كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

اللحم باللحم والعظم والعرق بالعرق حتّى لايكون مفصّلاً ، وسابع يرعى المقادير في الإلصاق فيلحق بالمستدير على ما لايبطل استدارته وبالعريض على مالأيزيل عرضه وبالمجوّف على ما لايبطل تجويفه وهكذا ، ويراعى في الإلصاق لكلّ عضو مايليق به ، فلو جمع للأنف مايليق بفخذه لكبر أنفه وبطل تجويفه وتشوّهت صورته ، بل يسوق إلى الأجفان مع دقّتها وإلى الأفخاذ مع غلظتها وإلى الحدقة مع صفائها والعظم مع صلابته مايليق بكلّ منها قدراً وشكلاً ويراعي العدل في القسمة والتقسيط حتّى لاتبطل الصورة ولا تشوّه الخلقة فمراعاة هذه الهندسة مفوّضة إلى ملك.

وإيّاك أن تظنّ أنّه موكول إلى الطبع ، فإنّ المراد بالطبع إن كان قوّة عديمة الشعور والإدراك فهو أدلّ على قدرة الله وحكمته ، إذ مالا شعور له في نفسه لايمكنه أن يفعل فعلاً ما ، فضلاً عن أن يفعل أفعالاً متقنة محكمة مشتملة على الحكم الدقيقة فيكون هذه شروطاً ناقصة لإيجاد الله تعالى هذه الأفعال بلا واسطة أو بواسطة عدد هذه شروطاً ناقصة لإيجاد الله تعالى هذه الأفعال بلا واسطة أو بواسطة عدد هذه القوى من الملائكة.

وعلى أيّ حال لابدّ من سبعة أشخاص من مخلوق الله تعالى مسخّرات في باطنك موكّلين بهذه الأفعال قد شغلوا بك وأنت في النوم تستريح وفي الغفلة تتردّد وهم يصلحون الغذاء في باطنك ولا خبر لك منهم ، وكذلك كلّ جزء من أجزائك التي لاتتجزّى حتى يفتقر بعضها كالعين والقلب إلى أكثر من مائة ملك. ثم الملائكة الأرضيّة مددهم من الملائكة السماوية على ترتيب معلوم لايحيط بكنهه الا الله ومدد السماويات من حملة العرش ، والمنعم على جميعهم بالتأييد والتسديد والهداية الملك القدّوس المهيمن المتفرّد بالملك والملكوت.

ومن أراد الاطّلاع على كثرة الملائكة الموكّلين فليرجع إلى الأخبار الواردة عن العترة الأطهار ، ولابدّ من تفويض كلّ فعل وحده إلى ملك وحده ، إذ الملك وحداني الصفة ليس فيه تركّب من المتضادّات كما قال

٥٢١

تعالى : ( وما منّا الا له مقام معلوم ). (١)

ولذلك ليس بينهم تحاسد وتباغض ، فلكلّ منهم طاعة خاصّة معيّنة ، فالراكع منهم راكع أبداً والساجد كذلك لا اختلاف في أفعالهم ولا فتور ، وإذ تبيّن لك كثرة ما تحتاج إليه في الاغتذاء برغيف مثلاً فقس عليه سائر الغذاء وغيره من الافعال الظاهرة والباطنة ، ثم جملة صنائعه تعالى وأفعاله الواقعة في عالمي الجبروت والملكوت وعالم الملك والشهادة ، فإنّ أعداد الملائكة الموكّلين بها غير متناهية ، فظهر توقّف كلّ نعمة على نعم كثيرة غير متناهية إلى أن ينتهي إلى الله ، وأنّ من كفر بنعمة من نعم الله فقد كفر بجميعها لارتباط بعضها ببعض ارتباط بعض الأعضاء ببعض ، فلايبقى جماد ولا نبات ولا حيوان ولا ماء ولا هواء ولا ملك ولا فلك الا ويلعنه ، ولذا ورد أنّ الملائكة تلعن العصاة وتستغفر للعلماء (٢) ، بل يستغفر لهم كلّ شيء حتّى الحيتان في البحار ، فاعتبر بذلك واعلم أنّك لاتخرج عن عهدة شكر نعمة جزئية من نعمه تعالى ، كيف وفي كلّ نفس ينقبض ينبسط نعمتان ، إذ بانبساطه يخرج الدخان المحترق من القلب بحيث لو لم يخرج لهلكت ، وبانقباضه يجتمع روح الهواء ولو لم يدخل لهلكت ، واليوم والليلة أربع وعشرون ساعة ، وفي كلّ ساعة تتنفّس آلافاً ، فإذا اعتبرت ذلك عرفت أنّه يكون عليك في كلّ يوم وليلة آلاف ألوف نعمة في نفسك فضلاً عن أشياء أخر من أجزاء بدنك فضلاً عن أجزاء العالم.

تذنيب

المانع عن الشكر إمّا قصور المعرفة بكون النعم من الله بأسرها ، أو قصور الإحاطة لصنوفها وآحادها والجهل بأنّ الشكر صرف النعمة في المحكمة المقصودة منها وتوهّم أنّه بمجرّد اللسان ، أو الغفلة الناشئة عن غلبة

__________________

١ ـ الصافّات : ١٦٤.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ٢١٦.

٥٢٢

الشهوة بحيث لايمكن معها التنبّه له كسائر الفضائل والطاعات ، أو لابتذالها عمومها للخلق والاعتياد بها ، فارتفع لأجل ذلك وقعها عن النظر ، فلا يرى النعمة الا ما فيه مزيد اختصاص به ، ولذا قلّما ترى أحداً يشكر على روح الهواء ووفور الماء والسمع والبصر ونحوها الا إذا عرض عارض الخلاف ، فعند ذلك يحسب الفائت نعمة ويتحسّر عليه ، وإذا أعيدت عليه عدّها نعمة إلى أن يعتاد عليه ثانياً فيزول وقعه عن نظره أيضاً ، وهذا من غاية الجهل ، فإنّ النعمة الدائمة أحقّ بالشكر فوسعة الرحمة والعناية وعموم اللطف والإحسان صار باعثاً لاغترار أكثر الخلق ، ولو تأمّلوا لعرفوا أنّ شربة ماء عند العطش أعظم من ملك الأرض باسرها ، مع أنّه لايخلو أحد من نعمة مخصوصة به من بين أغلب الناس في عقله ودينه وهيئته وصورته وسائر ما أعطاه الله ولو بحسب اعتقاده بحيث لو خيّر مابين أن يسلب منه ويبدل بما أعطي الآخر لم يرض سيما في العقل والدين ، بل لو خير في التبدّل مع كلّ أحد من الخلق في جميع صفاته وأحواله لم يرض قطّ كما قال تعالى : ( كلّ حزب بما لديهم فرحون ) (١) فكيف لايشكر الله على ما يعتقده مخصوصاً به فضلاً عن النعم العامة ، ولو لم يكن للرجل الا نعمة الصحّة والأمن والاستغناء عن الناس لكان ذلك من أعظم النعماء في حقّه ولم يمكنه الخروج عن عهدة الشكر.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أصبح آمناً في سربه ، معافىً في بدنه وعنده قوت يومه فكأنّما حيزت له الدنيا بحذافيرها ». (٢)

بل لو كان عاقلاً ولم يكن له سوى نعمة الإيمان الموصلة به إلى دارالنعيم لكان جديراً بأن يستعظم النعمة ، ويسمع [ أنّه ] من السلف من كان بحيث لو سلّم إليه ممالك الشرق والغرب بما فيهما لم يبدل أقل جزء من

__________________

١ ـ الروم : ٣٢.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ٢٢١.

٥٢٣

علمه بها لعلمه بأنّه المقرّب إلى الله ، بل لو استبدلت لذّته في الدنيا أيضاً بلذّتها لما رضي بذلك لعلمه بكونها لذّة دائمة لاتزول ولا تفنى.

تبيين

فالطريق إلى تحصيل الشكر أمور :

أحدها : معرفة صنائعه والتفكّر في ضروب نعمه الظاهرة والباطنة.

والثاني : النظر إلى الأدنى في الدنيا والأعلى في الدين.

والثالث : حضور المقابر والتذكّر لعذاب الآخرة وثوابها ، فيفرض نفسه منهم ويتذكّر ما يأملونه بعد الممات من العود والتدارك لما فاتهم مع عدم تمكّنهم منه ثم يفرض أنّه قد أجيبت دعوته وردّ إلى الدنيا بعد مماته فليتدارك حينئذ.

والرابع : التذكّر للآلام والأمراض والمصائب النازلة عليه في سابق أيّامه وصرف الله تعالى إياها عنه ، وأنّه لو هلك لم يقدر على التدارك فليغتنم الفرصة حينئذ وليشكر الله سبحانه ولايحزن على مايرد عليه من المصائب.

والخامس : أن ينظر إلى سلامة دينه فيفرح بها ولايحزن من مصائبه الدنيوية ، ويشكر الله على أنّه لم يجعل مصيبته في دينه.

قال رجل لبعض العرفاء : دخل اللصّ في بيتي وأخذ متاعي ، فقال : اشكر الله لو كان الشيطان يدخل بدله في قلبك ويفسد توحيدك فماذا كنت تصنع؟ (١)

ويتفكّر في أنّ مصيبته النازلة به كفّارة لمعاصية ، فلو لم تحلّ به المصيبة في الدنيا لكان معذّباً بالآخرة فيشكر الله على استبدال العذاب الباقي بالعذاب القليل الفاني.

وقد ورد في الأخبار الكثيرة ما يدلّ على أنّ الله إذا عذّب عبده في

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ٢٢٧.

٥٢٤

الدنيا لذنب ابتلي به فهو أكرم من أن يعذّبه ثانياً ، وأنّ لهذه المصيبة ثواباً في الآخرة فيشكر الله على إيصاله الثواب إليه ، وانّ هذه المصيبة تنقص ميله وحرصه في الدنيا وتشوّقه إلى الآخرة ، فإنّ استمرار النعم الدنيوية من دون حصول ما ينغّص العيش يورث بطراً وغفلة وسكوناً إليها حتى تصير جنّة في حقّه فيعظم بلاؤه عند موته من مفارقتها بخلاف المصاب بالآلام والمصائب الدنيوية حيث ينزعج قلبه من الدنيا ، فلا يركن إليها ، بل تصير سجناً عليه ، ويميل إلى الخروج عنها والنجاة من مصائبها.

فإن قيل : كيف يتصوّر الشكر على البلاء مع أنّه يستدعي فرحاً ونعمة ، ولو فرض تحقّقه فكيف يجتمع مع الصبر الممدوح المأمور به في الكتاب والسنّة؟

قلت : الجهة مختلفة ، فجهة الصبر عند ملحظة كونه ألماً ومصيبة والطبع متنفّراً عنه والشكر من حيث كونه موجباً لنعمة عظيمة كالثواب وغيره ممّا ذكرناه ، وهذا إنّما يتصوّر في البلاء الذي يكون له جهتان كالفقر والخوف والمرض.

وأمّا البلاء المطلق وهو ما لايكون له جهة سعادة ونعمة لا في الدنيا ولا في الآخرة كالكفر والجهل والمعاصي فلا معنى للصبر عليها حينئذ ، بل يكون الشكر في عدمها من جميع الوجوه مطلقاً وهو واضح.

ثمّ إنّك عرفت في باب الصبر أنّه قد يكون على الطاعة ، وقد يكون عن المعصية وفيهما يتحقّق الشكر والصبر ، إذ الشكر كما عرفت عرفان النعمة من الله والفرح به وصرفها إلى الحكمة المقصودة ، والصبر على ماعرفت ثبات باعث الدين في مقابل باعث الهوى ، وباعث الدين خلق لحكمة دفع باعث الهوى ، فمن أدّى الطاعة وترك المعصية تحقّقت الحكمة المزبورة وصرفت النعمة فيها.

وحينئذ يظهر اتّحاد فعلهما إذ فعل الصبر هو الثبات والمقاومة وهو عين

٥٢٥

الطاعة وترك المعصية وصرف النعمة في مقصود الحكمة هو أيضاً عين الطاعة وترك المعصية.

نعم يختلف متعلّقهما ، فإنّ متعلّق الصبر هذه الطاعة وترك هذه المعصية مثلاً ، ومتعلّق الشكر هو العقل الباعث لهما ، فتأمّل.

تنوير

لاتظنّ ممّا قرع سمعك من فضيلة البلاء وأدائه إلى السعادة كونه خيراً من العافية ، بل هي خير من عدمها مطلقاً ، فإيّاك أن تسأل البلاء منه تعالى.

ولذا ورد في الأخبار والأدعية المأثورة الاستعاذة من البلايا وطلب العافية ، فالبلاء نعمة بالاضافة إلى ما يكون أكبر منه في الدنيا والآخرة فاللازم سؤال إتمام النعمة في الدنيا والثواب في الآخرة على شكر النعم والتجافي عن دار الغرور والانابة إلى دار الخلود لكونه قادراً على إعطاء الجميع.

ولاينافيه كلام بعض العرفاء من سؤال البلاء والمصائب ، فإنّه من الكلمات الصادرة عن العشق وفرط الحبّ ، وإنّما يستلذّ بسماعه ولايعوّل عليه ، ولعلّ صيرورته عندهم أحبّ لاستشعارهم برضى المحبوب به ، ورضى المحبوب محبوب ، هذا.

وفي بعض الأخبار مايدلّ على أنّ في الجنّة درجات عالية لايصل العبد إليها الا بالبلايا والمصائب الصبر والشكر عليها.

ويؤيّده ابتلاء أكابر النوع من الأنبياء والأولياء بها وما ورد من أنّها موكّلة بالأنبياء والأولياء ثم الأمثال في درجات العلى.

وعلى هذا فالظاهر اختلاف ذلك باختلاف مراتب الناس في قوّة النفس وقوّة اليقين والمحبّة وضعفها ، بل التحقيق أنّ ما يفعله تعالى هو النظام الأصلح ، فألذي يبتلى ببلاء يكون الأصلح بحاله ذلك ، والذي لايبتلى به يكون الأصلح بحاله ذلك ، كما ورد في الأخبار وشهد به الاعتبار ، وهذا أحسن وجه في الجمع كما لايخفى.

٥٢٦

فائدة

اختلفوا في أفضليّة كلّ من الشكر والصبر والظاهر عدم الجحان لعدم انفكاك أحدهما عن الآخر ، بل اتّحادهما في كثير من المواضع كما عرفت ، والصابر على المصائب لابدّ له من تصوّره للمنافع الواصلة إليه بسببها وحصول انزعاج له عن الدنيا وشوق إلى الآخرة فلا ينفكّ عن الشكر لأنّه يعرف هذه النعم من الله كما يعرف البلاء منه ، ويفرح بها ويعمل بمقتضى فرحه من الطاعة ونحوها ، وفي النعمة المطلقة كالسعادة والعلم وسائر الفضائل كما أنّ حصولها وتصوّر كونها نعمة مستلزم للشكر فكذا إبقاؤها لاينفكّ عن المقاومة مع الهوى ومنع النفس عن الميل إليه وعن الكفران بالعصيان ، هو الصبر فشكر العينين بالنظر إلى عجائب صنع الله يستلزم الصبر عن الغفلة والنوم ونحوها.

هذا ، المعيار الكلي في أفضليّة بعض الأعمال عن بعض كونها أشدّ تأثيراً في إصلاح النفس وصفيتها وتطهيرها عن شوائب الدنيا وأشد إعداداً لمعرفة الله وانكشاف الحقائق لديه ، فاللازم على العاقل الموازنة بين كلّ درجتين من درجات الصبر والشكر فيما ذكر والترجيح بمقتضاه وهي مختلفة باختلاف أقسام النعم وأقسام البلاء واختلاف مراتب المعرفة والفرح المأخوذين في حقيقة الشكر واختلاف الطاعة المأتي بها في كلّ منهما صعوبة وسهولة ، فربّما كان بعض درجات الصبر أشدّ تنويراً وأكثر إصلاحاً (١) للقلب من بعض درجات الشكر وبالعكس ، فإنّ الأعمال الأحوال المندرجة تحتهما كثيرة ، فممّا يندرج منها تحت الشكر حياء العبد من تتابع نعم الله عليه ومعرفته بتقصيره عن الشكر واعتذاره من قلّة الشكر واعترافه بكون النعم ابتداء منه تعالى من غير استحقاق لها ، وعلمه بأنّ الشكر أيضاً من نعمه ومواهبه وحسن تواضعه بالنعم تذلله وقلّة اعتراضه وحسن أدبه بين

__________________

١ ـ في « ب » و « ج » : اختلاجاً.

٥٢٧

يدي المنعم وتلقّي النعم بحسن القبول واستعظام ما صغر منها وشكر الوسائط بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من لم يشكر الله ». (١)

فكلّما ازدادت هذه الأحوال في الشكر وطال زمانه أزدادت فضيلته.

وأمّا ما دلّ على أفضلية الصبر على الشكر من الأخبار فاللازم فيه إمّا التقييد ببعض مراتبها أو الحمل على ظاهر العامّة من الشكر والصبر دون ماتبيّن لك من حقيقتهما اللازم منه الملازمة أو الاتّحاد.

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ٢٤٧.

٥٢٨

الباب العاشر

في العبادات

٥٢٩

وهي وإن كانت من حقوق الله اللازمة مراعاتها في تحقّق معنى الفضيلة الرابعة أي العدالة كسائر ما أسلفناه في الباب السابق الا أنّها لمّا كانت أصلاً كبيراً مشتملاً على جزئيات كثيرة أفردناها عن أخواتها ، ولمّا كانت من أعظم شروطها التي تتوقّف صحّتها عليها ظاهراً وباطناً النيّة ، ومن شرط النيّة الاخلاص وهي وإن تكرّر ذكرها في الكتب الفقهيّة الا انّ لها دقائق وشعباً قلما فصّلت فيها ، التزمنا القول في حقيقتها وشعبها ودقائقها وشروطها تفصيلاً لايخلو عن إجمال مقدّمة عليها ، ثم نذكر كلاً من العبادات التي هي صنوف الطاعة المفسّرة بالتخضيع والخشوع والتمجيد لله الملك المجيد في عدّة فصول ، وهو المؤمّل في بلوغ كلّ مأمول.

مقدّمة

النيّة عبارة عن انبعاث النفس إلى ماتراه موافقاً لغرضها حالاً ومآلاً ويرادفها القصد والرادة وضدّها الغفلة أي فتورها عن التوجّه إلى مافيه غرضها ، وهي كسائر ماتقدّم واسطة بين علم هو مبدؤها وعمل هو ثمرتها ، إذ مالم يعلم أمراً يقصده ، وما لم يقصد لم يفعل ، فكلّ فعل يصدر عن الفاعل المختار لايتمّ الا بعلم وشوق وإرادة وقدرة ، وذلك لموافقة بعض الأمور لغرضه ومخالفة بعضها له فاحتاج إلى جلب الموافق ودفع المخالف الموقوفين على إدركهما إذ ما لم يعرف ذلك لم يعقل طلبه له أو هربه عنه وهو العلم ، وعلى الميل والرغبة والشهوة الباعثة عليه وهو الشوق لعدم الاكتفاء في الطلب والهرب بمجرّد الإدراك من دون شوق ، وعلى القصد والتوجّه إليه وهو النيّة ، إذ كم من مدرك للذّة الطعام شائق إليه راغب فيه لصدق شهوته غير مريد له لعذر من الأعذار المانعة له عنه ، وعلى القدرة المحرّكة للأعضاء إلى جلب الملائم ودفع المضارّ ، وبها يتمّ الفعل ، فهي كالجزء

٥٣٠

الأخير للعلّة التامّة التي بها يصدر الفعل عن الفاعل المختار ، فلا تتحرّك الأعضاء نحو الفعل أو الترك الا بالقدرة المنتظرة للقصد المنتظر للداعي الباعث أي الشوق المنتظر للعلم أو الظنّ بكون ما يفعله أو يتركه موافقاً لغرضه أو منافياً.

ثم الباعث قد يكون متّحداً كالانزعاج الحاصل من مشاهدة السبع مهتجماً عليه ، وحينئذ يسمّى إخلاصاً ، والنيّة خالصة عن ممازجة الغير ، وقد يتعدّد مع استقلال كلّ بالباعثية والانهاض لو انفرد كالذي يسأله الفقير القريب له فيقضي حاجته لفقره وقرابته مع العلم بأنّه لولا الفقر لحصل القضاء أيضاً بمجرّد القرابة وبالعكس ، أو عدمه مع الانفراد كمن يقصده الفقير الأجنبي أو الغنني القريب فلا يعطيه ويعطي قريبه الفقير والمتصدّق للثواب وثناء الناس ، ولو انفرد كلّ واحد لم يفعل ، أو استقلال أحدهما به دون الآخر وإن أعانه الآخر عليه وسهل الفعل بسببه على الفاعل كالذي يكون له ورد في العبادات وعادة في الصدقات فاتّفق حضور جماعة فصار بسبب ذلك أنشط على الفعل مع العلم بأنّه لو انفرد لم يترك ورده وعادته ، والباعث الذي يكون رفيقاً أو شريكاً أو معيناً نذكر حكمه في الإخلاص.

واعلم أنّ الطاعة غذاء للقلب والمقصود منها شفاؤه وبقاؤه وسلامته وتنعّمه بلقائه تعالى وسعادته ، ولن يتنعّم بلقائه تعالى الا من مات محبّاً لله عارفاً به ، ولن يحبّه الا من عرفه ، ولن يعرفه الا من دام فكره ، ولن يأنس به الا من طال ذكره ولن يتفرغ القلب لهما الا مع الفراغ عن شواغل الدنيا ، ولن يفرّغ عنها الا مع الانقطاع عن شهواتها حتى يميل إلى الخير ويريده وينفر عن الشر ويبغضه ، ولايتحقق الميل والنفرة الا مع العلم بإناطة السعادة بذلك.

وإذا حصل أصل الميل بسبب المعرفة قوي بالعمل بمقتضاه والمواظبة عليه ، إذ المواظبة على صفات القلب وإرادتها بالعمل تجري مجرى الغذاء

٥٣١

والقوت لتلك الصفة حتّى تقوى بسببها فالمائل إلى العلم أو الرئاسة لايكون ميله إليهما في الابتداء الا ضعيفاً فإن اتّبع مقتضاه واشتغل به تأكّد ميله ورسخ وعسر عليه النزوع والا ضعف وانكسر ، بل ربّما زال وانمحى ، وكذا سائر الصفات والخيرات ، فإنّ الطاعات ما يراد للآخرة والشرور مايراد للدنيا ، فميل النفس إلى الاولى وانصرافها عن الأخرى هو الذي يفرغها للذكر والفكر ولن يتأكّد الا بأعمال الطاعات وترك المعاصي والمواضبة عليهما بالجوارح ، لأنّ بين القلب والجوارح ارتباطاً تامّاً يتأثّر كلّ منهما بتأثّر الآخر الا أنّ القلب هو الأصل والأمير والجوارح كالخدّام والرعايا له تؤكّد فصاتها فيها ، وحينئذ يظهر أنّ أعمال القلب أفضل من الجوارح ، وانّ النيّة من بينها أفضل ، لأنّها عبارة عن ميل القلب إلى الخير وإرادته له وليس الغرض من أعمال الجوارح الا تعويد القلب على ذلك حتّى يتفرّغ عن الشهوات وينكبّ على الذكر والفكر ، وهذا كما أنّ تداوي المعدة [ بالشرب خير من طلاء الصّدر ، إذ لم يرد من الطّلاء الا سراية الأثر من الصّدر إلى المعدة ، وتأثّر المعدة ] (١) من الشرب أكثر.

ومنه يظهر معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نية المرء خير من عمله » (٢) أي إذا اجتمع العمل مع النيّة كان هذا الجزء أنفع من الجزء الآخر فلا تظنّن أنّ في وضع الجبهة على الأرض غرضاً من حيث لصوقها بها ، بل لتأكيده صفة التواضع في القلب ، وكذا مسح رأس اليتيم يؤكّد الرقّة في قلبه ، ولهذا قيل : « لا عمل الا بنية » (٣) ، فإنّ الماسح لرأس اليتيم إذا كان غافلاً أو ظانّاً أنّه يمسح ثوباً لم ينتشر من أعضائه أثر إلى قلبه بتأكّد الرقّة ، ونحوه الساجد الذاهل ، فكان وجودهما كعدمهما في الغرض المطلوب منهما فيكونان باطلين

__________________

١ ـ ساقط من « ج ».

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٠٩ ، وفيه : « نيّة المؤمن ».

٣ ـ الكافي : ٢ / ٨٤ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب النيّة ، ح ١ ، عن زين العابدين عليه‌السلام.

٥٣٢

لغوين. وإن انضمّ إليه قصد رياء مثلاً ازداد شرّاً لتأكّد الصفة التي أريد قمعها ، أي الرياء الذي هو من جملة الميل إلى الدنيا ، وبه يظهر سرّ ماورد من « أنّ من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة » (١) لأنّ همّ القلب ميله إى الخير وانصرافه عن الشر ، وذلك غاية الحسنات ، وإنّما العمل مؤكّد له.

واعلم أنّ المعاصي لاتتغيّر عن موضوعاتها ولاتنقلب طاعة بالنيّة فمن يغتاب إنساناً مراعاة لغيره أو يطعم فقيراً من مال غيره ويبني مسجداً او رباطاً أو مدرسة من مال حرام وقصده الخير ونحو ذلك فهو جاهل ، إذ لاتؤثّر في إخراجها عن كونها ظلماً وعدواناً ، بل قصد الخير بالشرّ على خلاف مقتضى الشرع شرّ آخر لمعاندته للشرع مع علمه وعصيانه بجهله معه ، إذ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ، والجاهل غير معذور ، الا إذا كان قريب عهد بالاسلام ولم يجد بعد مهلة التعلّم ، ومن ذلك تعليم العلم للسفهاء المقصور همّتهم على مماراة العلماء ومباراة السفهاء استمالة وجوه الناس وجمع حطام الدنيا وأخذ أموال السلاطين والمساكين وهم قطّاع طريق الله تعالى يتّبعون الهوى ويتباعدون عن التقوى ويستجريء الناس بسبب مشاهدتهم على معاصي الله ، ثم ينتشر ذلك العلم إلى أمثالهم وهكذا ووبال الجميع لى المعلّم الذي علّم العلم أوّلاً مع علمه بفساد نيّته.

والعجب من جهل هذا المعلّم حيث يقول : إنّما الأعمال بالنيّات ، وقد قصدت به نشر الدين فإن استعمله في الفساد كان المعصية منه لا منّي ، وهذا تلبيس من الشيطان عليه بواسطة حبّ الرئاسة وغرور منه ، فهو كمن وهب سيفاً قاطعاً من قاطع طريق وأعدّ له أسبابه وقال : أردت البذل والسخاء وقصدت به أن يغزو بها في سبيل الله تعالى ، فإنّه من أعظم المثوبات ، فإن هو صرفه إلى المعاصي كان هو المعاصي ، ولاشكّ في حرمة ذلك ، بل إذا لاح له من عادته الاستعانة بها على الشرّ وجب السعي في سلب سلاحه لا

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٤٢٨ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة ، ح ١.

٥٣٣

إعانته بسلاح آخر ، والعلم أيضاً سلاح يقاتل به الشيطان فمن لايزال مؤثراً لدنياه على دينه وهو عاجز عن الميل إلى الآخرة لضعف يقينه ، فكيف يجوز إمداده بنوع علم يتمكّن معه من الوصول إلى شهواته ، فإذن المعصية لاتنقلب طاعة بالنيّة وإن تضاعف وزرها بانضمام مقاصد خبيثة إليها كما أشرنا إليها وعظم وبالها كما أشرنا إليه في باب التوبة.

وأمّا الطاعة فهي مرتبطة بالنيّة في أصل صحّتها بأن ينوي بها عبادة الله لاغير فلو نوى الرياء صارت معصية كما مرّ ، وفي زيادة فضلها أيضاً بكثرة النيّات الحسنة فيكون له بكلّ نيّة ثواب كالقعود في المسجد الذي هو طاعة ويكثر ثوابه بكثرة النيّات الحسنة كاعتقاد أنّه بيت الله فيقصد به زيارة مولاه رجاء لما عوده الرسول وانتظار الصلاة بعد أخرى والترهّب بكفّ السمع والبرصر سائر الأعضاء ، فإنّ الاعتكاف في المسجد نوع من الصوم الذي هو الكفّ ، ولذا ورد : « رهبانية أمّتي القعود في المساجد » (١) وعكوف الهمّ على الله تعالى ولزوم السرّ للفكر في الآخرة ورفع الشواغل عن نفسه بالاعتزال في المسجد والتجرّد لذكر الله تعالى أو استماعه أو التذكّر به لما روي : « أنّ من فعل ذلك كان كالمجاهد في سبيل الله » (٢) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذ لا يخلو المسجد عن تارك معروف أو الآتي بمنكر ، أو استفادة أخ في الله لكون السمجد معشر (٣) أهل الدين المحبّين لله وفي الله ، وترك المعاصي حياء من الله وخوفاً من هتك حرمته ، وقس عليه سائر الطاعات.

وأمّا المباحات فما من شيء منها إلا ويحتمل نيّة أو نيّات يصير بها من محاسن القربات وما بها يصير من المساوي والسيّئات ، فما أخسر من ذهل عنها وتعاطاها تعاطي البهائم المهملة عن شهوة وغفلة ، فلا ينبغي استحقار

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١١٧.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١١٧.

٣ ـ كذا ، وفي المحجّة البيضاء : (٨ / ١١٧) : معشّش.

٥٣٤

خطرة أو خطوة أو لحظة لأنّ كلّ ذلك مسؤول عنه يوم القيامة ، فمن تطيّب بطيب يمكنه أن يقصد التنعّم بلذّات الدنيا الذي هو مباح أو التفاخر بكثرة المال أو رياء الخلق ليتحبّب به إلى الناس أو يتودّد به إلى قلوب النساء الأجنبيّات ونحو ذلك من الأغراض الفاسدة التي تجعل الفعل معصية أنتن من الجيفة ، أو اتّباع سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعظيم المسجد واحترام بيته تعالى وترويح جيرانه ليستريحوا من روائحه في المسجد ونحوه ودفع الروائح الكرية المؤدّية إلى إيذاء الناس ومعالجة دماغه ليزيد به ذكاءه ويسهل عليه الفكر ونحو ذلك ، ولذلك قيل : « [ إنّي ] لاستحبّ أن يكون لي نيّة في كلّ شيء حتّى الأكل والشرب والنوم ودخول الخلاء » (١) ونحوها ، إذ كلّ ذلك إنما يمكن أن يقصد به وجه الله تعالى كالتقوّي على العبادة من الأكل ، وتحصين دينه وتطييب قلب أهله وحصول ولد يعبد الله ويكثر به أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الجماع.

فإيّاك أن تستحقر شيئاً من حركاتك وسكناتك ، فلا تحترز من غرورها وشرورها ولاتعدّ جوابها يوم السؤال والحساب ، فإنّ الله مطّلع عليك وشهيد. ( ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد ). (٢)

فراقب أحوالك ولا تسكن ولا تتحرّك مالم تتأمّل أوّلاً أنّك لم تتحرّك ولم تسكن وماذا تقصد وما الذي تنال به من الدنيا وما يفوتك به من الآخرة وبماذا ترجّح الدنيا على الآخرة ، فإذا علمت أنّه لا باعث الا الدين فامض على عزمك ، وراقب أيضاً قلبك في إمساكك وتركك ، فإنّ ترك الفعل أيضاً فعل ، ولابدّ أيضاً له من نيّة صحيحة ، فلا يكون لداعي هوى خفيّ لاتطّلع عليه ولاتغرّنك ظواهر الأمور.

فقد روي أنّ زكريّا عليه‌السلام كان يعمل بالطين في حائط وكان أجير القوم

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١١٩.

٢ ـ ق : ١٨.

٥٣٥

فقدّموا إليه رغيفين إذ كان يأكل الا من كسب يده ، فدخل عليه قوم فلم يدعهم إلى الطعام حتى فرغ ، فتعجّبوا منه لما علموا من سخائه وزهد ، فقال : إنّي أعمل للقوم بأجرة وقدّموا إليّ الرغيفين لأتقوّى بهما على عملهم ، فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت عن عملهم. (١)

فإنّ ضعفه عن العمل نقص في فرض وترك الدعوة إلى الطعام نقص في نفل (٢) ولا حكم للفضائل مع الفرائض. فهكذا ينبغي للبصير أن ينظر إلى البواطن بنور الله تعالى.

واعلم أنّ النية لاتحصل بمجرّد حديث النفس وحديث اللسان أو النتقال من خاطر إلى خاطر ، بل هي على ما عرفت انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أنّ فيه غرضاً عاجلاً أو آجلاً ، فلا يمكن اختراع الميل بمجرّد الارادة كما لايمكن أن يقول الفارغ : نويت أن أعشق فلاناً وأحبّه ، بل لاطريق إلى اكتساب الميل الا باكتساب أسبابه المقدورة تارة وغير المقدورة أخرى ، وإنّما ينبعث النفس إلى الفعل إجابة إلى الغرض الباعث الموافق للنفس ومالم يعتقد الإنسان أنّ غرضه منوط بفعل لم يتوجه إليه قصده ، وذلك ممّا لايقدر عليه كلّ حين ، وإذا اعتقد فإنما يتوجّه القلب إذا كان فارغاً غير مصروف عنه بشاغل أقوى ، وذلك لايمكن في كلّ حين ، والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة بها تجتمع ، وتختلف ذلك بالأشخاص والأحوال والأعمال ، فمن يغلب عليه شهوة النكاح من دون اعتقاد غرض صحيح في الولد ديناً ودني لايمكنه الوقاع على نيّة الولد إذ النيّة إجابة الباعث ولا باعث الا الشهوة ، ومن لم يغلب عليه عظم فضل النكاح اتّباعاً لسنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لايمكنه نيّة اتّباع السنّة الا بحديث اللسان أو النفس.

نعم طريق اكتسابها تقوية إيمانه بالشرع أوّلاً وبعظم ثواب كثرة أمّة

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٢٠ ـ ١٢١.

٢ ـ كذا ، وفي المحجّة البيضاء : « فضل » ويؤيّده التعليل.

٥٣٦

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثانياً ، ودفع منفّرات الولد من ثقل المؤونة وطول التعب وغيره عن نفسه ثالثاً ، فإذا فعل ذلك انبعث رغبته إلى تحصيل الولد للثواب وحركة أعضائه لمباشرة العقد ، فإذا انتهضت القدرة المحرّكة للّسان لقبول العقد طاعة لهذا الباعث الغلب على القلب كان نوياً ، والا كان مايقدره في نفسه ويردّده من قصد الولد وسواساً وهذياناً ، ولمّا كان الانبعاث المذكور يجري مجرى الفتوح من الله تعالى يتيسّر في بعض الأوقات دون بعض الا لمن كان الغالب عليه أمر الدين وقلبه مائلاً إلى الخيرات إجمالاً ، فإنّه ينبعث إلى التفاصيل غالباً امتنع أكابر السلف في كثير من الأوقات عن جملة من الطاعات ، إذ لم يحضرهم النيّة خالصاً له تعالى ، والعمل بدونها رياء موجب للمقت دون القرب فالطاعة على نيّة إجلال الله تعالى واستحقاقه الطاعة والعبودية لايتيسّر للراغب في الدنيا فهذه أعزّ مراتب النيّة وأعلاها ويعزّ من يفهمها فضلاً عمّن يتعاطاها.

وأمّا العمل إجابة لباعث الخوف من النار أو رجاء الجنّة فهو وإن كان من جملة النيّات الصحيحة لكونه ميلاً إلى الموعود في الآخرة ، الا أنّه نازل بالنسبة إلى الأوّل لكونه من جنس المألوف في الدنيا ، وباعثه باعث البطن والفرج الذي موضع قضاء وطره الجنّة ، وعبادة المقرّبين العارفين لايجاوز ذكر الله والفكر لجلاله وعظمته ودرجتهم أرفع من الالتفات إلى المنكوح المطعوم في الجنّة وإنّما يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه لاغير ، ويتنعّمون بلقاء الله تعالى كما يتنعّم عبدالبطن بأكل الحلاوات ولحوم الطيرويسخرون ممّن يتنعّم بالنظر إلى الحور العين ، كما يسخر ذلك ممّن يتنعّم بالنظر إلى الصور المصنوعة من الطين ، بل أشدّ من ذلك وأعظم بيقين ، بل عمى أكثر القلوب عن إبصار جماله وجلاله أيضاً هي عمى الخنفساء عن إدراك جمال النساء ، ولايزال الفرق يختلفون ( كلّ حزب بما لديهم فرحون ). (١)

__________________

١ ـ الروم : ٣٢.

٥٣٧

وبالجملة ؛ فالنيّات متفاوتة الدرجات ومن غلب على قلبه واحدة منها لم يتيسّر له العدول عنها ، ومعرفة هذه الحقائق تورث أعمالاً يستنكرها أكثر الخلائق من الظاهريين الذين لم يتفطّنوا لهذه الدقائق ، فمن حضرت له نيّة في مباح ولم تحضر له في فضيلة ، فالمباح أولى وانتقل (١) إلى الفضيلة كما انتقلت إلى النقيصة ، فالأكل والشرب والنوم بنيّة التقوّي للعبادة في المستقبل مع عدم انبعاثها نحو الصوم والصلاة هو الأفضل.

تلخيص

قد علم مما ذكر ، أنّ النيّة روح الأعمال ففي الحقيقة يترتّب الجزاء عليها.

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما الأعمال بالنيّات ، وإنّما لكلّ امرء ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ماهاجر إليه ». (٢)

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أن العبد ليعمل أعمالاً حسنة فتصعد بها الملائكة في صحف مختمة فتلقى بين يدي الله تعالى فيقول : ألقوا هذه فإنّه لم يرد بها وجهي ، ثم ينادي الملائكة اكتبوا له كذا وكذا ، فيقولون : ربّنا إنّه لم يعمل شيئاً من ذلك ، فيقول : إنّه نواه ، إنّه نواه ». (٣)

وقال الصادق عليه‌السلام : « إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن ولو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء ، ثم تلا قوله تعالى : ( قل كلّ يعمل على شاكلته ) (٤) أي على نيّته ». (٥)

__________________

١ ـ أي انتقل المباح في حقّه إلى الفضيلة ، كما انتقلت الفضيلة إلى النّقيصة.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٠٣.

٣ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٠٣.

٤ ـ الإسرار : ٨٤.

٥ ـ الكافي : ٢ / ٨٥ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب النيّة ، ح ٥.

٥٣٨

واعلم أيضاً أنّ أعلى مراتبها إرادة وجهه تعالى من حيث كونه أهلاً للعبادة ومحبّته له واستغراقه في بحار جلاله وعظمته ومشاهدته فأنس به وفرح بعبادته وإلى هذه المرتبة أشار علي عليه‌السلام بقوله :

« إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك لكنّي وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك ». (١)

وأدنى منها قصد الثواب أو الخنوف من العقاب كما أشرنا إليه ولا تصغ إلى من قال ببطلان العبادة بذلك زعماً منه أنّه مناف لقصد الاخلاص الّذي هو إرادة الله وحده ، لأنّه قصد جلب نفع لنفسه ودفع ضرّ عنها لا وجه الله تعالى ، فإنّ أكثر الناس لإلفهم بالمحسوسات يتعذّر عليهم الوصول إلى مرتبة فهم تلك المرتبة ، فلا يعرفون منه تعالى الا المرجوّ والمخوف فلو كلّفوا بذلك عموماً كان تكليفاً بما لايطاق لما عرفت من عدم إمكان حصولها الا بعد قطع الشهوات وقمعها والإعراض عن الدنيا بالكليّة والإقبال إلى الله وحبّه وأنسه المتفرّعين على كمال معرفته وحصولها لعامّة الناس غير ممكن ولو كلفوا بذلك لفسدت المعائش وبطل النظام.

والمراد من الاخلاص المشروط في صحّة النيّة المشروطة في العبادة أن لاتكون مشوبة بحظوظ الدنيا والأغراض النفسانية دون الحظوظ الأخرويّة وإن كانت ممّا يشابهها ، ولو كان ذلك مفسداً للعبادة بطل الوعد والوعيد والترغيب والترهيب بالجنّة والنار.

وأمّا قول الصادق عليه‌السلام : « العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا الله خوفاً فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله طلباً لثوابه فتلك عبادة الأجراء ، وقوم عبدوا الله حبّاً له فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة » (٢) فهو وإن دلّ على ذمّ القسمين ونقصان درجاتهما الا أنّ آخره صريح في صحّتهما ، بل كونهما مستلزماً لفضل وإن كان أقلّ وهو عين ما حققناه.

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ٤١ / ١٤ ، غوالي اللئالي : ١٠ / ٤٠٤.

٢ ـ الكافي : ٢ / ٨٤ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب العبادة ، ح ٥ ، مع اختلاف.

٥٣٩

فصل

الإخلاص شرط في النيّة.

( وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ). (١)

( ألا الله الدين الخالص ). (٢)

( الا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله ). (٣)

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قال الله تعالى : الإخلاص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي ». (٤)

وعن أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « ما من عبد يخلص العمل لله أربعين صباحاً الا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ». (٥)

وكفاه فضلاً أنّ الشيطان اللعين لم يستثن الا المخلصين ، فلا يتخلّص العبد من حبائله الا بالإخلاص.

واعلم أنّ كلّ شيء يتصوّر أن يشوبه غيره ، فإذا خلص وصفا عنه سمّي خالصاً.

قال الله تعالى : ( من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ). (٦)

وضدّ الإخلاص الإشراك ، وللشرك درجات ، فمنه خفي ومنه جلّي ، فهما يتواردان على القلب وإنّما يكون ذلك في القصود والنيّات ، وقد أشرنا إلى أنها ترجع إلى إجابة البواعث وأنّه إذا اتّحد الباعث سمّي الفعل الصادر عنه إخلاصاً بالإضالة إلى المنوي ، فالمتصدّق لمحض الرياء مشرك محض ولمحض التقرّب إلى الله مخلص ، وقد تكلّمنا في الرياء بما لا مزيد عليه ،

__________________

١ ـ البيّنة : ٥.

٢ ـ الزمر : ٣.

٣ ـ النساء : ١٤٦.

٤ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٢٥.

٥ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٢٦ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٦ ـ النحل : ٦٦.

٥٤٠