كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

والإصغاء ، وأعلى منه أن يرى في الكلام المتكلّم ، وفي الكلمات الصفات ، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى تلاوته ولا إلى إنعامه ، بل يكون مقصور الهمّ مستغرقاً في مشاهدة المتكلّم ، وهذا حال المقرّبين والصدّيقين ، وقد أخبر عنها سيّد الشهداء عليه‌السلام فقال :

« الذي تجلى لعباده في كتابه ، بل في كلّ شيء ، وأراهم نفسه في خطابه ، بل في كلّ نور وفيء ». (١)

وقال الصادق عليه‌السلام : « لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ، ولكن لايبصرون ». (٢)

وقد سبق منّا نقل قوله عليه‌السلام : « أردّدها حتّى سمعتها من المتكلّم بها ».

ومنها : التبرّي عن حوله وقوّته ، فلا يلتفت إلى نفسه بعين الرضا والتزكية ، فإذا قرأ آيات الوعد فلا يدخل نفسه في زمرتهم ، ولا يلاحظ الا أهل الصدق واليقين ، ويسأله تعالى أن يلحقه بهم ، وإذا قرأ آيات المقت والعذاب شهد على نفسه بها ، وإليه أشار مولانا علي عليه‌السلام في وصف المتّقين :

« وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، وظنّوا أنّ زفير جهنّم في آذانهم ». (٣)

قيل : « وإذا رأى القاريء نفسه بصورة التقصير في القراءة كان رؤيته سبب قربه ، فإنّ من شهد البعد في القرب لطف له بالخوف حتّى يسوقه إلى درجة أخرى في [ القرب وراءها ، ومن شهد القرب في البعد مكر به بالأمن الّذي يفضيه إلى درجة أخرى في ] البعد أسفل ممّا هو فيه ، وإذا شاهد نفسه بعين الرضا صار محجوباً بنفسه ، وإذا جاوز حدّ الالتفات إلى نفسه ولم يشاهد الا الله في قراءته انكشف له الملكوت بحسب أحواله ، فحيث

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٣ / ٣٧٧.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٢ / ٢٤٧.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٩٣.

٥٨١

يتلو آيات الرحمة والرجاء وغلب عليه الاستبشار ظهرت له الجنّة فشاهدها عياناً كأنّه يراها ، وإن غلب عليه الخوف كوشف له النار حتّى كأنّه يرى أنواع عذابها ، فإنّ كلامه تعالى مشتمل على السهل اللطيف والشديد العسوف والمرجوّ والمخوف ، فبحسب مشاهدة الكلمات والصفات يتقلّب القلب في الحالات وبحسب كلّ حالة يستعدّ لمكاشفة مناسبة لتلك الحالة ، إذ يمتنع مع اختلاف الكلام اتّحاد حال المستمع ، إذ فيه كلام راض وكلام غضبان وكلام منعم وكلام منتقم وهكذا » (١) والله المستعان.

فصل

في الصدقة والصوم

قد تقدّم في باب السخاء بعض الأسرار والآداب الباطنة المتعلّقة بالصدقات ، وفي باب الفقر والغنى ما يتعلّق بالسائل والفقير من الآداب.

وأمّا الصوم فأجره عظيم وثوابه جسيم ، والآيات والأخبار الدالة عليه أكثر من أن تحصى ، ومن آدابه غضّ البصر عمّا لايحلّ إليه النظر أو يكره أو يلهيه عن ذكر الله واللسان عن آفاته المتقدّمة ، والسمع عن كلّ ما يحرم أو يكره استماعه ، والبطن عن المحرّمات والشبهات وسائر الجوارح عن كافّة المكاره.

وقد ورد في اشتراط جميع ذلك أخبار كثيرة ، وأن لايستكثر من الحلال عند الإفطار بحيث يمتليء ، إذ ما من مباح أبغض إلى الله من بطن مملوّ كما تقدّم ، كيف والسرّ في شرع الصوم قهر الشهوة وكسرها لتقوى النفس به على الورع والتقوى والارتقاء من حضيض النفس البهيمية إلى ذروة التشبّه بالملائكة المقدّسين وماجرت به عادة الناس من الازدياد في ألوان

__________________

١ ـ القائل هو أبو حامد كما في المحجّة البيضاء : ٢ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩ ، وما بين المعقوفتين ساقط من النسخ أُثبتناه من المصدر.

٥٨٢

المطعومات يؤدّي إلى تضاعف لذّتها وقوّتها وانبعاث ما كانت راكدة من الشهوات لو تركت على عادتها ، فلا يحصل تضعيف القوى الشهوية ، فلابدّ من التقليل حتّى ينتفع بصومه ، ولو جعل سرّه إدراك الأغنياء ألم الجوع والانتقال منه إلى شدّة حال الفقراء فيبعث على مواساتهم بالأموال والأقوات لم يتمّ أيضاً الا بالتقليل في الأكل ، وينبغي للصائم أن يكون قلبه معلّقاً بين الخوف والرجاء ، إذ لايدري أيقبل صومه أم لا ، وكذا في كلّ عبادة يفرغ منها.

روي أنّ الحسن عليه‌السلام مرّ بقوم يوم العيد وهم يضحكون ، فقال : « إنّ الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته ، فسبق أقوام ففازوا وتخلّف أقوام فخابوا ، فالعجب كلّ العجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه المسارعون وخاب فيه المبطلون ، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء عن إساءته » (١) أي يشغله سرور القبول وحسرة الردّ عن الضحك واللعب.

ثم للصوم درجات ثلاث ، أدناها صوم العموم ، أي كفّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة ، وغايته سقوط العذاب والقضاء ، ثم صوم الخصوص ، أي كفّ جميع الجوارح عن المعاصي ، وعليه يترتّب ما وعد في الأخبار ، ثم خصوص الخصوص ، وهو الكفّ المزبور مع كفّ القلب عن الهمم الدنيّة والأخلاق الرذيلة ، والأفكار الدنيوية ، بل عمّا سواه تعالى بالكلّية ، ففطره بالالتفات إلى ما سواه تعالى. ( قل الله ثمّ ذرهم ). (٢)

وهو درجة الأنبياء والصدّيقين ، ويتفرّع عليه الوصول إلى الشهود والفوز بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

وإليه أشار الصادق عليه‌السلام حيث قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الصوم جنّة أي

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٢ / ١٣٥.

٢ ـ الأنعام : ٩١.

٥٨٣

سترة من آفات الدنيا وحجاب من عذاب الآخرة ، فإذا صمت فانو بصومك كفّ نفسك عن الشهوات وقطع الهمّة عن خطرات الشيطان ، فأنزل نفسك منزلة المرضى لاتشتهي طعاماً ولا شراباً متوقّعاً في كلّ لحظة شفاءك من داء الذنوب وطهّر باطنك من كلّ كدر وغفلة وظلمة يقطعك عن معنى الإخلاص لوجه الله ... الحديث ». (١)

ففوائد الصوم كثيرة منها : إماتة موادّ الشهوات ، وصفاء القلب وطهارة الجوارح ، والشكر على النعم ، والإحسان إلى الفقراء ، وزيادة الخضوع والخشوع والبكاء ، فهو سبب لانكسار الهمّة وتخفيف الحساب وتضاعف الحسنات.

تذنيب

من صام شهر رمضان تقرّباً إلى الله مع تطهير باطنه عن ذمائم الأخلاق وظاهره عن المعاصي ولم يأكل الا القليل من الحلال بحيث أحسّ بألم الجوع وواظب على الأدعية والنوافل وسائر آدابه استحقّ المغفرة والخلاص من النار بمقتضى الأخبار والاعتبار ، فإن كان من العامّة حصل له من صفاء النفس ما يوجب استجابة دعائه ، وإن كان من الخواصّ فعسى الشيطان لايحوم حول قلبه ، وينكشف له في ليلة القدر شيء من الملكوت ، إذ فيها تنكشف الأسرار وتفاض على القلوب الطاهرة الأنوار ، والعمدة تقليل الأكل بحيث يحسّ بألم الجوع ، إذ يستحيل أن ينكشف على الشيطان شيء من أسرار الايمان ، والله المستعان.

فصل

في الحجّ ، وهو من معظم الأركان وأحكامها الظاهرة محوّلة إلى الفقهاء.

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : الباب ٢٠ ، في الصوم.

٥٨٤

وأمّا السرّ في وضعه وشرعه فهو أنّ المقصد الأصلي من خلق الإنسان معرفة الله الوصول إلى حبّه وأنسه المتوقّفين على صفاء النفس المتوقف على كفّها عن الشهوات وانقطاعها عن الدنيا وإيقاعها في ما يشقّها من أعمال القلب والجوارح ، وهذا هو المقصود من وضع العبادات ، إذ بعضها كالصدقات والخمس إنفاق موجب للانقطاع عن حطام الدنيا ، وبعضها كفّ للنفس عن الشهوات كالصوم ، وبعضها تجرّد للذكر ، وتوجيه القلب إليه تعالى الغير المتحقّق أيضاً الا بالانقطاع عن علائق الدنيا.

والحجّ من بينها مشتمل على جميع ما ذكر مع زيادة ، ففيه هجر الأوطان وقطع المنازل البعيدة بتعب الأبدان ، والإنفاق مع تحمّل المشاقّ ، وتجديد العهد والميثاق والتجرّد للأذكار والعبادات بصنوف الطاعات ، مع كون كثير منها ممّا لايهتدي إليها العقول ، ولايستأنس بها الطباع كرمي الجمار بالأحجار ، وتكرار السعي بين الصفا والمروة مع الهرولة بين المنارتين ، فيظهر فيها كمال الإخلاص والعبوديّة ، لأنّ مايفهم سرّه العقل يكون معيناً للشرع على فعله بخصوصه بخلاف ما لايدركه ، فإنّه لايعينه على الخصوصن وإنّما يأمره بالإطاعة والامتثال إجمالاً ، وهذا أحد الأسرار في وضع التعبّديات.

هذا ، مع دلالة كلّ من أعماله على بعض أحوال الآخرة كما يأتي ، مع ما فيه من اجتماع الخلق الكثير والوصول إلى موضع نزول الوحي وهبوط الملائكة على الرسول الأمين وقبله على الخليل ومجمع الأنبياء والمرسلين ، ومحلّ ولادة سيّد المرسلين وخير الوصيّين ، وتشرّف أماكنها بتوطّىء أقدامهم الشريفة ، مضافاً إلى الشرافة الحاصلة من الإضافة إلى نفسه ، وجعل ما حوله حرمناً آمناً يأوي الناس إليه وعرفات ميداناً لحرمه وأكدّ حرمته بتحريم صيده وقطع شجره ، وأمر الناس بقصده من كلّ فجّ عيمق شعثاً غبراً متواضعين له مع الاعتراف بتنزّهه عن المكان.

٥٨٥

ولا ريب في أن الاجتماع في مثله مع ما فيه من الإلف والأنس ومجاورة الأبدال والأوتاد والأخيار المجتمعين من أقطار البلاد وتعاون النفوس على التضرع والابتهال الموجب لسرعة الاجابة وذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإجلاله الموجب لرقة القلب وصفاء النفس (١) ، هذا ، والحج لكونه من أعظم التكليفات وأشقها كالرهبانية لهذه الأمة ، فإنه لما اندرست الأعمال الشاقة والرياضات الصعبة المعهودة في الأمم السالفة بسبب الفترة ، وأقبل الناس على الشهوات وهجروا الطاعات والعبادات بعث الله محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله لإحياء طريق الآخرة وتجديد سنة المرسلين ، فسأله أهل الملل عن الرهبانية والسياحة في دينة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أبدلنا بالرهبانية الجهاد والتكبر على كل شرف يعني الحج ـ وابدلنا بالسياحة الصوم ». (٢)

وهذه نعمة عظيمة من الله على هذه الامة.

وأما آدابه الباطنة : فاعلم أنه ينبغي للحاج عند توجهه إلى الحج مراعاة أمور :

أحدها : تجريد النية لله من غير شائبة ، فلا يكون غرضه إلا امتثال أمر الله ونيل ثوابه والحذر من عذابه ، وكلما دخل شوب الرياء أو الخوف من تفسيق الناس أو من الفقر لما اشتهر من أن تاركه يبتلى به أو قصد التجارة أو شغل آخر كان مخرجاً له عن الإخلاص وحاجباً عن الوصول إلى الغاية المقصودة ، وما أجهل حال من تحمل مثل هذه المشقة العظيمة لخيالات ضعيفة لايترتب عليها سوى الخسران ، ولايفهم أن من أقبح قصد الملك وحريمه لذلك.

والثاني : التوبة الخالصة ورد المظالم وقطع العلاقة الباعثة للالتفات إلى ماوراءه ليتوجه إليه تعالى بوجه قلبه ويقدر أنه لايعود وليكتب وصيته لأهله

__________________

١ ـ كذا ، والجملة كما ترى لاخبر لها.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٢ / ١٩٧ مع اختلاف.

٥٨٦

وأولاده ويتهيّأ لسفر الآخرة ، ويذكر عند تهيئة أسباب الحج وقطع العلائق لسفره تهيئة أسباب الآخرة وقطع العلائق لأجله فما أشبه هذا السفر به.

والثالث : تعظيم قدر البيت وربّه ويعلم [ أنّ ] تركه للأهل والأوطان للعزم على أمر رفيع الشأن أي زيارة بيت الله التي لاتضاهي أسفار الدنيا ، فليحضر في قلبه ماذا يقصد ، وأنّه زيارة ملك الملوك بزيارة بيته حتّى يرزق منتهى مناه فيسعد بالنظر إلى مولاه فينوي أنّه أدركته المنيّة قبل الوصول لقي الله وافداً إليه بمقتضى وعده.

والرابع : أن يفارق في سفره عمّا يشغل قلبه في الطريق أو الطريق أو المقصد من معاملة ونحوها حتى يكون همّه مجرّداً لله ، والقلب مطمئنّاً في ذكره وتعظيم شعائره متذكّراً في كلّ حركة وسكون ما يناسبه.

والخامس : أن يكون زاده حلالاً ويوسّع فيه ويطيّبه ولايغتمّ ببذله وإنفاقه ، إذ إنفاق المال في سبيل الحجّ إنفاق في سبيل الله والدرهم منه بسبعمائة.

وكان السجّاد عليه‌السلام إذا حجّ تزوّد من أطيب الزاد من اللوز والسكّر والسويق المحض (١) والمحلّى.

نعم يكره الإسراف بطلب التنعّم والترفّه بصرف أنواع الأطعمة كما هو عادة المترفين.

وأمّا كثرة البذل على المستحقّين فليس بإسراف إذ لا خير في السرف ولاسرف في الخير ، وإن ضاع منه شيء فليطيّب نفسه ولا يجزع من المصائب التي تدركه ، فإنّ درهماً يضيع في هذا السفر يوازي سبعمائة في سبيل الله كما ورد.

والسادس ، حسن الخلق وكثرة التواضع والاجتناب عن الفظاظة والغلظة في الكلام والرفث أي كلّ فحش ولغو ، والفسوق أي ما يخرجه عن

__________________

١ ـ كذا ، والصحيح : المحمّض كما في الفقيه : ٢ / ٢٨٢ ، كتاب الحج ، باب الزاد في السفر.

٥٨٧

طاعة الله ، والجدال هو المبالغة في الخصومة والمماراة بما يورث الضغائن ، وليس حسن الخلق مجرّد كفّ الأذى ، بل احتمال الأذى ولين الجانب وخفض الجناح بالنسبة إلى الرفيق والمكاري وسائر الأصحاب.

والسابع : أن يكون أشعث أغبر غير مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر ، فيدخل في المتكبّرين ويخرج من سلك الضعفاء والمساكين ، وإن أمكنه المشي مشي في المشاعر ، فما عندالله شيء أفضل منه إن قصد به رياضة النفس ومشقّتها في سبيل الله ، فلو قصد قلة الإنفاق كان الركوب أفضل ، وكذا إن ضعف عن العمل.

وكان الحسن بن علي عليه‌السلام يمشي ويساق معه المحامل ، وإذا أراد الركوب فليشكر الله بقلبه على تسخيره الدوابّ ليتحمّل عنه الأذى ويخفّف عنه المشاقّ ، وليرفق بالدابّة ولايحمّلها ما لاتطيق.

ثم إذا خرج من وطنه وقطع البوادي مشاهداً للميقات والعقبات فليتذكّر مابين الخروج عن الدنيا بالموت إلى يوم القيامة وما فيها من الأهوال ومن هول السارقين هول منكر ونكير ، ومن سباع البوادي وحيّاتها وعقاربها حيّات القبر وأفاعيها وعقاربها وديدانها ، ومن انفراده عن أهل بيته وحشة القبر وكربته.

وبالجملة ؛ يتذكّر في كلّ هول وخوف هول الموت والخوف ممّا بعده.

ثم إذا دخل الميقات ولبس ثوبي الإحرام تذكّر لبس الكفن ، فكما لايلقى الله في بيته بزيّه وعادته ، فكذا لايلقاه بعد الموت الا بذلك ، وهذا الثوب قريب منه ، إذا ليس مخيطاً.

وإذا أحرم ولبّى تذكّر أنّها إجابة نداء الله تعالى ، فليتردّد في الردّ والقبول ترددّ الراجي الخائف متّكلاً على حول الله وقوّته وفضله ورحمته ، فإنّ التلبية أوّل أمره وهو حينئذ في محلّ الخطر.

وقد روي أنّ عليّ بن الحسين عليه‌السلام كان إذا أحرم استوت به راحلته

٥٨٨

يصفرّ لونه ويرتعد أعضاؤه ولا يستطيع أن يلبّي ، فقيل : لم لاتلبّي؟ فقال : أخشى أن يقول ربي : لالبّيك ، ولمّا لبّى غشي عليه وسقط من راحلته ولم يزل يعتريه ذلك حتّى يقضي حجّه. (١)

وليعتبر من هذا النداء نداء يوم النفخ في الصور ، وحشر الخلق من القبور عراة حفاة مزدحمين وإلى المقبولين والمردودين والمقرّبين والمرودين منقسمين مع كونهم جميعاً في أوّل الأمر متردّدين منسجمين (كذا).

ثم إذا دخل مكّة تذكّر دخوله للحرم الذي من دخله أمن فيرجو أمنه من عذاب الله وسخط ، مع الخوف عن الطرد والعبد واستحقاق الخيبة والمقت مع غلبة رجائه ، فإنّ شرف البيت عظيم وصاحبه بمن رجاه كريم ، وباب الرحمة واسع غير مسدود ، وحقّذ الوافد منظور ، والمستجير غير مردود ، وليشكر الله على إيصاله إلى بيته وإلحاقه بالزائرين له الوافدين إليه ، ويسأله أن يرزقه لقاءه كما رزقه الوصول إلى بيته.

ثمّ ليملأ قلبه عند الطواف من التعظيم والحبّ والخوف والرجاء وليتذكّر حينئذ أنّه متشبّه بالملائكة الطائفين حول عرشه ، وأنّ المقصود طواف القلب بذكر ربّ البيت لامجرّد طواف الجسم بالبيت ، فليبتديء في ذكره به ويختم به كما يبدأ في الطواف من البيت ويختم به ، فروح الطّواف طواف القلب بحضرة الربوبية والبيت مثال في عالم الشهادة لتلك الحضرة الغير المدركة بالبصر وهو عالم الغيب الذي يتوصّل إليه وإلى عالم الملكوت بعالم الشهادة لمن فتح له الباب.

ويشير إلى ما ذكرناه ما ورد من أنّ البيت المعمور في السماوات بإزاء الكعبة ، والملائكة يطوفون بها كطواف الإنس بها.

ثم يتذكّر عند استلام الحجر أنّه يمين الله في أرضه يصافح بها خلقه

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٢ / ٢٠١.

٥٨٩

مصافحة العبد أو الدخيل (١) ، كما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو تشبيه في كونه واسطة بين الله وعباده في النيل والوصول والرضا والتحبيب.

وينوي في الإستلام والالتصاق بالمستجار وغيره من أجزاء البيت طلب القرب حبّاً وشوقاً للبيت وصاحبه ، ورجاء التحصّن عن النار في كلّ جزء لاقاه ببركته.

وفي التعلّق بأستاره العجز والإلحاح في العفو والأمان كالمتعلّق بثياب من يتضرّع ويلتمس منه باعتقاد إنّه لا ملجأ منه الا إليه ، فلا يفارق ذيله الا بعفوه عنه وأمانه له.

ثم السعي بين الصفا المروة يضاهي تردّد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرّة بعد أخرى إظهاراً للخلوص في الخدمة ورجاء للنظر بعين الرحمة ، وليتذكّر تردّده بين الكفّتين (٢) ناظراً إلى النقصان والرجحان متردّداً بين العذاب والغفران.

وأمّا الوقوف بعرفات فليتذكّر عند ازدحام الخلق وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم واتّباع كلّ فرقة لأئمّتهم في التردّد في المشاعر عرصات يوم القيامة وأهوالها واتشار الخلق فيها حيارى واقتفاء كلّ أمّة لنبيّهم وطمعهم في شفاعة الأنبياء لهم.

ثم ليتضرّع إلى الله ويبتهل لقبول حجّه وحشره في زمرة الفائزين مع رجائه ، فإن اليوم شريف والموقف عظيم والنفوس مجتمعة والقلوب إليه تعالى منقطعة وأيدي الناس إلى الحضرة الربوبيّة مرتفعة والأعناق مادّة والأبصار شاخصة ولايخلو الموقف عن الأبدال والأخيار وأرباب القلوب ، فلا يستبعد حصول الفيض بواسطتهم إلى كافّة الخلق ، ولا يظنّ بلطفه وكرمه أن يضيّع سعي الجميع فلا يرحم غربتهم وانقطاعهم عن الأهل والأولاد.

__________________

١ ـ كذا ، وفي الكافي (٤ / ٤٠٦) : العبد أو الرجل.

٢ ـ أي بين كفّني الميزان في القيامة.

٥٩٠

ولذا ورد أنّه من أعظم الذنوب أن يحضر عرفات ويظن أنّه لا يغفر له.

وإذا أفاض من عرفات ودخل المشعر فليتذكّر عند دخوله فيه إذنه له في دخول حرمه بعد ما كان خارجاً منه ، لأنّ المشعر من جملته ، عرفات خارجة منه ، فليتفأّل من دخوله بعد خروجه قبول حجّه وقربه منه تعالى وأمنه من العذاب وصيرورته من أهل الجنّة.

فإذا ورد منى ورمى الجمار قصد الأمتثال والعبوديّة والتشبّه بالخليل عليه‌السلام حين عرض له الشيطان لإفساد حجّه ، فأمره الله برمي الجمار إليه طرداً له ، وأنّه في الحقيقة رمي للشيطان وطرد له وإرغام لأنفه في امتثال الباري وعبوديّته.

فإذا ذبح الهدي أشار إلى أنّه بفعل الحج غلب على النفس والشيطان وقتلهما فاستحقّ به الرحمة والغفران ، كما ورد أنّه يعتق بكلّ جزء الهدي عضو منه من النار.

وليجتهد في أن يكون عمله بعد ذلك أحسن ممّا قبله حتّى يكون مصدّقاً لفعله وعلامة لقبول حجّة كما ورد في الخبر.

تتمّة

قال الصادق عليه‌السلام : « إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك لله من كلّ شغل مشاغل وصحاب كلّ صاحب وفوّض أمورك كلّها إلى خلقك ، وتوكّل في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك وسلّم لقضائه وحكمه وقدره ، وودّع الدنيا والراحة والخلق ، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين ، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقومك وثيابك ومالك مخافة أن يصير ذلك عدواً ووبالاً ، فإن من ادّعى رضا الله تعالى واعتمد على ماسواه صيّره عليه وبالاً وعدوّاً ، ليعلم أنّه ليس له قوّة وحيلة ، ولا لأحد الا بعصمة الله وتوفيقه.

فاستعدّ استعداد من لايرجو الرجوع ، وأحسن الصحبة ، وراع أوقات

٥٩١

فرائض الله وسنن نبيّه ، وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر الشفقة والسخاوة وإيثار الزاد على دوام الأوقات.

ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك والبس كسوة الصدق والصفا والخضوع والخشوع وأحرم من كلّ شيء يمنعك عن ذكر الله ويحجبك عن طاعته ، ولبّ بمعنى إجابة صادقة صافية خالصة زاكية لله في دعوتك متمسّكاً بالعروة الوثقى ، وطف ببقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت ، وهرول هرولة من هواك ، وتبرّاً من حولك وقوّتك ، واخرج عن غفلتك وزلّاتك بخروجك [ إلى منى ] ، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولاتستحقّه ، واعترف بخطاياك بعرفات ، وجدّد عهدك عند الله بوحادنيّته والقرب إليه ، واتّقه بمزدلفة ، واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك على الجبل ، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة ، ورام الشهوات والخساسة والدناءة عند رمي الجمرات ، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق رأسك ، وادخل في أمان الله وكنفه وستره وكلائته من متابعة مرادك بدخول الحرم ، و[ زر ] البيت متحقّقاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه ، واستلم الحجر رضاً لقسمته وخضوعاً لعزّته ، وودّع ماسواه بطواف الوداع ، وأصف روحك وسرّك بلقائه يوم تلقاه بوقوفك على الصفا ، وكن بمرئى من الله نقياً أوصافك عند المروة ، واستقم على شرط حجتك هذه ووفاء عهدك الذي عاهدت مع ربّك وأوجبته له إلى يوم القيامة ... الحديث ». (١)

فصل

في زيارة مشاهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الطاهرين عليه‌السلام.

فاعلم أنّ النفوس القدسيّة سيّما نفوس الأئمّة عليه‌السلام المعصومين من

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : الباب ٢٢ في الحج مع اختلاف في كثير من الموارد ومنها ما جعلته بين المعقوفتين.

٥٩٢

أدناس كل خطيئة إذا فارقوا أبدانهم واتّصلوا بعالم القدس والمجرّدات صارت غلبتهم وإحاطتهم بهذا العالم أقوى ولهم التمكّن من التصرّف في عالم الملك وتغيّر أجزائه عن مقتضى طباعها بعد مماتهم ، كما كان في حال فهم ( أحياء عند ربّهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ) (١) وذلك يوجب هبوب نسائم ألطافهم وفيضان رشحات أنوارهم على الخلّص من قاصديهم وزوّارهم وشفاعتهم في غفران ذنوبهم وستر عيوبهم وكشف كروبهم ، مع ما فيه من صلتهم وبرّهم وتجديد عهد ولا يتهم وإعلاء كلمتهم وتشميت أعدائهم.

وكيف لاتكون من أعظم القربات ولو لم يكن الا من حيث كونه زيارة المؤمن لأجل إيمانه لكفى في عظيم الأجر والثواب ، كما ورد به الحثّ الأكيد في أخبار العترة الأطياب ، وصارت زيارة الأحبّاء (٢) سنّة طبيعية متعارفة بين الشيخ والشابّ ، فكيف بزيارة المعصومين عن الخطايا والأدناس والمطهّرين عن المعاصي والأرجاس مع مالهم من الحقوق الكثيرة على الناس وتحمّلهم المشاقّ العظيمة في إرشاد الضالين وتنبيه الجاهلين مع كونهم أئمّة وقدوة للمسلمين ، حججاً من الله على العالمين والمخلوق لأجلهم الأرض والسماء وأبوابه التي منها يؤتى ، وأنواره التي بها يستضاء ، أدلّاء العباد وأمناء الله في البلاد والأسباب المتّصلة بينهم وبين ربّ الأرباب.

هذا مع ورود الأخبار الكثيرة عنهم في هذا الباب بما هي مذكورة في كتب المزارات للأصحاب.

فإذا عرفت فضل زيارتهم وما فيها من الأسرار فأكثر من التواضع والخشوع والأنكسار عند الدخول إلى مراقدهم الفائضة الأنوار وأحضر في

__________________

١ ـ آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧٠.

٢ ـ في « الف » : الأحياء.

٥٩٣

قلبك ما لهم من رفعة الشأن وجلالة المقدار عند الملك الجبّار.

ثم عظّم جهدهم وجدّهم وسعيهم في إرشاد الناس وتطهيرهم عن الذمائم والأرجاس وإعلاء كلمة الله وتقويتها على مكائد الخنّاس.

ثم اطّلاعهم على ما في ضميرك من خير وشرّ ومجازاتهم إيّاك عل وفق ما تقصده من نفع أو ضرّ فأخلص نيّتك في زيارتهم وأحضر في قلبك معاني ما تلفظه في مخالبتهم ، فإن ادعيت محبّة وولاية أو طاعة واقتداء فاحترز عن أن تكون كاذباً في دعواك مستحقّا للمقت والسخط في عقباك.

ثم أحضر ما وصل إليهم من أعدائهم من المشاقّ والمتاعب والظلم والغصب والاستيلاء على حقوقهم التي خصّصهم الله بها وقتلهم وأسرهم وفعل أنواع الأذى بالنسبة إليهم وتحمّلهم لها مع قدرتهم على دفعهم ودفعها محبّة لله وإطاعة لأمره وشوقاً في هداية الضعفاء وتكثيراً لأمّة سيّد الأنبياء ببقاء نسل أولئك الأطغياء سيّما ماجرى على سيّد الشهداء الحسين بن علي عليه‌السلام وأولاده وأصحابه البررة الأتقياء ممّا اهتزّ به عرش ربّ العالمين وبكت عليه كافّة أهل السماوات والأرضين ، وكذا سائر الأئمّة الطاهرين فتذكر مصائبهم وترقّ لهم وتبكي عليهم وتلعن على أعدائهم وظالميهم لعناً صحيحاً وتحبّهم حبّاً عظيماً وتراعي الآداب الظاهرة المذكورة في كتب المزار وتخصّص كلاً منهم بما يليق بشأنه من الإجلال وتذكر ماجرى عليه واعتقاد مايليق بظالميه من اللعن والنكال ، وتبالغ في التضرّع والأستشفاع منهم ، فإنّهم معادن الجود والكرم ومصابيح الهداية للأمم ، والسلام على من اتّبع الهدى.

٥٩٤

خاتمة

٥٩٥

من أشرف المباحث وأبهاها وأسنى المقاصد وأعلاها المحبّة لله والشوق إليه والأنس به ، فلنفصّل الكلام فيها في عدّة فصول :

٥٩٦

فصل

الحبّ عبارة عن ميل الطبع إلى الملائم ، وتوضيحه : أنّ الحبّ لايتصوّر بدون الإدراك كما لا يتّصف به الجماد ولا يحبّ الانسان من لايعرفه.

والمدرك ينقسم إلى ما يوافق طبع المدرك فيلتذّ منه وما يخالفه فيتألّم منه وما لا يتأثّر منه بلذّة ولا ألم.

ولابدّ لمدرك الأوّل من ميل إليه يسمّى حبّاً. والثاني من نفرة عنه تسمّى كراهة وبغضاً.

والمدرك إمّا حسّ ظاهر كما في الصور الجميلة والألحان الحسنة والروائح الطيّبة والمطاعم النفسية والملموسات الليّنة ، أو باطن كالصور الملائمة الخيالية والمعاني الملائمة الجزئية ، أو عقل كالمعاني الكلّية والذوات النورية.

وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ العقل أشدّ إدراكاً ونفوذاً في حقائق الأشياء ومدركاته أشرف وأبهى وأدوم وأبقى ، فلذّته أتّم وأبلغ.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : النساء والطيب وقرّة عيني في الصلاة » (١) لكونها لذّة عقيلة ، والأوليان لذّتان حسّيتان.

ولمّا عرفت أنّ هذه القوى بمنزلة الخدّام للنفس وهي السلطان المدبّر تعرض ما تدركه إليها فهي المدركة الملتذّة والمتألّمه حقيقة.

تقسيم

أحدها : حبّ الانسان وجوده وبقاءه وكماله ، وهو أقواها ، لأنّ الحبّ بقدر الإدراك والملاءمة ، والانسان أبصر بنفسه وأعرف ولا ملائم له أقوى من نفسه ، وكيف لا وثمرة الحبّ حصول الاتّحاد بين المحبّ والمحبوب ، وهو حاصل هنا حقيقة ، فالوجود ودوامه محبوب له كما أنّ العدم مبغوض له ،

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٣٣ / ٦٨.

٥٩٧

ولذا يكره الموت لظنّه عدمه أو عدم بعضه.

وكذا كمال الوجود محبوب له لأنّ النقص عدم بالإضافة إلى المفقود ، فالنقائص أعدام في الحقيقة ، كما أنّ الكمالات وجودات.

فحاصله حبّ الوجود وبغض العدم أيضاً فكلّما كان الوجود أقوى ونحوه أتمّ كان أجمع لمراتب الوجودات والوجود الواجبي لكونه تامّاً وفوق التمام وقيّوماً محيط بكلّ الموجودات وجامع لها بأسرها ، وحبّ المرء لأقاربه وأولاده وعشائره راجع إلى هذا القسم ، أي حبّه لكمال نفسه إذ يرى الولد جزءاً منه قائماً مقامه ، فبقاؤه بمنزلة بقائه ويرى نفسه قويّاً كثيراً بأقاربه لأنّهم كالأجنحة المكمّلة له.

الثاني : حبّ من يحصل له نفع بسببه أي ما يكون وسيلة إلى لذّاته كحبّه للمرأة التي بها تحصل لذّة الوقاع ، والطعام الذي يحصل به لذّة الأكل ، والطّيب الذي به يحصل الصحّة ، والمعلّم الذي به يحصل العلم ، وهذا أيضاً يؤول إلى الأوّل ، لأنّه باعث لحصول الحظوظ التي بها يتمّ كمال الوجود ، فإذا أحبّ الانسان غيره بحظّ واصل منه إليه فما أحبّه لذاته بل لأجل الحظّ المزبور ، ولو ارتفع طمعه فيه زال حبّه مع بقائه بذاته ، وإذا كان الحظّ واصلاً إليه (١) ، فما أحبّ في الحقيقة الا نفسه.

والثالث : المحبّة الحاصلة بسبب الأنس والإلف والاجتماع كما في الأسفار البعيدة ، فإنّ المؤانسة لاتنفكّ عن الحبّ ، والانسان مجبول عليها.

وهذا أحد أسرار التعبّد بالجماعات والجماعات.

والرابع : الحبّ الحاصل بالمجانسة والمشاركة في الصفة كالصبي لمثله والشيخ لمثله والتاجر لصنفه.

والخامس : محبّة المتشاركين في سبب واحد كالقرابة ، وكلّما قرب كانت أشدّ.

__________________

١ ـ كذا ، وفي العبارة سقط.

٥٩٨

والسادس : الحبّ لمجانسة خفيّة ومناسبة معنويّة من دون سبب ظاهر ، فإنّ الأرواح لها تناسب كما ورد في الأخبار.

والسابع : حبّ العلل لمعلولاتها وبالعكس ، لأنّ المعلول مثال للعلة مترشّح منها منبجس عنها لكونه من سنخها ، فالعلّة تحبّه لأنه فرعها المنطوي فيها ، والمعلول يحبّها لأنّها أصله الذي يحتوي عليه ، فحبّ كلّ منهما للآخر حبّ لنفسه في الحقيقة ، والعلّة الحقيقيّة في ذلك أقوى من المعدّة.

فأقوى أقسام الحبّ ما كان الحبّ للواجب تعالى بالنسبة إلى معلولاته.

ثمّ محبّة عباده العارفين به له ، فإنّ هذه متوقّفة على المعرفة بكون العلّة تامّة فوق التمام ، وكونها سبباً لإخراجهم من العدم الصرف إلى الوجود المحض وإعطائهم ما يحتاجون إليه في النشأتين ، وحينئذ تشتاق النفس إلى العلّة بالضرورة.

قال سيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما اتّخذ الله وليّاً جاهلاً قطّ ». (١)

قيل : ويشبه حبّ الأب لابنه وبالعكس هذا القسم لكون الأب علّة معدّة له فيحبّه لأنّه يراه مثالاً لذاته وجزءاً له ، ولذا يريد له ما يريد لنفسه ، ويفرح بتفضيله عليه ويرجو منه إنجاح مقاصده ومطالبه في حياته ومماته ، وكذا محبّة المعلم للمتعلّم وبالعكس ، لأنّ المعلّم سبب لحياته الروحانيّة وإفاضة الصورة الانسانيّة علي وبقدر شرف الروح على الجسم يكون المعلّم أشرف من الأب.

ومنه يظهر أنّ حبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفاء (أي أو صياؤه) الراشدين (٢) أوكد من سائر أقسام الحبّ بعد الله تعالى ، لأنّه المعلّم الحقيقي والمكمّل الأوّل.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لايكون أحدكم مؤمناً حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وأهله

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٣٣ / ١٤٠.

٢ ـ قال في جامع السعادات (٣ / ١٤١) : « ينبغي أن يكون حبّ النبي وأوصيائه الراشدين عليه‌السلام أوكد من جميع أقسام الحبّ ».

٥٩٩

وولده ». (١)

والثامن : حبّ الشيء لذاته ، فيكون حظّه منه عين ذاته ، وهو الحبّ الحقيقي كحبّ الجمال والحسن ، فإن إدراك الجمال عين اللذّة الروحانية المحبوبة لذاتها ، وأمّا حبّه لقضاء الشهوة فهي من اللذّات الحيوانية ، ولذا يذمّ العشق الحاصل منه دون ماكان حاصله الابتهاج بإدراك الجمال ولا لتباسهما وقع الخلاف فيه ، والخضرة والماء الجاري محبوبان من نفس الرؤية دون إدراك حظّ آخر من الأكل والشرب ونحوهما ، كما كان يعجب بهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكذا النظر إلى الأزهار والأنوار والأطيار المليحة بل يزول به الغمّ والهمّ عن الانسان ، والجمال ليس مقصوراً على ما يدرك بانظر ، بل يقال : صوت حسن وريح طيّب ، ويقال أيضاً : خلق حسن وعلم شريف وسيرة حسنة ممّا لايدرك الا بالبصيرة الباطنة ، فهذه الخصال وأمثالها محبوبة للعقل بالطبع وصاحبها محبوب كذلك ، ولذا إنّ الطباع السليمة مجبولة بحبّ الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام مع عدم مشاهدتهم بحسّ البصر ولا استماع كلامهم بل ربما يصل حبّهم إلى حد العشق فينفق ماله بل يبذل نفسه في نصرة مذهبه ونبيّه ويقاتل من يطعن فيه ، فالحامل على حبّهم صفاتهم الباطنة الراجعة إلى علمهم بوجوه الخيرات والشرور وقدرتهم على نشرها بين الناس وصرفهم إليها وعنها.

ولذا إنّه إذا وصف أحد بالشجاعة أو العلم أو الملك أو ملك بالعدل أحبّه المستمع حبّاً ضرورياً مع عدم رؤيته له ويأسه عن وصول نفع منه إليه ، وكذا لو وصف أحد حواسّه الظاهرة كان حبّه للمعاني الباطنة والموصوفين بها أكثر وأشدّ.

__________________

١ ـ راجع المحجة البيضاء : ٨ / ٤ ـ ٥.

٦٠٠