب الجسمانيّة لاتدرك الا ألفاظاً مسموعة ومعاني مجملة غير متّضحة ، وقد تقدّمت الإشارة إلى ما يشهد عليه من كلام أميرالمؤمنين عليه‌السلام وسنزيدك تنبيهاً عليه في فصل اليقين ، فمن لم يقدر على

١٠٦

مخالفة نفسه واقتناء فضائلها وإزالة كدوراتها كما هو حقّه حتى تقتبس من الأنوار الحقّة الملكوتيّة نوراً إلهيّاً ينكشف به الحجب والأستار عن العقائد الحقّة والمعارف الحقيقيّة ، كان اقتصاره على التصديق بظواهر الآيات والأخبار إجمالاً أسلم وأولى ، لما عرفت من عظم خطرها وعدم استقلال العقول الناقصة بإدراكها ، ولذا كان اهتمام الشيطان في تزليق أقدام طالبيها أشدّ من سائر الطلّاب ، ودخوله من هذا الباب لتغرير الأذكياء أسهل من سائر الأبواب ، حيث يظنّ كلّ أحد أنه يقدر على الخوض في غوامض المعارف الحقّة ومعرفة حقائقها وإدراك دقائقها ، وأنّه قويّ فيه فيخوض في بحر الجهالات من حيث لايعلم فيهلك ويهلك.

ومن هنا ورد ذمّ الخوض في الكلام والمنع عنه عن الأئمّة عليهم‌السلام (١).

ولما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه يخوضون فيه غضب حتّى احمرّت وجنتاه وقال : « أفبهذا أمرتم ، تضربون كتاب الله تعضه ببعض؟ انظروا فيما أمركم الله فافعلوا وما نهاكم عنه فانتهوا » (٢).

ومنه يظهر أيضاً سرّما ورد من الأخبار والآثار من المنع عن إفشاء دقائق الأسرار والمبالغة في كتمان جواهر المعارف وذوارف العوارف ، حيث إنه لاسبيل إلى التنبّه لها الا بعد تصفيه مرآة القلب وتزكيته عن ذمائم الأخلاق والأفعال والمجاهدة العظيمة وتحمّل المشاقّ والأخطار والأهوال حتّى يظهر جليّة الحال بعد السعي والاجتهاد بقدر القابلية والاستعداد وأنّى ذلك في النفوس الخسيسة العامة الملوّثة بالكدورات ، واالعقول الناقصة المغلوبة بالشهوات ، فإذا كان أبوذر مع جلالة قدره وعظم سأنه لايقدر على تحمّل ما أفسض على قلب سلمان فما ظنّك بسائر الناس سيّما في مثل هذا الزمان؟ كما ورد عن سيّد الساجدين عليه‌السلام أنّه قال :

__________________

١ ـ راجع البحار : ١ / ١٣٦_١٣٨ ، والتوحيد للصدوق ، وباب النهي عن الكلام.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٣٢١.

١٠٧

« والله لو علم أبوذر ما في قلب سلمان لقتله ، ولقد آخى رسول الله بينهما فما ظنّكم بسائر الخلق؟ إنّ علم العلماء صعب مستصعب لايحتمله الا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل ، أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للايمان ، وإنّما صار سلمان من العلماء لأنّه امرؤمنّا أهل البيت ، فلذلك نسبته إلى العلماء » (١).

أراد عليه‌السلام أهل بيت الحكمة والعرفان دون أهل بيت الصبيان والنسوان.

وقال الصادق عليه‌السلام : « إنّ امرنا سرّ مستور في سرّ مقنع بالمشاق من هتكه أذلّه الله ». (٢)

والأخبار بهذا المضمون كثيرة.

وثانيها : علم الأخلاق ومعرفة ذمائمها عن محاسنها وأسبابها وثمراتها وعلاجها ، ولهين القسمين من العلم خلق الإنسان وبهما تحصل السعادة الحقيقيّة ، وبتركهما في النشأة الأخروية بحكمهم وحكم علماء الآخرة كما يهلك المعرض عن الأعمال الظاهرة فيها وفي الدنيا بحكمهم وحكم علماء الظاهر أيضاً ، ولذا قيل : إنّ علماء الظاهر زينة الأرض والملك ، وعلماء الباطن زينة السماوات والملكوت.

وأمّا علم الكلام فما ينتفع بها من الأدلّة قد اشتملت عليها الأخبار والخارج عنها إمّا جدال مبتدع أو تطويل بنقل المقالات والشبه والترّهات ممّا لم يكن مألوفاً في العصر الأوّل ولا متعلّقاً في الدين ، وإنّما كان من بدع المبدعين الخارجين عن إطاعة الأئمّة المعصومين إضلالاً للخلق عن الدين المبين ، كما تبيّن في محلّه ، ولكنّه من فروض الكفاية إذا قصد به مقابلة المبتدع الداعي إلى الضلالة وحراسة قلوب الضعفاء عن تخليّلات أهل

__________________

١ ـ الكافي : ١ / ٤٠١ ، كتاب الحجة ، باب أنّ حديثهم صعب ... ، ح ٢.

٢ ـ بصائر الدرجات : ص ٢٨ ، وفيه : « مقنّع بالميثاق ».

١٠٨

البدعة ، فالحاجة إلى استيجار البدرقة للحج ، فإذا ترك المبتدع هذيانه لم يفتقر إلى الزائد عمّا كان في العصر الأوّل ، فلو تجرّد للمناظرة ولم يسلك سبيل علماء الآخرة لم يبق له من العقائد والأعمال الا ما للعوام من أعمال ظاهر القلب واللسان ، وأمّا الأستنارة الباطنيّة وبرد اليقين والايمان ، فلايحصل للمتكلّم ، بل ربّما كان حاجباً للقلب عنها ، وإنّما تحصل من مجاهدة النفس ، كما قال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ). (١)

ثم الأخبار في مدح علم الآخرة وكون التشيّع والتقرّب إلى الله سبحانه موقوفاً عليه كثيرة.

ثم لهذه العلوم فروع بعضها من قبيل المقدّمات الجارية منها مجرى الآلات ، كالعلوم العربيّة ، فإنها وإن لم تكن شرعية لكن لزوم الخوض فيها بسبب الشرع النازل بلغة العرب فلاتظهر معانيها الا بمعرفتها ، كما أنّ من الآلات علم كتابة الخط لعجز الأغلب عن الاستقلال بحفظ جميع مايسمع ، وبعضها من قبيل المتمّمات كعلم القراءة والتفسير وأصول الفقه والرجال والداراية ، فكلّها شرعيّات محمودة ، بل من فروض الكفاية.

تلخيص فيه إرشاد

قد تبيّن لك ممّا ذكر أنّ من العلوم ما يذّم قليلهوكثيره ، مثل ما يكون ضرره أكثر من نفعه كالسحر والطلسمات ونحوها ، فصرف العمر الذي هو أنفس البضاعة في أمثالها بطالة مذمومة إضاعة ، ولو فض فيها نفع دنيويّ لم يعتدّ به في مقابلة منا يترتّب عليه من الضرر.

ومنها : ما يحمد عليه مطلقاً بلا حدّ إليها ينتهي كالعلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله ، فإنّه البحر الذي لايدرك غوره ، وإنّما يحوم المتحوّمون

__________________

١ ـ العنكبوت : ٦٩.

١٠٩

على أطرافه بقدر ما يسّر الله لهم من الأنبياء والأولياء والعلماء على اختلاف طبقاتهم يحسب اختلاف قوّتهم ، وما قدّر الله لهم من السعادة الأزليّة ، وهو العلم المطلوب بالذات ، وبه يتوصّل إلى اقصى السعادات ، وينال أشرف اللذّات ، وهو العلم المكنون الذي لايسطر في الكتب العلميّة ، وإنما يعين عليه أوّلاً التعلم ومشاهدة علماء الآخرة والاعتبار بأحوالهم وأطوارهم بعد معرفتهم باماراتهم وآثارهم وآخراً المجاهدة وتصفية القلب وتفريغه عن علائق الدنيا حتى يتّضح المراد بعد السعي والاجتهاد بقدر القابليّة والاستعداد ، وعلم الأخلاق الذي به يسلك إلى العلم الأوّل ، كما أشرنا إليه.

ومنها : ما لا يحمد منه الا مقدار مخصوص ، كالعلوم التي أشرنا إليه في فروض الكافايات ، فإنّ في كلّ منها اقتصاراً واقتصاداً واستقصاء.

فكن ياحبيبي ـ وفّقك الله وإيّاي ـ إمّا مشغولاً بنفسك ، أو متفرّغا بعد الفراغ منها إلى غيرك ، وإيّاك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل أن اصلاح نفسك ، فإن كنت الأوّل فلاتشتغل منه الا بما هو فرض عليك بحسب ما يقتضيه حالك من العبادات والمعاملات التي تحتاج إليها ولو تقليداً لمجتهد حيّ ، ثم اشتغل بالأهمّ الذي هو علم صفات القلب ومهلكاتها ومنحياتها ، فإنّ إهمالها مع الاشتغال بالأعمال الظاهرة يشبه الاشتغال بطلاء ظاهر البدن عند التأذّي بالجرب والدماميل ، والتهاون بإخراج المادّة بالفصد والحجامة والاسهال ، فلا يزال يتعب في الطلاء ويزيد في المواد والأمراض ، ولاتنظر إلى سهولة أعمال الجوارح وصعوبة أعمال القلب ، وعلّ همّتك بتحصيل ما يثمر النجاة في الآخرة من العلم بعللك الباطنة وأسبابها وعلاجها حتّى يوصلك إلى المقام الأعلى ، فإنّ الأرض إذا نقيت من الكثافات نبت فيها أصناف الرياحين ، ومالم تفرغ عن ذلك لاتشتغل بفروض الكفايات سيّما وفي الخلق من قد قام بها فما أشدّ حماقة من دخلت الأفاعي والعقارب داخل ثيابه وهمّت بقتله وهو يذبّ الذباب عن من لاينجيه ولايغنيه.

١١٠

وإن كنت الثاني ـ وما أبعده ـ فلاضير عليك أن تشتغل بها متدرّجا مبتدءاً بالكتاب والسنّة ، ثمّ التفسير وأصول الفقه ثمّ الفقه وهكذا ، مراعياً فيها الأهمّ والأولى ، ولاتستغرق عمرك في فنّ واحد مستقصياً فيه ، فإنّ العلم كثير والعمر قصير ، وهذه آلات فلا ينبغي فيها الخوض المنسي لما هو المقصود بالذات.

المقصد الثالث : في آداب التعلّم والتعليم

أمّا الاولى فعشرة :

أحدها : وهي الأصول طهارة النفس عن رذائل الأخلاق ، إذ العلم عبادة الباطن وصلاة السرّ فلا تصحّ مع نجاسته ، وقد تقدّم ما يكفيك.

وثانيها : تقليل علائق الدنيا والبعد عن الأهل والوطن ، إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

وثالثها : أن لاتكبّر على العلم والمعلّم ، بل يسلم له الأمر بالكلّية تسليم المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق ، قال الله تعالى :

( إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ). (١)
أي حاضر القلب يستقبل كلّ ما ألقي إليه بحسن الاصغاء والشكر وقبول المنّة لله تعالى ولمعلّمه ، ويبالغ في تواضعه وخدمته ، فلا يقتصر على التعلّم عند العلماء الرؤساء المشهورين ، فإنّ العلم سبب النجاة ، المهارب من السبع الضاري لايفرّق بين المرشد المشهور ، والخامل الغير المذكور ، والحكمة ضالّة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها ، وليقلد المعلّم فيما يشير إليه من طريق التعلّم ، وليدع رأيه ، فإن خطاءه أحسن من صوابه ، فكم من مريض محرور يعالجه الطبيب بالحرارة ليزيد في قوّته حتّى يتحمّل صدمة العلاج فيتعجّب من لا اطّلاع له ، وقد نبّه عليه بقصّة الخضر وموسى.

وعن على عليه‌السلام : « أنّ من حقّ العالم أن لا تكثر عليه في السؤال ،

__________________

١ ـ ق٣٧.

١١١

ولا تعنته في الجواب ، ولاتلحّ عليه إذا كسل ... الحديث ». (١)

ورابعها : الاحترائ عن الاصغاء إلى اختلافات الناس سواء كان في علوم الدنيا أو الآخرة ، فإنّه يدهش العقل ويفتر الرأي ويؤيس الذهن عن الادراك ، بل يحصل أولّاً الطريقة المحمودة المرضيّة عند استاده. ثم يصغي إلى المذاهب والشبه ، ولو كان المعلّم ممّن لا رأي له ، بل عادته نقل كلام الناس فليحترز منه فإنّ الأعمى لايصلح قائداً للعميان. فكما يجب حفظ جديد الاسلام عن مخالطة ، الكفّار ، فكذا المبتدي يلزم منعه عن الشبه بخلاف الأقوياء ، حيث إنهم يندبون إليها ، كما يمنع العاجز عن التهجّم في صفّ القتال ويندب الشجاع إلى مصارعة الأبطال من الرجال ، فلا يجوز متابعة الضعفاء للأقوياء في أفعالهم.

قيل : معنى قوله : « من رآني في البداية صار صدّيقاً ، ومن رآني في النهاية صارزنديقاً » (٢) أنّ النهاية ترد الأعمال إلى الباطن وتسكن الجوارح الا عن الفرائض ، فيترائى للمبتي أنه بطالة وكسل ، هيهات ، بل هو مرابطة للقلب في عين الشهود والحضور ، وملازمة الذكر الذي هو الأفضل ، ولذا جوّز للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مالا يجوّز لغيره حتّى نكاح التسعة ، إذ كانت له قوّة العدل بين النساء وإن كثرن دون غيره.

وخامسها : النظر أوّلاً في فنون العلوم المحمودة بأسرها نظراً يطلع على غايتها ، فإن ساعده العمر تبحّر فيه ، والا اشتغل بالأهمّ فاستوفاه ، لارتباط العلوم وإعانة بعضها لبعض في الاستفاده ، وللانفكاك (٣) عاجلاً عن عداوة ذلك العلم بجهله. قال الله تعالى : ( وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ) (٤).

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ١ / ١١٤.

٢ ـ المحجة البيضاء : ١ / ١١٤ وفيه نسبه إلى البعض.

٣ ـ وفي نسخة « الف » و « ب » : « ولا ستفادة الانفكاك بدل في الاستفادة وللانفكاك ».

٤ ـ الأحقاب : ١١.

١١٢

فكلّ العلوم لها مدخل في السلوك إلى الله تعالى ، ولها منازل في القرب والبعد عن المقصود ، والقوّام بها حفظتها كحفظة الثغور ، ولكلّ رتبة ، وبحسب رتبته أجر إن قصد به وجه الله تعالى.

وسادسها : أن لا يأخذ فرقة من فنون العلم دفعة ، بل يراعي الأهمّ ، لأنّ مقتضى الحزم مع كثرتها وقصر العمر الأخذ من أحسن كلّ شيء ، وخلاصته ، وصرف جمام قوّته في الميسور من علمه إلى استكمال الأشرف ، أعني علم الآخرة وهو بحر لاينزف.

وسابعها : أن يعرف وجه شرافة بعض العلوم على بعض ، وأنه إمّا شرافة ثمرته أو وثاقة دليله ، كعلم الدين والطبّ ، فإنّ ثمرة أحدهما الحياة الفانية ، والآخر الحياة الباقية ، وهو أشرف ، ولو تعارضا فالأولى أولى.

وثامنها : صدق النيّة في التعلّم ، بأن يقصد في الحال تحلية باطنه بفضيلة العلم ، وفي الآجل السعادة الأبديّة دون الرئاسة من الثناء على علم الآخرة خسّة سائر العلوم وحقارتها ، فإنّ المتكفّلين لها كالمرابطين للثغور والغزاة مجاهدون في سبيل الله ، فمنهم المقاتل ومنهم السقاء وحافظ الدوابّ ، ولكلّ أجر إذا كان قصيده إعلاء كلمة الله دون حيازة الغنائم ، فكذلك العلماء. قال الله تعالى : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجات ). (١)

فاستحقار الصيارفة بالنظر إلى الملوك لايدل على حقارتهم بالنسبة إلى الكناسين ، فالدرجة العليا للأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم العلماء على اختلاف طبقاتهم ( فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره ) ، (٢) ومن قصد الله بأيّ علم رفعه لامحالة.

__________________

١ ـ المجادلة : ١١.

٢ ـ الزلزلة : ٧.

١١٣

وتاسعها : أن يعلم نسبة كلّ علم إلى المقصد كي لايؤثر غير المهم على المهم. وكما أنّ سالك طريق الحج له ثلاثة أصناف من الأشغال : تهيئة الأسباب من الزاد والراحلة وغيرها ، ثم مفارقة الأهل والوطن وقطع المراحل إلى الكعبة ، ثم الاشتغال بأعمال الحج ركناً بعد ركن إلى أن يفرغ من طواف الوداع (١) ، وله في كلّ من المقامات الثلاثة منازل من الشروع إلى الاختتام ، وليس قرب الأول إلى المقصد كالثالث ولا المبتدي في مقام كمنتهيه ، فكذا من العلوم مايجزي مجرى إعداد الزاد والراحلة كالفقه والطبّ وغيرهما ، وما يجري مجرى سلوك البراري وطيّ العقبات وهو علم الأخلاق ، أي تطهير البواطن عن ذمائم الصفات. وكما لايجدى في الوصول إلى الحج العلم بالطريق والمراحل دون طيّ المسافات ، فكذا لا يكفي العلم بها هنا بدون مباشرة الرياضات وتصقيل النفس عن خبث الشهوات وإن توقّفت عليه ، وما يجري مجرى نفس الحج وأركانه أعني معرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله وما وعد وأوعد به عباده في الآخرة ، فالسعادة لاينالها الا العارفون المقرّبون ولهم نعمة الروح والريحان وجنّة النعيم والسلامة من الهلاك تعمّهم وسائر السالكين الغير الواصلين ، كما قال الله تعالى : ( وأمّا إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك عن أصحاب اليمين ). (٢)

ومن لم ينتهض للمقصد أو لم يتوجّه إليه أو توجّه لا على قصد الامتثال ، فهو من أصحاب الشمال وله نزل من حميم وتصلية جحيم (٣)

وعاشرها : تحاب المتعلمين عند واحد وإعانة بعضهم لبعض في الحوائج والمقاصد ، وهو إنّما يتمّ مع قصد الآخرة بالتعلّم ، حيث إنّهم

__________________

١ ـ هذا تعبير أبي حامد العامي ، فليت المصنّف بدّله بطواف النساء.

٢ ـ الواقعة : ٩٠ ـ ٩١.

٣ ـ اقتباس من الواقعة : ٩٣ ـ ٩٤.

١١٤

سالكون سبيل الله ومسافرون إليه تعالى في الشهور والسنين التي هي منازل الطريق ، والترافق في الأسفار الدنيويّة يوجب المحبّة والمصادقة ، فكيف في المسافرة إلى الفردوس الأعلى ، وقد قال تعالى :

( إنما المؤمنون إخوة ) (١) ( الأخلّاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ الا المتّقين ). (٢)

وأمّا الثانية : فسبعة :

أوّلها : كونه كالوالد للمتعلّم في المحبّة والنصح والشفقة ، فإنّه يقصد إنقاذه من الهلكة الاخرويّة التي هي أشدّ وأدوم ن الدنيوية ، ولذا كان حقّه أعظم من الولد الجسماني.

وثانيها : أن لا يقصد به الا وجه الله ، ولايرى لنفسه منّة عليه ، وإن تبعته المنّة بل يمتنّ منه بحصول عظيم الثواب له بواسطته ، فلا يطلب منه أجرا ولا جزاءاً دنيوياً ، إذ ما خلقت الدنيا الا لخدمة البدن الذي هو خادم النفس التي تخدم العلم ، فطلبه للمال هو الانتكاس الحقيقي.

وثالثها : أنّ لا يألو جهداً في نصحه بمنعه عن التصدّي لرتبة غير مستحقّة وعلم غير مستعدّ له ، وتنبيهه على أنّ المطلوب من التعلّم هو السعادة الأخرويّة دون الأغراض الفاسدة الدنيوية ، وتقريره له بأقصى ما يمكن ، فإن لم ينجعه وكان تعلّمه في العلوم التي يتوصّل بها إلى الأغراض الفاسدة ترك تعليمه ، إذ لاتزيده الا غفلة وقسوة وتمادياً في الضلالة ، ولابرهان عليه أحسن من التجربة والاعتبار بطلبة علوم الدنيا في الأعصار والأمصار ، وإن كان في علوم الآخرة فلا بأس باستمراره عليه ، إذ ربما أثّرت فيه طمعاً في الوعظ والاستتباع فيتنبّه في أثناء الأمر أو تاليه لما لم يكن يعرفه في مباديه ، فيوشك أن يردّ إلى الصواب ويتّعظ بما يعظ به المريدين والأصحاب.

__________________

١ ـ الحجرات : ١٠.

٢ ـ الزخرف : ٦٧.

١١٥

ورابعها : منعه عن ذمائم الأخلاق والأعمال تعريضاً ورحمة لاتوبيخاً وتصريحاً بالمقال حتّى لايورث هتك حجاب الهيبة وتهييج الحرص على الاصرار على تلك الأفعال ، فإنّ الطبيعة مجبولة على الحرص على ما منع كما ينبّهك عليه قصّة آدم وحوّاء.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو منبع الناس عن فتّ البعير لفتّوه وقالوا ما نهينا عنه الا وفيه شيء ». (١)

على أنّ في التعريض ميلاً للأذهان الزكيّة (٢) إلى استنباط المعاني الدقيقة ، فيفيد فرح الفطنة لها رغبة في العمل.

وخامسها : أن لا يذمّ له ما ليس بصدده من العلوم كما هو عادة الفقيه يقبّح علوم العربية بأنّها نقل محض وسماع مجرّد لا تعمّق فيها فهو شأ ، العجائز ، ويقبح العلوم العقليّة بكونها مشتملة على عقائد باطلة وشبهات واهبة موجبة لفساد عقائد الناس (٣) ، ومعلّمها يقبّح الفقه بأنه كلام في حيض النسوان وأين هو من التكلّم في معرفة الرحمن ، فإنّه مذموم لما عرفت.

وسادسها : وهومن معظمها أن يقتصر على قدر فهم المتعلّم حتّى لا يخبط عقله فيورثه دهشة وحيرة بل كفراً وضلالة ، كما ورد في الأخبار أيضاً.

قيل وقوله تعالى : ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) (٤) تنبيه على ذلك

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ١ / ١٢٢.

٢ ـ كذا ، والظاهر : « الذكية » من الذكاه.

٣ ـ للفقيه بما هو حصن الشريعة أن يمنع من تعلّم ما يوجب فساد العقيدة أو وهنها ويبيّن حكمه ، وتعيين الموضوع والتدخل فيه أيضاً لازم عليه في بعض الموارد إرشاداً كما إذا كان سكوته مؤدّياً إلى وقوع الناس في الضلالة وفساد العقيدة لغفلتهم وخطأهم.

٤ ـ النساء : ٥.

١١٦

بالفحوى فليس الظلم في إعطاء غير المستحقّ أقلّ من منع المستحقّ ، كما قيل :

ومن منح الجهّال علماً أضاعه

ومن منع المستوجبين فقد ظلم

وإذا بيّن له ما يليق به لم يذكر له أنّ وراءه شيئاً يدّخر عنه لقصور فهمه ، فإنّه يشوش عقله ويظنّ بمعلّمه الضنّة ، فإن أحداً لا يرضى بالجهل بل كلّ أحد يرضى عن الله بما أعطي من كمال العقل ، ومن هنا منع عن فتح باب البحث للعوام ، إذ فيه تشويش لعقائدهم وتعطيل لصنائعهم التي بها قوام الأنام.

وسابعها : أن يكون عاملاً بعلمه وهو وإن لم يختصّ بالمعلّم لكنّه فيه أشدّ ، فإنّ العلم يدرك بالبصيرة والعمل بالبصر وأرباب الأبصار أكثر من أهل البصيرة والاستبصار ، فكلّ من تناول شيئاً وقال للناس إنه سمّ مهلك فلا تناولوه سخروا به واتّهموه وزاد حرصهم عليه وقالوا لو لا إنه أطيب الأشياء لم يستأثره مع علمه ، والتجربة أحسن شاهد على عدم تأثيره وقبحه ، كما قيل :

لاتنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وقال : ( أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم ). (١)

وقال علي عليه‌السلام قصم ظهري رجلان : عالم متهتّك ، وجاهل متنسّك. (٢)

وفيه قيل :

فساد كبير عالم متهتّك

وأكبر منه جاهل متنسّك

هما فتنة للعالمين عظيمة

ومن بهما في دينه يتمسّك

قال الصادق عليه‌السلام : « إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن

__________________

١ ـ البقرة : ٤٤.

٢ ـ المحجة البيضاء : ١ / ١٢٤ ، منية المريد : ١٨١.

١١٧

القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا » (١)

ايقاظ

انظر يا حبيبي إلى علماء زماننا كيف أفسدوا العالم بفساد علمهم (عملهم ظ) وهجروا رعاية الآداب في تعلّمهم فانتهى الأمر إلى بذل المعلمين الرشاء وتحمّل أنواع الذلّ في خدمة الحكّام لا ستطلاق الو ظائف المناصب وتوقّع المتعلّمين منهم الانتهاض في حوائجهم والقيام فيما يلحقهم من الأخطار والنوائب ، فإن قصروا في مطموعاتهم ثاروا عليهم وفتحوا ألسن الطعن فيهم بالمثالب والمعائب ، ثم لا يرضون الا بالتمدّح والافتخار والعجب والاستكبار بنشر (٢) العلوم طمعاً لما عند الله من عظيم المواهب ، فاعتبر باماراتهم وتفطّن لصنوف اغترارتهم حتّى جعلوا أنفس الأشياء خادماً لأخسّ الأغراض والمآرب ، وها أنا أبيّن لك العلامات الفارقة بين الصنفين حتّى تستدلّ بها على الجنسين من المقاصد والمطالب.

المقصد الرابع : في آفات علماء السوء

أي الذين قصدوا من العلم التنعّم بالدنيا والتوصّل إلى جاه عند أهلها ، والامارات الفارقة بينهم وبين علماء الآخرة ، وقد ورد في الأخبار من المبالغة في الذمّ والطعن عليهم ما هو أكثر من أن يحصى.

قال الصادق عليه‌السلام : « أوحى الله تعالى إلى داود : ياداود لاتجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا ، فيصدّك عن طريق محبّتي ، إنّ أولئك قطّاع طريق عبادي المريدين لي ، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي عن قلوبهم ». (٣)

وقال علي بن الحسين عليه‌السلام : « مكتوب في الانجيل : لا تطلبوا علم

__________________

١ ـ الكافي : ١ / ٤٤ ، كتاب فضل العلم ، باب استعمال العلم ، ح ٣.

٢ ـ الجارّ والمجرور متعلّق بالاستكبار بتضمين معنى « الادّعاء « يعني يدّعون نشر العلوم طمعاً لما عند الله ويفتخرون ويتكبّرون به.

٣ ـ الكافي : ١ / ٤٦ ، كتاب فضل العلم ، باب المستأكل بعلمه ، ح ٤.

١١٨

مالا تعلمون ولمّا عملتم بما علمتم ، فإنّ العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه الا كفراً ، ولم يزدد من الله الا بعداً ». (١)

وقال الباقر عليه‌السلام : « من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوّء مقعده من النار ، إنّ الرئاسة لاتصلح الا لأهلها ». (٢)

وقال الصادق عليه‌السلام : « إذا رأيتم العالم محبّاً لدنياه فاتّهموه على دينكم ، فإنّ كلّ محبّ لشيء يحوط ما أحبّ ». (٣)

وقال عليه‌السلام : « طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم ، صنف يطلبه للجهل والمراء ، وصنف يطلبه للاستطالة والختل ، وصنف يطلبه للفقه والعقل ، فصاحب الجهل والمراء موذ ممار متعرّض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم ، قد تسربل بالخشوع وتخلّى عن الورع ، فدقّ الله تعالى من هذا خيشومه وقطع حيزومه ، وصاحب الاستطالة والختل ذو خبّ وملق ، يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه ، فهو لحوائهم هاضم ولدينه حاطم ، فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر ، قد تحنك في برنسه وقام الليل في حندسه ، يعمل ويخشى وجلاً مشفقاً مقبلاً على شأنه عارفاً بأهل زمانه مستوحشاً من أوثق إخوانه ، فشدّ الله من هذا أركانه وأعطاه يوم القيامة أمانه ». (٤)

وفي الخبر : « يغفر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد ». (٥)

__________________

١ ـ الكافي : ١ / ٤٤_٤٥ ، كتاب فضل العلم ، باب استعمال العلم ، ح ٤ ، وفيه : « ولمّا تعملوا بما علمتم ».

٢ ـ الكافي ، ١ / ٤٧ ، كتاب فضل العلم ، باب المستأكل بعلمه ، ح ٦.

٣ ـ الكافي : ٤٦ / ١ ، كتاب فضل العلم ، باب المستأكل بعلمه ، ح ٤.

٤ ـ الكافي : ٤٩ / ١ ، كتاب فضل العلم ، باب النوادر ، ح ٥.

٥ ـ الكافي : ٤٧ / ١ ، كتاب فضل العلم ، باب لزوم الحجة على العالم ، ح ١.

١١٩

وغير ذلك ممّا لا يحصى.

وقد تحقّق منها أنّ العالم للدنيا أخسّ حالاً من الجاهل ، وأنّ العلم الموجب للقرب إلى ربّ الأرباب هو ما كان للآخرة ، ولعلمائها أمارات عمدتها الزهد في الدنيا ، فإنّ أقلّ مراتب العلم العلم بحقارة الدنيا وكدورتها وفنائها وجلالة الآخرة وصفائها وبقائها ، وأنهما كالضرّتين (كالضدّين خ ل) لايجتمعان ، فإن لم يعلم الاولى كان فاسد العقل فلا يكون عالماً ، ومن لم يعلم الثانية كان كافراً فلا يكون عالماً ، ومن لم يعلم الثالثة كان جاهلاً أو كافراً بشرائع الأنبياء ، فكيف يعدّ من العلماء ومن علمها جميعاً ولم يؤثر الآخرة على الدنيا كان عبداً أسيراً لشهوته ، فكيف يكون له درجة العلماء ، كما قيل :

وراعي الشاء يحمي الذئب عنها

فكيف إذا الرعاة لها ذئاب

ويتفرّع على هذه الملكة الشريفة كون صاحبها متجنّباً من علوم الدنيا الا الآخرة بعد الفراغ من علومها وكونه هارباً عن أرباب الدول ومخالطتهم سيّما السلاطين متوسلّاً بها إلى مال أو جاه ، فلو جعلها وسيلة إلى إقامة نظام النوع وإعلاء الدين وقمع المبدعين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان من أفضل الأعمال كما كان عليه جماعة من أعيان أصحاب الأئمة عليهم‌السلام وأكابر العلماء الأعلام ، وورد في الأخبار أيضاً.

وموافقة فعله لقوله :

فعن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( إنّما يخشى الله من عباده العلماء ) (١) « يعني بالعماء من صدّق قوله فعله ، ومن لم يصدق قوله فعله فليس بعالم ». (٢)

ومن أماراتهم التوقّف في الفتوى والاحتراز عنه مهما أمكن ، وكذا

__________________

١ ـ فاطر : ٢٨.

٢ ـ الكافي : ١ / ٣٦ ، كتاب فضل العلم ، باب صفة العلماء ، ح ٢.

١٢٠