كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

الطاعة ، واعتبر بفضل الله عزّوجلّ حيث خلق أسباب اللباس ليستر العورات الظاهرة ، وفتح أبواب التوبة والإنابة ليستر بها عورات الباطن من الذنوب وأخلاق السوء ، ولاتفضح أحدأً حيث ستر الله عليك أعظم منه ... الحديث ». (١)

وإذا أتيت مصلّاك فاستحضر فيه أنّك كائن بين يدي الملك تريد مناجاته والتضرّع إليه والتماس رضاه فاختر موضعاً شريفاً يصلح له كالمساجد والمشاهد الشريفة مهما أمكن ، إذ جعلها الله محلاً للإجابة ونزول الفيوض والرحمة ، وادخلها على سكينة ووقار مراقباً للخشوع والانكسار.

قال الصادق عليه‌السلام : « إذا بلغت باب المسجد فاعلم إنّك قصدت ملكاً عظيماً لايطأ بساطه الا المطهّرون ولايؤذن لمجالسته الا الصدّيقون وهب القدوم على بساط خدمته هيبة الملك ، فإنّك على خطر عظيم إن غفلت. واعلم انه قادر على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك ، فإن عطف عليك بفضله ورحمته قبل منك يسير الطاعة وأجزل لك عليها ثواباً كثيراً ، وإن طالبك باستحقاقه الصدق والاخلاص عدلاً بك حجبك وردّ طاعتك وإن كثرت ، وهو فعّال لما يريد ». (٢)

وأمّا الاستقبال فهو صرف لظاهر وجهك عن سائر الجهات إلى جهة بيت الله وهو إشارة إلى صرف وجه القلب عن كلّ الأشياء إلى الله ، لكون الظواهر محرّكات إلى البواطن بما يناسبها ، فضبط الجوارح وتسكينها إلى جهة واحدة لئلا تطغى على القلب ، فإنّها إذا توجّهت إلى جهات عديدة تبعها القلب كما عرفت فأمر الله بالتوجّه نحو بيته ليتذكّر القلب صاحب البيت ويثبت عليه حين الصلاة كما تثبت الأعضاء.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله يقبل على المصلّي مالم يلتفت ». (٣)

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : الباب ٧ ، في اللباس.

٢ ـ مصباح الشريعة : الباب ١٢ ، في دخول المسجد.

٣ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٨٩ ، وفيه ، مقبل.

٥٦١

فكما يجب حرامة الرأس والعين عن الالتفات إلى غير القبلة فكذا يجب حراسة القلب عن الالتفات إلى غير الصلاة بتذكيره اطّلاع الله عليه ، وقبح غفلة المناجي عمّن يناجيه ، سيّما إذا كان ملك الملوك وألزم الخشوع ، فإنّ الخلاص عن الالتفات لايتمّ الا به ، وخشوع الباطن يستلزم خشوع الظاهر كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للذي رآه في صلاته عابثاً بلحيته : « أمّا هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه » (١) فإنّها بمنزلة الرعية له وهي تحت حكم راعيها.

وفي الدعاء : « اللّهم أصلح الراعي والرعيّة » (٢) إشارة إلى القلب والجوارح ، فكما لايتمّ الاستقبال الظاهر الا بصرف الجوارح عن غير البيت فكذا لايتمّ الاستقبال القلبي إلى الله الا بالتفرّغ عمّا سواه.

وفي الخبر : أما يخاف الذي يحوّل وجهه في الصلاة أن يحوّل الله وجهه وجه حمار؟ (٣)

قيل : إنّه نهى عن الألتفات عن الله تعالى وملاحظة عظمته في حال الصلاة ، فإنّ الملتفت يميناً وشمالاً غافل عن الله وعن مطالعة أنوار كبريائه ، ومن كان كذلك فيوشك أن يدوم تلك الغفلة عليه فيحوّل وجه قلبه كوجه قلب الحمار في قلة عقله للأمور المعلومة وعدم فهمه للمعارف.

وأمّا القيام فهو وقوف بالشخص والقلب بين يديه تعالى ، فليكن رأسك الذي هو أرفع أعضائك مطرقاً مطأطأ تنبيهاً للقلب على لزوم التواضع والانكسار والتبرّي عن العجب والاستكبار ، وتذكّر خطر وقوفك في هول المطّلع عند التعرّض للسؤال وتذكّر في الحال قيامك بين يدي ذي الجلال واطّلاعه عليك في كلّ الأحوال ، فليكن قيامك بين يديه تعالى على مايليق بعظمته ، وإن عجزت عن معرفته فلا تجعله أهون من ملوك

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٨٩.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٨٩.

٣ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٨٢.

٥٦٢

الدنيا ، بل عامله معاملتك معهم ، بل أنزله منزلة من يشاهدك وينظر إليك في صلاتك ممّن يتوقع منك الصلاح ، فإنك تخشع وتسكن فيها حتّى يكون لك موقع في نظره ، فما أقصر عرفان من خشع لغير الله ولم يخشع لجلاله وعظمته واطّلاعه على ضميره لعدم تدبّره في قوله تعالى :

( الّذي يراك حين تقوم * وتقلّبك في الساجدين ). (١)

وأمّا التوجّه بالتكبيرات فاستحضر عنده عظمته وجلاله وصغر نفسك في جنبهما وقصورك عن وظائف خدمته وإجلاله وتذكّر عظيم ملكه وعموم قدرته استيلائه على العالمين.

وإذا قلت : « لبّيك ... إلى آخره » ، مثّل نفسك بين يديه. وأعلم أنّه أقرب منك إليك يسمع نداءك ويستجيب دعاءك ، وأنّ خير الدنيا والآخرة بيده لا بيد غيره وأنّه خير محض لا شرّ في فعله ، وإذا قلت : « عبدك ... إلى آخره » ، اعترفت له بالعبوديّة وأنّه ربّك وخالقك ومالكك وموجدك وبه قوامك ، ومنه مبدؤك وإليه معادك وأنت صنيعه فلا يترك إحسانك والرحمة عليك ، فتوكّل عليه في أمورك ، ولا تعتمد الا عليه في مقاصدك فتفطّن لهذه الحقائق وترقّ منها إلى ما ينفتح عليك من الأسرار والدقائق.

وأمّا النيّة فقد عرفت معناها فاجتهد في خلوصها عن شوائب الأغراض فيفسد حقيقة إخلاصك ، وتذكّر عظم لطفه وامتنانه عليك ، حيث اذنك في المناجاة مع سوء أدبك وكثرة جنايتك ، وعظّم في نفسك قدر مناجاة ، وانظر مع من تناجي وماذا تناجي وكيف تناجي ، وعنده ليغرق جبينك من عرق الخجالة ويرتعد فرائصك من الهيبة.

وإذا كبّرت التحريمة تذكّر لمعناها وأنّه أكبر من يوصف أو من كلّ شيء وأن يدرك بالحواسّ ويقاس بالناس ، فانتقل منه أيضاً إلى جلاله وعظمته واستناد ما سواه إليه بالإيجاد ، وكن موقناً بذلك حتّى لايكذّب

__________________

١ ـ الشعراء : ٢١٨ ـ ٢١٩.

٥٦٣

لسانك قلبك ويشهد الله تعالى بكذبك ، وإن كنت صادقاً في كلامك كما شهد على المنافقين في إثبات الرسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن كان هواك أغلب عليك من أمر الله ونفسك أطوع له منه فهواك إلهك وهو الأكبر عندك ، فقولك : « الله أكبر » مجرّد قال باللسان ، وما أعظم خطره لولا التوبة والإذعان حسن الظنّ بالله في الكرم والإحسان والجود الامتنان.

قال الصادق عليه‌السلام : « إذا كبّرت فاستصغر ما بين [ السماوات ] العلى والثرى دون كبريائه ، فإنّ الله إذا اطّلع على القلب وهو يكبّر وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره قال : يا كاذب أتخدعني؟ وعزّتي وجلالي لأحرمنّك حلاوة ذكري ولأحجبنّك عن قربي والمسارّة بمناجاتي ». (١)

فاعتبر قلبك حين صلاتك ، فإن وجدت لذّة المناجاة فاعلم أنّه قد صدّقك في تكبيرك والا فقد كذّبك وطردك من بابه وأبعدك عن جنابه ، فابك بكاء الثكلى على حرمانك عن الدرجات العلى ، وعالج نفسك قبل أن يبدرك الحسرة العظمى.

وأمّا دعاء الاستفتاح فمعلوم أنّ المراد منه وجه القلب دون الظاهر لتنزّهه عن الجهات ، فقد ادّعيت التوجّه القلبي إلى فاطر الأرضين والسماوات ، فإيّاك أن يكون أوّل افتتاحك بالكذب في المناجاة فاجتهد في إقبالك عليه ولو في هذا الوقت خاصّة من بين سائر الأوقات.

وإذا قلت : « حنيفاً مسلماً » ، فليخطر ببالك أنّ المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ، فإن لم تكن كذلك كذبت أيضاً ، فلا أقلّ من الندم على سابق الأحوال والعزم على ذلك في الاستقبال.

وإذا قلت : « وما أنا من المشركين » فليخطر ببالك الشرك الخفّي وكونه داخلاً في الشرك ، إذ يطلق على القليل والكثير ، فلو قصدت بجزء من عبادتك غيره تعالى من مدح الناس وطلب المنزلة في قلوبهم كنت مشركاً

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : الباب ١٣ ، في افتتاح الصلاة ، وما بين المعقوفتين في المصدر.

٥٦٤

كاذباً في كلامك فانفه عن نفسك واستشعر الخجالة في قلبك إن وصفت نفسك بما ليست متّصفة به في الواقع.

وإذا قلت : « محياي ومماتي لله ربّ العالمين » ، فاعلم أنّه حال مفقود بنفسه ، فان بذاته موجود بسيّده ، باق بربّه ، فإن رأى لنفسه قدرة وأثراً وفعلاً من الرضاً والغضب والقيام والقعود والرغبة في الحياة والخوف من الموت كان كاذباً.

فإذا قلت : « أعوذ بالله من الشيطان الرجيم » فاعلم أنّ الشيطان أعدى عدوّك مترصّد لصرفك عن الله ويحسدك في مناجاتك وسجودك له لصيرورته طريداً لأجل ترك السجود ، ولاينفع في دفع شره مجرد القول كما لاينفع في دفع شرّ مجرد القول كما لاينفع في دفع شرّ السبع الذي يقصدك أن تقول : أعوذ منك بهذا الحصن الحصين وأنت ثابت على مكانك غير متحرّك إلى الحصن ، بل لابدّ في الاستعاذة من ترك مايحبّه عدوّك من الشهوات ، والإتيان بما يحبّه الله من الطاعات ، فليقترن تعوّذك بالحصن الذي هو كلمة التوحيد ، كما ورد في الخبر بالعزم الثابت واليقين الشهودي بأنّ كلّ شيء منه وله وبه وإليه وأن لا فاعل ولا مؤثّر الا هو بحيث يترتّب عليه أثر الشهود من الرضا والتوكّل وسائر المقامات اللازمة له ، فإنّه الحصن حقيقة.

وأمّا من اتّخذ إلهه هواه فهو في ميدان الشيطان دون حصن الرحمن ، وإن حدّث نفسه بذلك.

وإذا قلت : « بسم الله الرحمن الرحيم » ، فانو به التبرّك لابتدائك بقراءة كلام الله ، والمراد بالاسم هنا المسمّى ، فمعناه كون كلّ الأمور بالله فيتفرّع عليه انحصار الحمدلله ، إذ المراد منه الشكر والشكرعلى النعم ، فإذا كانت كلّها من الله انحصر الشكر له ، فمن يرى نعمة من غير الله أو يقصد غيره تعالى فشكره لا من حيث كونه مسخّراً لله ففي تسميته وتحميده نقصان بقدر التفاته إلى الغير.

٥٦٥

وإذا قلت : « الرحمن الرحيم » فأخطر في قلبك أنواع لطفهوإحسانه ليتّضح لك رحمته ، فينبعث به رجاؤك.

وإذا قلت : « مالك يوم الدين » فاستشعر من قلبك التعظيم والخوف ، إذ لا مالك الا هو ، ويوم الجزاء هائل وحسابه أهول وأدهى.

ثم جدّد الإخلاص بقولك : « أيّاك نعبد » ، والعجز والاحتياج بقولك : « وإيّاك نستعين » ، وانّه ماتيسّرت طاعتك الا به ، وأنّ له المنّة على ذلك حيث جعلك أهلاً للمناجاة ، ولو حرمك عنها لكنت من المطرودين كالشيطان العين ، وأنّه إذا كانت الإعانة منحصرة فيه فيأخرج الوسائل والأسباب عن القلب الا من حيث إنّها مسخّرة منه تعالى.

وإذا قلت : « اهدنا الصراط المستقيم » فاعلم أنّه طلب للأهمّ ، أي الهداية السائقة بك إلى جواره ، والمفضية بك إلى مرضاته ومجاورة من أنعم عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين دون المغضوب عليهم من الكفّار والفجّار.

وإذا تلوت الفاتحة كذلك فيشبه أن تكون ممّن قال الله على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصف لي ونصفها لعبدي ، يقول العبد : الحمدلله ربّ العالمين فيقول الله : حمدني عبدي وأثنى عليّ وهو معنى قوله : سمع الله لمن حمده ... الحديث ». (١)

وكذلك ينبغي أن تخرج الأسرار والدقائق من السورة ، فلا تغفل عن أمره ونهيه ووعده ووعيده قصصه ومواعظه الإخبار عن مننه وإحسانه ، فإنّ لكلّ حقّاً ، فحقّ الأمر والنهي العزم ، وحقّ الوعد الرجاء ، وحقّ الوعيد الخوف ، والموعظة الاتّعاظ ، والقصص العبرة ، والمنّة الشكر ، كلّ بحسب درجات الفهم ، وهو بحسب العلم وصفاء القلب ، ودرجات ذلك لاتنحصر ، والصلاة مفتاح القلوب بها ينكشف الأسرار.

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٨٨.

٥٦٦

فهذا حقّ القراءة والأذكار والتسبيحات ، والناس فيها على ثلاث مراتب :

حركة اللسان مع غفلة القلب ، ثم متابعة القلب له كما يسمع من الغير إذا خاطب شيء وهودرجة أصحاب اليمين.

ثم متابعة اللسان للقلب فيسبق المعاني إلى القلب ثم يترجمه اللسان ، وفرق بين كون اللسان ترجمان القلب أو معلّمه ، وهو درجة المقرّبين.

ولابدّ من مراعاة الترتيل وترك التعجيل والتفرقة بين آيات الوعد والوعيد والرحمة والعذاب.

ثم إذا ركعت فجدّد ذكر كبريائه وجلاله وارتفاعه من أن يصل إليه أيدي العقول مستجيراً بعفوه من عقابه ، وبالهويّ ذلك وانكسارك فترققّ قلبك وتزيد في خشوعك وتستعين على تقريره في القلب باللسان وتكرّره على القلب لترسخ فيه عظمته وجلاله ، وتذكر مؤاخذته لك عن أداء حقوق نعمائه وسؤاله عنك وعجزك عن الجواب فتهوي حياء ، ثم بعد ذلك ترفع رأسك راجياً منه الرحمة والعفو مؤكّداً له في قلبك بقولك : سمع الله لمن حمده ، وتتبعه بالشكر المستلزم للمزيد فتقول : الحمدلله ربّ العالمين.

وعن علي عليه‌السلام في مدّ العنق في الركوع : « آمنت بك ولو ضربت عنقي ». (١)

وقال الصادق عليه‌السلام : « الركوع أدب ، والسجود قرب ، من لايحسن الأدب لايصلح للقرب ، فاركع ركوع خاضع لله بقلب متذلّل وجل تحت سلطانه ، خافض له بجوارحه خفض خائف حزن على ما يفوته من فائدة الراكعين ». (٢)

فإذا سجدت جدّد على قلبك غاية الذلّ والعجز والانكسار ، لأنّه أعلى

__________________

١ ـ الفقيه : ١ / ٣١١ ، باب وصف الصلاة ، ح ٩٢٧ ، وفيه : أمنت بالله.

٢ ـ مصباح الشريعة : الباب ١٥ ، في الركوع ، مع اختلاف.

٥٦٧

درجات الاستكانة فتمكّن الوجه الذي هو أعزّ عضو منك على أذلّ شيء أي التراب ، ولاتجعل بينهما حاجزاً بل اسجد على الأرض لأنّه أدلّ على الخضوع.

واعلم أنّك رددت الفرع إلى الأصل ، لأنّك خلقت من التراب ورددت إليه وعنده تجدّد ذكر جلاله وعظمته وتقول : سبحان ربّي الأعلى وتؤكّده بالتكرار تحصيلاً للرسوخ والدوام ، فإن رقّ قلبك فليصدق رجاؤك في رحمة ربّك ، لأنّ رحمته تتسارع إلى محلّ الذلّ دون الكبر والعجب ، فارفع رأسك مكبّراً مستغفراً وسائلاً حاجتك ، ثم أكّد التواضع بالتكرار وعد إلى السجود ثانياً.

قال علي عليه‌السلام في معنى السجدة الاولى : « اللّهمّ إنّك منها خلقتنا » يعني من الأرض ، ورفع الرأس عنها « ومنها أخرجنا » ، والسجدة الثانية « وإليها تعيدنا » ، ورفع الرأس عنها « ومنها تخرجنا تارة أخرى ». (١)

وقال الصادق عليه‌السلام : « فاسجد سجود متواضع لله ذليل علم أنّه خلق تراب يطأه الخلق وأنّه ركّب من نطفة يستقذرها كلّ أحد ، وقد جعل الله معنى السجود سبب التقرّب إليه بالقلب والسرّ والروح ، فمن قرب منه بعد عن غيره ... الحديث ». (٢)

فإذا جلست للتشهّد بعد هذه الدقائق المشتملة على الأخطار فاستشعر الخوف التاّم والوجل والحياء أن لايكون جميع ماسلف منك واقعاً على وجهه حاصلاً بوظائفه مكتوباً في ديون القبول ، فاجعل يدك صفراً من فوائدها وعد إلى مبدء الأمر وأصل الدين أعني كلمة التوحيد الذي هو الحصن الحصين واستمسك به في كلّ حين ، فاشهد لربّك بالوحدة على سبيل شهود اليقين واحضر ببالك رسوله الصادق الأمين ، واشهد بأنه

__________________

١ ـ الفقيه : ١ / ٣١٤ ، باب وصف الصلاة ، ح ٩٣٠ ، مع اختلاف.

٢ ـ مصباح الشريعة : الباب ١٦ ، في السجود ، مع اختلاف.

٥٦٨

عبدالله وسيّد المرسلين ، وأدّ شيئاً من حقوق نبيّك وعترته الأطهرين بالصلاة عليه وعلى آله الطاهرين ، فلو وصلت إليه فائدة أحدها فزت بالنجاة والفلاح في يوم الدين.

قال الصادق عليه‌السلام : « التشهّد ثناء على الله فكن عبداً له في السرّ خاضعاً له في الفعل كما أنّك عبد له في القول ، وصل صدق لسانك بصفاء سرّك ، فإنّه خلقك عبداً وأمرك [ أن تعبده ] بقلبك ولسانك وجوارحك ، وأن تحقّق عبوديّتك له بربوبيّته لك وتعلم أنّ نواصي الخلق بيده فليس لهم نفس ولا لحظة الا بمشيّته وقدرته ـ إلى أن قال ـ : فاستعمل العبودية في الرضا بحكمته ، وبالعبادة في أداء أو امره وقد أمرك بالصلاة على نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأوصل صلاته بصلاته ، وطاعته تطاعته ، وشهادته بشهادته ، وانظر أن لايفوتك بركات معرفة حرمته ، فتحرم عنفائدة صلاته ... الحديث ». (١)

فإذا فرغت من التشهّد فأحضر قلبك بحضرة سيّد المرسلين وبقيّة الأنبياء والأئمّة الطاهرين والملائكة المقرّبين الحفظة المحصين لأعمالك وأحضرهم جميعاً في بالك فسلّم أوّلاً على نبيّك الذي هو أفضل الكلّ وواسطة هدايتك إلى خير الأديان والسبل ، ثم توجّه إلى الجميع وسلم عليهم أجمعين ، ولاتطلق لسانك بالخطاب من غير حضور المخاطب في ذهنك فتكون من اللاعبين ، وكيف يسمع الخطاب لمن لا يقصد لولا فضل الله في الاجتزاء بذلك عن أصل الواجب ، وإن كان بعيداً عن درجة الوصول والقرب ، وإن كنت إماماً فاقصد المأمومين مع من تقدّم ، وليقصدوا هم الرّد عليك أيضاً ، فإذا فعلتم ذلك فقد أدّيتم الأمانة وصرتم مستحقّين من الله بمزيد الإكرام والرحمة.

قال الصادق عليه‌السلام : « معنى السلام الأمان ، أي من أدّى أمر الله وسنّة نبيّه خاصاً خاشعاً قلبه فله الأمان من بلاء الدنيا وبراءة من عذاب الآخرة ،

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : الباب ١٧ ، في التشهّد.

٥٦٩

ـ إلى أن قال ـ : وإن أردت أن تضع السلام موضعه وتؤدّي معناه فاتّق الله وليسلم دينك وعقلك وقلبك أن لاتدنّسها بظلمة المعاصي ، وليسلم حفظتك أن لاتبرمهم وتوحشهم وتملّهم منك بسوء معاملتك معهم ، ثم صديقك ، ثم عدوّك ، فإن لم يسلم من هو الأقرب إليه فالأبعد أولى ، ومن لايضع السلام موضعه فلا سلام ولا إسلام ولا تسليم وكان كاذباً في سلامه وإن أفشاه في الخلق » (١) والله المستعان.

تذنيب

تخليص الصلاة عن الآفات وأداؤها بالشروط الباطنة المذكورة يوجب نوراً في القلب تنفتح به العلوم والحقئق من صفات الله وأفعاله ودقائق علوم المعاملة وغير ذلك ممّا يهمّه ويكون في طلبه. على قدر صفائه عن الكدورات المختلفة بالقلّة والكثرة والقوّة والضعف والجلاء والخفاء ، فيختلف الانكشاف بسببه أيضاً.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ العبد إذا قام في الصلاة رفع الله الحجاب بينه وبين عبده ، وواجهه وبوجهه ، وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء يصلّون بصلاته ويؤمّنون على دعائه ، وإنّ المصلّي لينثر عليه البرّ من أعنان السماء تفتح للمصلين ، وإن الله يباهي ملائكته بصدق المصلّي ». (٢)

فرفع الحجاب وفتح أبواب السماء كناية عن إفاض المعارف والأسرار عليه ، فالعبد إذا جمع في عبادته بين هذه الأفعال بشروطها باهى الله به مائة ألف من ملائكته أو أكثر كما في الخبر ، إذ ليس لأحد منهم هذا القسم من العبادة ، بل لكلّ منهم فعل مخصوص أبداً ، فمن قائم لايركع أبداً ، ومن راكع لايسجد أبداً ، ومن ساجد لايقوم أبداً وهكذا. ( وما منا الا له مقام

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : الباب ١٨ ، في السّلام ، مع اختلاف.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

٥٧٠

معلوم ). (١)

فمرتبة الترقّي من حال إلى حال ومن نقص إلى كمال مختص بالإنسان.

قال الله تعالى : ( قد أفلح المؤمنون * الّذين هم في صلاتهم خاشعون ... ـ إلى قوله ـ أولئك هم الوارثون ) (٢) وصفهم بالفلاح أوّلاً ووراثة الفردوس الذي هو شهود نور الله والقرب من جواره أخيراً.

المطلب الخامس

ينبغي لإمام الجماعة اختصاصه بمزيد صفاء القلب وسائر الآداب المتقدّمة من بينهم ، لأنّه الجاذب لنفوسهم إلى الله ، فما أقبح ذهوله عن الله ووقوعه في أودية الوساوس الباطلة مع خشوع بعض من يقتدي به واتّصافه بما تقدّم ، وما أفضح حاله مع تعلّق باله والتفات خياله إلى المأمومين الذين لايقدرون على نفعه وضرّه وعدم التفاته إلى مالك الرقاب وخالق الأسباب وربّ الأرباب العالم بضمائر العباد والمطّلع على سرائرهم ، أو لايستحيي من رسول الله وخلفائه الراشدين (٣) فيحلّ محلّهم مع هذا البون الشديد وعدم المناسبة أبداً؟ فليمتحن كلّ ديّن نفسه أوّلاً ، فإن لم يتّصف بهذه الصفات فليترك ولايهلك نفسه.

ومن جملة الامتحان أن يكون فرحه بإمامة غيره باطناً أكثر من إمامة نفسه لحصول المقصود من إجراء السنّة مع السلامة عن الغوائل المحتملة ، ولايكون قصده منها الا القربة وطلب الثواب ، فلو كان في زوايا قلبه داع خفي آخر من الشهرة والجاه وانتظام أمر المعاش فله الويل والثبور ، وعليه وزر كلّ المأمومين ، وهو الذي يصير رقبته جسراً لرقابهم ، كما ورد في الآثار.

__________________

١ ـ الصافّات : ١٦٤.

٢ ـ المؤمنون : ١ ـ ١٠.

٣ ـ يعنى الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

٥٧١

المطلب السادس

ثم الحاضر إلى الجمعة والعيدين يستحضر كونها أياماً شريفة وأعياداً كريمة خص الله بها هذه الأمة وجعلها سبباً لقربه وثوابه والأمن من عذابه وحثهم فيها على الإقبال والإتيان بصالح الأعمال وتلافي التفريط الصادر عنهم في خلال سائر الأيام والليالي فلا جرم ينبغي مزيد الاهتمام بصلاتها بالتهيؤ والاستعداد للقاء الله والتمثل في حضرته ، فليجتهد بعد الإتيان بالو ظائف الظاهرة المذكورة في كتب الادعية وغيرها في تخليص النية وحضور القلب والخشوع والابتهال ، ويستحضر قسمة الجوائز والعطايا على من تقبلت طاعته ، فيكبر الله قبل الصلاة وفيها وبعدها مراراً ويبتهل ويجد في سؤال العفو عن تقصيراته من حياء وخوف تام من خسران صفقته وظهور أسفه وحسرته يوم يفوز الفائزون ويسبق السابقون ويخسر الخاسرون.

المطلب السابع

وإذا ظهرت الآيات من الكسوف والزلازل وغيرها استحضر أهوال يوم القيامة وزلازله وتكور الشمس والقمر وظلمة القيامة فإنه يوم عظيم ( تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ). (١)

ويستحضر أن ذلك علامة لغضبه تعالى على عباده بمعاصيهم أو تنبيه لهم عليها كما ورد في الأخبار ، فليستشعر من نفسه خوفاً وخشية وهيبة وندماً وتوبة ومن الله كمال القدرة والعظمة ، فيكثر في صلاتها من الدعاء والتضرع والابتهال والخشوع والخضوع وسؤال النجاة من تلك الأهوال مع انكسار وإطراق رأس دال على الخجالة والحياء.

قال الرضا عليه‌السلام : « إنما جعلت للكسوف صلاة لأنه من آيات الله لايدرى للرحمة ظهرت أم للعقاب ، فأحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يفزع أمته إلى

__________________

١ ـ الحج : ٢.

٥٧٢

خالقها وراحمها عند ذلك ليصرف عنهم شرّها ويقيهم مكروهما ، كما صرف عن قوم يونس حين تضرّعوا إلى الله تعالى ». (١)

فصل

في الذكر والدعاء ، وهما ممّا ينبغي إكثارهما للمؤمن ، سيّما عقيب الصلوات المفروضة ، والآيات والأخبار الدالة على فضلهما كثيرة غنيّة عن البيان ، والنافع من الذكر ما كان دائماً أو غالباً حتّى يتمكّن في القلب مع حضوره وفراغ البال والإقبال إلى ذي الجلال حتّى يتجلّى له عظمته وجلالته فينشرح صدره بنوره ، وهو غاية الغايات ونهاية ثمرة العبادات.

وأوّل الذكر يوجب الأنس والحبّ ، وآخره يوجبانه ، وهما المقصد الأصلي منه ، لأنّ العبد في بدو الأمر متكلّف في صرف القلب واللسان عن الوسواس والوصول إلى ذكر الله ، فإذا حصل الأنس حصل الصرف والانقطاع القلبي ، فعند الموت الذي يحصل به الانقطاع الحسّي أيضاً يتمتّع بما كان آنساً به ، ويتلذّذ من انقطاع ما كان منقطعاً عنه في حياته أيضاً ، وإنّما كانت ملابسته لها من باب الضرورات الصادّة عن ذكر الله وبالموت انقطعت الضرورة أيضاً ، فكأنّما خلّي بينه وبين محبوبه فخلص من سجن الحاجب والمانع ، وهذا التلذّذ باق له بعد الموت إلى أن ينزل في جوار الله ويترقّى من الذكر إلى اللقاء.

والأذكار كثيرة كالتهليل والتمجيد والتسبيح والتكبير والحولقة (٢) والتسبيحات الأربع وأسماء الله الحسنى وغيرها.

وقد ورد في فضل كلّ منها أخبار لاتحصى.

والمداومة على كلّ منها توجب صفاء للنفس وانشراحاً للصدر ، وكلّما

__________________

١ ـ الفقيه : ٥٤١ ، باب صلاة الآيات ، ح ١٥١٠ ، مع اختلاف.

٢ ـ كذا ، والصحيح : الحوقلة.

٥٧٣

كانت دلالته على جلاله وعظمته أكثر كان أفضل ، ولذا صرّحوا بأنّ أفضل الأذكار التهليل لدلالته على التوحيد المشتمل على كلّ صفة كمال.

وقد تقدّم في بحث الوساوس أنّ للذكر مراتب أربعاً فانظر إليه.

وأمّا الدعاء فهو محلّ (١) العبادة ، ولذا ورد في فضله ما ورد ، والأدعية المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام كثيرة مذكورة في كتب الأدعية المشهورة ، ولايتصوّر شيء من مطالب الدنيا والآخرة الا وقد وردت منهم عليهم‌السلام فيه أدعية متكرّرة فليأخذها طالبها من مظانّها.

وله آداب وشروط كالترصّد للأوقات والأماكن المشرّفة ، والتطهّر ، واستقبال القبلة ، ورفع اليدين بحيث يرى باطن الإبطين ، وخفض الصوت بين الجهر والإخفات ، وأن لايتكلّف السجع في الدعاء ، وأن يكون في غاية الخضوع والخشوع واليقين بإجابة الدعاء ، وصدق الرجاء ، والإلحاح فيه وتكريره ثلاثاً ، وافتتاحه بالذكر والتمجيد ، ولايبتديء بالسؤال ، وأن يتوب ويردّ مظالم العباد ، ويقبل إلى الله بكنه الهمّة ، وهو السبب القريب للإجابة ، وأن يكون طعمه ولبسه من الحلال ، وهو أيضاً من عمدة الشرائط. ففي النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أطب طعمتك تستجب دعواتك ». (٢)

وتسمية الحاجة والتعميم في الدعاء والبكاء وهو أيضاً سيّد الآداب ، وأن يقدّمه على حصول الحاجة ، وأن لا يعتمد في حوائجه على غيره تعالى.

قال الصادق عليه‌السلام : « احفظ أدب الدعاء وانظر من تدعو؟ وكيف تدعو؟ ولماذا تدعو؟ وحقّق عظمة الله وكبرياءه وعاين بقلبك علمه بما في ضميرك واطّلاعه على سرّك [ وما تكنّ فيه من الحقّ والباطل ] (٣) ... واعرف طريق نجاتك وهلاكك كيلا تدعو الله بشيء عسى فيه هلاكك وأنت تظنّ أنّ فيه نجاتك ».

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر : « مخّ العبادة » كما في الخبر.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٣ / ٢٠٤.

٣ ـ ساقط من « الف » و « ب ».

٥٧٤

قال الله تعالى : ( ويدع الإنسان بالشرّ دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً ). (١)

وتفكّر ماذا تسأل؟ وكم تسأل؟ ولماذا تسأل؟ والدعاء استجابة للكلّ منك للحقّ ، وتذويب المهجة في مشاهدة الربّ وترك الأختيار جميعاً وتسليم الأمور كلها ظاهراً وباطناً إلى الله ، فإن لم تأت بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة ، فإنّه يعلم السرّ وأخفى ، فلعلّك تدعوه بشيء قد علم من نيّتك خلاف ذلك.

واعلم أنّه ولو لم يكن الله أمرنا بالدعاء لكنّا إذا أخلصنا الدعاء تفضّل علينا بالإجابة فكيف وقد ضمن ذلك لمن أتى بشرائط الدعاء؟

وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن اسم الله الأعظم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كلّ اسم من أسماء الله أعظم ، ففرّغ قلبك عن كلّ ماسواه وادعه بأيّ اسم شئت ». (٢)

وقيل له عليه‌السلام : ما لنا لايستجاب لنا؟ قال : « لأنّكم تدعون من لاتعرفونه وتسألون من لاتفهمونه ، فالاضطرار عين الدين ، وكثرة الدعاء مع العمى عن الله من علامة الخذلان ، من لم يعرف ذلّة نفسه وقلبه وسرّه تحت قدرة الله حكم على الله بالسؤال ، وظنّ أنّ سؤاله دعاء ، والحكم على الله من الجرأة على الله ». (٣)

فصل

في تلاوة القرآن ، ولا حدّ لثوابه ، والأخبار فيه كثيرة لاتحصي ، وكيف لايعظم أجره وهو كلام الله ربّ العالمين ، حامله روح الأمين ، والمرسل إليه محمّد بن عبدالله خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مشتمل على حقائق وأسرار لاتحملها الا قلوب الأحرار.

__________________

١ ـ الإسراء : ١١.

٢ ـ مصباح الشريعة : الباب ١٩ ، في الدعاء ، مع اختلاف.

٣ ـ جامع السعادات : ٣ / ٣٦٧.

٥٧٥

وبالجملة ؛ يشهد بتأثيره الكامل في القلب العقل والنقل والاعتبار ، إلا أن لها آداباً ظاهرة وباطنة.

فمن الأولى : الوضوء والوقوف على هيئة الأدب والطمأنينة قائماً كان أو جالساً ، مستقبل القبلة مطرقاً رأسه غير متربع ولا متكيء ، والترتيل والبكاء والجهر المتوسط لو أمن من الرياء ، وإلا فالسر ، وتحسين القراءة ، ومراعاة حق الآيات ، فإذا مر بآية السجود سجد ، وآية العذاب استعاذ ، وآية الرحمة طلب ، وآية التسبيح أو التكبير سبح أو كبر ، وآية الدعاء والاستغفار دعا واستغفر ، وافتتاح القراءة بالاستعاذة ، وعند الفراغ « صدق الله [ العلي ] العظيم وصدق رسوله الكريم » ، وسائر ما ورد من الأدعية المأثورة.

ومن الثانية : فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله ولطفه بنزوله من عرش جلاله إلى درجة أفهام خلقه.

فانظر كيف لطف بهم في إيصال نبذ من آثار حكمته وعلمه إليهم في طي حروف وأصوات هي من صفات البشر ، ولولا استتار كنه جلاله بكسوة الحروف والأصوات لما ثبت لسماع كلامه العرش والثرى وما بينهما ، بل تلاشت من عظمته وسبحات نوره.

( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ). (١)

فلو لا تثبيته لموسى عليه‌السلام لم يطق سماع كلامه ، كما لم يطق الجبل مبادي تجليه حتى صار دكاً.

وهذا كما أن الانسان إذا أراد تفهيم الطيور أو البهائم بما يزيد على إقبالها وإدبارها وكان تمييزها قاصراً عن فهم كلامه الصادر عن عقله مع حسنه وترتيبه وبديع نظمه تنزل إلى درجاتها وأوصل مقاصده إليها بأصوات

__________________

١ ـ الحشر : ٢١.

٥٧٦

تليق بها من النقر والصفير وما يشبه بأصواتها وتطيق حمله ، فكذا الناس لمّا عجزوا عن حمل كلام الله بكنهه وكمال صفاته تنزّل إلى درجة أفهامهم فتجلّي في مظاهر الحروف والاصوات ، وقد يشرّف الصوت للحكمة المخبوّة فيه كما يكرم البدن لكرامة الروح ، فالكلام عاللي المنزلة رفيع الدرجة قاهر السلطان في إنفاذ الحكم في الحقّ والباطل ، عدل في أمره ونهيه ، لا طاقة للباطل في قيامه قدّامه كما لا طاقة للظلمة قبل الشعاع ، ولا طاقة لبصائر الناس أن تنفذ نور الحكمة كما لا طاقة لأبصارهم أن تنفذ نور الشمس ، وإنما ينال كلّ بقدر قوّة بصره.

فالكلام للبصائر كالملك المحجوب الغائب وجهه المشاهد أمره ، فهو مفتاح نفائس الخزائن ، وشراب الحياة الذي لايموت شاربه ولايسقم.

ثم تعظيم المتكلّم فيحضره في قلبه عند الشروع ، وأنّه ليس من كلام البشر ، بل تلاوته في غاية الخطر ، فكما لاينبغي مس جلده وورقه وحروفه بالبشرة المتنجّسة بخبث أو حدث ، فكذا لاينبغي قراءته بلسان مستقذر بآفات معاصيه ، وقلب مكدّر بذمائم الصفات ، بل باطن معناه محجوب عن بواطن القلوب الا من استنار قلبه بأنوار الغيوب ، وتطهرّت نفسه وجوارحه عن الأخلاق الخبيثة والذنوب ، ولولا تعظيم المتكلّم لم يتمكّن من تعظيم الكلام.

والعلاج في تحصيله مع الغفلة التفكّر في صفاته وأفعاله المورث لاستشعار عظمته ، ولذا كان بعض السلف إذا نشر المصحف غشي عليه وقال : هو كلام ربّي.

ومنها : الخضوع والرقّة.

قال الصادق عليه‌السلام : « من قرأ القرآن ولم يخضع له أو لم يرقّ لقلبه له ولم ينشىء حزناً ووجلاً في سرّه فقد استهان بعظم شأن الله ، وخسر خسراناً

٥٧٧

مبيناً فمن تفرّغ قلبه عن الأسباب واعتزل عن الخلق بعد أن أتى بالخصلتين (١) استأنس روحه بالله ووجد حلاوة مخاطباته لعباده الصالحين ولطفه بهم ومقام اختصاصه بهم بقبول كراماته وبدائع إشاراته ، فإذا شرب من هذا المشرب كأساً لم يختر عليه شيئاً أصلاً ورأساً ، بل آثره على كلّ طاعة وعبادة ، لأنّ فيه مناجاة مع الربّ بلا واسطة ». (٢)

ولذا قال الصادق عليه‌السلام : « كنت أردّدها حتّى سمعت من المتكلّم بها ». (٣)

ومنها : حضور القلب ، وهو يترتّب على التعظيم ، فإنّ من عظّم شخصاً لم يغفل عنه سيّما إذا كان كلامه ممّا يستأنس به القلب ويفرح.

ومنها : التدبّر زائداً على حضور القلب ، إذ التالي [ ربما ] لم يتفكّر في غيره ، ولكن اقتصر على سماعه من نفسه بدون تدبّر ، والمقصود هو التدبّر.

قال تعالى : ( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ). (٤)

وقال علي عليه‌السلام : « لا خير في قراءة لا تدبّر فيها ». (٥)

وإن توقّف على التكرير والترديد ردّد كما حكيناه عن الصادق عليه‌السلام وحكايته عن الأكابر كثيرة.

ومنها : التفهّم ، أي أن يستوضح من كلّ آية مايليق بها لاشتمال القرآن على ذكر صفات الله وأفعاله وأحكامه وأحوال النشأة الاخروية والقرون السالفة من الأنبياء والأمم وغير ذلك ، فإن مرّ بصفة تفكّر في معناها لينكشف

__________________

١ ـ المراد من الخصلتين خشوع القلب وفراغ البدن.

٢ ـ ففي الكافي عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت : إنّ قوماً إذا ذكروا شيئاً من القرآن أو حدّثوا به صعق أحدهم حتّى يرى أنّ أحدهم لو قطعت يداه أو رجلاه لم يشعر بذلك. فقال عليه‌السلام : « سبحان الله ذاك من الشيطان ، ما بهذا نعتوا ، إنّما هو اللينوالرقّة الدمعة والوجل » (الكافي : ٢ / ٦١٦).

٣ ـ مصباح الشريعة : الباب ١٤ ، في قراءة القرآن مع اختلاف كثير وراجع المحجّة : ١ / ٣٥٢.

٤ ـ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٢٤.

٥ ـ المحجّة البيضاء : ٢ / ٢٣٧.

٥٧٨

له أسرارهأن ، فإنّها لاتكشف إلا للمؤيّدين في فهم كتابه ، وإن مرّ بفعل كخلق السماء والأرض وغيرهما تفكّر في عظمته ، إذ عظمة الفعل تدلّ على عظمة الفاعل ، وينبغي شهوده الفاعل في الفعل ، إذ من عرف الحقّ رآه في كلّ شيء ، لأنّ كلّ شيء منه وله وبه وإليه ، فهو واحد في الكلّ ، فمن لم يره فيما يراه لم يعرفه.

وإذا تلا شيئاً من عجائب صنعه فليتأمّل فيها ثم يترقّى منها إلى أعجابها أي الصفة الصادرة عنه هذه الأعاجيب ، وإذا سمع وصف الجنة والنار فليتذكّر أنّه لا نسبة لما في هذا العالم إلى عالم الآخرة ، فلينتقل منه إلى عظمته تعالى مع الانقطاع إليه ليخلص من عقوبات تلك النشأة ويصل إلى لذّاتها. ولايمكن استقصاء مايفهم من القرآن ، إذ لانهاية له.

( قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ). (١)

الا أنّ كلّ واحد يستفيد منه بقدر استعداده وصفاء نفسه.

ومنها : التخلّي عن موانع الفهم من التعصّب والتقليد لما عرفت من كونهما حجابين لمرآة النفس يحجبانها عن انعكاس غير ماتعتقده فيها ، وكذا الجمود على التفاسير الظاهرة ظنّاً أنّ غيرها تفسير بالرأي وصرف الهمّة نحو تحقيق الحروف وما شاع بين القرّاء ، فإنّ ذلك أيضاً مانع عن انكشاف الحقائق والإصرار على الذنوب الظاهرة والباطنة المظلمة للقلب الباعثة لحرمانه عن انكشاف الأسرار والحقائق فيه.

قال الله تعالى : ( وما يتذكّر الا من ينيب ) (٢) ( تبصرة وذكرى لكلّ عبد منيب ) (٣) ( إنّما يتذكّر أولوا الألباب ). (٤)

__________________

١ ـ الكهف : ١٠٩.

٢ ـ غافر : ١٣.

٣ ـ ق : ٨.

٤ ـ الزمر : ٩.

٥٧٩

ومنها : التخصيص ، أي تقدّر أنك المقصود بكلّ خطاب فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد ، إذ ما من شيء في القرآن الا وسياقه لفائدة في حقّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمّته. قال تعالى : ( لنثبّت به فؤادك ). (١)

فالقرآن كلّه هدى وشفاء ورحمة ونور وموعظة ، فقدّر أنّ مولاك كتب لك كتاباً لتدبّره وتعمل بمقتضاه.

ومنها : التأثّر ، أي يتأُثّر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات ، فيكون له بحسب كلّ فهم حال من الخوف والحزن والوجد والفرح والرجاء والقبض والانبساط ، فإذا سمع المخوّف اضطرب قلبه وتضاءل من الخوف كأنّه يموت ، وإن سمع الرحمة والمغفرة فليفرح ويستبشر كأنّه يطير من الابتهاج ، وإذا سمع صفات جلاله تطأطاً خضوعاً واستشعاراً لعظمته ، وإذا سمع ذكر الكفّار وما يصفون به الله من الأولاد غضّ صوته بانكسار في قلبه وحياء من قبح مقالتهم ، وكذا غيرها ، ومهما تمّت المعرفة كان الغالب على القلب الخشية ، لكون التضييق غالباً في القرآن ، فلا ترى ذكر الرحمة والمغفرة الا مقروناً بشروط يقصر أغلب الناس عن نيلها ، ولذا كان بعض الأكابر يغشى عليه من استماعها ، بل مات بعضهم منه.

وبالجملة ؛ المقصد الأصلي استجلاب هذه الأحوال إلى القلب والعمل به ، والا فالمؤونة بتحريك اللسان خفيفة ، وحقّ التلاوة اشتراك اللسان والعقل والقلب فيها فاللّسان حظّه تصحيح الحروف بالترتيل ، وحظّ العقل إدراك المعاني ، وحظّ القلب تأثّره بالحالات المذكورة.

ومنها : الترقّي ، أي يرقى إلى أن يسمع الكلام من الله لا من نفسه ، وله درجات ثلاث ، أدناها تقدير العبد قراءته واقفاً بين يدي الله وهو ناظر إليه مستمع له ، فحاله حينئذ التملّق والتضرّع والسؤال ، وأعلى منه أن يرى بقلبه ربّه يخاطبه بألطافه يناجيه بإحسانه ، فمقاومه الهيبة والحياء والتعظيم

__________________

١ ـ الفرقان : ٣٢.

٥٨٠