كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

وفي الخبر : « أوحى الله إلى موسى أنّي إذا أحببت عبداً ابتليته ببلاء لايقوى عليه الجبال لأنظر كيف صدقه ، فإن وجدته صابراً اتّخذته وليّاً وحبيباً ، وإن وجدته جزوعاً يشكو إلى خلقي خذلته ولم أبال ». (١)

ثم إنّ لهذه المقامات عرضاً عريضاً (٢) لا غاية لها لإناطتها بمعرفة الله تعالى ، وهي غاية لاتدرك ، فكلّ من حصل له بقدر استعداده وسعيه من المعرفة حصلت له من تلك المقامات بقدرها ، فالصادق في كلّ مقام هو الواصل إلى ما يمكنه في حقّه.

فصل

الصمت من أفضل وأحسن الملكات.

وفي النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من صمت نجيا ». (٣)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ». (٤)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا رأيتم المؤمن وقوراً صموتاً فادنوا منه ، فإنّه يلقي الحكمة ». (٥)

وقال عيسى بن مريم عليه‌السلام : « العبادة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت وجزء في الفرار عن الناس ». (٦)

وقال الباقر عليه‌السلام : « كان أبوذرّ يقول : يا مبتغي العلم : إنّ هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شرّ ، فاختم على لسانك كما تختم على ورقك

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٢ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩ ، المحجة البيضاء : ٨ / ١٤٧ ، وفيه : « لا تقوم لها الجبال ».

٢ ـ في النسخ : عرض عريض.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٩٢.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٩٤.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٩٥.

٦ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٩٦.

٣٤١

وذهبك ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّما شيعتنا الخرس ». (٢)

وقال الصادق عليه‌السلام : « الصمت كنز وافر ، وزين الحليم ، وستر الجاهل ». (٣)

وقال الرضا عليه‌السلام : « من علامات الفقه العلم والحلم والصمت ، إنّ الصمت باب من أبواب من أبواب الحكمة ، إنّ الصمت يكسب المحبّة ، إنّه دليل على كلّ خير ». (٤)

والأخبار كثيرة لاتحصى.

على أن جميع آفات اللسان كالكذب والغيبة والبهتان وأنواع الأذيّة من المزاح والسخرية والافساد بين الناس والسعادية والنميمة وغيرها ممّا سلف بعضها وسنذكر بعضها الآخر إنّما تنشأ من اللسان ، وهو أضرّ الجوارح بالانسان ، وأعظم آلة في إهلاكه للشيطان ، وهي وإن كانت من المعاصي الظاهرة الا أنّ تكريرها يؤثر في النفس فتصير ملكة ، فمراقبته أهم ، ومحافظته الزم.

قال بعض العلماء (٥) : إنّ اللسان وإن كان صغيراً جرمه لكن عظيم طاعته وجرمه ، إذ لا يظهر الكفر والايمان الا بشهادته ، ولا يهتدى إلى إصلاح النشأتين الا بدلالته ، وما من شيء الا وهو متعرّض له بنفي أو إثبات ، إذ كلّ معلوم يعبّر عنه باللسان والعلم يتناول جميع الأشياء ، وهذا خاصة اللسان دون سائر الجوارح لاختصاص العين بالألوان والصور ، والآذان

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ١١٤ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الصمت ، ح ١٠.

٢ ـ الكافي : ٢ / ١١٣ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الصمت ، ح ٢.

٣ ـ الاختصاص : ص ٢٣٢.

٤ ـ الكافي : ٢ / ١١٣ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الصمت ، ح ١.

٥ ـ الظاهر هو أبوحامد الغزالي ، فراجع المحجّة البيضاء : ٥ / ١٩٠ ـ ١٩١ ترى أنّ المصنّف نقل كلماته بالمعنى.

٣٤٢

بالأصوات ، والأيدي بالأجسام ، وكذا غيرها ، واللسان رحب الميدان ، وسيع الجولان ، ليس له مردّ ولا لمجاله منتهى ولا حدّ ، فله في الخير مجال رحب ، وفي الشر مجرى سحب ، فمن أطلق عذب اللسان وأهمله مطلق العنان سلك به الشيطان إلى أودية الخذلان ، وساقه إلى شفا جرف هار ، إلى أن يضطرّه إلى الهلاك والبوار ، ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

« لاتكبّ الناس على مناخرهم في النار الا حصائد ألسنتهم ». (١)

فلا منجى من شرّه الا أن يلجم بلجام الشرع ، فإنّ علم ما يحمد إطلاقه فيه ويذمّ غامض ، وهو أعصى الأعضاء على الانسان ، إذ لا تعب في تحريكه ، فلا يجوز التساهل في الاحتراز عن آفاته وغوائله ، والحذر عن مصائده وحبائله.

ولذا ورد الأخبار في ذمّه ، والأمر بالاجتناب والاحتراز عن غوائله كثير.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من تكفّل لي ما بين لحييه ورجليه أتكفّل له بالجنّة ». (٢)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من وقي شرّ قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وقي ». (٣)

وقيل له : ما النجاة؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « املك لسانك ». (٤)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلّها تستكفي اللسان أي تقول : اتقّ الله فينا فإنّك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا ». (٥) وغير ذلك.

ومنه يظهر أنّ السكوت مع سهولته أحسن الأعمال وأنفعها للانسان ،

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ١١٥ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الصمت ، ح ١٤ ، وفيه : « وهل يكبّ الناس ».

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٩٢.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٩٥.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٩٢ ، وفيه : « املك عليك لسانك ».

٥ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٩٣.

٣٤٣

ولذا قال لقمان لابنه : « لو زعمت أنّ الكلام من فضّة ، فإنّ السكوت ذهب ». (١)

« وكان الربيع بن خثيم يضع قرطاساً بين يديه فيكتب ما يتكلّم إلى العشاء فيحاسب ما له وما عليه ويقول : واه! نجا الصامتون وبقينا ». (٢)

وهو من أخلاق الأنبياء وشعار الأوصياء.

قال الصادق عليه‌السلام : « الصمت من شعار المحقّقين بحقائق ماجرى به القلم ». (٣)

تنبيه

قد تبيّن ممّا ذكر حسن الصمت وفوائده وغوائل الكلام ومفاسده ، الا أنّ للكلام أيضاً فوائد كثيرة ، فإنّ الله لم يجعل بينه وبين رسله معنى يكشف ما أسرّ إليهم من مكنونات علمه ومخزونات وحيه غير الكلام ، وكذا بينهم وبين الأمم ، إذ لايمكن تحصيل المعارف بالعقل والنقل الا بوساطته ، ولا يتحقق أشرف العبادات أعني الصلاة الا به ، ولا هداية الناس وإرشادهم إلى ما فيه خيرهم الا به ، فلابدّ للعاقل أن يقدّم التروّي في كلامه ، ويعرضه على عقله ، فإن كان مشتملاً على مصلحة تكلّم والا سكت ، فحسن الصمت إنّما هو بالنسبة إلى فضول الكلام وما يضرّ بدينه ودنياه لامطلقاً.

فصل

الخمول شعبة من الزهد ، وهو من صفات الموحّدين المستأنسين بالله تعالى ، كما ينادي به كتب السير والتواريخ ، وقد كثر مدحه في الأخبار والآثار.

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ١١٤ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الصمت ، ح ٦ ، مع اختلاف.

٢ ـ مصباح الشريعة : الباب ٢٧ ، في صمت ، مع اختلاف.

٣ ـ مصباح الشريعة : الباب ٢٧ ، في صمت مع اختلاف.

٣٤٤

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ من أمتي من لو أتى أحدكم يسأله ديناراً لم يعطه إيّاه أو سأله درهماً لم يعطه إيّاه ، ولو سأل الله الجنّة أعطاه إيّاه ولو سأله الدنيا لم يعطها إيّاه وما منعها إيّاه لهوانه عليه ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ أغبط أوليائي عندي مؤمن ضعيف (٢) وذو حظّ من صلاة أحسن عبادة ربّه وأطاعه في السرّ والعلانية ، وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع ، وصبر على ذلك ، قلّ تراثه وقلّت بواكيه ». (٣)

وتقدّم أيضاً ما يشبهه.

ثم من تأمّل في آفات الجاه والشهرة ديناً ودنيا كما أشرنا إلى بعضها سابقاً أحبّ الخمول واستوحش من الجاه والقبول.

فصل

ومنها : الحياء ، أي انقباض النفس وانزجاره عن ارتكاب القبيح العرفي أو العقلي أو الشرعي وهو من جودة الطّيع وكرمه ، ومن فضائل الملكات وشرائف الصفات ، وما بعث الله نبيّاً الا حييّاً ، وقد أشرنا إلى بعض ما يدلّ على مدحه من الأخبار ، وذكرنا أنّ الحياء مما ليس بقبيح من ضعف النفس.

ومنه يظهر أنّ بعضاً منه من فضائل القوّة الشهوية وهو الممدوح منه ، وبعضاً منه من رذائل الغضبية من طرف التفريط.

والأصحاب أطلقوا الكلام في عدّه من أنواع العفّة ، ولعلّ مرادهم منه القسم الأول خاصّة ، كما يظهر من تفسيرهم ، فالاستحياء من الأمر

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١١٠ مع اختلاف خصوصاً في آخره ففيه : « وما منعها إيّاه الا لهوانها عليه ».

٢ ـ كذا في « ج » وفي « الف » و « ب » : « الحاذر ، ذو حظّ » والصحيح كما في المحجة البيضاء وسنن ابن ماجة أيضاً (الرقم ٤١١٧) « خفيف الحاذ » والمعنى خفيف الحال أو خفيف الظّهر من العيال كما في النهاية : ١ / ٤٥٧ (حوذ).

٣ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ١١١ ، مع اختلاف وزيادة.

٣٤٥

بالمعروف والنهي عن المنكر وأمثال ذلك من ذمائم الصفات ، فمنه ما هو محرّم شرعاً مثل ذلك ويدلّ عليه ما يدلّ على حرمة التهاون فيهما ، وسيذكر بعض منه ، ومنه ما هو مكروه مثل الاستحياء عن بعض المستحبّات كالامامة والوعظ فيما لايشتمل على خطر ، ومنه ما ليس كذلك ، بل مباح ، الا أنّه لترتّبه على ضعف النفس المذموم يستحسن تركه وإن لم يكن بخصوصه مرجوحاً ، فافهم.

فصل

ومنها : استواء السرّ والعلانية ، أو كون الباطن خيراً من الظاهر ، وهو من شرائف الصفات ، وقد طلبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الله تعالى في بعض الأدعية ، وكان ذلك أهمّ مقاصد السلف ، ومن تأمّل فيما ورد في ذمّ النفاق ومفاسده وما ورد في مدح موافقة الظاهر للباطن وتقديم الرويّة في كلّ ما يصدر عنه من قول أو فعل لم تصعب عليه المحافظة المذكورة على هذه الخصلة التي هي من شرائف الأخلاق ، ولا التجنّب عن رذيلة النفاق.

فصل

الصبر ثبات النفس وسكونها في فعل ما يشقّ عليها فعله ، أو ترك ما يشقّ عليها تركه ، أو نازلة نزلت بها غير مقدورة لها.

وبعبارة أخرى : ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى ، وذلك لما عرفت من أنّ بين العاقلة وخصيميها تنازعاً وتدافعاً ، فإن غلبت عليهما بحيث صارتا مسلّمتين لها في الأمر والنهي ، محكومتين تحت حكمها لم يحدث للنفس في ترك القبائح وفعل المحسن تزلزل واضطراب ، بل كانت مطمئنّة كما أشير إليها في الكلام الإلهي بقوله تعالى :

( يا أيّتها النفس المطمئنّة ارجعي إلى ربّك راضية مرضيّة ). (١)

__________________

١ ـ الفجر : ٢٧ ـ ٢٨.

٣٤٦

فهي حينئذ متّصفة بوصف الصبر والثبات ، وإن غلبتا عليها فسلّمت الأمر إليهما بالمرّة كانت النفس أمّارة بالسوء خفابت وخسرت كما قال تعالى ( وقد خاب من دسّيها ). (١)

وإن طال التشاجر بينها فربما غلبتا عليها بالإقدام على المعاصي ، وربما غلبت عليهما باللوم والندامة ، فهي حينئذ لوّامة فيحث لها عند عروض داعي الهوى اضطراب عظيم لجذبهما لها إلى مايدعوانها إليه ومنعها إيّاهما عنه ، وحينئذ فإن غلب داعي الهوى ولم يقدر على ترك مايدعوه إليه ألحقت بالثانية ، وإن جاهد في دفعه إلى أن وفّقه الله للغلبة عليه تركه لما يدعوه إليه سمّي فعله ذلك تصبّراً.

ثم إذا استديم ذلك منه وقوي تصديقه بما في العاقبة من الحسنى وكرّر المجاهدة في دفع داعي الهوى تيسّر له ذلك بسهولة من غير تحمّل كلفة ، كما قال تعالى ( وأمّا من أعطى واتّقى * وصدّق بالحسنى * فسنيسّره لليسرى ). (٢)

وحينئذ يصير من زمرة الطائفة الاولى متّصفاً بالصبر والثبات ، ثم يورثه الله بعد رسوخ هذه الصفة التي هي من أشرف الصفات مقام الرضا بما يقدّر له من الحالات ثم ينتقل إلى مقام المحبّة التي هي من أعلى المقامات وغاية الغايات.

فظهر ممّا ذكر أنّ مقام الرضا أعلى من الصبر.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اعبد الله على الرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكرهه خير كثير ». (٣)

ثم الصبر قد يطلق على خصوص الثبات في المكاره الذي يقابله

__________________

١ ـ الشمس : ١٠.

٢ ـ الليل : ٥ ـ ٧.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ١٢٠.

٣٤٧

الجزع ، وعلى الثبات [ في الحروب خاصّة ، وعلى الثبات ] (١) في كظم الغيظ والعفو عن الناس وهو التحلّم ، وهذه الثلاثة من أنواع الشجاعة ، وعلى تحمّل مشقّة الطاعة فيكون من أنواع العدالة التي هي عبارة عن اعتدال القوى الثلاث وعلى الثبات في ترك شهوة البطن والفرج ، وهو من أنواع العفّة ، والصبر من فضول العيش وهو الزهد من أنواعها أيضاً ، وعلى كتمان السرّ الذي يقابله الاذاعة ، وهو ممّا يحتمل الأمرين.

فظهر أنّه من أمّهات الفضائل.

ولذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما سئل عن الايمان : « إنّه الصبر ». (٢)

وقال بعض العرفاء : إنّ للصبر على المكروه [ من حيث ذاته ] (٣)

درجات ثلاث :

أوّلها : درجة التائبين ، أي ترك الشكوى إلى الغير ، بل إلى الله تعالى أيضاً.

وثانيها :درجة الزاهدين ، وهي الرضا بالمقدور.

وثالثها : درجة الصدّيقين ، هي المحبّة لما يصنعه مولاه. وكذا من حيث الغاية.

فأوّلها : صبر المرائين الذين يعملون (٤) ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون ،وهو ما كان باعثه الاشتهار عند الناس بقوّة النفس والثبات ، كما قال معاوية عند موته :

وتجلّدي للشامتين اريهم

أنّي لريب الدهر لا أتزعزع

وثانيها : صبر المتّقين ، وهو ما يكون باعثه توقّع الثواب نيل الدرجات.

__________________

١ ـ ساقط من « ج ».

٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ١٠٧.

٣ ـ ساقط من « ج ».

٤ ـ كذا في النسخ ، والظاهر : يعلمون.

٣٤٨

قال الله تعالى : ( إنّما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب ). (١)

وثالثها : صبر الصدّيقين ، وهو ما يكون باعثه المحبّة لما يصدر عن الحبيب فيستقبله برحب على سكينة ووقار ، وهو الذي أشير إليه بقوله : ( والله مع الصابرين ) (٢) كما قال الصادق عليه‌السلام. (٣)

وفي الخبر : « أنّ جابراً لما سأله الباقر عليه‌السلام من حاله ، قال : أنا في حال الفقر أحبّ إليّ من الغني ، والمرض أحبّ إليّ من الصحّة ، والموت أحبّ إليّ من الحياة ، فقال عليه‌السلام : أمّا نحن أهل البيت فما يرد علينا من الفقر والغنى والمرض والصحّة والموت والحياة فهو أحبّ إلينا ... الخبر ». (٤)

ثم إنّه تجري فيه الاحكام الخمسة فيجب عن المحرّمات وعلى الواجبات ، ويستحبّ على المستحبّات ، ويحرم على ما يحرم تحمّله شرعاً ، كالصبر عل هتك عرضه بشهوة محظورة ، ويكره على ما يكره في الشرع ، ويباح على المباحات من حيث كونها مباحة.

ثم انّ الكتاب والسنّة قد أكثر من الحثّ عليه بما ليس في غيره ، لكونه من أمّهات الفضائل المستلزم حصوله لحصول أكثرها ، فقد ذكره الله تعالى في نيّف وسبعين موضعاً من القرآن.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا رأس لمن الجسد له ، ولا إيمان لمن لا صبر له ». (٥)

وقال : « ما تجرّع عبد جرعتين قطّ أحبّ إلى الله من جرعة غيظ ردّها بحمله ، وجرعة مصيبة يصبر لها ». (٦)

__________________

١ ـ الزمر : ١٠.

٢ ـ البقرة : ٢٤٩.

٣ ـ مصباح الشريعة : الباب ٩١ ، في الصبر.

٤ ـ جامع السعادات : ٣ / ٢٨٥.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ١٠٨ ، عن عليّ عليه‌السلام ، وفيه : « لا جسد لمن لا رأس له » وهو الصحيح.

٦ ـ المحجة اليبضاء : ٧ / ٢٣٣ مع اختلاف.

٣٤٩

وفي الخبر : « أوحى الله تعالى إلى داود : تخلّق بأخلاقي ، ومن أخلاقي أنّي أنا الصبور ». (١)

تلخيص

ما يلقاه العبد في الدنيا إما موافق لطبعه كالصحّة واتّساع الجاه والمال وكثرة الأعوان والأولاد ، أو مخالف كالمصائب والأعمال الشاقّة وترك المعاصي.

فالأوّل إن لم يصبر عليه الانسان أدركه البطر والطغيان.

( إنّ الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى ). (٢)

ولذا قيل : الصبر على العافية أشدّ من الصبر على البلاء.

ومن هنا قال تعالى : ( لاتلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ) (٣) ( إنّما أموالكم وأولادكم فتنة لكم ). (٤)

فالحري بحاله ترك الانهماك في التنعّمات والتعلّق بها والاعتماد عليها بترك التفاخر على فاقديها ورعاية حقوق الله فيها ببذلها ، وفي البدن والجاه بإعانة الضعفاء والمساكين وإغاثة الملهوفين ودفع الظلم عن المظلومين ، وهذا أشدّ مراتبه على الانسان لتمكّنه من التمتّع بها وميل الطبع إليها وعدم حاجز شرعي عنها.

والثاني لا يخلو عن قسمين :

إمّا مقدور له وهو أيضاً على قسمين :

الأول : فعل ما يشقّ فعله عليه كالطاعات ، والسرّ في صعوبتها أوّلاً : أنّ النفس بطبعها مائلة إلى الربوبية والتعزّز ، نافرة عن التذلّل ، كما أشير إليه فيما مضى.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ١٠٧.

٢ ـ العلق : ٦ ـ ٧.

٣ ـ المنافقون : ٩.

٤ ـ التغابن : ١٥.

٣٥٠

وثانياً : ثقلها عليها إمّا كسلاً كأعمال الجوارح أو بخلاً كالانفاق فيما يؤمر به أو هما معاً كالحجّ والجهاد. ولها شرائط يزيد لأجلها المشقّة لمنافرتها للطبع أيضاً كالاخلاص في النيّة والتوجّه والحضور المتوقّفين على قلّة التعلّق بالدنيا من أوّل الفعل إلى آخره ، وعدم الاخلال بوظائفها وآدابها ، وعدم إبطال الصدقات بالمنّ والأذي ، وغير ذلك ممّا لاتشتهيه الأنفس.

والثاني : ترك ما يشقّ عليها تركه كالمعاصي ، لكون الطبيعة مجبولة عليها مع كثرة أعوانها من جنود الشرّ واعتياد النفس بها من مشاهدة كثرة الإتيان بها من بني نوعها ، فإنّ العادة كالطبيعة الثانية ، ولذا إنّ الاستبعاد في المعاصي الغير الشائعة أكثر منه في الشائعة وإن كانت أشدّ وأعظم.

ثمّ إنّ لها مراتب شدّة وضعفاً لاختلاف دواعيها قوّة وضعفاً ، واختلافها صعوبة وسهولة ، فما كانت أسهل كان تركه أشدّ كمعاصي اللسان من الكذب والغيبة والبهتان ، سيّما إذا اشتملت على ما يوافق الطبع من التعزّز والربوبيّة كتزكية النفس وكالخواطر النفسانية باختلاج الوساوس الشيطانية ، فلا يمكن الصبر عليها لغاية سهولتها الا بالاشتغال بهمّ يغلب عليه ويستغرق فيه.

وإما غير مقدور له وهو أيضاً على قسمين :

الأوّل : ما يقدر معه على تحصيل التشفّي بالاتيان بمثل ما فعل أو ما يزيد عليه كالأذّيات الصادرة عن الغير إذا أمكن له المعارضة بما ذكر كشتم بمثله أو ضرب بمثله ، والصبر عليه إمّا واجب كما ذكرنا ، أو مستحب نحو الجائز شرعاً ، ولذا أمر الله نبيّه وأمّة نبيّه بذلك في مواضع كثيرة ، فقال :

( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) (١) ( ودع أذاهم وتوكّل على الله ). (٢)

__________________

١ ـ الأحقاف : ٣٥.

٢ ـ الأحزاب : ٤٨.

٣٥١

( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً ). (١)

( ولتسمعنّ من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الّذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقّوا فإنّ ذلك من عزم الأمور ) (٢) ( وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ). (٣)

وهذا هو العفو ، وقد سبق ذكره.

والثاني : ما لم يقدر عليه أصلاً ، كالمصائب والنوائب.

وللصبر عليه درجتان ، أدناهما التلقّي بحسن فعل الجوارح من الحمد والشكر وعدم التشكّي إلى الغير ، وترك التلفّظ بما يشعر بالكراهة ولا فعله كلطم الخدّ وشقّ الجيب والصراخ ، بل التضجّر والتبرّم أيضاً.

ولا ينافيه كراهة القلب والتشكّي إلى الله والتضرّع إليه في رفعه وإعطاء عوضه.

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قال الله تعالى : إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر ولم يشكني إلي عوّاده أبدلته لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه ، فإن أبرأته ولا ذنب له ، وإن توفّيته فإلى رحمتي ». (٤)

وأعلاهما التلقّي بالرحب والفرح والسرور قلباً رضاءاً بما فعله الحبيب.

فعن الصادق عليه‌السلام : « فمن صبر كرهاً ولم يشك إلى الخلق ولم يجزع بهتك ستره فهو من العامّ ونصيبه ما قال الله عزّوجلّ : ( وبشّر الصابرين ) (٥) أي بالجنّة والمغفرة.

ومن استقبل البلاء بالرحب وصبر على سكينة ووقار فهو من الخاصّ ،

__________________

١ ـ المزّمّل : ١٠.

٢ ـ آل عمران : ١٨٦.

٣ ـ النّحل : ١٢٦.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ١٢٧.

٥ ـ البقرة : ١٥٥.

٣٥٢

ونصيبه ما قال الله تعالى ( إنّ الله مع الصابرين ). (١) » (٢)

وهذا أعلى مراتب الصبر ، وهو المراد من قولهم : « لا ينال الصبر الا ببضاعة الصديقين ».

ويحتاج نيل هذه المرتبة إلى تحصيل تمام اليقين ، كما قال علي عليه‌السلام في بعض أدعيته « وهب لي من عندك يقيناً صادقاً يهوّن مصائب الدنيا والآخرة وأحزانهما ». (٣)

واعلم أنّه قد ورد في النبوي : « أنّ الصبر ثلاثة : صبر عند المصيبة ، وصبر على الطاعة وصبر عن المعصية ، فمن صبر على المصيبة حتّى يردها بحسن عزائها كتب الله لهثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض ، من صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش ، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة مابين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش ». (٤)

وقال الصادق عليه‌السلام : « الصبر صبران ، صبر عند المصيبة حسن جميل ، وأحسن منه الصبر عندما حرّم الله عزّوجلّ عليك ». (٥)

وهما يدلّان باطلاقهما على أفضليّة الصبر عن المعصية ، وايّد بكونه مقدوراً للعبد بخلاف المصيبة ، وترك المقدور أفضل وأدلّ على الاخلاص.

وقال الغزالي بأنّ الصبر على المصيبة أفضل ، لما ورد عن ابن عبّاس رضي‌الله‌عنه أنه قال « الصّبر في القرآن على ثلاثة أوجه : صبر على أداء فرائض الله فله ثلاثمائة درجة ، وصبر عن محارم الله وله ستمائة درجة

__________________

١ ـ البقرة : ١٥٣.

٢ ـ مصباح الشريعة : الباب ٩١ ، في الصبر.

٣ ـ لم أجده.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ١٢٦.

٥ ـ الكافي : ٢ / ٩٠ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الصبر ، ح ١١ عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام.

٣٥٣

وصبر في المصيبة عند الصدمة الاولى فله تسعمائة درجة ».

ولأنّ كل مؤمن يقدر على الصبر عن المحارم ، وأما الصبر على بلاء الله فلا يقدر عليه الا ببضاعة الصدّيقين ، لكونه شديداً على النفس. (١)

قال بعض المعاصرين : والحقّ أنّ اطلاق الأفضلية في كلّ منهما غير صحيح ، إذ القول بأنّ الصبر عن كلمة كذب أو ليس ثوب حرير لحظة أكثر ثواباً من الصبر على موت أعزّة الأولاد بعيد.

وكذا القول بأنّ الصبر على فقد درهم أكثر ثواباً من كفّ النفس عن كبائر المعاصي فطامها عن اللذّات والشهوات مع القدرة عليها ، بل الصحيح التفصيل بأنّ كلّ ما كان أشقّ على النفس فثوابه أكثر ممّا هو أيسر وأسهل ، فإنّ أفضل الأعمال أحمزها ، وبه يحصل الجمع بين الأخبار. (٢)

وأنت تعلم أنّ هذا الكلام خال عن التحصيل ، لأنّ الكلام في ترجيح المتساويين في المشقّة على النفس والا فلا يلتزم أدنى محصّل فيما فرضه هذا الفاضل ترجيح الأسهل على الأصعب ، فضلاً عن مثل ذلك المحقّق الوحيد والامام الفريد. فالحقّ في الجمع بعدما بيّناه من مرتبتي الصبر عند المصيبة ، أنّ الصبر على المعصية أفضل من أدناهما خاصة ، لظهور أنّ مرتبة المحبّة والرضا والتسليم من أعلى المراتب ، ولا يفوز بها الا الصدّيقون والمقرّبون ، والمرتبة الأعلى منهما لاتحصل الا بعد حصولها.

وكيف يتأمّل أحد في كون آخر درجات الايمان أعلى من أوّلها أعني الصبر على المحارم؟

وأمّا الأدنى فهو سهل المأخذ ، بل هو أوّل درجات الصبر وأقلّ ثواباً من الصبر على المعصية لمقدوريّتها وكثرة دواعيها فتجرّع مرارة الصبر في تركها خوفاً من الله وشوقاً إلى رضاه أشقّ وأصعب من ترك الاعتراض على

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ١٢٦.

٢ ـ جامع السعادات : ٣ / ٢٨٩.

٣٥٤

الله والتشكّي عند الغير على أمر غير مقدور له حادث منه تعالى ، قسراً ، بل الصبر على الطاعة أيضاً أشقّ وأصعب جزماً ، ويشهد لكون المراد من الصبر على المصيبة الذي رجّح عليه الصبر عن المعصية في الخبرين هذا الأدنى دون الأعلى أنّ الحكيم يتكلم فيما يعمّ نفعه للطباع البشرية ، وذلك الأعلى ليس من رتبة الأغلب ، حتى إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع كونه أشرف المقرّبين إلى الله تعالى لمّا مات ولده إبراهيم فاضت عيناه بالدمع وكان يقول : « العين تدمع والقلب يحزن والنقول مايسخط الرب ». (١)

فلا يتيسّر للأغلب الوصول إلى مرتبة الرضا التسليم ، بل من هو من خواصّ خواصّ المقرّبين ، كما نصّ عليه الخبر الذي نقلناه عن الصادق عليه‌السلام فلا معنى لحثّ العامة عليه ، بل اللائق بحالهم الحث على الميسور ، أعني الأدنى.

ويشهد لما ذكرناه أيضاً ظهور النبوي المذكور في ذلك أيضاً ، حيث قال : « حتّى يردّها بحسن عزائها ». (٢)

مضافاً إلى نصّ الصادق عليه‌السلام حيث قال : « فمن صبر كرهاً ولم يشك إلى عوّاده المصيبة ولم يجزع بهتك ستره فهو من العامّ ». (٣)

وبالجملة : إن كان المراد من الصبر على المعصيبة المرتبة الأدنى كان الصبر عن المعصية بل على الطاعة أيضاً أفضل.

والظاهر أنّه المراد من الخبرين المرجّحين له لما ذكرناه وإن كان الأقصى كانت هي أفضل.

والظاهر أنّه مراد ابن عبّاس ، وهو الذي رجّحه الغزالي ومن تبعه ،

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٣ / ٣٠١ ، وكأنّ مراده من هذا المثال أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مع كونه أشرف المقرّبين وواصلاً إلى أعلى درجات التسليم والرضا والمحبّة كان في هذه الواقعة في مقام تعليم الناس كيفية المواجهة مع المصائب ، لأن هذا هو الذي يعمّ نفعه للطباع البشرية.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ١٢٦ ، وقد مرّ ص ٣٥٣.

٣ ـ مصباح الشريعة : الباب ٩١ ، في الشكر ، مع اختلاف.

٣٥٥

ينادي بأنّ مراد الغزالي ذلك استدلاله الصبر على المحارم مما يقدر عليه كلّ مؤمن ، والصبر على البلاء مما لاينال الا ببضاعة الصدّيقين لظهور أنّ الأدنى ليس كذلك فظهر وجه الجمع بحمد الله تعالى.

بقى شيء وهو أنّ عدم كراهة المصبية وتلقّيها بالمحبّة مما يشكل تصوّره ، لأنّه غير مقدور للانسان ، إذ كيف يمكن الحبّ لما يؤلم القلب ويتنفّر عنه الطبع ، فلا يمكن إناطة التكليف به أصلاً.

ويشهد لذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع كونه أشرف المقرّبين وأعظم الصدّيقين كان يقول في موت إبراهيم : العين تدمع والقلب يحزن.

وكذا يظهر من أحوال سيّدنا الحسين عليه‌السلام في كربلاء حصول الكراهة القلبية والبكاء من مشاهدة مصارع أولاده وإخوانه ومواليه وجزع أهل بيته وغير ذلك.

فنقول : ليس المراد من المحبّة والكراهة في هذا المقام المحبّة والكراهة الذاتيان (١) ، إذ لا يتفوّه عاقل بأنّ موت الولد محبوب للطبع لذاته ، ضرورة كونه مكروهاً بالطبع حتى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ لم يكن منزّهاً عن الطبيعة ولوازم الجسمية.

نعم صدوره من الله سبحانه بعد اليقين بأن ما يفعله محض الخير والمصلحة صار باعثاً لحبّه ، فالحبّ لله لاينافي الكراهة بالطبع ، كما أنّ ضرب الحبيب وايذاءه محبوب للمحبّ لا لذاته ، بل لكونه صادراً عن الحبيب ، وشرب الدواء المرّ والحجامة محبوبان لفاعلهما لا لذاتهما ، بل للعلم باشتمالهما على المصلحة.

هذا ، مع أن وصل إلى درجة الاستغراق في بحار معرفة الله وانسه والاحتراق من أنوار جلاله وقدسه فأفنى نفسه في حضرته بكمال حبّه ومعرفته لم يبق له الالتفات إلى مقتضى طبيعته ، بل لم يبق له طبع يميل إلى

__________________

١ ـ كذا ، والصحيح : الذاتيّين.

٣٥٦

لذّات الدنيا أو يتنفّر عن مكارهها.

وأمّا حزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على فوت إبراهيم وأمثاله فقد سبقت منّا الاشارة مراراً إلى عدم إمكان مقايسة أحوالهم بأحوالنا ، فإنّهم لأجل وصولهم إلى مرتبة جمع الجمع أعني العود بعد الوصول إلى الغاية من المرتبة البشرية للارشاد والهداية لهم جنبتان : جنبة لاهوتية بها اتّصالهم بعالم القدس والجبروت ، وجنبة ناسوتية مضاهية لمادّيات عالم الناسوت ، فكثيراً ما يصدر عنهم أمور خارجة عن طوق البشر هي من آثار الجنبة الربّانية ، كما قال علي عليه‌السلام : « ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانية ». (١)

وكثيراً ما يظهر منهم أمور مترتّبة على طباع البشرية ، كما نقل أنّه عليه‌السلام كان يضعف في بعض الأوقات بحيث لايقوى على كسر قرص الشعير ولايقدر عليه الا بالاستعانة بركبتيه ، فليس للأفهام القاصرة التشكيك أو الاعتراض فيما يترائى ظاهراً من البون البعيد والتفاوت الشديد في أفعالهم وأطوارهم والتناقض الظاهر فيما ينقل من أحوالهم وآثارهم.

تذنيب

إنّما يتمكّن من تحصيل الصبر بتقوية باعث اليقين وتضعيف باعث الهوى.

والاولى إنّما يمكن بكثرة الفكر فيما ورد في فضله من الآيات والأخبار ، وأنّ الجزء الموعود به أكثر من الفائت لقصره وتناهيه بخلافه ، وأنّ الاضطراب والجزع قبيح يضرّ بالدين والدنيا ، ولا الفائدة له الا حبط الثواب وجلب العقاب ، لأنّ المقدّر كائن ، كما قال علي عليه‌السلام :

« إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور ، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور ». (٢)

__________________

١ ـ البحار : ٤٠ / ٣١٨ ، تاريخ أميرالمؤمنين عليه‌السلام ، باب زهده وتقواه ، ح ٢.

٢ ـ جامع الأخبار : ١٣٦ ؛ نهج البلاغة : الحكمة ٢٩١ ، وفيه : « القدر بدل المقادير ».

٣٥٧

فليعوّد نفسه على مصارعة باعث الهوى مع باعث الدين تدريجاً حتّى تدر بلذّة الظفر بها ، فتحصل له جرأة على مصارعتهما ومدافعته ، والثاني يحصل بالرياضة من الصوم والجوع وقطع مايهيّج الشهوة ومن النظر والتخيّل والتسلية بالمباح وغير ذلك.

فائدة

اختلف القوم في ترجيح الصبر على الشكر وبالعكس ، والأخبار مضطربة في هذا الباب ، وسنذكر حقيقة الحال في بحث الشكر إن شاء الله تعالى.

٣٥٨

الباب التاسع

في ذكر ما يتعلق بالعدالة

من الفضائل والرذائل

٣٥٩

لمّا عرفت أنّ العدالة عبارة عن اعتدال القوى الثلاث وتسالمها عرفت أنّ رذائل كلّ منها معدودة من الظلم الذي هو ضدّها لاستلزام انتفاء الجزء انتفاء الكلّ ، وقد ذكرنا غير مرّة أنّ اضافة فضيلة واحة أو رذيلة واحدة إلى قوّتين أو أكثر من جهتين غير عزيزة فلا غرو في إضافة الرذائل إلى كلّ من القوى الثلاث أو بعضها تارة ، وإلى العملية أخرى ، فمن الحيثية الاولى تسمّى باسمها الخاص بها ، ومن الثانية ظلماً أو جوراً ، كما سمّى الله تعالى الشرك مع كونه من رذائل العاقلة ظلماً ، وهذا بخلاف الفضائل ، لعدم استلزام فضائلها ثبوت فضيلة العدالة ، لأنّ ثبوت العام لايستلزم ثبوت الخاص ، نعم ثبوتها يستلزم ثبوتها ، لأنّ حصول ملكة الأخذ بالوسط من كلّ شيء يتوقف على حصولها بأسرها لكونها أوساطاً من قواها ، لكن عرفت أنّ الشائع المتعارف مع تعارض الجهتين إضافتها إلى ما هي أقرب ، ولذا خصّصها علماء الفنّ بواحدة من الثلاث ، ولم يعدّ وها من أنواع العدالة لكونها بعيدة بحسب الاعتبار.

نعم لمّا كانت العدالة بمعنى الأخذ بالوسط من كل شيء ويؤول محصّله كما أشرنا إليه فيما سبق إلى ثلاثة : ما يجب للسالك مراعاته فيما بينه وبين الله تعالى كالشكر والعبادة والتوكّل والتسليم والرضا وما يجب مراعاته فيما بينه وبين الأحياء من الناس من أداء الحقوق وحسن المكافاة والنصفة في المعاملات وتعظيم الأكابر وإغاثة الملهوفين ونصح المستشيرين وقضاء حوائج إخوان الدين ونحوها ، وما يجب مراعاته بينه وبين أمواتهم كأداء الديون وإنفاذ الوصايا والصدقة والدعاء وأضرابها ، هذه ممّا لا اختصاص لها بإحدى الثلاث الا باعتبار بعيد ، فلذا عدّوها في أنواع العدالة وأضافوها إليها ، ويستلزم ذلك اندراج أضدادها تحت ضدّها أي الظلم ، ولم يضيفوها إلى تلك القوى مع إمكانها بنوع من الاعتبار لكونها عامة بعيدة ، والقريبة

٣٦٠