كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

الشكر والسرور. (١)

وقلب العبد أشدّ قسوة من الحجارة ، ولاتزول الا بالبكاء.

وأوحى الله تعالى إلى داود : « أنّي رضيت بالشكر مكافاة لأوليائي ». (٢)

ولما نزل في ادّخار الأموال ما نزل قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : فماذا نتّخذ؟ فقال : « ليتّخذ أحدكم لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً ». (٣)

وعن ابن مسعود : الشكر نصف الايمان. (٤)

ثم الشكر حالة مستفادة من علم مثمرة لعمل.

أمّا العلم فهو العلم بحقيقة النعمة ووصفها في حقّه ، وذات المنعم وصفاته التي بها يتمّ الإنعام ، وهذا في حقّ الغير.

وأمّا في حقّه تعالى فبالتوحيد الفعلي المشار إليه ، فإنّ من أنعم عليه الملك بشيء فإن رأى لوزيره مثلاً دخلاً في تيسيره وإيصاله كان إشراكاً له في نعمته فلم يرها منه من كلّ وجه ويتوزّع فرحه عليهما ، وإن رآها بتوقيعه المكتوب بالقلم والكاغذ مع العلم بأن ليس لهما مدخل فيه فلا يفرح منهما لعلمه بأنّهما مسخّران تحت حكمه مضطرّان إلى قدرته فيرى الوزير والخازن كالكاغذ والقلم في ذلك فلم يورث ذلك شركاً في توحيده في إضافة النعمة إليه ، فكذا لو علمت أنّ جميع الأفعال صادرة عن الله وأنّ كلّ شيء مسخّر بيد قدرته حتى من له اختيار من العباد وأنّ من يحسن إليك فإنّما يحسن بأسباب مخلوقة من الله فيه كالإرادة وتهييج المحبّة والإلقاء في قلبه أنّه خير له في دنياه أو آخرته ، فقد أعطاك وأحسن إليك لغرض نفسه ، ولو لم ير فيه نفعاً لنفسه لما نفعك فليس منعماً عليك ، بل المنعم مسخّر القلوب ومحبّبك

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٤٢.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٤٣ ، وفيه : « إلى أيّوب » و « من أوليائي ».

٣ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٤٣.

٤ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٤٣.

٥٠١

إليها ، تيسر (١) لك حينئذ شكره ، بل كانت هذه المعرفة بنفسها شكراً منك له كما في الخبر المشهور عن موسى عليه‌السلام. (٢)

ومما ذكرنا يظهر أن هذا أزيد من التوحيد ، لأن معرفة كونه منعماً خاصة بجميع النعم وأن كل منعم مسخر تحت حكمه شيء وراء التقديس ، فينطوي فيها مضافاً إليه كمال القدرة والانفراد بالفعل والعناية بالعباد.

ولذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من قال سبحان الله فله عشر حسنات ، ومن قال لا إله إلا الله فله عشرون ، ومن قال الحمد الله فله ثلاثون ». (٣)

ولا تظن أنها بإزاء تحريك اللسان من غير انكشاف لمعانيها وشهود لحقائقها ، بل هي بإزاء المعارف التي هي من أبواب الإيمان اليقين.

وأما الحالة المستفادة منه وهي الفرح بالمنعم مع هيئة الخضوع وهي الشكر حقيقة ، وإن كانت أصل المعرفة أيضاً كذلك إلا أنها متوقفة على شرط هو كون الفرح بالمنعم دون النعمة والانعام ، فمن يفرح بأصل النعمة من حيث إنها لذيذة حاصلة له وموافقة لغرضه بعيد عن معنى الشكر لقصور نظره عليها وفرحه بها دون المنعم ، فلا يكون شاكراً للمنعم بل للنعمة.

ومن يفرح بها من حيث أنها عطية من المنعم دالة على عنايته به والتفاته إليه واستدلاله (٤) منه على الإنعام في المستقبل فهو شاكر للمنعم إلا أنه ليس شكراً له لذاته ، بل لعطائه ورجاء زيادة نعمائه وهو شكر الصلحاء الذين يعبدون الله طمعاً في ثوابه أو خوفاً من عقابه.

ومن يفرح بها للوصول بها إلى قرب المنعم وكونها وسيلة له إليه ووصلة للنزول في جواره والنظر إلى وجهه فهو الشاكر للمنعم حقيقة ، وهذه الرتبة العليا ، وعلامتها أن لايفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة للآخرة

__________________

١ ـ جواب « لو علمت أن جميع الأفعال ... ».

٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ١٤٦ ، ١٥١ ـ ١٥٢.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ١٤٥.

٤ ـ كذا.

٥٠٢

ويحزن عن كلّ نعمة ملهية له عن ذكر الله وصادّة له عن سبيله ، ولا يدرك هذه المرتبة من انحصرت لديه اللذّات في الحسيّات وخلا قلبه عن اللذّات العقلية ، فكم من فرق بين من يريد المنعم للنعمة وعكسه.

وأمّا الثمرة المترتّبة عليها من العمل فهي إما بالقلب بإضمار الخير للمسلمين أو باللسان بالاظهار بالألفاظ الدالّة عليه أو بالجوارح باستعمال نعم الله تعالى في طاعته والتوقّي من الاستعانة على معصيته ، فشكر العينين ستر كلّ عيب يراه من مسلم ، والسمع ستر كلّ عيب مسموع ، واللسان إظهار الرضا من الله وهكذا ، فالمراد من خلق الدنيا وأسبابها الاستعانة على الوصول إلى الله ولا وصول الا بالمحبّة له والانس به وبغض الدنيا والتجافي عن لذّاتها وعلائقها ، ولا انس الا بدوام الذكر ، ولا محبّة الا بالمعرفة الحاصلة من دوام الفكر ، ولا يمكن الذكر والفكر الا بواسطة البدن ولا بقاء له الا بالأرض والماء والهواء والنار ، ولايتمّ ذلك الا بخلق السماء والأرض وما بينهما وكلّ ذلك للبدن وهو مطيّة للنفس المطمئنّة الراجعة إلى الله فكلّ من استعمل شيئاً في غير طاعة الله فقد كفر بنعمة الله في جميع الأسباب التي لابدّ منها لإقدامه على تلك المعصية.

بحث وتحقيق

فإن قيل : كيف يتمّ الشكر على النعمة مع أنّه إنما يتمّ في حقّ منعم ذي حظّ من الشكر وهو محال في حقّه تعالى لتنزّهه من الحظوظ والأغراض ، ولأنّ جميع مانتعاطاه باختيارنا نعمة أخرى مضافة إلى نعمه ، إذ جوارحنا وقدرتنا واختيارنا وسائر أسباب حركاتنا من الله تعالى فكيف نشكر نعمته بنعمته؟

قلت : قد خطر هذا الخاطر لموسى وداود عليه‌السلام وناجيا به ربّهما فأوحى إليهما : « إذا عرفت هذا المعنى فقد شكرتني ». (١)

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٥١ ـ ١٥٢.

٥٠٣

وتوضيح ذلك على الوجه الذي يسكن إليه النفس هو أنّ الملك غذا بعد عبد من عبيده عنه فأرسل إليه زاداً ومركوباً وعدّة لوصوله إليه واشتغاله بخدمة عيّنها له فلا يخلو إمّا أن يكون قصده من ذلك قيامه ببعض مهامّه ، ويحصل له غنى بخدمته أو لايكون له حظّ من ذلك ، فلا يزيد حضوره في ملكه شيئاً كما لاينقص غيابه عنه ، بل قصده من ذلك الإنعام عليه واللطف بالنسبة إليه ليحظى بقربه وينال سعادة حضرته فيصل النفع إليه لا إلى نفسه ، والأوّل محال بالنسبة إليه تعالى ، وإنّما الثابت في حقّه الثانية وفي هذا القسم إنما يتصوّر الشكر باستعمال العبد ما أنفذه إليه الملك فيما أحبّه له لأجل نفسه ، والكفران إمّا بالتعطيل أو بالاستعمال فيما يزيد بعده عنه ، فإذا ركب المركوب وصرف الزاد والعدّة في طريق الوصول إليه فقد شكره أي استعمل نعمته فيما أحبّه لأجله وإن ركبه واستدبر عن حضرته أخذ طريق البعد عنه فقد كفر النعمة ، أي استعملها فيما كرهه له ، وإن جلس ولم يركب ولم يبعد ولم يقرب فقد عطّل نعمته وهو أيضاً كفران وإن كان أدون ممّا قبله ، فالخلق في بدو فطرتهم لمّا احتاجوا إلى استعمال الشهوات لتكميل أبدانهم بعدوا بذلك عن حضرته تعالى ، ولمّا كان سعادتهم بالقرب أعد لهم ما قدروا بها على نيل درجة القرب كما قال :

( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثمّ رددناه أسفل سافلين * الا الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ... ). (١)

والله تعالى لم يفعل لم يفعل ذلك الا لطفاً بهم وإرادة لنفعهم وسعادتهم ، فمن استعملها فيما أحبّه الله لهم فقد شكر لموافقة فعله لما أحبّه مولاه له ، ومن لم يستعملها فيه فقد كفر بفعله مالم يرض تعالى له ، فإنّ الله لايرضى لعباده الكفر ، فالطاعة والمعصية داخلان في المشيّة دون المحبّة والكراهة ، فربّ مشية محبوبة وربّ مشيّة مكروهة ، فقولك إنه لايصل إلى المشكور حظ اتّضح

__________________

١ ـ التين : ٤ ـ ٦.

٥٠٤

جوابه ، وكذا كلامك الثاني فإنّ مرادنا من الشكر صرف نعمة الله في جهات محبّته ، فإذا تحقّق ذلك حصل المراد وظهر سرّ الزيادة المترتّبة على الشكر أيضاً ، إذ النعمة الحقيقية هي القرب فإذا صرف العبد الزاد والركوب في طريق الوصول إلى المولى فقد قرب ، وبقطع كلّ منزل من المنازل يزداد القرب وهو واضح.

ثمّ إن كان صرف النعمة فيما أحبّه الله محمولاً على ظاهرة من استناد الأفعال إلى العباد ، فنسبة الشكر إلى العبد واضحة ، وإن نظر إلى خلق الآلات والأسباب من الله تعالى فتكون الأفعال كلّها من الله بناء على معنى التوحيد الفعلي المتقدّم إليه الإشارة كان معنى شاكريّة العبد كونه محلاً للشكر وقابلاً له كما هو معنى علمه وقدرته وسائر صفاته فافهم.

وممّا ذكر ظهر جواب آخر بناء على نظر التوحيد الفعلي ، فإنّه الشكر حينئذ حقيقة كما أنّه المشكور ، فإنّ من عرف أن ليس في الوجود غيره وأنّ ( كلّ شيء هالك الا وجهه ) (١) إذ الغير ما كان قوامه بنفسه وهو محال ، إذ كلّ ما في الوجود سواه تعالى فهو موجود قائم بالغير ولو لم يعتبر الغير ولم يلتفت إليه بل إلى ذاته بذاته لم يكن له قوام ولا وجود بالمرّة ، والموجود حقيقة مالو فرض عدم غيره كان موجوداً بنفسه وهو القائم بنفسه ، فإذا كان قوام كل شيء به أيضاً كان قيّوماً والقيّوم واحد لاتعدّد له ( الله لا إله الا هو الحيّ القيّوم ) (٢) فهو مصدر كلّ الأشياء ومرجعها ، فيكون (٣) هوالمحبّ والمحبوب والشاكر والمشكور.

روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا قرأ ( نعم العبد إنّه أوّاب ) (٤) قال : « واعجباه

__________________

١ ـ القصص : ٨٨.

٢ ـ البقرة : ٢٥٥.

٣ ـ هذا دالّ على خبر إنّ المذكورة آنفاً.

٤ ـ ص : ٣٠.

٥٠٥

أعطى وأثنى ». (١)

قيل : فيه إشارة إلى أنّ ثناءه على إعطائه ثناء على نفسه.

وقيل في قوله تعالى : ( يحبّهم ويحبّونه ) يحبّهم لأنّه لايحبّ الا نفسه ، فإن الصنع إذا أحب صنعه فقد أحب نفسه والوالد إذا أحب ولده فقد أحب نفسه ، وكل ما سوى الله فهو صنيعه فإن أحبّه فما أحبّ الا نفسه ، والتوحيد بهذا المعنى هو الذي يعبّر عنه ... بقناء النفس أي استغرق في جلال الله وصفات كبريائه فلا يرى في الكون الا وجوده وآثار وجوده من حيث إنّها آثار وجوده « ياكائناً قبل كلّ شيء ويا كائناً بعد كلّ شيء ، ويا مكّون كلّ شيء » (٢) وهذه المرتبة لايدركها أكثر الناس ، بل يخصّ بها الصدّيقون.

قيل : لمّا نزل قوله تعالى : ( واسجد واقترب ) (٣) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في سجوده : « أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ». (٤)

فأوّل مقاماته صلى‌الله‌عليه‌وآله آخر مقامات الكمّل وهو التوحيد الفعلي أي مشاهدة الأفعال طرّاً من الله تعالى.

ثمّ ترقّى إلى التوحيد الوصفي أعني المعاني الكلّية للأفعال وهي الصفات ، ثم رآه نقصاً بالنظر إلى التوحيد الذاتي وهو مشاهدة الذات من غير ملاحظة صفة أو فعل ، ثم لاحظ كونه فارّاً منه إليه وهو مستلزم لإثبات نفسه وملاحظتها فوجده نقصاً لحقّه ، ففنى عنها فقال : « أنت كما أثنيت على نفسك » فانظر إلى ماوصل إليه في درجات القرب ، ولمّا كان كلّ درجة عنده

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٥٣ ونسبة فيه إلى رجل مسمّى بحبيب بن أبي حبيب لا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . وكذا في الاحيا : ٤ / ٨٦.

٢ ـ بحار الأنوار : ٩٥ / ٢٢٥ ، باب الأدعية والأحراز لدفع كيد الأعداء ، ح ٢٣.

٣ ـ العلق : ١٩.

٤ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٥٥.

٥٠٦

نقصاً بالنظر إلى مافوقه قال : « وإنّه ليغان على قلبي حتّى أستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة ». (١)

فإنّ مقامات أهل السلوك تصل إلى هذا المقدار بل تزيد في طرف البداية ، فإنّ هذه مقامات النبي في حال نبوتّه وللوصول إليها مقامات غير محصورة ، وقد عرفت أنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين والاستغفار منها لازم للعارف بكونها نقصاً وسيّئة.

إنارة

لابدّ للسالك الشاكر من معرفة ما يحبّه الله عمّا يكرهه حتّى يمكنه الصرف في الأوّل دون الثاني ، ومدرك هذه المعرفة إما الشرع حيث كشف عن جميع ذلك وعبّر عن الأوّل بالواجبات والمستحبّات ، وعن الثاني بالمحرّمات والمكروهات ، فمعرفة ذلك موقوفة على معرفة الأحكام بأسرها وإلّأ لم يمكنه القيام بحقّ الشكر ، وإمّا العقل لتمكّنه من إدراك بعض وجوه الحكم في الموجودات ، إذ ما من شيء في عالم الوجود الا يترتّب على وجود حكم كثيرة تحتها مقاصد ومصالح محبوبة لله ، فمن استعمله على الوجه المؤدّي إلى المقاصد المطلوبة فقد شكر نعمته تعالى والا فقد كفربها ، وتلك الحكم إمّا جليّة كحكمة حصول الليل والنهار في وجود الشمس وحكمة انشقاق الأرض بأنواع النبات في وجود الغيم ونزول المطر والإبصار في العين والبطش في اليد وحصول الأولاد وبقاء النسل في آلات التناسل ونحوها ، أو خفيّة كحكم الكواكب السيّارة والثابتة واختصاص كلّ منها بوضع خاصّ وقدر معيّن وحكمة آحاد العروق والأعصاب والعضلات وما فيها من التجاويف والالتفات والدقّة والغلظ والانحراف وغيرها حيث لايعرفها كلّ أحد والعارف لايعرف منه الا اليسير من الحكم المتوسّطة التي يعرفها المتفكّرون في خلق السماوات والأرض وأكثر الحكم الدقيقة لايعرفها

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٧ ، مع اختلاف.

٥٠٧

الا خالقها ، سيّما المجرّدات والروحانيات.

ثمّ ماعدا الانسان مستعمل ذواتها وأجزاءها وما يتعلّق بها على الوجه الذي هو مقتضى المصلحة المقصودة منها والإنسان لكونه محلّ الاختيار قد يستعمل ما بيده استعماله على ذلك الوجه أيضاً فيسمّى شاكراً ، وقد يستعمله على خلافه فيكون كافراً ، فضرب الغي باليد كفران بنعمة اليد ، فإنّ خلقها لأخذ ما ينفعه ودفع ما يؤذيه لا إيذاء الغير وإهلاكه.

وكذا النظر إلى غير المحرم كفران بنعمة العين وادّخار النقدين كفران لنعمة الله فيهما لكونهما حجرين لا غرض في أعيانهما ، بل القصد كونهما حكمين يحصل بهما التعديل والتقدير بين الأعمال والأموال المتباينة المتباعدة فنسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة ، ولذا يكون المالك لهما كأنّه مالك كلّ شيء بخلاف مالك الطعام والثوب مثلاً ، واستواء نسبة الشيء إلى المختلفات إنّما يكون مع فقد صورة خاصّة مقيّدة لها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكي عن كلّ لون ، والحرف لا معنى له في نفسه ، وتظهر به المعاني فكذا النقدان لاغرض في أعيانهما ، بل التحكيم بين الأموال ومعرفة المقادير المختلفة وتقويم الأشياء المتباينة والتوصّل بهما إلى سائر الأموال ، فلابدّ من إطلاقهما ليتداولهما الأيدي ويحصل المقصود منهما فادّخارهما وحبسهما إبطال للحكمة وكفر للنعمة وحبس لحاكم أهل الاسلام في سجن الظلمة اللئام.

ومنه يظهر أنّ من اتّخذ الأواني منهما أو عامل فيهما معاملة الربا فقد كفر النعمة وأبطل الحكمة أيضاً لما عرفت من أنّه لا غرض في أعيانهما للشارع فالمتّجر فيها قد اتّخذها مقصوده لأنفسها على خلاف وضع الحكمة ، وكذا حكمة الطعام إغتذاء الناس به ، ولذا ورد المنع عن الاحتكار ، وكذا الربا فيها لأنّه صرف للحكمة المقصودة فيها ، وقس على ذلك جميع الأفعال ، فلايخلو فعل عن شكر أو كفران ، ولا يتصوّر انفكاكه عنهما فخلق

٥٠٨

اليمين مثلاً أقوى من اليسار ، واستحقّ بذلك الفضيلة عليه فتفضيل الناقص عليه عدول عن الحكمة المقصودة ، بل لابدّ من تخصيصه بالأفعال الشريفة وصرف الأضعف إلى الأعمال الخسيسة ، وكذا استقبال القبلة بالبول كفران للنعمة في خلق الجهات ، إذ خلق الجهات متّسعة متعدّدة وشرّف بعضها بوضع بيته فيها ، فالعدل استقباله الشريفة كالصلاة والذكر والاغتسال والوضوء وأمثالها دون الخسيسة كقضاء الحاجة ، وكذا كسر الغصن من شجرة ظلم وكفر بنعمة اليد إذ لم يخلقها للعبث ، والشجر إذ خلقه بعروقه وساق إليه الماء وأعطاه قوّة الاغتذاء والانتماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده ، فكسره قبله لا على وجه الانتفاع مخالفة لمقصود الحكمة ، نعم إذا كان فيه غرض صحيح جاز إذ الشجر والحيوان جعلا فداء للانسان ، فإنّها جميعاً فانية ، فإفناء الأخسّ في بقاء الأشرف ولو مدّة ما أقرب إلى العدل من تضييعهما معاً.

ثمّ هذه الأفعال المتّصفة بالكفران قد يوجب نقصان القرب وانحطاط المنزلة ، وقد يوجب البعد بالمرّة ، ويعبّر عن الأوّل بالكراهة في لسان أهل الشرع ، والثاني بالحرمة ، ولكلّ منهما درجات مختلفة ، الا أنّها في لسان أهل القلوب متّصفة بالحضر مطلقاً ولا يسامحون في شيء منهما أبداً.

تفصيل

النعمة عبارة عن كلّ خير ولذّة وسعادة ، بل كلّ مطلوب ، وهو إمّا لذاته ويختصّ بالآخرة وهو النظر إلى وجه الله وسعادة لقائه وسائر لذّات الجنّة من البقاء الذي لافناء له ، والسرور الذي لاغمّ فيه ، والعلم الذي لا جهل فيه ، والغني الذي لا فقر بعده ، فإنّها لاتطلب لغاية مقصودة وراءها فهي النعمة الحقيقية واللذّة الواقعية. ولذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا عيش الا عيش الآخرة ». (١)

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٨٢.

٥٠٩

أو لغيره ولايخلو عن أربعة :

أوّلها الأقرب الأخص : الفضائل النفسانية ، وهي الأربعة المذكورة في هذا الكتاب ، ويحمعها الإيمان وحسن الخلق ويدخل في الأوّل العلم بالله ورسله وصفاته وأفعاله ، وعلم المعاملة ، أي ما به يحصل التوسّط في الأخلاق وكمال النفس في قوّته العمليّة ، وفي الثاني ترك مقتضيات الشهوة والغضب ومراعاة الاعتدال فيها ، ولايتمّ هذه الأربعة غالباً الا بثانيها أعني الفضائل البدنية وهي أيضاً أربعة : الصّحة والجمال والقوّة وطول العمر.

ولايتهيّأ هذه الأربعة الا بثالثها ، أي النعم الخارجة المطيفة بالبدن وهي أيضاً أربعة : المال والأهل والجاه وكرم العشيرة ، ولا ينتفع بشيء منها الا برابعها ، أي الأسباب التي تجمع بينها وبين ما يناسب الفضائل النفسية الداخلة ، وهي أيضاً أربعة : هداية الله ورشده وتأييده وتسديده ، فحاجة السعادة الأخروية إلى الأربعة الأولى ضررورية (١) واضحة ، إذ لا سبيل إليها الا بها ، وليس لأحد في الآخرة الا ماتزوّد من الدنيا وكذا حاجة الثانية إلى صحّة البدن ، وحاجتها مع صحّة البدن إلى المال والجاه والأهل والأولاد نافعة إجمالاً إذ بفقدها ربّما تطرّق الخلل إليها وذلك لجريانها مجرى الجناح المبلّغ ولا آلة المسهّلة للمقصود.

فطالب العلم والكمال بدون كفاية كالساعي إلى الهيجاء من غير سلاح.

ولذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم العون على تقوى الله المال » (٢) كيف ومن عدمه صار مستغرق الأوقات في تهيئة أسباب معيشته وضروريّاتها والتعرّض لأنواع الهموم والغموم والأذيّات المانعة عن الفكر والذكر.

__________________

١ ـ قال في المحجّة البيضاء : (٧ / ١٨٣) نقلاً عن أبي حامد : وهذه الجملة (أي مجموع هذه النعم) يحتاج البعض منها إلى البعض إمّا حاجة ضروريّة أو نافعة.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٨٣.

٥١٠

هذا ، مضافاً إلى حرمانه عن فضائل الحجّ الزكاة والصدقات وإفاضة الخيرات والمبّرات والبركات ، وكذا المرأة الصالحة والولد الصالح.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم العون على الدين المرأة الصالحة ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا مات الرجل انقطع عمله الا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ... ». (٢)

وقد أشرنا إلى فوائد النكاح مجملاً في فضيلة العفّة ، وأمّا الأقارب فإنّهم بمنزلة الأعين والأيدي له فتيسّر بهم من الأمور المهمّة مالو انفرد بها طال شغله.

وأمّا العزّ والجاه فبهما يندفع الذلّ والضيم ، ولا يستغني عن ذلك مسلم ، إذ لاينفكّ عن عدوّ يؤذيه وظالم يشوّش عليه شغله ويشغل به قلبه الذي هو رأس ماله والجاه ملك القلوب كما عرفت ، وبه يندفع الذئب عن ماشيته ، والشرّ عن نفسه ، وقصد الأنيباء والعلماء السلف في مراعاة السلاطين والتردّد إليهم وطلب الجاه عندهم إنّما هو ذلك لاتناول حطامهم الاستكبار على الخلق بسببهم ، ولقد منّ الله على نبيّه بذلك في مواضع كثيرة ، وشرف الأهل والعشيرة أيضاً من النعم ، ولذا ورد أنّ الأئمّة عليهم‌السلام من قريش. (٣) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تخيّروا لنطفكم ». (٤) ونهى صلى‌الله‌عليه‌وآله عن خضراء الدمن. (٥)

ولا أقصد منه الانتساب إلى أرباب الدنيا ، بل إلى شجرة النبوّة والعلماء الصالحين.

وأمّا الفضائل البدنيّة فواضح عدم تماميّة العلم والعمل الا بها ، ولذا

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٨٤.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٨٤ ، مع اختلاف.

٣ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٨٥.

٤ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٨٥.

٥ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٨٥.

٥١١

ورد الدعاء بطول العمر والصحّة والقوّة جميعاً في الأدعية المأثورة.

فإن قلت : هذا واضح فيما سوى الجمال فأيّ فائدة فيه؟

قلت : أمّا نفعه في الدنيا فظاهر ، وأمّا في الآخرة فلنفرة الطباع عن القبيح وقرب حاجة الجميل إلى الاجابة واتّساع محلّه في الصدور ، فكأنّه نوع قدرة على تنجّز الحاجات الغير المقدورة للقبيح فهو جناح مبلّغ كالمال ، وربّما دلّ على فضيلة النفس لأنّ نور النفس إذا تمّ إشراقه تأدّى إلى البدن ، ولذا عوّل أصحاب الفراسة في معرفة مكارمها على هيئة البدن وقالوا : الوجه والعين مرآة الباطن ، ولذا يظهر فيه أثر السرور والهمّ والغمّ.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اطلبوا الخير عند حسان الوجوه ». (١)

وأفتى الفقهاء في صورة تساوي المصلّين في الصفات المعتبرة بتقدم الأحسن وجهاً ولا أقصد من الجمال المحرّك للشهوة فإنّه أنوثة ، بل ارتفاع القامة على الاستقامة مع الاعتدال في اللحم وتناسب الأعضاء وموافقة خلقة الوجه بحيث لاينبو الطباع عن النظر إليه.

فإن قلت : ما ذكرته من كون المال والجاه من النعم ينافي ماتواتر من ذمّهما وذمّ حبّهما.

قلت : تقدّم التفصيل في ذلك وأنّهما كحيّة فيها سمّ وترياق ، ولهما غوائل ومنافع ، وإنّما هما من النعم لمن عرف الوجهين وأخذ منهما ما ينتفع به لآخرته ، وأمّا من أخذهما من غير معرفة صار ذلك باعثاً للهلاكة فلا يكونان حينئذ من النعم ، ولذا ورد المدح أيضاً وإن كان الذمّ أكثر ، فإنّ غير العارف أكثر من العارف.

وأمّا الأربعة الأخيرة الراجعة إلى الهداية والتوفيق ، فلا يستغني عنها أحد ، إذ التوفيق عبارة عن الاجتماع والمطابقة بين إرادة العبد وقضاء الله تعالى وقدره فيشمل الخير والشرّ والسعادة والشقاوة ، فما يوافق السعادة من

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٨٦.

٥١٢

جملة قضاء الله وقدره يسمّى توفيقاً ، ولا سبيل لأحد إلى طلب السعادة الا بهداية الله فإنّ مجرّد الميل إلى مافيه الصلاح لايكفي الا بعد العلم به والا فربما يظنّ الفساد صلاحاً فلا فائدة في الارادة والقدرة وسائر الأسباب الا بعد الهداية.

ولذا قال تعالى : ( ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكنّ الله يزكّي من يشاء ). (١)

وللهداية ثلاثة منازل :

أوّلها : معرفة طرق الخير والشرّ ، وقد أنعم الله به على كافّة العباد تارة بالعقل وتارة بالرسل.

( وهديناه النجدين ). (٢)

( وأمّا ثمود فهديناهم فاستحبّوا العمى على الهدى ). (٣)

ومن جملة أسباب العمى الحسد والكبر وحبّ الدنيا والإلف والعادة ، وغير ذلك من الأسباب.

ثم الهداية الحاصلة بالمجاهدة مرّة بعد أخرى.

( والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ). (٤)

( والّذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ). (٥)

ثم النور المشرق في عالم النبوّة والولاية بعد كمال المجاهدة فيهتدى به إلى ما لايمكن بالتعلّم والتعليم والعقل الذي به مناط التكليف. وهذا ممّا شرّفه الله بالإضافة إلى نفسه :

__________________

١ ـ النور : ٢١.

٢ ـ البلد : ١٠.

٣ ـ فصّلت : ١٧.

٤ ـ العنكبوت : ٦٩.

٥ ـ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ١٧.

٥١٣

( قل إنّ هدى الله هو الهدى ). (١)

( أو من كان ميتاً فاحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس ). (٢)

( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه ). (٣)

وأمّا الرشد فهو العناية الالهية التي يعين الانسان على التوجّه إلى المقصد ويقوبّه على مافيه صلاحه وينفّره عمّا في فساه ويكون ذلك من الباطن. ( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل ). (٤)

فهو عبارة عن الهداية الباعثة إلى جهة السعادة ، المحرّكة إليها ، فكم من شخص يقدم على مايعلم أنّه يضرّه ، فقد أعطي الهداية لكنّها قاصرة عن تحريك داعيته فهو أكمل من مطلق الهداية ، ومن أعظم النعم الالهيّة.

وأمّا التسديد فهو توجيه الحركات إلى صوب المطلوب وتيسيرها عليه في أسرع زمان ، فالهداية محض التعريف والرشد تنبيه الداعية للتحريك والتسديد إعانته ونصرته بتحريك الأعضاء في صوت الصواب وكأنّ التأييد يجمع الكلّ فهو عبارة عن تقوية الأمر بالبصيرة من الباطن ومساعدة الأسباب من الخارج. ويقرب منه العصمة ، وهي جود إلهي يسنح في الباطن يقوى به الإنسان على تحرّي الخير وتجنّب الشر حتى يصير كمانع من باطنه غير محسوس ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ( ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه ). (٥)

فهذه هي مجامع وهي ستّة عشر (٦) ، وهي تستدعي أسباباً

__________________

١ ـ البقرة : ١٢٠.

٢ ـ الأنعام : ١٢٢.

٣ ـ الزمر : ٢٢.

٤ ـ الأنبياء : ٥١.

٥ ـ يوسف : ٢٤.

٦ ـ كذا ، والصحيح : ستّ عشرة ، نعم في الإحياء كما في المتن ولكن تمييزه هنالك أسباب وهاهنا مجامع النعم.

٥١٤

وأسبابها أسباباً إلى أن ينتهي إلى دليل النتحيّرين ربّ الأرباب ومسبّب الأسباب.

تذييل

إذا قد عرفت مجامع النعم وأنّ ممّا وقع منها في المرتبة الأخيرة صحّة البدن فاعلم أنّ هذه الواحدة لو أريد استقصاء الأسباب التي بها تمّت الإنعام والتنعّم بها لم يقدر عليه ولكن الأكل من أحد أسبابها وله أسباب لا تحصى ، وقد ذكر بعضهم بعضاً من أسبابه تنبيهاً للغافلين ، وتصديقاً قلبياً لقوله تعالى : ( وإن تعدّوا نعمة الله لاتحصوها ). (١)

ولنشر إلى بعض ما ذكروه اقتداء بالمشايخ الأطياب وتعميماً لنفع الكتاب في عدّة تنبيهات :

الأوّل (٢) : يتوقّف الأكل على إدراك المأكول رؤية ولمساً وشمّاً وذوقاً لعدم التمكّن من التمييز والطلب ودرك بعض الأوصاف اللازمة في الأكل وتشخيص الطيّب عن الخبيث وموافقته للطبع أو مخالفته الا به فيتوقّف على خلق الحواسّ الظاهرة المتوقّفة على أسباب غير متناهية لايمكن حصرها ، ثمّ على إدراك كون ماذاقه أوّلاً مخالفاً لطبعه أو موافقاً له ثانياً من دون ذوق جديد ، فإنّ الذوق مدرك المرارة دون اللون والبصر مدرك الثاني دون الأوّل فلابدّ من حاكم يجتمع عنده اللون والطعم ، حتّى إذا رأى أحدهما حكم بالآخر حتى يمتنع من تناوله ثانياً وهو الحسّ المشترك الثابت لكلّ حيوان ، ولايمتاز الانسان عن غيره الا بتمييز مابه يصلح عاقبة أمره عمّا به تفسد من ضرر المطاعم ونفعها وكيفيّة طبخها وتركيبها وإعداد أسبابها بقوّة مختصّة به ، أي العقل وهو أخسّ فوائده وحكمه ، فإنّها أكثر من أن تحصى وأعظمها

__________________

١ ـ النحل : ١٨.

٢ ـ كما في « ب » ، وفي « ج » : الأولى وكذا الثانية والثالثة و ... نعم استظهر كاتب « ج » أن الصحيح : الأوّل ، فشطب على « الأولى » وكتب « الأوّل » واضعاً علامة « ظ » فوقه.

٥١٥

معرفة الله وصفاته وأفعاله ، فهو بمنزلة السلطان وسائر الحواسّ والقوى كلجواسيس والموكّلين بنواحي المملكة ، كلّ موكّل بأمر خاصّ ، إمّا اللون أو الصوت أو الرائحة أو غيرهما ، وينفذ بلك بهم ما أدركه إلى الحس المشترك القائم في مقدّم الدماغ كالكاتب وصاحب القصص على باب السلطان فيسلّمها إليه مختومة فيطالعها ويطّلع على أسرار المملكة ويحكم يفها بأمور عجيبة لايمكن حصرها وليس دركها في مقدرة البشر ، ويحرّك الجنود أي الأعضاء بحسب أحكامه المختلفة في الطلب ، وله أسباب لايحصرها الا الله.

الثاني : ثمّ الادرك لايكفي بدون الميل والشهوة كالمريض يرى الطعام ويدرك ولا يتناوله فيتوقّف بعد الادراك على ميل إلى الموافق يسمّى شهوة ، وبعد عن المخالف يسمّى نفرة وكراهة ، فخلق الله الشهوة وسلّطها على الانسان حتى اضطّر بها إلى التناول ، ثم لو لم تسكن بعد أخذ مقدار الحاجة لأهلكته فخلق الكراهة بعد الشبع ليترك الأكل ولا يصير كالزرع الذي يجتذب الماء دائماً ، إذا انصبّ في أسافله إلى أن يفسد ، ولذلك يحتاج إلى من يحرسه عن الزيادة والنقيصة ، ثم مجرّد الشهوة لايكفي مالم ينبعث داعيها إلى التناول ، فخلق الارادة أي انبعاث النفس إلى التناول ، واحتاج إلى قوّة الغضب أيضاً في دفع الموذي والمخالف ، ومن يريد أخذ ما يحتاج إليه من الغذاء.

ثم لكلّ من الشهوة والغضب والكراهة أسباب لاتحصى. ثم لاتفيد الإرادة بدون الطلب والأخذ في الفعل بالآلات ، فكم من مشيّة مريد لايتمكّن منه لفقد الآلة كفقد اليد أو فلج الرجل مثلاً فلابدّ من الآلات والقدرة فيها لتكون حركتها بمقتضى الارادة طلباً ، فخلق الآلات للطلب كالرجل للانسان والقوائم للدوابّ والجناح للطير وللدفع عن الموانع والموذيات كالقرن والأنياب للحيوانات والأسلحة للانسان ، ولكلّ منها

٥١٦

أسباب لايمكن حصرها.

الثالث : ومن عمدة ما يتوقّف عليه الأغذية والأطعمة المأكولة ولله في خلقها عجائب غير محصورة وأسباب غير متناهية وهي من الكثرة بحيث لايمكن حصرها فضلاً عن ذكر عجائبها وأسبابها ، فنذكر بعضاً من عجائب حبّ الحنطة وأسبابها وحكمها ، فإنّه تعالى خلق فيها من القوى ما تغتذي به كما في الانسان ، حيث يتوقّف اغتذاء النبات على أرض فيها ماء ، ولابدّ من أن يكون الأرض ورخوة متخلخلة بتخليل (١) الهواء إليها ، فلو تركت في أرض صلبة متراكمة لم تنبت لفقد الهواء ، ثم الهواء لايتحرّك إليها بنفسه ، فلابدّ من حصول أسباب الريح حتى يحرّكه ويقرّبه ويبعّده بقهر وعنف.

وقوله تعالى : ( وأرسلنا الرياح لواقح ) (٢) إشارة إلى لقاحها الذي هو عبارة عن الزدواج بين الهوء والماء والأرض ، ثم لايكفي في الإنبات البرد المفرط بل يحتاج إلى حرارة الصيف والربيع ، فهذه أربعة أسباب ، إذ لابدّ من انسياق الماء إلى أرض الزرع من البحار والعيون والشطوط والأنهار والسواقي ، وربّما كانت الأرض مرتفعة لايرتفع إليها الماء من العيون ونحوها ، فأرسل السحب الثقال الحوامل بالماء وسلّط عليها الرياح ليسوقها إلى أقطار العالم ويرسلها مداراراً على الأراضي في الخريف والربيع على حسب الحاجة ، وخلق الجبال حافظة للمياه ويتفجّر منها العيون تدريجاً على حسبها فلو خرجت دفعة غرقت البلاد وهلكت الزروع والمواشي ، ونعم الله وعجائب صنعه في السحاب والجبال والبحار والأمطار لايمكن إحصاؤها.

وأمّا الحرارة فلا يمكن حصولها بنفسها في الماء والأرض لكون طبعهما باردين فخلق الله الشمس وسخّرها وجعلها مع بعدها عن الأرض مسخّنة لها في وقت دون وقت ليحصل الحرّ عند الحاجة إليه والبرد كذلك ، وهذه

__________________

١ ـ كذا في « ج » و « ب » ، وفي « الف » والمحجّة (٧ / ٢٠٥) : يتغلغل.

٢ ـ الحجر : ٢٢.

٥١٧

أخسّ حكم الشمس ولها حكم عظيمة عجيبة أكثر من أن تحصى. ثم مع ارتفاع النبات إلى الأرض يحصل في الفواكه انعقاد وصلابة فيحتاج إلى رطوبة ينضجها ، فخلق الله القمر وجعل من خاصيته الترطيب كما يظهر لك إذا كشفت رأسك باليل فإنّه يغلب عليك الزكام ، فهو بترطيبه ينضج الفواكه ويرطّبها ويصبغها بتقدير الخالق الحكيم ، وهذا أيضاً من أخسّ فوائد القمر ، فإنّ له حكماً لامطمع في استقصائها ، بل كلّ كوكب في السماء مسخّر لفوائد كثيرة لاتفي القوى البشرية بإحصائها ، بل كلّ ما في عالم الكون من ملكوت المساوات والأرضين والآفاق والأنفس والحيوانات والنباتات مشتملة على عجائب صنع الله ، وأرباب القلوب لاينظرون إلى شيء منها الا من حيث كونها من آثار قدرته ويتفكّرون في عجائبها ويبتهجون من ظهور حكمها لهم كما أنّ من أحبّ عالماً لم يزل يشتغل بمطالعة تصانيفه فالعالم كلّه من تصنيفه تعالى حتّى تصانيف المصنّفين أيضاً.

الرابع : ثم ما ينبت من الأرض والنبات وما يحصل من الحيوانات لايمكن أكلها كذلك ، بل لابدّ من إصلاحه بطبخ وتركيب وتنظيف بإلقاء بعضه وإبقاء بعضه وغير ذلك من الأعمال ، وكلّ طعام يحتاج إصلاحه إلى أمور كثيرة لايمكن استقصاؤها ، ونقتصر منه على ذكر بعض ما يحتاج إليه الرغيف ، فأوّل ما يحتاج إليه الأرض ثم البذر الثور الذي يثير الأرض مع آلاته كالفدان وغير ذلك ثم تنقية الأرض من الحشائش والتعهّد لسقي الماء إلى أن يعقد الحبّ ويبدو صلاحه ثم الحصاد ثم الفرك ثم التنقية والتصفية ثم الطحن والعجن والخبز ، فاستحضر هذه الأفعال وغيرها ممّا لم نذكره ثم عدد الأشخاص القائمين بها وعدد الآلات التي يحتاج إليها من الحديد والخشب والحجر وغيرها.

وانظر إلى أعمال الصنّاع في إصلاح آلات الحراثة والتصفية والطحن والخبز واحتياج كلّ منها إلى آلات كثيرة ، وانظر كيف ألّف الله سبحانه بين

٥١٨

قلوب هؤلاء الصنّاع المصلحين وسلّط عليهم الانس والمحبّة حتى ائتلفوا واجتمعوا وبنوا المدن ورتّبوا المساكن والدور متقاربة متجاورة والدكاكين والخانات وسائر البقاع ، ولو تفرّقت آراؤهم وتنفّرت طباعهم تنافر طباع الوحوش لتبدّدوا وتباعدوا ولم ينتفع بعضهم من بعض ، ولمّا كان في جبلّة الانسان الحسد والعداوة والبغضاء والشهوات المختلفة الباعثة للانحراف عن الحقّ ، فربما زالت المحبّة وأدّى إلى التنافر والمعاداة والمقائلة بعث الله الأنبياء بقوانين السياسات ليرجعوا إليها عنها التنازع وبعث العلماء لحفظ تلك الشرائع والعلم بها وبعث السلاطين ليقيموا الناس عليها قهراً إذا لم يرضوا بها وألقى في قلوبه الرغبة إلى نظام أمور الرعية بتعيين الحكّام والقضاة والشحن وضبط الأسواق وقهر الناس على قانون الشريعة وألزموهم التعاون والتآلف ومنعوهم عن التفرّق والتباغض ، فإصلاح الرعايا بالسلاطين وإصلاح السلاطين بالعلماء وإصلاح العلماء بالأنبياء وإصلاح الكلّ بالحضرة الربوبية التي هي ينبوع كلّ نظام ومطلع كلّ حسن وجمال ومنشأ كل ترتيب وتأليف.

الخامس : ثم جميع الأطعمة لمّا لم يكن وجودها في كلّ مكان إذ لكلّ واحد منها شروطاً مخصوصة لعلّها لاتوجد في بعض الأماكن والناس منتشرون في الأرض ، فربما يبعد عن بعضهم ما يحتاجون إليه منها بحيث يحول بينهم وبينها البراري والقفاز والبحار سخّر الله التجّار وسلّط عليهم حرص المال وشره الربح حتى التزموا الأخطار في قطع المفاوز وركوب البحار وحمل لأطعمة وغيرها من الشرق إلى الغرب وبالعكس ، فانظر كيف علّمهم صنعة السفن وكيفية الركوب عليها وكيف خلق الحيوانات وسخّرها للحمل والركوب في البراري من الجمال ، وكيف خلق الحيوانات وسخرها للحمل والركوب في البراري من الجمال ، وكيف قطعها للمنازل تحت الأعباء الثقيلة ، وصبرها على الجوع والعطش ، وإلى الحمار وصبره على التعب.

٥١٩

وانظر إلى ما خلق الله ممّا يحتاج إليه السفن والحيوانات من الأسباب والغذاء بما لايمكن تحديده ووصفه.

السادس : ثم مجرّد وجود الغذاء وإصلاحه لايكفي ولا يفيد مالم يؤكل ويصر جزء للبدن وهو موقوف على أعمال كثيرة محتاجة إلى أسباب كثيرة من الطحن والجذب والهضم المعدي والكبدي وغير ذلك من الأسباب الغير المحصورة ، فللملائكة أصناف وطبقات غير محصورة ( وما يعلم جنود ربّك الا هو ) (١) فمنهم طبقات الملائكة الأرضية والسماوية وحملة العرش العظيم ، ومنهم المسلمون والمهيمنون وكلّ صنع من صنائعه تعالى في الأرض والسماء لايخلو عن ملك أو ملائكة موكّلين به ، ونحن نشير إلى بعض الملائكة الموكّلين بأكلك ، فإنّ كلّ جزء من أجزاء بدنك لايغتذي إلأ بسبعة من الملائكة هم أقل الأعداد إلى عشرة إلى مائة إلى أكثر من ذلك ، فإنّ معنى الاغتذاء أن يقوم جزء من الغذاء مقام جزء تلف من بدنك وهو موقوف على ملكات وتغيّرات واستحالات الغذاء حين يصير جزو للبدن كالجذب والهضم وصيرورته لحماً وعظماً ، ومعلوم أنّ الغذاء واللحم والدم أجسام ليس لها قدرة ومعرفة واختيار حتّى يتحرّك ويتغيّر بأنفسها ، ومجرّد الطبع لايكفي في تردّدها في أطوارها ، كما أنّ البرّ لايصير بنفسه طحيناً وعجيناً وخبزاً الا بصنّاع ، والصنّاع في الباطن هم الملائكة كما أنّ صنّاع الظاهر هم أهل البلد فالغذاء بعد وضعه في الفم إلى أن أن يصير جزء للبدن يتوقّف على عمل سبعة من الملائكة : ملك يجذب الدم إلى جوار اللحم أو العظم ، إذ لا يتحرّك بنفسه ، وملك يمسك الغذاء في جواره ، وثالث يخلع عنه صورة الدم ، ورابع يكسوه صورة اللحم والعظم والعرق ، وخامس يدفع الفضل الزائد من الحاجة ، وسادس يلصق ما اكتسب صفة

__________________

١ ـ المدّثّر : ٣١.

٥٢٠