كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

وغاية فعله نفسه ، لأنّ الخير المحض مقصود لذاته ، ولا يفعف ما هو كذلك الا لذاته ، لكنه موقوف على أن ينتفي عنه الوارض النفسانية ويصفو عن الشهوات الرديّة ، ويمتلأ قلبه من شعائر الله ومعرفته وحبّه والانس به ومشاهدة حضرته والحقائق الحقّة ، ويكون ذلك كالقضايا الأولية في نفسه ، بل أوضح وألطف وأظهر وأشرف ، فلا يبقى في نفسه شيء من جلب نفع أو دفع ضرّ أو غيرهما ، فيصير هو في نفسه خيراً محضاً ، ولا يطلب الا ما هو كذلك ، فيكون ذاته غاية لفعله ، وفعله غرضاً بذاته ، وإن ترتّبت على فعله فوائد أخرى كثيرة على الغير بالعوض.

تنبيه : لابدّ في سعادة المرء من إصلاح جميع صفاته وأفعاله على طريق الاستمرار والدوام ، بحيث لا يتغيّر حاله بتغيّرات الأزمان والأحوال ، فلا يزول صبره بحدوث النوائب والفتن وورود المصائب والمحن ، ولا يقينه بكثرة الشبهات ، ولا رضاه وشكره بتواتر البليّات ، ولو كان مثل بلاء أيّوب النبي عليه‌السلام مثلاً ، ولا يحصل التفاوت في حاله لكن لا لنقصان فهمه وقلّة إدراكه وعدم إحساسه ، بل لكبر نفسه وشهامة ذاته وارتفاع همتّه ، فلا يكون لتقلّبات الأوار فيها تصرّف ، بل ربّما خرج بذلك عن تصرّف الطبائع الفلكية والكواكب السماوية ، فلا يتأثّر بسعدها ونحسها وقمرها وشمسها وربّما حصلت لهم قوّة على التصرّف في مواد الكائنات وتغييرها عن مقتضى طبائعها كما حصل لسيّد الرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله من شقّ القمر وردّ الشمس وغير ذلك.

فصل

اللذّة الانفعالية تنفعل بعروض الأحوال المختلفة لها وتتبدّل بالزيادة والنقيصة بخلاف الفعلية لكونها ذاتية ، واللذّات الحسيّة كلها انفعالية لما نرى من تغيرها بالتزايد مع تزايد القوّة الحيوانيّة وضعفها بضعفها إلى أن ينتفي بالمرّة فتصير بنفسها آلاماً ، واللذّة الفعلية المتربتة على السعادة ذاتية عقلية

٤١

إلهية ، فلا زوال لها ولا اضمحلال ، مع انّ اللذّات الحسيّة ليست لذّات حقيقيّة ، بل هي رفع آلام ، ولو كانت لذّات فلاشكّ في كونها محفوفة بالمكاره والآلام الغير المحصورة ، كما قال سيّد الساجدين عليه‌السلام :

« عجبت من قوم يطلبون الراحة في الدنيا مع أنّها مخلوقة في الآخرة ». (١)

وأيضاً فإنّ اللذّة إدراك الملائم والنفس لتجرّدها إنما تميل إلى المجرّدات من سنخها من الأمور العقلية والأنوار العلميّة ومشاهدة الذوات المجرّدة وهي لاتفنى بفناء البدن ، وكذا ما يلائمها فلذّتها دائمة أبدية ، بخلاف اللذّات الحسيّة لا ستنادها إلى الجسمانيّات الفانية فهي زائلة فانية.

وللشيخ الرئيس هنا كلام يؤكّد ويوضح ما أدرجناه في بحث السعادة من أوّله إلى هنا.

قال في الشفاء : « يجب أنّ يعلم أن لكلّ قوّة نفسانيّة لذّة يخصها وخيراً ، وأذى يخصّها وشراً ، فلذّة الشهوة وخيرها أن يتأدّى إليها كيفية مخصوصة ملائمة للحمية (٢) ، ولذّة الغضب الظفر ، ولذّة الوهم الرجاء ، ولذّة الحفض تذكّر الأمور الموافقة الماضية ، وأذى كل واحد منها ما يضاده ، ويشترك كلها نوعاً من الشركة هي أنّ الشعور لملائمها وموافقها (٣)هو الخير ، واللذّة الخاصّة بها وموافق كلّ واحد منها بالذات والحقيقة حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل.

وأيضاً فهذه وإن اشتركت في هذه المعاني فإنّ مراتبها في الحقيقة مختلفة ، فالذي كماله أدوم وأتمّ ، والذي كماله أكثر والذي كماله أوصل إليه ، والذي هو في نفسه أكمل وأفضل ، والذي في نفسه أشدّ إدراكاً ، فاللذّة التي له أبلغ وأوفر.

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ٧٣ / ٩٢ مع اختلاف يسير.

٢ ـ كذا ، وفي المصدر : « كيفيّة محسوسة ملائمة من الخمسة ».

٣ ـ كذا ، وفي المصدر : في أنّ الشعور بملائمتها وموافقتها.

٤٢

وأيضاً فإنه قد يكون كمال ما بحيث يعلم أنه كائن ولذيذ ولا يتصوّر كيفيّته ولا يشعر باللذّة ، ومالم يشعر لم يشتق ، ولم ينزع نحوه مثل العنين ، فإنه متحقّق عنده أنّ للجماع لذّة ولكنه لايشتهيه ، ولا يحنّ نحوه ، وكذلك حال الأكمه عند الصور الجميلة ، والأصم عند الألحان المنتظمة. وربّما يتيسّر للقوّة الدرّاكة وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضدّه مثل كراهة بعض المرضى الطعم الحلو وشهوتهم الطعوم الرديّة ـ إلى أن قال ـ : وقد تكون القوّة الدرّاكة ممنوّة بضدّما هو كمالها ، ولا تحسّ به ولاتنفر عنه حتى إذا زال العائق عنها تأذّت به كلّ التأذّي مثل الممرورين ، فربما لم يحسّ بمرارة فمه إلى أن يصلح مزاجه فحينئذ ينفر عن الحالة العارضة له ، وقد يكون الحيوان غير مشته للغذاء وهو أوفق شيء له بل كارهاً له ، ويبقى عليه مدّة طويلة فإذا زال العايق عاد إلى واجبه في طبعه فاشتدّ جوعه وشهوته للغذاء حتّى لا يصبر عنه أو يهلك عند فقدانه ، وكذلك قد يحصل سبب الألم العظيم مثل إحراق النار وتبريد الزمهرير ، الا أنه يحسّ البدن آفة (١) فلا يتأذّى البدن به حتّى تزول الآفة ، فيحسّ حينئذ بالالم العظيم.

ثمّ قال : إذا تقرّرت هذه الأصول فنقول : إنّ النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن يصير عالماً عقليّاً مرتسما فيها صورة الكلّ والنظام المعقول في الكلّ والخير الفائض في الكل مبتدءاً من مبدأ الكل وسالكاً إلى الجواهر الشريفة التي هو مبدأ لها (٢) ، ثم الروحانيّة المتعلّقة نوعاً بالأبدان ، ثمّ الأجسام العلويّة بهيئاتها وقواها ، ثم كذلك حتّى تستوفي في نفسها هيأة الوجود كلّه فتصير عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود كلّه ، مشاهدة لما هو الحسن المطلق والجمال الحق ومتّحدة به منتقشة بمثاله وهيأته ، منخرطة في

__________________

١ ـ كذا ، وفي المصدر : الا أنّ الحسّ مؤوف.

٢ ـ كذا ، وفي المصدر : مبتدأة من مبدأ الكلّ ، سالكة إلى الجواهر الشريفة الروحانيّة المطلقة ثم ...

٤٣

سلكه صائرة إلى جوهره ، فليقس هذه بالكمالات المعشوقة للقوى الاخر ، فتجد هذا في المرتبة بحيث يقبح أن يقال : إنّه أفضل وأتمّ منها ، بل لانسبة لها إليه بوجه من الوجوه تماماً وفضيلة وكثرة ، أمّا الدوام فكيف يقاس الدوام الأبدي بدوام المتغير الفاسد ، وأمّا شدّة الوصول فكيف يقاس ما وصوله بملاقاة السطوح مع ما هو سار في جوهره حتى يكون بلا انفصال ، إذ العقل والعاقل والمعقول واحد ، وأمّا المدرك في نفسه فالأمر لا يخفى (١).

ثم قال : ولكنّا في حال كوننا في البدن وأنعماسنا في الرذائل لانحسّ بتلك اللذّة ، إذا حصل عندنا شيء من أسبابها ، ولذلك لانطلبها ولا نحنّ إليها ، اللّهمّ الا أن يكون قد خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتهما عن أعناقنا وطالعنا شيئاً من تلك اللذّة ، فحينئذ ربّما نتخيّل منها خيالاً طفيفاً ضعيفاً خصوصاً عند انحلال المشكلات واستيضاح المطلوبات النفسيّة والتذاذنا بذلك شبيه بالالتذاد الحسيّ من المذوقات اللذيذة بروائحها من بعيد ، وأما إذا انفصلنا عن البدن وكانت القوة العقلية بلغت من النفس حدّاً من الكمال الذي يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال الذي لها أن تبلغه كان مثلنا مثل الخدر الذي أذيق المطعم الألذّ وتعرّض للحالة الاشهى وكان لا يشعر به فزال عنه الخدر وطالع اللذّة العظيمة دفعة فتكون تلك اللذّة لا من جنس اللذّة الحسّية الحيوانية ، بل لذّة تشاكل الأحوال الطيّبة التي للجواهر المحضة [ وهي ] أجل من كلّ لذّة وأشرفها ، وهذه هي السعادة.

ويجب أن لايتوهّم العاقل أنّ كل لذّة فهو كما للحمار في بطنه وفرجه وأنّ المبادىء الاولى المقربة إلى ربّ العالمين عادمة للذّة والغبطة ، وأنّ ربّ العالمين ليس له في سلطانه وعظمته وخاصيّته البهاء الذي له وقوّته الغير المتناهية أمر في غاية الفضيلة والشرف والطيب نجلّه عن أن نسميّه لذّة ،

__________________

١ ـ كذا ، وفي المصدر : وأما أنّ المدرك في نفسه أكمل فأمر لايخفى.

٤٤

وللحمار والبهائم حالة طيّبة ولذّة ، كلا ، بل أيّ نسبة تكون لذلك مع هذه الخسيسة ، ولكنّا نتخيّل هذا ونشاهده ولم نعرف ذلك بالاستشعار بل بالقياس ، فحالنا عنده كحال الأصمّ الذي لم يسمع قط ولم يتخيّل اللذة اللحنيّة. انتهى » (١).

فصل

ثم أنّ الشقوة ضدّ السعادة ، ولها أيضاً مراتب ، فمن لم يحصّل في دار الدنيا تصوّراً ولا تصديقاً ولم تقبل نفسه من المبادىء العالية صوراً ، وتسامح في أداء الطاعات والأعمال الحسنة ولم يتخلّ عن الرذائل الخلقيّة ولم يتحلّ بالفضائل النفسيّة وأهمل قوّتيه العلمية والعملية فإن كان له شعور جملي بالكمال وتصوّر إجمالي لما هو مركوز في جبلّه من تمييز الحسن عن القبيح ، والممدوح عن المذموم ، فهذا الرجل بعد كشف غشاوة الحجب الظلمانية عنه يدرك حقيقة حرمانه عن ملائمات جوهره وانهماكه في منافيات روحه وانقطاع ما كان يراه لذّة وملائماً ، وانسداد أبواب ما كان يطلبه مع رسوخ رغبته وميله في نيله عنه ويصل إليه من الالم والعذاب مايكون نسبته إلى سائر الآلام كنسبة عذاب الآخرة إلى الدنيا ، وهذه هي الشقاوة الحقيقية ، و ...

ولعلّ مراد من قال بتجسّد الأعمال وأنّ الهيأة النفسانيّة إذا صارت ملكة تصير متمثّلة في عالم الباطن بما يناسبها ، لأنّ صور الأشياء تختلف باختلاف العوالم كالعلم المدرك في اليقظة بالعقل أو الوهم وفي النوم باللبن وكالسرور المتصوّر في النوم بالبكاء ، فإنّ الحقيقة متحدّة ، الا أنها تتجلّى في كل عالم بصورة ، هو أنّ موادّ الأشخاص الاخروية هي الملكات النفسية

__________________

١ ـ الهيات الشفاء : المقالة التاسعة ، الفصل السابع في العاد. مع تقديم وتأخير ، وقد كانت بعض العبارات مشوّشةً صحّحناها من المصدر.

٤٥

والنيّات القلبية المتصوّرة بصور روحانية وجودها الادراك ، فإذا انقطعت علاقة النفس عن دار الفناء وحان أو ان مسافرتها إلى دار البقاء وارتفعت عنها حجب الموادّ الظلمانية وخلصت عن عوائق الدنيا الدنيّة والتفتت إلى صحيفته صار الادراك فعلياً والعلم عينيّاً ، فيشاهد ويرى أفعاله.

( فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) (١) ، ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ). (٢)

وبهذا المعنى يصحّ حديث الخلود ، فإنّ القول والعمل الفانيين لو كانا هما السبب ، لبقي المسبب مع زوال السبب ، وهو محال مع أنّه يقبح على الحكيم التعذيب أبداً على فعل قصير المدّة.

وهذا حال الناقصين في الكمالات العلمية ، سواء كانوا ناقصين في الكمالات العملية أيضاً أم لا ، فإنّ العمل لايجدي مع نقصان العلم ، وأمّا من كان كاملاً في العلم ناقصاً في العمل منقاداً لقوّتيه الشهوية والغضبية ، فهو وإن لم يحصل له الالتذاذ بما له من الكمالات بعد مفارقة روحه عن البدن ، فإنّ غفلة النفس وعدم التذاذها بالكمال مادام (٣) في البدن ليست لانطباعها فيه لتجرّدها بل للعلاقة التي لها معه وشوقها إلى تدبيره والاشتغال بآثاره ، فلو فارقته على هذه الحالة فكأنّها لم تفارقه لبقاء الشوق والعلاقة ، بل هو في هذه الحالة أسوء حالاً من السابق ، لأنّه من جهة حصول اللذّات الحسّية له بالفعل لم يكن متأذّياً من فقد الكمال العقلي ، فكان كالمريض الممرور ، وفي هذه الحالة لما انقطعت عنه اللذّات الحسّية لفقدان آلتها مع بقاء ميله إليها وحصول الشوق الأصلي المغفول عنه أولّاً على وجه آكد لعدم شاغل عنه حينئذ ، فالميل البدني يجذبه إلى السفل ، الشوق يجذبه إلى العلو ، فيحدث له من الحركات المشوشة ما يعظم أذاه

__________________

١ ـ ق : ٢٢.

٢ ـ السراء : ١٤.

٣ ـ اذا ، والظاهر : مادامت.

٤٦

جدّاً ، على أنّ الهيأة البدنية الراسخة فيه الغير الزائلة عنه مضادّة لا محالة لجوهر ذاته ، فهي مؤلمة غاية الألم ، الا أنّه ليس لأمر ذاتي بل لأمر عرضي غريب هو حصول الملكات الردية من كثرة الاتيان بالملائمات الحسّية ، فبعد انقطاع آلتها عنه يضعف الميل تدريجاً إلى أن يفنى ويزول ، فلا يكون مخلداً في هذا النوع من العذاب ، بخلاف شوق الكمال العلمي ، فإنه لايزول أبداً فلو لم يحصّل في دار الدنيا شيئاً منه بقي ألمه أبداً ، وماذكرناه من أحوال الصنفين فإنّما هي للنفوس الذكيّة.

وأمّا النفوس الساذجة الغير المستشعرة بكمالها الحقيقي الغير المكتسبة له فلا يخلو إما أن يكون معتقداً للعقائد الحقّة على سبيل التقليد مع اجتماع شرائط التقليد فيه أو لا.

ولأوّل إن حصّل من الكمالات العملية الائقة بحاله بقدر ما اكتسبه من العقائد الحقّة ولو على سبيل التقليد فهو أيضاً من السعداء وهم المعبّرعنهم بالبله في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أكثر أهل الجنّة البله ». (١)

وسعادتهم جسميّة لعدم إدراكهم العقلية والباعث لهم على اقتناء الملكات الحسنة واجتنابهم عن الأخلاق الذميمة والأعمال القبيحة هو الطمع في لذّة مجانسة لللذّات الجسميّة وإن كانت أرفع وألطف وأدوم وأشرف ، أو الخوف من الآلام المجانسة لهذه الآلام الجسمانيّة وإن كانت أشدّ وأدوم منها ، إذ لايتصوّر في حقّهم غير ذلك ، فنفوسهم بعد المفارقة عن البدن شائقة جاذبة إلى الأجسام العنصرية لا ستحالة التناسخ سواء قلنا بتعلّقها بالأجسام الشريفة السماوية على تفاوت مراتبهم ودرجاتهم كما هو رأي المشّائين ، أو بالأبدان المثالية كما هو رأي العرفاء والاشراقيين.

وإن لم يحصّلها ، بل حصّل الهيئات المردية والملكات الشهويّة

__________________

١ ـ الجامع الصغير : ١ / ٥٣.

٤٧

والغضبيّة ، فهو من صنف الأشقياء الواصلين إلى الكمال العلمي دون العملي يعذّب ولايخلّد ، وإن كان شقاوته أهون وعذابه أخفّ من شقاوتهم وعذابهم ، والكلام في جنس ألمه وعذابه كما ذكرناه ، ولما كان أغلب الناس من هذين الصنفين فالمواعيد الشرعية ترغيباً وترهيباً منساقة إليهم.

وإن لم يجتمع فيه شرائط التقليد لم ينفعه تقليده ولا الأعمال الصالحة الصادرة عنه ، وكان كالمعتقد للعقائد الباطلة من صنف من لم يحصّل من الكمالين شيئاً ، مخلّداً في الألم والعذاب الحاصل لأولئك.

فقد ظهر ممّا فصّلناه أنّ انحصار اللذّة في الجسمانيّات كما يظنّه المسجونون بسجن الطبيعة ، فإنّ غاية همّتهم وشوقهم في تحصيل الملكات الفاظلة والأعمال الصالحة هي الوصول إلى أشرف أنواع اللذّات الحسّية ، كالجنّة والحور والغلمان ، وفي ترك الرذائل الخلقية والأفعال الفاظحة الخوف من أدوم أنواع آلامها كالنار والحيّات والعقارب ، إنّما يصدر توهّمه من عدم خلاص النفس عن سجن الطبيعة ورسوخ العلاقة بالجسم وما يلزمه من قواه الشهويّة والغضبيّة ، وكيف يرضى من له أدنى قريحة بأن يكون غاية همّته ونهاية سلوكه الوصول إلى أشرف لذّات البهائم ، ويكون نفسه المخلوقة لأمر عظيم خادماً في هذه المدّة للنفس البهيميّة. أو ما يتفكّر في أنّ ذلك عبادة الأجراء والعبيد؟ أو لم يسمع قول سيّد الموحّدين :

« إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنّتك ، بل لمّا وجدتك أهلاً للعبادة عبدتك ». (١)

بل كما قاله الشيخ : كيف يرضى بأن يكون ربّ العالمين الذي ليس له في بهائه وعظمته وكبريائه من يوازيه مسمّياً لهذه اللذّات لذّات قاصداً لها ممّا يكرّره في كتابه الكريم ويؤكّد عليه بلسان نبيّه الرسول الصادق الأمين ، وكذا المبادىء العالية المنزهّة عن هذه اللذّات الحسيّة لا يكون لها لذّة وغبطة أصلاً ،

__________________

١ ـ البحار : ٤١ / ١٤ مع اختلاف.

٤٨

لكنه تعالى ألقى بواسطة النبوّة إلى كافة الناس ما تحتمله أفهامهم وتصل إليه أوهامهم.

قال الغزالي في المضنون : اللذّة المحسوسة الموعودة في الجنان من أكل وشرب ونكاح يجب التصديق بها لإمكانها وهي حسّي وخياليّ وعقليّ.

أمّا الحسّي فبعد ردّ الروح إلى البدن كما ذكرناه. ولا كلام في أنّ بعض هذه اللذّات ممّا لا يرغب فيها كلّ أحد كاللبن والاستبرق والطلح المنضود والسدر المخضود ، وقد خوطب بهذا جماعة يعظم ذلك في أعينهم ويشتهونه غاية الشهوة ، وفي كلّ صنف واقليم مطاعم ومشارب ومالبس يختصّ بقوم دون قوم ، ولكلّ أحد في الجنّة ما يشتهيه.

( ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون ). (١)

وربما عظّم الله شهوة في الآخرة لا يشتهيه أهل الدنيا في الدنيا كالنظر إلى ذاته سبحانه ، فإنّ الرغبة الصادقة فيها إنّما يكون في الآخرة دون الدنيا ، ـ إلى أن قال ـ :

وأمّا الوجه العقلي فهو أن يكون هذه المحسوسات أمثلة لللذات العقلية الغير المحسوسة ، لكنّها تنقسم إلى أنواع مختلفة الذات كالحسيّات ، فتكون أمثلة لها ، وكلّ واحد منها مثالاً للأخرى ، وإن كانت ممّا لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فيجوز أن يجمع بين الكلّ ، ويجوز أن يكون نصيب كلّ واحد بقدر استعداده ، فالمشغوف بالتقليد المتقيّد بقيد الصورة الذي لم ينفسح له طريق الحقائق يمثّل له هذه الصور ، والعارفون المستبصرون يفتح لهم من لطائف السرور واللذّات العقليّة ما يليق بهم ويشفي شوقهم وشهوتهم ، إذ حدّ الجنّة أنّ فيها لكلّ امرىء ما يشتهيه ، فإذا اختلف الشهوات اختلفت العطيّات واللذّات ، والقدرة واسعة ، والقوّة البشريّة عن الاحاطة بعجائب القدرة قاصرة ، والرحمة الالهيّة ألقت بواسطة

__________________

١ ـ فصلت : ٣١.

٤٩

النبوّة إلى كافّة الناس ما احتملته أفهامهم فيجب التصديق بما فهموه والاقرار بما وراء منتهى الفهم من أمور تليق بالكرم الإلهي ولا تدرك بالفهم البشري ، وإنّما تدرك في مقعد صدق عند مليك مقتدر. انتهى ملخّصاً.

٥٠

الباب الثاني

في تفصيل الأخلاق

وأقسامها

وفيه فصول

٥١

فصل

قد تبيّن لك أنّ ما هو المصدر للآثار المتخالفة والمنشأ للأفعال المتبائنة بالارادة والاختيار من القوى الحاصلة للنفس الانسانية ثلاثة :

إحداها : قوّة النطق وآلتها في البدن الدماغ.

والثانية : الغضبيّة وآلتها في القلب.

والثالثة : الشهويّة وآلتها الكبد.

وسائر القوى حركاتها طبيعيّة ، فلا تكون منشأ لنقصان أو كمال.

وان ميل الناطقة إلى المعارف الحقّة ، والغضبيّة إلى الغضب والاقدام على الأهوال والترفّع على الناس ، والشهويّة إلى الالتذاذ بالمآكل والملابس والمناكح ، ويلزم من ذلك أن تكون أعداد فضائل النفس بحسب أعداد قواها ، لأنّ فضيلة كلّ قوّة اعتدالها في ماتطلبه عن طرفي الافراط والتفريط ، فلو اعتدلت الناطقة فيما تميل إليه من معرفة حقائق الموجودات مطلقاً بقدر الطاقة حصلت من ذلك فضيلة العلم ويتبعها الحكمة ، ولو اعتدلت الغضبية فيما تميل إليه بانقيادها للناطقة فيما تأمرها به وتنهاها عنه بحيث لم تضطرب النفس عند عظائم الأمور وشدائد الدهور وحصلت لها همّة عالية في تحصيل ما هو كمال لها ، ولو كان صعباً ، حصلت فضيلة الحلم ويتبعها الشجاعة ، ولو اعتدلت الشهوية بانقيادها للناطقة في أو امرها ونواهيها تظهور آثار الحرية والخلاص من عبودية المشتهيات البهيميّة في النفس حصلت فضيلة العفّة ويتبعها السخاء ، وكلّ من هذه الثلاث فضيلة مستقلّة برأسها ، ولها أنواع وآثار تخصّها.

ثم من حصول الثلاثة جميعاً وتسالم بعضها مع بعض وامتزاجها تحصل حالة متشابهة بها يتم كمال تلك الثلاثة وهي العدالة ، ولذا اتفق

٥٢

أساطين الفنّ كون أصول الفضائل أربعة : الحكمة والشجاعة والعفّة والعدالة ، ولا يستحقّ المدح والفخر الا بها.

وربما يقرّر بطور آخر هو أنّ للنفس قوّتين : قوّة على الادراك بالذّات إمّا بالقوة النظرية ، أو بالقوّة العملية ، وقوّة على التحريك بالآلات إمّا بالشهوية لجلب المنفعة أو بالغضبية لدعف المضرّة ، فصارت القوى بهذا الاعتبار أربعة ، ويحصل من اعتدال تصرّف كلّ منها في موضوعها فضيلة ، فمن تعديل الاولى الحكمة ، والثانية العدالة ، والثالثة العفّة ، والرابعة الحلم.

ولا يخفى عليك أنه تغيير في طور التقرير والمدّعى واحد ، فإنّ هذه الفضائل ملكات حاصلة من مزاولة الأعمال والأفعال المؤديّة إلى صلاح النشأتين والتدبير في ذلك كله مفوّض إلى القوّة العملية ، وتلك الأفعال المذكورة لاتخلو عن الثلاثة ، فإن اعتبرنا تعديل قسم خاص منها من حيث هو خاص ، سميّت بالحكمة أو العفّة أو الحلم ، وإن اعتبرنا تعديل جميعها من حيث إنّها أفعال مؤدّية إلى صلاح النشأتين والتدبير فيها موكول إلى القوّة العملية سميّت بالعدالة.

فإن شئت فسّرت العدالة بتعديل القوّة العملية ، وإن شئت فسّرتها باعتدال القوى الثلاث وتسالمها ، فإنّ المدّعى واحد.

وقد حصل لبعض الأعلام خبط عظيم في هذا المقام ، حيث لم يتفطّن باتّحاد التقريرين وفرّع على تغايرهما فروعاً فاسدة في البين.

منها كون العدالة على الثاني كمالاً للعملية خاصّة ، وللقوى بأسرها على الأول مع ما عرفت من الملازمة بين الكمالين.

ومنها بساطة العدالة على الثاني واحتمالها لها إن قلنا إنّها قوّة الاستعلاء على القوى بأسرها ، وللتركيب إن قلنا إنها نفس الملكات الثلاث مع ورود كون جميع الأقسام قسماً منها عليه على الأول وهو أيضاً فاسد ، إذ ليس المراد نفس الملكات بل هيأة مخصوصة وخاصيّة مؤثّرة حاصلة من

٥٣

اجتماعها وامتزاجها وتسالمها ، وهي عين الهيأة الحاصلة من تعديل القوّة العملية ، فهي بسيطة على التقريرين ، ولايلزم كون جميع الأقسام قسماً لأنها أقسام الفضائل النسانية وكلّ منها فضيلة مستقلّة ، واجتماعها يستلزم مناسبة مخصوصة وأثراً خاصّاً لبعضها بالنسبة إلى بعض ، وهي فضيلة أخرى من الفضائل مغايرة لها ، بل هي الفضيلة الحقيقية الجامعة لأنواعها.

ومنها : أنهم أدرجوا تحت العدالة أنواعاً من الفضائل كالثلاثة الأخرى مع أنها تتعلّق في الحقيقة بإحديها وإن كان بتوسّط العمليّة وضبطها فإنه لا يترتّب على مجرّد انقياد العملية للعقلية وعدمه رذيلة وفضيلة ، ولو كان مجرّد الضبط سبباً للاستناد لزم إسناد جميع الفضائل إليها والا لزم الترجيح من غير مرجّح.

وهذا أيضاً خبط فاحش ، لأن العدالة هيأة حاصلة من اجتماعها ، فكأنّها فضيلة كلّية جامعة لأنواعها ، وكما أنه يندرج تحت كلّ منها فضائل جزئيّة يناسب جزئيّة جنسها ، فكذا يندرج تحت هذه الفضيلة الكلّية فضائل كليّة ، ويترتّب عليها آثار مترتبة عليها دون تلك الفضائل الجزئية ، فكما أنّ كون زيد عالماً بالنحو أثره القدرة على استنباط المسائل النحويّة خاصّة ، وكونه ماهراً في جميع العلوم أثره القدرة على مشكلات كلّ علم فكذا الأثر المترتّب على انتظام فكره في تحصيل المجهولات النظريّة خاصّة غير الأثر الحاصل من انتظام كل أفعاله المؤدّية إلى صلاح نشأتيه ، ولو سلم ترتّب تعضها على تلك الفضائل وإمكان إدراجها تحتها فلا شكّ أنّ اختلاف الحيثية يرفع مايلزمه من الإشكال.

لايقال : قد ذكرت سابقاً أنّ تهذيب الأخلاق من أقسام الحكمة العمليّة التي هي من أقسام مطلق الحكمة ، وقد جعلت الحكمة هنا قسماً من تهذيب الأخلاق ، فيلزم كون الحكمة قسماً بنفسها.

لأنّا نقول : لكلّ من النظر والعمل تعلّقاً بالآخر وتوقّفاً عليه ، فمن

٥٤

حيث تعلّق الأوّل بالثاني وتوقّفه عليه يكون من أقسام الحكمة العمليّة ، ومن حيث تعلق الثاني بالأوّل وتوقّفه عليه كان العلم الباحث عن ماله مدخل في التصرّف في أمور البدن من أقسام مطلق الحكمة.

وأمّا ما قيل من أنّ المراد من الحكمة المعدودة في الفضائل هي الحكمة العمليّة لا العلم بأعيان الموجودات ففيه أولّا انه لايبقى حينئذ فرق بينها وبين العدالة فيلزم جعل الشيء قسيماً لنفسه ، وثانياً أن الاشكال غير مندفع بعد ، فإنّ الحكمة من أفراد تهذيب الأخلاق وهو من أفراد الحكمة العمليّة ، وثالثا أنه خلاف ما صرّح به القوم قاطبة في تفسير الحكمة ، كما لايخفى على المتتبّع ، فهو توجيه بما لايرضى به المعتذر له.

تنبيه

قد صرّح القوم بأنّ أرباب هذه الفضال لا يستحقّون المدح عقلاً مالم يتعدّ فضائلهم إلى الغير ، لأنها إذا تعدّت إلى الناس صارت منشأ لرجائهم وخوفهم ، فيحكم العقل حينئذ بوجوب المدح جلباً للنفع ، أو دفعاً للضرر.

فصل

كلّ فضيلة بإزائها رذيلة هي ضدّها.

ولما كانت أصول الفضائل أربعة ، فلعلّك في باديء الرأي تحكم بأنّ أجناس الرذائل كذلك ، وهي الجهل الجبن والشره والجور ، وليس كذلك.

فإن الفضيلة اعتدال القوّة كونها على الوسط من الافراط والتفريط ، فهي كنقطة معيّنة على المركز متى تعدّيت عنها صارت رذيلة ، والثبات عليها كالحركة على الخطّ المستقيم الذي هو أقصر الخطوط الواصلة بين نقطتي المركز والمحيط وهو واحد ، وارتكاب الرذيلة كالانحراف عنه والخطوط المنحنية غير متناهية لعدم تناهي أطراف النقطة ، ولذا غلبت دواعي الشر على دواعي الخير.

٥٥

روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خطّ يوماً لأصحابه خطّاً وقال : هذا سبيل الله ، ثم خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله وقال : هذه سبل على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثمّ تلا هذه الآية :

( أنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ). (١)

لكن الوسط الحقيقي صعب ، والثبات عليه أوصعب ، ولذا لما نزل ( فاستقم كما أمرت ) (٢) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « شيّبتني سورة هود » (٣) ، بل قيل : إنّ الصراط الموصوف بأنّه أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف إشارة إليه ، ولذا امرنا بالدعاء له في قولة تعالى : ( إهدنا الصراط المستقيم ). (٤)

فإنّ لكلّ من هذه الأخلاق الأربعة طرفا (٥) افراط وتفريط ، وهما مذمومان ، والوسط في غاية البعد عنهما.

ولذا قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « خير الأمور أوسطها ». (٦)

ومثاله : الخطّ الهندسي بين الظلّ والشمس لا من الظلّ ولا من الشمس.

والتحقيق أنّ كمال الآدمي ـ كما عرفت ـ في التشبّه بالمجرّدات وهم منفكّون عن هذه الأوصاف المتضادّة والانفكاك الكلّي ممتنع باليسبة إلى الانسان في أيّام حياته ، فكلّف بما يشبهه أعني الوسط ، فإن الماء الفاتر لا حار ولا بارد ، والعودي ليس بأبيض ولا أسود ، والبخل والتدبير من صفات الانسان ، فالمقتصد السخي لا بخيل ولا مبذّر ، فالصراط المستقيم هو الوسط

__________________

١ ـ الأنعام : ١٥٣ ، والرواية في الكشاف : ج٢ ، ص ٨٠ ، ذيل الآية.

٢ ـ هود : ١١٢.

٣ ـ مجمع البيان : ٥ / ١٩٩.

٤ ـ الحمد : ٦.

٥ ـ كذا ، والصحيح ، طرفي.

٦ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٠٢ ، وفيه « أوساطها ».

٥٦

الحقيقي بين الطرفين الذي لا ميل له إلى أحد الجانبين ، وهو أدّق من الشعر ، والذي يطلب غاية البعد من الطرفين يطلب الوسط ، فلو فرض حلقة حديدة محاطة بالنار وقعت فيها تملة وهي تهرب بطبعها من الحرارة ، فلا تهرب الا إلى المركز لأنه غاية بعدها عن المحيط المحرق وهو الوسط ولا عرض لتلك النقطة ، فإذن الصراط المستقيم الذي لا عرض له أدقّ من الشعر ، ولذا خرج عن الطاقة البشريّة الوقوف عليه ، فلا جرم يرد أمثالنا النار.

( وان منكم الا واردها كان على ربّك حتكماً مقضيّاً ). (١)

قال تعالى : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كلّ الميل ). (٢)

فمن استقام في هذا العالم على الصراط المستقيم الذي حكاه الله عزّوجلّ لنبيّه بقوله : ( وانّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ). (٣) مرّ على صراط الآخرة من غير ميل.

وفي الخبر : يمرّ المؤمن على الصراط كالبرق الخاطف.

ولعلّ ما أشرنا إليه في توجيه تجسّد الأعمال يؤكد ذلك ويحقّقه ، ولا ينافيه ما أجمع عليه علماء الشيعة من جسميّة الصراط ، لأنّ إرادة المعاني الكلّية من الألفاظ أوفق بمقتضى الحكمة ، فالقلم اسم لما ينقش به الصور على الألواح أعم من أن يكون الانتقاش محسوساً أم معقولاً وآلته قصباً أم حديداً أم غيرهما ، واللوح خشباً أم قرساطاً أم غيرهما ، والميزان اسم لما يوزن به الأشياء سواء وزنت به الأجرام والأثقال كذي الكفّتين أو المواقيت كالا سطرلاب أو الدوائر كالفرجار أو الأمدة كالشاقول أو الخطوط كالمسطر أو الشعر كالعروض أو العلم كالمنطق أو كل الأشياء كالعقل ، وعلى هذا القياس سائر الألفاظ.

__________________

١ ـ مريم : ٧١.

٢ ـ النساء : ١٢٩.

٣ ـ الأنعام : ١٥٣.

٥٧

ويؤكّد ذلك ما في الأخبار الكثيرة من إنّ للقرآن ظهراً وبطناً وأنّ أدنى ماللامام أن يفتي على سبعة وجوه ، والتتبّع في الأخبار والاطلّاع على طريقة العترة الطاهرة صلوات الله عليهم في محاوراتهم مع الناس وأجوبة مسائلهم يكشف عن ذلك ، كيف لا ، وكلام الحكيم لابدّ وأن يكون على وجه ينتفع به كافة الناس على قدر عقولهم ومراتب فهمهم وإدراكهم ، فالصراط الذي أمر الله تعالى باتّباعه بقوله : ( وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ). (١) وبالدعاء له في قوله : ( إهدنا الصراط المستقيم ). (٢) لا يراد منه الجسر المحسوس الممدود على متن جهنّم. والذي يمكن حمله عليه لاينافي حمله على هذا أيضاً ، فأيّ مانع من إرادة الجميع حتّى يتطابق العقل والنقل.

ثم إنّك قد عرفت انّ الاعتدال الحقيقي في الفضائل متعذّر لايمكن وجدانه ولا الثبات عليه ، فلا يحكم بحصول فضيلة لصاحبها من حيث إنها حقيقية ، بل لكونها قريبة إليها ، ولا يمكن في حقه ما هو أقرب منها فهي الفضيلة الاضافية ، ولها عرض وسطها الحقيقية التي لا عرض لها وطرفا افراطها وتفريطها الخارجان عنها من الفضيلة الاضافية ، وكلّما قربت إلى الحقيقيّة كانت أكمل.

ثمّ أنّ الرذائل وإن كانت غير متناهية على ما ذكرنا الا أنه ليس لجميعها ولا لا غلبها أسماء معيّنة ، وليس على صاحب الصناعة حصرها وضبطها ، بل عليه بيان القواعد الكلّية ، والمعيار فيها أنّ بأزاء كلّ فضيلة رذيلتان من طرف الافراط والتفريط ، فأجناسها ثمانية. اثنان منها بإزاء الحكمة ، وهما الجربزة أو السفسطة في الافراط ، أعني استعمال الفكر فيما لا ينبغي والبله أو الجهل في التفريط ، أعني تعطيل القوّة الفكرية وترك استعمالها فيما ينبغي فإن حقيقة الحكمة هي العلم يحقائق الموجودات على ما هي عليه ، فيتوقّف

__________________

١ ـ الأنعام : ١٥٣.

٢ ـ الحمد : ٦.

٥٨

على اعتدال العاقلة ، فمع الحدّة الخارجة عنه يستخرج أشياء دقيقة غير مطابقة للواقع ، فتخرج عن موضوع الحكمة ، ومع البلادة لاينتقل إلى بعضها ، فلا يكون حكمة.

واثنان بإزاء الشجاعة وهما التهوّر في الافراط أي الاقدام على ما يجب الحذر عنه ، والجبن في التفريط أي الحذر عمّا ينبغي الاقدام عليه.

واثنان بإزاء العفّة وهما الشره في الافراط ، أي الانهماك في الشهوات الغير المحمودة عقلاً وشرعاً ، والخمود في التفريط ، أي سكون النفس عن طلب الضروري منها.

وإثنان بإزاء العدالة وهما الظلم في الافراط ، أي التصرّف في حقوق الناس من غير حقّ ، والاتظلام في التفريط أي تمكين الظالم من الظلم عليه والانقياد له على وجه التذلّل ، والحقّ أنّ طرف افراط العدالة بالمعنى الذي أو ضحناه سابقاً هو طرف افراط كلّ من سوابقها وطرف تفريطها كذلك أيضاً.

وأمّا التصرّف في حقوق الناس فيرجع إلى أحدها وتمكين الظالم ـ إلى آخره ـ في الحقيقة ظلم على نفسه.

فصل

قد ذكر القوم لكلّ من الفضائل الأربع أنواعاً ، فللحكمة سبعة :

الذكاء ، أي الملكة الحاصلة من كثرة ممارسة المقدمات المنتجة ، بحيث يسهل بها ترتيب القضايا واستخراج النتائج.

وسرعة الفهم ، أي الانتقال من الملزوم إلى اللازم بحيث لا يحتاج إلى مزيد تأمل.

وصفا الذهن ، أي استعداد النفس لا ستخراج المطلوب من غير تشويش.

٥٩

وسهولة التعلّم ، أي القوّة الحاصلة للنفس بحيث تتوجّه إلى المطلوب من دون مدافعة الخزاطر المترّقة.

وحسن التعقّل ، أي محافظة العيار الذي يلزم أخذه لاستكشاف المطلوب حتّى لايهمل ما يلزم أخذه ولايأخذ مايلزم تركه.

والحفظ ، أي ضبط ما لخّصه العقل أو الوهم بالفكر أو الخيال من جزئيات الصور.

والتذكّر ، أعني العلم بانه يعلم الشيء حتّى لا يغفل عنه في مقام الحاجة إليه.

وللشجاعة أحد عشر نوعاً :

كبر النفس ، أي وثوق النفس بثباتها حتّى لاتفزع في حالة الخوف.

وعلوّ الهمّة ، بأن لايمنعه صعوبة المسلك إلى الجميل عن الإتيان به.

والصبر ، أي قوّة تحمّل الشدائد والأهوال.

والحلم ، أي طمأنينة النفس عن الغضب من غير تأمّل عند عروض الدين والعرض.

والسكون ، أي ملكة الثبات في الحروب والخصومات الواقعة لحفظ الدين والعرض.

والشهامة ، أي حرص النفس على الأمور العظيمة الصعبة طمعاً في الذكر الجميل.

واحتمال الكّد ، أي تحمّل تعب الجوارح في الأفعال الجميلة.

والتواضع ، وهو أنّ لايفضّل نفسه على أحد.

والحميّة ، أعني عدم التهاون فيما يجب حفظه.

والرقّة ، أي التأثّر من تألم أبناء النوع بدون اضطراب.

وللعفّة اثنا عشر نوعاً :

٦٠