كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

الباب الخامس

في المعالجات المختصّة

برذائل القوّة العاقلة

وذكر ما يقابلها من الفضائل

٨١

قد أشرنا إلى أنّ العلم بالفضيلة ومحاسنها أعون شيء على إزالة ضدّها ، فإنّ تقوية أحد الضدّين يوجب ضعف الآخر ، كما أنّ ضعف الآخر يستلزم تقويته ، وأيضاً فإنّ التخلّي عن الرذائل كما أنه مأمور به لقبحها وايجابها للهلاكة ، فكذا التحلي بالفضائل مرغوب فيه لحسنها واستلزامها السعادة ، بل ربّما كان الثاني أهمّ وأشرف ، وإن كان متأخرّاً عن الأوّل في الوجود ، فإنّ قبح الرذيلة والمنع عن التّصاف بها ليس غالباً الا لقبح لوازمها وفساد آثارها المترتّبة عليها ، وحسن الفضيلة لذاتها وإن ترتّبت عليها الآثار الحسنة أيضاً الا أنّ الفرق بينهما بحسب التعقّل والاعتبار ، لعدم انفكاك أحدهما عن الآخر في الخارج ، ولذا عدّ كلّ منهما علاجاً للآخر ، ولأجل تأخّرها في الوجود عنها ناسب ذكرها عقيب ما يقابلها من الرذائل مع بيان ماهيّتها وما يكون باعثاً لتحصيلها مع الحثّ عليها حتّى يكون معيناً للطالب عليه ومحرّكاً له إليه ، حيث إنّها المطلوب الحقيقي ، وبها يستعان على معالجة تلك الرذائل أيضاً ، فهنا مقامان :

٨٢

المقام الأوّل

في ذكر الرذائل ومعالجاتها

وإذ قد عرفت أنّ لكلّ فضيلة رذيلتين جنساً ولهما أنواع ولوازم كثيرة لاتحصى ، فلابدّ من ذكر الجنسين من رذائل العاقلة مع ماهو من أعظم أنواعها ولوازمها في عدّة فصول :

فصل

أوّل الجنسين الجربزة الباعثة لعدم الوقوف على شيء وعدم الاستقرار عليه فيؤدّي إلى الإلحاد وفساد الاعتقاد في الأصول وإلى الوسواس في الفروع ، وينجرّ بسببه إلى الحرمان من معظم الطاعات والعبادات ـ وعلاجها ـ بعد التذكّر لقبحها وما يترتّب عليها من المفاسد ، وما دلّ على مدح العلم وشرفه ، وذمّ الجهل ونقصه ، حيث إنّه خلوّ النفس عن الجزم بما يطابق الواقع سواء خلت عن مطلق الجزم خاصّة ، أو مع الشكّ أيضاً ، أو اشتملت عل الجزم بما يخالفه فيشمل الجنسين معاً ـ هو عرض ما فهمه على الأفهام السليمة والأذهان المستقيمة وعقائد أهل الحقّ والأخذ بما وافقها وطرح ما خالفها ، ولايزال يكرّر ذلك مكلّفاً نفسه عليه حتّى تعتاد بالقيام على الوسط. وربّما كان الاشتغال في العلوم الرياضيّة من الحساب والهندسة والاعتياد عليها نافعاً في رفع هذا المرض. ولما كان الغالب من حال من ابتلي بها الشكّ والحيرة ، فكلّ ما يعلج به ذاك فهو علاجها.

فصل

ثاني الجنسين البلادة المستلزمة لخلوّ النفس عن العلم أيضاً ، وهو

٨٣

الجهل ، وعلاجها ـ بعد التذكّر لما يستلزمه من النقص وعدم الوصول إلى المارف الحقّة ، وما يدلّ على شرف العلم وقبح الجهل عقلاً ونقلاً ـ تصقيل الذهن بالفكر دائماً مع رياضة النفس بالتقليل في المنام والمطعم مع الاحتراز عن الأطعمة المبخّرة الغليظة رأساً والجماع ، فإنّ كثرته تورث البلادة والنسيان ، وكذا سائر المشتهيات الشاغلة للنفس عن الفكر والنظر ، مع التضرّع والابتهال والاستمداد من النفوس القدسيّة والاجتهاد في ذلك إلى أن يفتح الله عليه أبواب فيضه وفضله ، قال تعالى : ( والّذين جاهدوافينا لنهدينّهم سبلنا ). (١)

وقد جرّبنا أنّ كثيراً نم المحصّلين في بدو اشتغالهم كانوا في غاية البلاهة وجمود القريحة ، ثمّ وصلوا بالرياضة والفكر إلى أعلى مراتب الفضيلة.

فصل

الجنس الشامل لهما الجهل أي خلوّ النفس عن العلم وأحسن أنواعه البسيط منه وهو في بدو الخلقة غير مذموم لكونه فطريّاً ، ولتوقف التعلّم عليه ، لكن الثبات عليه من المهلكات. وعلاجه ـ بعد التذكّر لما يدلّ على ذمّه من الآيات والأخبار الكثيرة ومدح العلم وشرفه ممّا سيذكر نبذ منها في المقام الثاني ـ أن يتفكّر فيما يترتّب عليه من القبائح عقلاً ، فيتأمّل في أنّ شرافة الانسان على سائر الحيوانات بخاصيته المختصّة به ، رأي النطق وقوّة التمييز كما أشرنا إليه ، فإذا كان عادماً لها كان منها.

وممّا يزيده كشفاً أنّه لو جلس والحال هذه في مجلس العلماء لم يقدر على الخوض معهم فيما يتذاكرون ، ولم يكن له بدّ عن السكوت والتألّم من العجز عن درك ما يتحاورون ، فما أشبه ما كان يتنطق به في غير ذلك المجلس بأصواب البهائم ، إذ لو كان نطقاً حقيقياً لكان قادراً على استعماله مع أولئك

__________________

١ ـ العنكبوت : ٦٩.

٨٤

الأعاظم ، وما أحراه حينئذ أن يكون أطلاق الانسان عليه كإطلاقه على التماثيل المنصوبة في الجدران ، بل لو كان منصفاً اعترف بأنّه ليس من هو أدون منه في عالم الأكوان ، لتنزّله بفقد خواصّ الانسانيّة عن مرتبتها ، فهو من هذه الحيثيّة يشبه البهائم.

وتنزّله بوجود الخواصّ البهيميّة التي هي غاية وجودها فيها وفقد ما هو غاية وجوده فيه عن المرتبة البهيميّة فهو من هذه الحيثية يشبه الجمادات.

وتنزّله عن المرتبة الجمادية بظهور غايات وجود الجمادات فيها دونه وهكذا.

وأدون أنواعه المركّب ، أي خلوّ النفس عن العلم بالشيء والعلم بأنّه لا يعلمه ، وعلاجه في غاية الصعوبة ، إذ مالم ينكشف للنفس خلوّها عن الكمال لم تمل إلى نيلها ، فتبقى على ضلالتها مادامت متعلّقة بالبدن.

وأنفع شيء في علاجه إن كان الباعث عليه اعوجاج السليقة تعلّم الرياضيّات ، لأنّها تورث الألف باليقينيّات واستقامة السليقة ، فيتنبّه على فساد العقيدة ، فيصير بسيطاً ، فيسهل رفعه بالطلب.

وإن كان من رسوخ الشبهات الفاسدة عرضها على أولي الأفهام السليمة والأذهان المستقيمة ممّن يقرّ بجودة قريحتهم مع استعمال القواعد المنطقيّة باحتياط بليغ واستقصاء تامّ ، وليكلّف نفسه على تصديق ما اختاره قسراً إلى أن يتأنّس بالأدلّة التحقيقيّة ، ويعتدل سليقته.

وإن كان من العصبيّة والتقليد فليجتهد في إزالتهما.

فصل

الحيرة إن كان الباعث عليها الجربزة كانت من لوازمها ، وإن كان العجز عن ترجيح الأدلّة أو عن الدليل الموصل إلى الحقّ المثمر لليقين كانت من لوازم جنس التفريط ، أعني البله والبلادة ، وهي أيضاً من المهلكات ، لأنّ ها

٨٥

ضدّ اليقين الذي هو مناط الايمان.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا ترتابوا فتشكّوا ولا تشكّوا فتكفروا ». (١)

وهو يدلّ على كفر الشاكّ ، وبمضمونه أخبار كثيرة.

وفي حديث أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام في من شكّ في الله تعالى قال : « كافر ، قال : فشكّ في الرسول ، فقال : كافر ، ثمّ التفت إلى زرارة فقال : إنّما يكفر إذا جحد » (٢).

وليس المراد من الجحود الإنكار الصريح ، أي الجزم بخلاف الحقّ وإن أدّى الشك إليه أحياناً ، والا لزم أن لا يكون كافراً ما لم يجزم به ، مع أنه ليس كذلك جزماً ، إذ الكفر ما قابل الإيمان ، واليقين مناطه ، فالشاكّ الذي لايقين له لاإيمان له ، ومن لاإيمان له فهو كافر ، بل المراد جحود كون الحكم يقينيّاً (٣) وإنكار كون دليله مثمراً لليقين.

واعلم أنّ هذا الشكّ الموجب للكفر غير الوسوسة وحديث النفس الحاصل أحياناً لعدم منافاتهما للايمان ، كما سيجيء.

وعلاجه أن يتذكّر أنّ النقيضين لا يجتمعان ولايرتفعان ، فيحصل له العلم من ذلك بكون إحدى المحتملات مطابقة للواقع ، وبطلان باقيها.

ثمّ يتصفّح أدلّة كلّ منهما ويعرضها على القياسات المنطقيّة باحتياط تامّ واستقصاء بليغ ، حتّى يطّلع على موضع الخطأ ، ويقف على ماهو الحق ، وهذه فائدة المنطق. ولو لم يقدر على ذلك واظب على مطالعة الأخبار ومجالسة العلماء الأخيار والصلحاء الأبرار من أهل اليقين والاستبصار ، حتّى ترتفع ظلمانيّة نفسه بنورانيّة نفوسهم ، وتقتبس من مشكاة يقينهم.

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٣٩٩ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الشك ، ح ٢.

٢ ـ المصدر : ح ٣.

٣ ـ فيه نظر ، لأن الظاهر أن هذه الرواية بقرينة حصر الذيل في بيان ضابطة الارتداد وأنّه إنّما يكون بالشك المضمّ إليه الجحود ، وأنّ الشك المحض من دون إنكار باللسان لايوجب الكفر ، فهي على خلاف ما ذكره المصنّف أدلّ منها على مقصوده.

٨٦

فصل

الخاطر ما يعرض للقلب من الأفكار.

فإن لم يكن مبدأ لفعل سميّت بالأماني ، سواء كانت من قبيل التمنّي مطلقاً ، أو تذكّر اللذّات الحسّية الحاصلة له بالفعل أو الائتة عنه ، أو البلايا الواردة عليه بالفعل أو الزائلة عنه ، أو التطّير بالأمور الاتّفاقية ، أو التفؤّل بها ، أو وسوسة في العقائد بما لاتؤدّي إلى شكّ مزيل لليقين كما عرفت.

وإن كانت محرّكة للارادة إلى الفعل ـ فإنّها أوّل مبادية ، ويتلوها الرغبة ، ثمّ العزم ، ثمّ النية ، فينبعث منها ـ فإن كانت مبدأ للخيرات سميّت إلهاماً ، وما يستعدّ به القلب له لطفاً وتوفيقاً ، والا وسواساً ، وما يتهيّؤ به القلب له إغواء وخذلاناً ، فإنّها لحدوثها تحتاج إلى سبب ، إمّا الملك أو الشيطان.

ثم النفوس في بدو الخلقة قابلة لهما بالنظر إلى القوى الثلاثة ، ولما كانت بينهما مدافعة ومنازعة ، فإن غلبت العاقلة على الأخنريين وصار لها السلطان في مملكة النفس لم تتمكّن الأخريان عن الذهاب في ودية الخواطر بدون رأيها ، فتتوجّه إلى ضبطهما وأمرهما بالخواطر المحمودة وصوالح الأعمال ، ومنعهما عن الخواطر الفاسدة وذمائم الأفعال ، إلى أن يحصل لهما ملكة الانقياد ، بحيث لايحدث منهما خاطر سوء في حال من الأحوال ، بل لم يخطر الا الخير من خزائنه الغيبية الفائضة من الواهب المفضال ، فلايبقى للشيطان مجال فيها الا على سبيل الاختلاس لامتلائها حينئذ من الخواطر المحمودة من المعارف الحقّة ومحاسن الأفعال ، فهي حينئذ مقرّ الملائكة ومهبطهم ومطلع الأنوار القدسيّة الفائضة من مشكاة الربوبيّة ، ولا مجال للشيطان حينئذ فيها ، كما لامجال لدخول الهواء في الاناء المملوّ من الماء.

وإن غلبت الأخريان عليها صارت من حزب الشيطان ومراتع جنوده ،

٨٧

وانسدّت حينئذ أبواب الملائكة ، وامتلأت جوانبها من الظلمات ، وانطفت أنوار اليقين والايمان ، وصارت محلاً للوساوس الشيطانيّة أبداً ، ولم يبق حينئذ مجال لدخول الملائكة فيها.

وإن لم تحصل السلطنة والملكيّة التامّة المستقرّة لإحديهما ، بل كانت النفس مضماراً لمعركتهما ومحلاً لمنازعتهما فتارة تسوق العاقلة خصيميها وتطردهما فتخطر فيها خواطر الخير وتبعثها إليه ، وتارة بالعكس ، فتخطر فيها خاطر السوء وتدعوها إليه ، ولاتزال النفس متجاذبة من الطرفين إلى أن تصل إلى ما خلقت لأجله. (١)

لكنّك عرفت أن جند الشيطان أكثر ، وموافقة الطبيعة لها أظهر ، ومسالكه أسهل وأجلى ، فسلطنته سارية لناريّته ودوام حركته وطيرانه في دم الإنسان ولحمه ، ومحيطة بمجامع قلبه وبدنه ، ولذا قال :

( لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ) (٢)

ولأجله ملكوا جلّ القلوب وفتحونها ، قلاعها ، وتمكّنوا في مساكنها ، وتوطّنوا في مواطنها ، وتصرفوا في حصونها ، فبعد ما صيّروا أبوابها بالغلبة مفتوحة لم يبق لأربابها عن وساوسهم مندوحة ، فلا منجى عنهم ولا مفزع منهم الا بالرياضة التامّة ، والمجاهدة العظيمة التي تحصل بها بصيرة مشرقة باطنية وقوّة قدسيّة ملكوتيّة على سدّ تلك الأبواب ، وفتح ذلك الباب بتأييد غيبيّ من المعين الوهّاب.

ثم لكلّ منهما أمارات ، كاليقين والهوى ، والتفكر في آيات الأنفس والآفاق على نظام يزيل الشك والشبهة ويحدث المعرفة والحكمة في القوّة

__________________

١ ـ لم يخلق الله نفساً لأجل الشر والسوء والشاء وإنّما خلقها الله مختارة وأعطاها ما به تختار الخير أو الشر من الحياة والقدرة والعلم وسائر ما تحتاج إليه في الوصول إلى القرب والسعادة ، فإن اختارت الشر حينئذ بسوء اختياره وصلت إلى ما اختياره وصلت إلى ما اختارت لا إلى ما خلقت لأجله « وما ربّك بظلّام للعبيد ».

٢ ـ الأعراف : ١٧.

٨٨

العاقلة ، فإنّها مبادي اليقينيات كالعقول والنفوس المجرّدات ، والنظر إليها بعين الغفلة الحادثة منه الشبهة والوسوسة ، لكونها مبادي السفسطيات كالشياطين والنفوس الخبيثة ، وكالايمان والطاعة والانقياد لكلام الله تعالى والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، والكفر والجحود لما ورد عنهم من آثار الحكمة ، وكتحصيل العلوم المفيدة الباحثة عن الأعيان الرشيفة والموضوعات العالية ، وما هي من قبيل السفسطة ، أو أنواع الادراكات المؤدّية إلى المكر والحيلة والخدعة في الأمور الدنيويّة.

ثمّ علاج القسم الثاني أن يتذكّر لسوء عاقبة المعصية ، وعظيم حقّ الله سبحانه ، وجسيم ثوابه ، وأليم عقابه ، فإذا عرفها بنور الايقان بعد عن وسواس الشيطان ، لأنّ نيّرات البراهين بمنزلة الشهب الثاقبة للشياطين.

وأمّا الأوّل فدفعه مشكل ، بل قطعه بالكلّية متعذّر الا لمن وفّق لمرتبة الفناء المحض في الله تعالى وقطع العلائق الدنيوية باسرها ، وامتلأ قلبه من حبّ الله وأنسه وجلاله وعظمته ، واستغرق في بحر كبريائه ، فلا يبقى للشيطان مجال فيه.

وأمّا من كان قلبه فارغاً عنه تعالى ولو في بعض الأحيان ، فلا محالة يدخل فيه الشيطان كدخول الهواء في الاناء الخالي عن الماء.

( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين ). (١)

فهذا القسم وإن أمكن معالجته ببقطع العلائق كلها والتجرّد والانزواء والتفكّر في عجائب صنع الله تعالى ، أو الأذكار والأوراد مع التوجّه القلبي إليها ، لكن لامخلص له مع ذلك من اختلاساته الحاصلة احياناً من حادث يشغله عن فكره وذكره ، كمرض وخوف أو حفض ما يحتاج إليه في معيشته.

ثمّ إنّ محصّل العلاج المذكور ثلاثة أشياء :

سلب الرذائل باسرها ، فإنّها الأبواب التي تدخل منها الشياطين في

__________________

١ ـ الزخرف : ٣٦.

٨٩

القلوب.

والتحلّي بما يقابلها من الفضائل حتّى ينفتح له باب التوفيق والوصول إلى المطلوب ، وبهذين يزول ملكيّته للقلوب وسلطنته عليها ، وتنقطع تصرّفاته الدائمية فيها ، لكن تبقى خطراته واختلاساته.

فبالمداومة على الأذكار القلبيّة واللسانية يحصل له أثر كلّي في دفعها ولا أقلّ من ضعفها وقلّتها ، لكنّها تنفع بعد الأولين ، ولو لاهما كانت حديث نفس لم يندفع بها تسلّطه وملكيّته ، فإنّ قولك للكلب الجائع « اخسأ » إنّما ينفع إذا رأى معك مايزجره ويؤذيه ، ولم يكن معك ما يميل إليه ويشتهيه. على أنّها من الفضائل التي لاينفع التحلّي بها الا بعد التخلّي عمّا يقابلها ، كما لا ينفع الغذاء المقوّي الا بعد نقاء البدن عن الأخلاط الفاسدة.

قال تعالى : ( إنّ الّذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون ). (١)

ولو نفعت في دفع سلطنته لكان أولى الأذكار أعني الصلاة به أحرى ، مع أنّ تسلّطه فيها على القلب ومزاحمة جنوده وتقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال أشدّ وأقوى.

ثمّ إنّ للذكر مراتب أربعة :

أحدها : اللساني فقط.

وثانيها : ما يسري إلى القلب مع عدم التمكّن منه ، بحيث يحتاج إلى مراقبته حتّى يحضر معه ولو خلاه استرسل في أودية الخواطر.

وثالثها : هو مع التمكّن بحيث لا يصرفه عنه بسهولة.

ورابعها : تمكّن المذكور في القلب بحيث لايلتفت إلى نفسه ولا إلى الذكر ، بل يستغرق في المذكور ، ويكون التفاته إلى الذكر حجاباً شاغلاً.

__________________

١ ـ الأعراف : ٢٠١.

٩٠

تذنيب

الوسائس بأسرها تحدث في النفس ظلمة تمنعها عمّا خلقت لأجله ، لكن لا مؤاخذة في ظاهر الشريعة على حديث النفس وما يترتّب عليه من الميل يقيناً لعدم ترتّب أثر فعلي عليه ، ولخروجه عن الطاقة البشريّة الا من أيّد بالنفس القدسيّة ، وللأخبار الكثيرة.

منها لما نزل قوله تعالى :

( إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) (١) جاء ناس من الصحابة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالوا : كلّفنا مالا نطيق ، إنّ أحدثا ليحدث في نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه ، ثمّ يحاسب بذلك! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لعلّكم تقولون كما قال بنو إسرائيل : سمعنا وعصينا ، قولوا : سمعنا وأطعنا ، فأنزل الله الفرج بقوله : ( لا يكلّف الله نفساً الا وسعها ) (٢).

ونحوه أخبار أخر.

والخبر المشهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « وضع عن أّمتي تسع خصال : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، وما استكرهوا عليه ، والطيرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ، والحسد مالم يظهر بلسان أويد » (٣).

وعن الصادق عليه‌السلام : « عن الوسوسة وإن كثرت؟ فقال : لا شيء فيها تقول لا إله الا الله » (٤).

وأمّا العزم على المعصية والهمّ بها مع عدم فعلها ، فقد ادّعي إجماع الشيعة على عدم المؤاخذة عليه مطلقاً.

ويدّل عليه ظواهر الأخبار الكثيرة أيضاً.

__________________

١ ـ البقرة : ٢٨٤.

٢ ـ البقرة : ٢٨٦ ، وراجع الدر المنثور ذيل الآية.

٣ ـ الوسائل : ج١١ ، ب٥٦ من أبواب جهاد النفس ، ح ٢٣.

٤ ـ الكافي : ٢ / ٢٤٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الوسوسة ، ح ١.

٩١

كقول الباقر عليه‌السلام : « إنّ الله تعالى جعل لآدم في ذرّيته : من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له عشر ، ومن همّ بسيّئة ولم يعملها لم تكتب عليه » (١).

وربما يقال بأنّه يكتب عليه سيّئة إن لم يكن [ تركه أي الهمّ ] خوفاً من الله تعالى لكونه من الأفعال القلبيّة الاختياريّة ، وهي ممّا يترتب عليها الثواب والعقاب ، كأعمال الجوارح لقوله تعالى :

( إنّ السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان عنه مسؤلاً ) (٢).

وقوله تعالى :

( لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ). (٣)

« وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما يحشر الناس على نيّاتهم » (٤)

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار ، قيل : يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : لأنّه أراد قتل صاحبه » (٥).

وكيف لا مؤاخذة عليها مع انّ المؤاخذة على الملكات الرديّة كالكبر والعجب والريا والحسد وغيرها قطيّة الثبوت من الشريعة ، ولذا إنّ من وطىء امرأته ظانّاً أنها أجنبيّة كان عاصياً.

وأدّلة الكبرى مدخولة بأسرها لإجمال الآية الأولى واحتمالها لمعان أظهرها ارادة العقائد خاصّة.

وغاية ما تدّل عليه الثانية وأخبار النيّة أنّ مناط التكليف ما اقترن

__________________

١ ـ الوسائل : ج١ ، ب٦ من أبواب مقدمة العبادات ، ح ٦.

٢ ـ الإسراء : ٣٦.

٣ ـ البقرة : ٢٢٥.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٧٧.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٧٧.

٩٢

بالقصد من الأعمال دون ما خلا عنها ، ولا نزاع فيه.

وكون المقتول في النار معلّلاً بالإرادة انّما هو لأجل صدور فعل الجوارح عنه من الالتقاء بالسيف مع نيّة القتل ، وهذا ممّا لاشكّ في ترتّب العقاب عليه.

ومن قبيله وطي امرأته ظانّاً كونها أجنبيّة وما أشبهه.

والمؤاخذة على الملكات في ظاهر الشريعة إنّما هي على آثارها ومسبّباتها من قبائح الأفعال وذمائم الأعمال ، فهي من فبيل ذكر السبب وإرادة المسبّب ، ويشهد له الحديث النبويّ المتقدّم وغيره ، مع لزوم العسر والحرج لولاها ، لأنّ إزالة الملكات دفعة ممتنعة ، بل تحتاج إلى رياضة تامّة ومجاهدة ، وطول مدّة ، سيّما ما كانت منها طبيعيّة ، ولعلّ أكثر النفوس تعجز عن إزالتها مع تقيّدها بالعلائق الدنيويّة.

ولايمكن أن يدّعى أنّ كافة الخلق مكلّفون بطريق الوجوب العيني بقطعها ، إذ يختلّ به نظام العالم ، وما يحتاجون إليه في التمدّن والتعيّش مع أنّه يلزم أن يكون صاحب تلك الملكة قبل إزالتها حين ما يقهر نفسه على خلاف آثارها بعد معذّباً لبقاء تلك الملكة فيها مع أنّه بديهيّ البطلان ، بل ربّما كان ثوابه أعظم ممّن له ما يقابل تلك الملكة المذكورة من الفضائل ، أيضاً فإنّها إن كانت طبيعيّة لم يكن للمؤاخذة عليها وجه ، وإن كانت عادية من مزاولة الأعمال الخبيثة ، فالعقاب مترتّب على تلك الأعمال دونها ، وأيضاً ، فإنّ المؤاخذة من كافة الخلق على الملكات الراسخة التي بلغت صعوبة إزالتها حدّاً توهّم قوم كونها طبيعيّة بأسرها وملأ أطبّاء النفوس كتبهم بأنواع تقريراتها وأنحاء عباراتها من بيان صعوبة إزالتها وشدّة ضيق مسلكها وغموض مدركها وامتناع النفوس عنها ، وبيان أنواع معالجاتها. ووجوه الترغيبات والتأكيدات في شأنها ، ينافي كون الملّة النبويّة سمحة سهلة. فإذا كان مبنى الأحكام الشرعيّة في أعمال الجوارح على التسامح والتساهل

٩٣

والتخفيف فكيف يؤاخذو برذائل ملكاتهم وأعمالهم وأعمال قلوبهم مع ما ذكر من شدّة صعوبتها؟ فإذا لم يؤخذوا بعدم تحصيل أصولهم وفروعهم بالأدلّة التفصيليّة مع كونها أسهل منها أسهل منها بمراتب شتّى ، فبالحري أن لا يكلّفوا عيناً بها بطريق أولى.

وأمّا الترغيبات والترهيبات الواردة عن معادن الحكمة وأهل بيت العصمة عليهم‌السلام والتأكيدات البليغة في ذلك فلاينافي عدم اللزوم العيني مع شدّة الرجحان الذاتي لو أريد منها نفس تلك الملكات دون آثارها والأعمال المترتّبة عليها ، فإنّها موافقة لما هو مقتضى الحكمة في الأمور الصعبة الشاقّة التّي تهرب النفوس العامّة عنها كما ترى في كثير من المستحبّات التي لايمكن أن ينسب صعوبتها إلى صعوبتها.

ثمّ الأوامر والنواهي الواردة في الشريعة في فعل المعاصي وتركها منصرفة إلى أفعال الجوارح ، لأنّه الحقيقة من الفظ دون فعل القلب ، أي العزم عليه لوجود امارات المجاز فيه من عدم التبادر وصحّة السلب ، حيث يجزم العرف بأنّ العزم عليه ليس فعلاً ، وأنّ من همّ بفعل ولم يفعل لم يفعله حقيقة ، ولو فرض كونه حقيقة فلاشكّ في كونه خلاف المتبادر ، فلا يصرف إليه إطلاقاتها ، سيّما مع المخالفة للأصول والظواهر والآيات والاجماع المدّعي في كلام جماعة.

فصل

المكر والحيلة والخدعة والنكر والدهاء ألفاظ مترادفة ، وهي في اللغة شدّة الفطانة ، وفي العرف استنباط بعض الأمور من المآخذ الخفيّة البعيدة عن الفهم لإصابة مكروه إلى الغير من حيث لايعلم ، وهو المراد هنا.

والفرق بينها وبين الغشّ والغدر والتلبيس حيث عدّت الاولى من رذائل العاقلة ، والثانية من رذائل الشهويّة. إمّا خفاء المقدّمات وبعدها عن الفهم في الاولى دون الثانية كما قيل ، أو أنّ المراد من الاولى نفس

٩٤

الاستنباط ، ومن الثانية استعمال آثارها ولوازمها وهو الأظهر ، وقد تستعل على سبيل الترادف.

ثمّ للمكر مراتب متفاوتة في الشدّة والضعف والظهور والخفاء ، وهو من المهلكات العظيمة ، لأنّه من أظهر صفات إبليس وجنوده ، وهو أقبح من الأذّية جهاراً ، لإمكان دفعها والحذر عنها بخلافه ، إذ ربّما يفعل في لباس الصداقة ، ولذا ورد أشدّ المنع عنه في الأخبار.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ليس منّا من ماكر مسلماً » (١).

وكثيراً ما كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يتنفّس الصعداء ويقول : واويلاه يمكرون بي ويعلمون أنّي بمكرهم عالم وأعرف منهم بوجوه المكر ، ولكنّي أعلم أنّ المكر والخديعة في النار فأصبر على مكرهم » (٢).

وعلاجه تحصيل ضدّه ، أعني النصيحة واستنباط وجوه الخير للمؤمنين حتّى يعتاد نفسه على ذلك ، وتقديم الترّوي في كلّ ما يصدر منه حتّى لا يخفى عليه وجوهه الخفيّة ، ويتذكّر قبحه العقلي وماورد من الآثار في ذمّة والمنع منه مع ما عرفه من التجربة والأخبار من عود جزائه إليه عاجلاً.

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٣٣٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب المكر والغدر ، ح ٣.

٢ ـ جامع السعادات : ١ / ٢٠٣.

٩٥

المقام الثاني

في ذكر الفضائل المقابلة لها

مع ما بدل على الحث عليها

وفيه فصول

فصل

الحكمة هي العالم بحقائق الأشياء ، ولما كانت مباحث العلم من أشرف المباحث وأبهاها فبه يمتاز الإنسان عن النفوس البهيميّة ، وبه يترقّى عن المرتبة الملكّية ، فلا غرو لو أطلقنا عنان القلم في هذا المقام بما لم نطلقه في سائر الفضائل لكونه من أهمّ المهام في عدّة مقاصد :

المقصد الأول :

قد تطابق العقل والنقل على كون العلم أشرف الأشياء ، ونحن نشير إجمالاً إلى الشواهد العقليّة والظواهر السمعيّة الدالّة ترغيباً للأصحاب إليه.

فنقول : لاريب في كون العلم محبوباً في نفسه ومطلوباً بالذات ، ولذّة اقتنائه من أعظم اللذّات ، فإنّ إدرك الأشياء نوع تملّك لها لتقرّر حقائقها وصورها في ذات المدرك وهو أقوى من ملكية الأعيان لزوالها ومبائنتها عن ذاته دونه ، والنفس لكونها من سنخ المجردات وعالم الربوبية يشبه المبدأ في ميله إلى الاستيلاء والتملّك للأشياء والتصرّف فيها كيف يشاء ، فإن كلّ معلول من سنخ علّته كما تقرّر في محلّه فيناسبها في آثارها وصفاتها ويبتهج

٩٦

من الاتّصاف بكمالاتها ، ولذا قيل : إنّ الصادر عن شيء لايمكن أن يكون هو من جميع الجهات ولا أن يكون ليس هو كذلك ، وهو المراد من قولهم : الممكن زوج تركيبي ، وهذا المعنى وإن اشترك في جميع الممكنات الا أن الذوات النورانيّة التي هي من عالم الامر لكونها إليه أقرب والواسطة بينها وبينه أقلّ إليه أنسب ، فشوقه إلى الاتصاف بكمالاته أكثر ، ومنها النفس لقوله تعالى : ( قل الروح من أمر ربّي ). (١)

فلها غاية الميل إلى صفاته التي من جملتها الغلبة والاستيلاء والتسلّط على الأشياء والتصرّف فيها كيف تشاء ، لأنّها معنى الربوبيّة.

وممّا يوضح كون العلم نوع استيلاء وتسلّط على الأشياء ، استتباعه للعزّ والوقار ونفوذ الحكم على الملوك وذوي الاقتدار ولزوم الاحترام في الطباع حتّى إنّ أغبياء الترك وأجلاف العرب طباعهم مجبولة على توقير شيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة ، بل البهائم بطبعها توقر الانسان بكمال مجاوز لدرجتها ، وهكذا إلى أن تؤثّر في انقياد كلّ ما على الأرض من الجماد والنبات والحيوان ، ثم تجاوز إلى إطاعة النفوس المجرّدة الفلكيّة والكواكب النوريّة والأجرام السماويّة وغيرها.

وأيضاً فإنّ كلّ معقول إمّا موجود وإمّا معدوم ، والأوّل أشرف بالضرورة ، وهو إمّا جماد أو نام ، والثاني أشرف بالضرورة ، وهو إمّا حسّاس أو غيره والأوّل أشرف بالضرورة ، وهو إمّا عاقل أو غيره ، والأوّل أشرف بالضرورة وهو إمّا عالم أو جاهل ، والأول أشرف بالضرورة ، فظهر أن العالم أشرف الموجودات بالضرورة ، وأيضاً فكلّ فعل إمّا أن ترضاه

__________________

١ ـ الاسراء : ٨٥.

٩٧

القوى الثلاثة كالعلم ، أو لاترضى به شيء منها كالجهل ، أو ترضى به العاقلة دون الاخريين كالمكاره الدنيويّة أو بالعكس كالمعاصي ، فالعلم بالنظر إلى الجهل كالجنّة والنار ، حيث لاترضى شيء من الثلاثة بالثانية دون الاولى ، والدليل عليه انّ الألم في البعد عن المحبوب ، فكلّما كان أبعد كان الألم أشدّ ، فكون الاحراق أشدّ الآلام لغوضه في جميع الأجزاء وتفريق بعضها عن بعض ، وكذا اللذّة في الوصول إلى المطلوب ، فكلّما كان أغوص والمدرك أشرف وأكمل والمدرك أبقى وأنقى ، كان اللذّة أشرف وأعلى ، فمحلّ العلم الروح الذي هو أشرف من البدن ، والادراك بالعقل أغوصي والمعلوم هو الله ربّ العالمين ومخلوقاته ، فايّ شيء أشرف من ذلك فمن رضي بالعلم فقد خاض في جنّة حاضرة ، فيقال له بعد الموت : تعوّدت المقام بالجنّة فادخلها ، فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة فيقال له بعد الموت : تعودّت المقام بالنار فادخلها.

وأيضاً قد عرفت أنّ اللذّة العقلية أقوى من الحسيّة لادراكه حاقّ الشيء ولبّه ، بخلاف الحسّ ، فلا يدركه الا مخلوطاً كاللون المدرك بالعرض والطول والوضع وغيرها.

ولأنّه يراعي القوانين المنطقيّة العقليّة ، ولايزاحمه الوهم والوسواس فهو منزّه عن الخطأ والأدناس بخلاف الحسّ ، حيث يغلط في الادراك ، فيرى ما يساوي الأرض مقداراً كالقمر ، أو يزيد عليه أضعافاً كالشمس مقدار قرصة.

ولأنّ مدركاته ذوات نوريّة ، وكلّيات أزليّة لتغيّر لها وأمور غير متناهية بحسب الوجود والتناسب ، فتقويه وتزيده نوراً وبهاء بازدياد نورها وبهائها بخلاف الحسّ الغير المدرك الا المتغيّر المستحيل المتناهي المفسد له مع قوّة التذاذه به.

ولشهادة التجربة والوجدان برفض ألذّ اللذّات الحسيّة بمعارضة اللذّة

٩٨

الوهميّة أو الخياليّة ، بل العجم من الحيوانات تؤثّر اللذّات الباطنية عليها كاللكلاب المعلّمة وغيرها ، فإذا كانت الباطنية كذلك فما ظنّك بالعقليّة ، فطوبى لعقول شريفة تمثّلت فيها جلية الحقّ وما يمكنها أن تنال من بهائه ثم عالم الوجود بأسره ، كما أشرنا إليه سابقاً ، ولذا قيل : لو علم الملوك ما نحن فيه من لذّة العلم لحاربونا بالسيوف.

( وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ). (١)

وقال الصادق عليه‌السلام : « لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله ما مدّوا أعينهم إلى ما متّع به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها ، وكانت دنياهم عندهم أقلّ ممّا يطؤونه بأرجلهم ولنعموا بمعرفة الله وتلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله ، إنّ معرفة الله أنس من كلّ وحشة ، وصاحب من كلّ وحدة ، ونور من كلّ ظلمة ، وقوّة من كلّ ضعف ، وشفاء من كلّ سقم ... الحديث. » (٢)

وقد ورد في الأخبار الكثيرة تفسير قوله تعالى : ( ما خلقت الجنّ والإنس الا ليعبدون ) (٣)بالمعرفة.

ويشهد له الخبر القدسي : « كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق لكي أعرف ». (٤)

وافتتح الله تعالى في أول سورة أنزلها على نبيّه بنعمة الايجاد ، ثم العلم فقال :

( اقرأ باسم ربّك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * إقرأ وربّك الأكرم * الّذي علم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم ) (٥) تذكيراً لغاية دناءة

__________________

١ ـ الإسراء : ٢١.

٢ ـ الكافي : ٨ / ٢٤٧ ، ح ٢٣٤٧.

٣ ـ الذاريات : ٥٦.

٤ ـ كلمات مكنونه : ٣٣.

٥ ـ العلق : ١ ـ ٥.

٩٩

الانسان وخستّه في بدو خلقته ، ونهاية شرفه وجلالته في خاتمته ، فلو كان شيء أشرف من العلم كان أحرى بالذكر في مقام الامتنان ، مع أنّ تعلق الحكم بالأكرمية مع وصفها بالتعليم يشعر بالعلّية فلو كان أشرف منه كان أولى بالاقتران.

وخصّ العلماء مخمس مناقب :

الايمان : ( والراسخون في العلم يقولون آمنّا ). (١)

والتوحيد : ( شهد الله أنّه لا إله الا هو والملائكة وأولوا العلم ). (٢)

والحزن والبكاء : ( إنّ الذين أوتوا العلم ـ إلى قوله ـ ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ). (٣)

والخشوع تلك الآية.

والخشية : ( إنّما يخشى الله من عباده العلماء ). (٤)

وقال لنبيّه مع ما آتاه من العلم : ( وقل ربّ زذني علماً ). (٥)

وقال : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ). (٦)

إلى غير ذلك من الآيات.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ، فاطلبوا العلم في مظانّه ، واقتبسوه من أهله ، فإنّ تعلّمه لله حسنة ، وطلبه عبادة ، والمذاكرة له تسبيح ، والعمل به جهاد ، وتعليمه من لايعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة إلى الله لأنّه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبيل الجنّة ، والمونس في الوحشة ، والصاحب في الغربة والوحدة ، والمحدث في الخلوة ، والدليل

__________________

١ ـ آل عمران : ٧.

٢ ـ آل عمران : ١٨.

٣ ـ الإسراء : ١٠٩.

٤ ـ فاطر : ٢٨.

٥ ـ طه : ١١٤.

٦ ـ البقرة : ٢٦٩.

١٠٠