كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

الكمال الذي تخيّله فيه حتّى صار باعثاً له على التقرب.

والثالث إن كان كاذباً أو شاكّاً في نسبه لم يحلّ له أخذه ، وقلّ ما يوجد من لو كشف من باطنه بقيت القلوب مائلة إليه ، وإنما حبّب الخلق إلى الخلق سترا لله تعالى عنهم ، والتقوى خفيّ ليس كالعلم والفقر والنسب.

وأمّا قصد المال كالفقير يهدي إلى الغني طمعاً فهو حلال مع تحقّق المطموع فيه ، والأخبار دالّة عليه أيضاً.

وأمّا الاعانة بالفعل المعيّن كالمهدي إلى خاصّة السلطان لغرض معيّن إن (فإن ظ) كان المقصود منه حراماً كالحكومة والظلم وغيرهما حرم الأخذ.

وإن كان واجباً كدفع ظلم متعيّن على القادر عليه أو أداء شهادة فكذلك وهي الرشوة بعينها ، كالقاضي يأخذ الرشوة على الحكم بالحقّ لصاحبه.

وإن كان مباحاً جاز الأخذ وكان كالجعالة كالوكيل للخصومة بين يدي القاضي إن لم يسع في حرام.

وإن كان المقصود يحصل بكلمة لا تعب فيها لكن من ذي الجاه ، حتّى تفيد ، كقول الوزير لبوّاب السلطان لاتمنعه عن الدخول ، فقيل : إنّه حرام لأنه عوض عن الجاه ، ولم يثبت جوازه في الشرع. (١)

قال : ونحوه أخذ الطبيب العوض على تعليم دواء ينفرد بمعرفته ، فإن عمله في التلفّظ غير متقوّم كحبة من سمسم فلايجوز العوض عليه ، ولا على علمه لعدم انتقاله منه إلى الغير ، وإنّما يحصل له مثله.

أقول : وفيه نظر

__________________

١ ـ قائل هذا القول وكذا الذي بعده هو أبو حامد الغزالي كما في المحجة البيضاء (٣ / ٢٧٦) وقال الفيض رحمه‌الله بعد الثاني : ولي فيه نظر ، بل وفيما قبله أيضاً.

٢٦١

وإن كان طلب المحبّة في عينها (١) طلباً للتودّد والاستيناس فهو مقصود للعقلاء مستحبّ شرعاً.

فعن أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « لأن أهدى إلى أخي المسلم هديّة أحبّ إليّ من أن أتصدّق بمثلها ». (٢)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « تهادوا تحابّوا تذهب بالضغائن ». (٣)

فهذه هي الهدية المحلّلة.

وإن كان طلب المحبّة لا للانس من حيث هو انس بل ليتوصّل إلى أغراض غير محصورة النوع ، وإن انحصر جنسها ولولا جاهه لما أهدى إليه ، فإن كان جاهه لعلم أو نسب فهو وإن جاز وكان أخفّ ، لكنّه مكروه لمشابهته بالرشوة ، فالورع في مثله ممدوح ، وإن كان لولاية تولّاها من قضاء وولاية صدقات أو جباية مال أو غيره من الأعمال السلطانية فهو رشوة في صورة الهدية ، والأخبار صريحة في المنع عنه.

ففي الخبر : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث والياً إلى صدقات الأزد ، فلمّا جاء أمسك بعض ما معه وقال : إنّه هديّة لي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : هلّاً جلست في بيتك وبيت أبيك وبيت أمك حتى يأتيك هديّة إن كنت صادقاً ثمّ قال : ... والذي نفسي بيده لا يأخذ منكم أحد شيئاً بغير حقّه الا أتى الله يحمله ، ولا يأتينّ أحدكم يوم القيامة ببعير له خوار أو شاة تبعر. ثم رفع يديه إلى السماء حتّى رأيت بياض ابطيه ثم قال : اللّهمّ هل بلّغت ». (٤)

فلابدّ أن يقدّر نفسه في بيت أبيه وأمّه فما كان يهدى بعد العزل في بيت أمّه جاز له الأخذ في ولايته ، وما علم أنّه لأجل ولايته ولو عزل صرف

__________________

١ ـ كذا ، وفي المحجة البيضاء (٣ / ٢٧٣) ... ما يقصد به المحبّة وجلبها ...

٢ ـ الكافي : ٥ / ١٤٤ ، كتاب المعيشة ، باب الهدية ، ح ١٢ مع اختلاف.

٣ ـ الكافي : ٥ / ١٤٤ ، كتاب المعيشة ، باب الهدية ، ح ١٤ ، وفيه : « تهادوا تحابّوا ، تهادوا فإنّها تذهب بالضغائن ».

٤ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

٢٦٢

عنه إلى المنصوب بعده حرم أخذه ، وما استشكل عليه الأمر فيه فهو شبهة يحسن الاجتناب والورع عنه.

وأمّا عطايا الحكّام فهي وإن دلّ الإجماع والنصوص من طريق أهل البيت عليهم‌السلام على جواز أخذها ولو علم أنّهم يظلمون بها الناس سواء كان أخذهم من الناس باسم الخراج والمقاسمة أو غير ذلك ، وسواء رضي المالك أم لم يرض ، وسواء كان العطايا على سبيل الهديّة ونحوها أو على سبيل المعاوضة الشرعيّة ، الا انّها مختصّة بسلاطين أهل الخلاف لورودها فيهم ، وبينهم وبين أهل الحقّ فرق لأنّهم يأخذون من المخالفين مع اعتقاد الاستحقاق وسلاطين الشيعة يأخذون من الشيعة مع اعتقادهم عدم الاستحقاق ، فلا مجال للمقايسة ، وليست العلّة للجواز هناك اختلاط الحلال بالحرام حتّى يجوز الأخذ مالم يعرف بعينه لأنّ القياس حرام الا مع النصّ بالعلّة ، وليس فليس. مع أنّ في الأخبار ما يدلّ على الجواز وإن عرف بعينه ، نعم لو لم يعرف بعينه جاز الأخذ هنا ، بناءاً على تلك القاعدة (١) ، لكن لاريب في الكراهة الشديدة وترتّب أثر الحرام الواقعي عليه لو كان حراماً ، وأيّ برهان أعظم من التجربة كما أشرنا إليه. هذا مع ما ورد من النهي الشديد عن مخاطتهم ومعاملتهم ونهاية احتراز علماء الآخرة من الصحابة والتابعين عن مجالستهم ، كما لايخفى على متتبّع الآثار ، بل كان مبالغتهم في الاحتراز عنهم بحيث لم ينقل عنهم مع الفسّاق والفجّار وأهل الأسواق وأرباب الحرف الخسيسة مع غلبة الفسق والفجور والكذب فيهم ، بل مع الكفّار أيضاً ، وإنّما كانت في خصوص الظلمة الآكلين أموال اليتامى والمساكين المواظبين على إيذاء المسلمين وطمس رسوم شرائع الدين ، والسرّ فيه أنّ الفسق لازم لايتعدّى ، وكذا الكفر وهما جنايتان على حقّ الله وحسابهما

__________________

١ ـ يعني بها ما مرّ (ص ٢٧٣) من شمول الأخبار المؤمنّه لأطواف العلم الإجمالي في المحصورات.

٢٦٣

على الله ، وظلم الولاة متعدّ يعمّ ويزداد ويسري ، ويقدر العموم والسراية يزيد الغضب والمقب من الله تعالى ، فيجب الاحتراز خوفاً من أن يشمله الغضب.

روى محمد بن مسلم قال : مرّ بي الصادق عليه‌السلام وأنا جالس عند قاضي المدينة ، فدخلت عليه من الغد فقال : « ما مجلس رأيتك فيه أمس؟. قلت : جعلت فداك إنّ هذا القاضي لي مكرم ، فربما جلست إليه ، فقال لي : ما يؤمنك أن تنزل اللعنة فتعمّ من في المجلس؟ ». (١)

وفي الخبر : أنّ الله تعالى أوحى إلى يوشع بن نون : أنّي مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستّين ألفاً من شرارهم! فقال : ياربّ ما بال الأخيار؟ قال : إنهم لن يغضبوا لغضبي ، وكانوا يؤاكلونهم ويشاربونهم. (٢)

وفي النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله تعالى لعن علماء بني إسرائيل إذ خالصوا الظالمين في معائشهم ». (٣)

والأخبار كثيرة ، فالتورّع عن أكل أموالهم أمر مطلوب جداً ، محمود شرعاً وعقلاً.

وأمّا أخذهم عليهم‌السلام فلا دخل له بالمقام ، لكونه حقّاً لهم ، والإذن لشيعتهم إمّا لعلمهم باحتياجهم وعدم تمكّنهم من الامتناع وإمّا تحليل لهم عليهم‌السلام بقبوله عنهم من طرف حقّهم الذي لهم عليهم ، هذا مضافاً إلى ما عرفت من أنّ حكم الظاهر غير الورع ، ولذا جعلنا هذه المرتبة بعد تلك المرتبة ، وهذا واضح بحمد الله لا سترة ولاريب يعتريه.

وثالثها : ورع المتّقين ، وهو ترك الحلال المحض خوفاً من أدائه إلى الحرام ، كما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « انه لا يكون الرجل من المتّقين حتّى يدع ما

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٧٠ نقلاً عن التهذيب (٢ / ٦٩).

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٧٠.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٧٠.

٢٦٤

لا بأس به مخافة ما به بأس ». (١)

وذلك كالتورّع التحدّث بأحوال الناس خيفة أن ينجرّ إلى الغيبة ، والتورّع عن أكل لذائذ الأطعمة ولبس النفائس المكتسبة من الحلال المحض الذي لا شبهة فيه خوفاً من هيجان النشاط والبطر المؤدّي إلى مقارفة المحظورات.

ولعلّه هوالسرّ في منع بعضهم ولو على سبيل الكراهة عن تجصيص المسجد وتزيينه استناداً بنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تكحيل المسجد ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « بل عريش كعريش موسى » (٢) خوفاً من سريان اتباع الشهوات في المحباحات إلى مقارفة المحظورات ، فإنّ المباح والمحظور يشتهيان بشهوة واحدة ، وإلى هذه المراتب الثلاث أشير في الكتاب المجيد بقوله تعالى :

( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملو الصالحات ثمّ اتّقوا وآمنوا ثمّ اتّقوا وأحسنوا والله يحبّ المحسنين ). (٣)

قال مولانا الصادق عليه‌السلام : « التقوى على ثلاثة أوجه ، تقوى من خوف النار والعقاب وهو ترك الحرام ، وهو تقوى العام ، وتقوى من الله وهو ترك الشبهات فضلاً عن الحرام ، وهو تقوى الخاصّ ، وتقوى في الله وهو ترك الحلال فضلاً عن الشبهة ». (٤)

ورابعها : ورع الصدّيقين ، وهو الاعراض عمّا سوى الله خوفاً من صرف ساعة من العمر فيما لايفيد قرباً إليه تعالى ، وإن علم أنّه لا يفضي إلى حرام ، وهؤلاء يرون كل ما ليس لله حراماً امتثالاً لقوله تعالى :

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢١٣ مع اختلاف.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢١٥.

٣ ـ المائدة : ٩٣.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٥ نقلاً عن مصباح الشريعة (الباب ٨٢ خ التقوى) مع تقديم وتأخير.

٢٦٥

( ثمّ ذرهم في خوضهم يلعبون ). (١)

والأخبار في فضل الورع ممّا لاتحصى ، وهو من أمّهات الفضائل كما أن ضدّه على ما عرفت من أمّهات الرذائل.

ولذا قال الصادق عليه‌السلام : « لا ينال ما عند الله الا بالورع » (٢) وفّقنا الله للتقوى وجنّبنا عن اتّباع الهوى.

__________________

١ ـ الأنعام : ٩١.

٢ ـ الكافي : ٢ / ٧٦ ، كتاب الايمان والكفر ، باب الورع ، ذيل ح ٣.

٢٦٦

الباب الثامن

فيما يمكن أن يتعلّق بكلّ من الثلاث

أو اثنين منها من الرذائل والفضائل

وفيه أيضاً مقامان

٢٦٧

المقام الأوّل

في الرذائل ومعالجاتها

وفيه فصول

فصل

الحسد عبارة عن كراهة النعمة الحاصلة للغير ممّا يظنّ أنها مصلحة له من حيث إنها كذلك ، وبالأوّل يخرج الغبطة كما أنّ بالأخير يخرج الغيرة ، وله بواعث كثيرة.

منها : ما يؤول إلى رذالة القوّة الشهوية ، كحبّ الجاه والمال وغيرهما من الشهوات الدنيوية ، وشدّة الحرص عليها ، فيحبّ أن يكون له ما حصل لغيره منها ، أو يزول عنه حتّى يتفرّد به.

والخوف (١) من فوت المقاصد كما يتّفق للمتزاحمين على أمر واحد كتحاسد الضرّات في الزوجية ، والاخوة في نيل المنزلة عند أبويهم ، والتلامذة عند استذهم ، وخواصّ الملك في التقرّب لديه ، وعلماء بلدة واحدة في نيل الجاه أو غيره.

أو البخل ، فإنّ من الناس من يفرح بابتلاء جميع الناس بأنواع المحن ، ويحزن من سعة عيشهم وحسن حالهم بدون باعث ظاهر من عداوة أو توقّع نفع أو وصول مكروه وغيرها ، بل يبخل بنعمة الله على عباده من دون غرض ، وهذا أخبث الحسّاد وأسوأهم.

ومنها : ما يؤول إلى الغضبية كالعداوة والبغضاء لكون الطباع مجبولة

__________________

١ ـ كذا والظاهر « أو الخوف ».

٢٦٨

على الفرح من ابتلاء العدّو والحزن من وصول نعمة إليه.

أو التكبّر حيث إنّ بعض الطباع مجبولة على الترفّع على الناس ، وتوقّع الانقياد والتذلّل منهم ، فإذا نال أحد منهم نعمة خيف من عدم التحمّل لكبره والترفّع عن خدمته والانقياد له ، بل انعكاس الأمر كما يتّفق كثيراً ، وكان حسد قريش للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من هذا القبيل.

أو التعزّز ، وهو عدم التحمّل لترفّع الأقران ، وتكبّر النظراء عليه مع العلم بأنّهم لو أصابوا بعض النعم تكبّروا عليه واستصغروه.

أو التعجّب ، بحيث يرى النعمة أعظم ممّا يستحقّه صاحبها ، فيتعجّب عن فوزه بها ، ويحبّ زوالها عنه ، كما وقع للأمم السالفة مع أنبيائهم.

ومنها : ما يتركّب من الفسمين.

لكن الباعث الكلّي في جميع هذه الأقسام هو الجهل ، إذ العالم باستحالة اقتناء شخص واحد لجميع فوائد الدنيا لايطلبه ، والعالم بأنّ كلّ ما يحدث في العالم صادر عن الحكمة الأزليّة والارادة الذاتية التي يستحيل تخلّفه عنها والا لزم النقص أو الجهل عليه تعالى ، لايميل إلى خلافه. والعالم بأنّ زوال النعم الالهية مضافاً إلى كونه نقصاً وفقداً لكمال الافاضة في المحلّ اللائق بها شرّ لكونه عدماً ، وقد تحقّق في محلّه أنّ الاعدام شرور كما أنّ الموجودات خيرات يميل إلى الشرّ ويطمع حصوله من الخير المحض؟ والعالم بأنّ حصول المقاصد وفواتها ممّا يتعلّق بمشيئته تعالى بحيث إنّه القادر على مايشاء الفاعل لما يريد ، ولا مدخل لوصول النعمة إلى الغير وعدمه فيهما كيف يطلب زوالها منه أو عدم حصولها له؟ وكذا العالم بأنّه تعالى أعلم باستعداد الأشخاص للنعم وقابليّتهم ولولاه لما أثر بعضهم ببعضها دون بعض ، وفي حال دون حال مع كونه حكيماً كيف يستحقر غيره ويتعجّب عمّا أفيض عليه من النعم؟

وممّا ذكرنا ظهر أنّ الباعث على الحسد مركّب من رذائل القوّة العاقلة

٢٦٩

إحدى القوّتين الأخريين (١) أو الثلاثة بأسرها ، وهو من أشدّ الأمراض وأصعبها ، وقد الله تعالى في مقام الانكار :

( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) (٢)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قال الله تعالى لموسى بن عمران : لا تحسدنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي ولا تمدّنّ عينيك إلى ذلك ولاتتبعه نفسك ، فإنّ الحاسد ساخط لنعمي ، صادّ لقسمي الذي قسمت بين عبادي ، ومن يك كذلك فلست منه وليس منّي ». (٣)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ». (٤)

وقال الصادق عليه‌السلام : « الحاسد مضرّ بنفسه قبل أن يضرّ بالمحسود ، كإبليس أورث بحسده لنفسه اللعنة ولآدم الاجتباء والهدى والرفع إلى محلّ حقائق العهد والاصطفاء ، فكن محسوداً ولاتكن حاسداً ، فإنّ ميزان الحاسد أبداً خفيف يثقل ميزان المحسود ، والرزق مقسوم ، فما ينفع الحسد الحاسد وما يضرّ المحسود الحسد ، والحسد من عمى القلب وجحود فضل الله ، وهما جناحان للكفر ، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد ، وهلك مهلكاً لاينجو منه أبداً ، ولا توبة للحاسد لأنّه مصرّ عليه ، معتقد به ، مطبوع فيه يبدو بلا معارض ولاسبب ، والطبع لايتغيّر عن الأصل ، وإن عولج ». (٥)

وقد تبيّن من هذه الأخبار وممّا ذكرناه أوّلاً : أن الحسد يضرّ في دين الحاسد لما يتفرّع عليه من المعاصي كالغدر والعداوة للمؤمن وترك النصح والتعظيم والمرعاة له وغير ذلك ، ولكونه ساخطاً معانداً لله في قضائه طالباً

__________________

١ ـ في « ج » : مركب من رذائل القوّة والعاقلة في إحدى القوتين الآخرتين أو الثلاثة بأسرها.

٢ ـ النساء : ٥٣.

٣ ـ الكافي : ٢ / ٣٠٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الحسد ، ح ٦.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٣٢٥ ، وفي الكافي : ٢ / ٣٠٦ عن أبي عبدالله عليه‌السلام : قال : « إنّ الحسد يأكل الإيمان ... » الحسنات ، وفي ب : الإيمان وفي ج الإيمان الحسنات واستظهر الكاتب عطف الثاني على الأوّل.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٣٢٨ نقلاً عن مصباح الشريعة الباب ٥١ ، في الحسد.

٢٧٠

للشرّ والنقص له ولعباده. وفي دنياه أيضاً لعدم انقطاع فيوضه تعالى بتمناه (١) فيتعذّب دائماً بأشدّ الحسرة والألم مؤثرا لنفسه ما يريده لأعدائه من الحزن والغمّ والتعرّض للافتضاح ديناً ودنيا من دون فائدة ينالها.

ولايضرّ بدين المحسود ودنياه ، إذ لا ينقطع عنه ما قدّر له من أياديه تعالى ، ولاينفع تدبيراته في دفعها ، كما تشهد التجربة به ، ولو زالت النعم بالحسد لم يتنعّم من الخلق أحد ، إذ لا أحد الا وله حاسد يحسد ، ولضرّه وشرّه يقصد ، بل ينفع دينه بتخفيف أوزاره ومعاصيه ، وتثقيل حسناته بما يفعله الحاسد به من الغشّ والاهانة والبهتان والغيبة ، فيزيد بحسده نقمة أخرويّة إلى دنيوية ، كما يزداد الحاسد بحسده نعمة أخروية إلى دنيوية ، ودنياه أيضاً حيث إن أهمّ الأغراض الدنيوية مساءة الأعداء وابتلاؤهم بأنواع الهمّ والغمّ والبلاء ، وأيّ البلاء أعظم ممّا نال حاسده من الغموم والهموم وتجدّدها بتجدّد نعمة عليه من نعم الله تعالى ، بل ربما صار الحسد باعثاً لاشتهار المحسود وانتشار فضله ، كما قيل :

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسوده

فيكون الحاسد عدوّاً لنفسه صديقاً لعدوّه ، ولذا قيل : مارأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد ، إنّه يرى النعمة عليك نقمة عليه.

واعلم أنّ الحسد إنما يتصوّر في الماديات الغير القابلة للاشتراك والعموم ، بحيث لو حظي بها واحد حرم الآخر عنها ، فحاطبها لايريد ضرّه بالذات ، وإنما يلزمه بواسطة اختلاف المقاصد ، فأمّا الفضائل النفسية والمعارف الحقّة والمطالب العلمية واللذّات الأخروية ، فهي لكونها عن المادة مبرّاة وعن سمة النقص والزوال معرّاة تزيد بكثرة الافاظة ، وتعمّ نفعها ، فلا بتصوّر فيها الحسد الا إذا استخدمت للدّنيا وجعلت من وسائلها كما في علمائها ، فيكون التحاسد بينهم فيما جعلوه غاية لها لا فيها نفسها ، إذ

__________________

١ ـ كذا ، والصحيح : بتمنّيه.

٢٧١

لايتصوّر التحاسد الا مع التوارد على المقاصد التي لاتفي بطلّابها وقاصديها وتضيق كالسجن على وارديها ، والعلم لايتناهى ولا يبيد ، فلا يقصر عنها ، بل يزيد ، وأمّا اللذّات الأخرويّة فلا تضيق بالكثرة وتقول هل من مزيد ، فلا حسد بين طلّاب الآخرة أصلاً.

( ونزعنا ما صدورهم من غلّ إخواناً على سرر متقابلين ). (١)

ثم إنّ مساواة أحوال العدوّ لدى عدوّه ليست اختيارية لأغلب النفوس ، فالتكليف به لعامة الناس مما لايليق بالحكيم والقدر المكلّف به عموماً ما يظهر أثره في الجوارح ، ويبعث على المعاصي الظاهرة كالغيبة والبهتان والغشّ والإهانة وغيرها ، فإنّ التكاليف الظاهرة الشرعية العامة للمكلّفين لايتعلّق الا بأعمال الجوارح كما أشرنا إليه سابقاً.

ويدلّ عليه في خصوص المقام النبوي المشهور : « رفع عن أمّتي ـ إلى قوله : ـ والحسد مالم يظهر بلسان أويد ». (٢)

وفي الخبر النبوي أيضاً : « ثلاث لاينفكّ المؤمن عنهنّ : الحسد والظنّ والطيرة ... وله منهن مخرج ، إذا حسدت فلاتبغ ـ أي لاتعمل به ـ ، وإذا ظننت فلا تحقّق ، وإذا تطيّرت فامض ». (٣)

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً : « ثلاثة في المؤمن له منهنّ مخرج ومخرجه من الحسد أن لا يبغي ». (٤)

والأخبار الدالّة على الذمّ والنهي كسائر ما دلّ على ذمّ صفات القلب والنهي عنها إمّا من قبيل ذكر الأسباب وإرادة المسبّبات كما هو الشائع في المحاورات ، أو من قبيل التأكيدات الواردة في المستحبّات والتغليظات الشديدة حثّاً للنفوس الناقصة عليها.

__________________

١ ـ الحجر : ٤٧.

٢ ـ راجع الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس.

٣ ـ جامع السعادات : ٢ / ١٩٩.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٣٤٩.

٢٧٢

وقد خبط في المقام بعض الأعلام (١) وأصرّ في القول بالحرمة مطلقاً ، وحمل ما ذكرناه من الأخبار على ما يكون فيه ارتياح للنفس بزوال النعمة طبعاً مع كراهته له من جهة العقل والدين حتّى يكون تلك الكراهة في مقابلة الحبّ الطبيعي بناء على أنّ الأخبار الناهية عن الحسد تدلّ على كون الحاسد آثماً ، والحسد عبارة عن صفة القلب دون الأفعال الظاهرة.

وفيه مضافاً إلى ما عرفت سابقاً أنّ ترك الأعمال الظاهرة مع التمكّن منها يستلزم الكراهة من جهة العقل والدين ، إذ مع فقد المانع ووجود الباعث المقتضي يتمّ علّة الوجود ، فلا يتصوّر تخلّف المعلول عنها.

وأمّا مع عدم التمكّن مع الشرق إلى الأعمال الظاهرة والهمّ بها فقد عرفت أنّ المستفاد من الأخبار الكثيرة الدالة على أنّ من همّ بسيّئة ولم يعملها لم يكتب عليه ، والاجماع المدّعى في كلام جماعة أنّه معفو عنه مضافاً إلى هذه الأخبار فإنّها مقيّدة وتلك مطلقة ، فلابدّ من حملها عليها ، على أنّ من اتّصف بالايمان بل اتّسم بالاسلام وعلم أنّ الحسد مبغوض لله تعالى ومذموم بحسب الشريعة سيّما إذا تبيّن له ذلك بحسب العقل أيضاً كيف لايكرهه ولايمقته بقلبه ، بل من يظهر آثاره في جوارحه أيضاً يمقته ويكرهه شرعاً كسائر المعاصي والآثام لوجود القوّة العقلية الكارهة لها والمانعة له عن ارتكابها فيه ، غاية ما هناك صيرورتها مغلوبة من الشهوية والغضبية والجنود الطبيعية والشيطانية ، وهو واضح ، ولمّا كانت أعمال الجوارح كلّها ناشئة عن أعمال القلب ومتسبّبه منها ورد كمل التأكيد في قلعها وقمعها كي لايبتلى برسوخ تلك الأسباب فيه بمسبّباتها ، فمن جاهد نفسه مع اتّصافها برذيلة تقودها إلى الآثار السيّئة بمنعها وحفظها عن تلك الآثار كان مجاهداً بالجهاد الأكبر الذي يوازي نزع الروح بل أشدّ وأصعب ، فكيف يعدّ عاصياً مع أنّه

__________________

١ ـ هو المولى مهدي النراقي صاحب جامع السعادات فراجع : ٢ / ٢١١ ، وكذا أبو حامد كما في المحجة البيضاء (٥ / ٣٤٨ ـ ٣٤٩).

٢٧٣

السالك حينئذ إلى المقصد والمشتغل بعلم السلوك الصعب الذي نحث عليه من أوّل الكتاب إلى تاليه. والاقامة (كذا) بعد ما عوّد نفسه على ترك مقتضياتها وآثارها يلزمه زوال تلك الملكة تدريجاً ، ويسهل عليه ذلك إلى أن تنعدم بالمرّة.

وممّا ذكر يظهر أنّ علاج هذا المرض لايمكن الا بازاحة علله من الرذائل الباعثه عليه ، فيبدّل الحرص والطمع بالقناعة ، والتكبّر بالتواضع ، والدناءة بعلوّ الهمّة ، والجهل بالمعرفة ، والحقد بالمحبّة ، ثم المواظبة على الامتناع من آثاره ، والاتيان بأضدادها قولاً وفعلاً على سبيل العنف والقهر والمجاهدة للنفس حتى تعتاد ، ولو حصّل فضيلة التوحيد وشاهد الارتباط الخاص الذي بينه تعالى وبين خلقه وعلم أنه من أقوى الروابط وأضبطها لم يلاحظ الموجودات الا من حيث الانتساب إليه تعالى بارتضاعها من لبان الوجود بثدي واحدة وشرب ماء الفيض والجود من شريعة واحدة ، فلا ينظر إليهم بعين السخط والعدوان وإن أصيب منهم بأنواع البليّة ، بل لم يلحظهم الا بعين المودّة والرحمة ، كما هو شأن كمّل العارفين المستغرقين في حبّ الله وأنسه ، والمحظوظين بنعمة معرفته.

تذنيب

قد أشرنا إلى أنّ الغبطة تمنّي مثل ما للمغبوط من غير إرادة زواله عنه ، ويسمّى منافسة أيضاً ، وإطلاق الحسد عليه في بعض الأخبار اتّساع لمقاربتهما ، وهي في الأمور الدينية والفضائل النفسية ممدوحة ، إذ سببها حبّ الله وحبّ طاعته ، وأمّا في الأمور الدنيوية الغير المحرّمة فهي وإن لم تكن محرّمة الا أنّها لابتنائها على حبّ الدنيا والتنعّم بها مذموم ينقص بها درجته ويحجب بسببها عن المقامات المحمودة كالرضا والتوكّل والقناعة والزهد.

قال بعض الأعلام : لو كانت الغبطة مقصورة على مجرّد حبّ الوصول إلى مثل ما للمغبوط من دون حبّ المساواة له وكراهة النقصان عنه

٢٧٤

لم يكن فيه حرج ، وإن كان معهما فهناك موضع خطر ، إذ زوال النقصان إما بالوصول إلى نعمة المغبوط أو زوالها عنه ، فإذا انسدّ أحدهما مالت النفس إلى الآخر ، إذ لايبعد أن يكون المريد للمساواة ، العاجز عنها منفكّاً عن الميل إلى زوالها عنه حتّى يزول نقصانه عنه به ، فإن كان بحيث لو فوّض الأمر إليه سعى فيه كان حسداً مذموماً وإن منعه العقل عنه لكن يجد من طبعه الفرح والسرور بزوالها عنه كان أيضاً حسداً مذموماً الا أن يكون مبغضاً لنفسه على تلك الحالة مجاهداً لها في دفعها ، فيكون معفوّاً عنه ـ انتهى ملخّصاً (١) فتأمل.

فصل

النميمة نوع من إفشاء السرّ وهتك الستر ، أعني ما يتضمّن فساداً ، والسعاية أخصّ منها ، أي ما كان المحكي له من يخاف جانبه كالحكام والظلمة ، فإن كان الباعث عليها العداوة كانت من رذائل الغضبية من طرف الافراط ، أو الطمع كان من رذائل الشهوية منه أيضاً ، وربما تصدر عن فضول في الكلام تشهيّاً واهترازاً للنفس بها من دون باعث خاص ، وحينئذ يكون منها من باب رداءة الكيفية. وربما تعمّم بحيث يشمل وجوه الإعلام بأسرها من الكتابة والكناية والاشارة وغيرها ، وهي من قبائح الأعمال وفضائحها ، الا إذا كانت مشتملة على نفع مسلم أو دفع أذى عنه أو المنع عن معصية قال الله تعالى : ( همّاز مشّاء بنميم ). (٢)

( ويل لكلّ همزة لمزة ). (٣)

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لمّا خلق الله الجنّة قال لها : تكلّمي ، قالت : سعد من دخلني ، فقال الجبّار جلّ جلاله : وعزّتي وجلالي لايسكن فيك ثمانية نفر من الناس : لايسكنك مدمن خمر ، ولا مصرّ على الزنا ، ولا قتّات وهو

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٢ / ١٩٧ ـ ١٩٨.

٢ ـ القلم : ١١.

٣ ـ الهمزة : ١.

٢٧٥

النمّام ... الحديث ». (١)

وروي أنّه أصاب بني إسرائيل قحط فاستسقى موسى مرّات فما أجيب ، فأوحى الله إليه : أنّي لا أستجيب لك ولمن معك وفيكم نمّام قد أصرّ على النميمة ، فقال موسى : ياربّ من هو حتّى نخرجه من بيننا؟ فقال : ياموسى! أنهاكم عن النميمة وأكون نمّاماً؟ فتابوا بأجمعهم وسقوا. (٢)

وقال الصادق عليه‌السلام : « من روى على مؤمن رواية يريد بها شينهوهدم مروء ته ليسقطه من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان ، ولا يقبله الشيطان » (٣)

وكيف لايكون النمّام من أخبث الناس مع عدم انفكاكه عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والنفاق والحقد والحسد والإفساد في الأرض وقطع ما أمر الله به أن يوصل.

ثم اللازم على من يحمل إليه النميمة تكذيب النمّام لفسقه بها ، وقد قال الله تعالى ( إن جاء كم فاسق بنبا فتبينوا ) (٤).

بل ينهاه وينصحه لقوله تعالى :

( وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ) (٥)

فإن لم يقبل أعرض عنه لقوله تعالى : ( وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين ). (٦)

وأن لايحكي عنه ما سمعه منه فيصير مثله.

روى محمد بن الفضيل عن الكاظم عليه‌السلام أنه قال : جعلت فداك الرجل

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٧٦.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٧٦.

٣ ـ الكافي : ٢ / ٣٥٨ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الرواية على المؤمن ، ح ١.

٤ ـ الحجرات : ٦.

٥ ـ لقمان : ١٧.

٦ ـ الأعراف : ١٩٩.

٢٧٦

من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه ، فأسأله عن ذلك فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟ فقال : لي : « يا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، فإن شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولاً فصدّقه وكذّبهم ، لا تذيعنّ عليه شيئاً تشينه به وتهدم مروء ته فتكون من الذين قال الله تعالى : ( إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ... الآية ). (١)

فصل

الشماتة هي إظهار المسرّة بمساءة الغير ، فإن كانت من العداوة والحسد كانت من رذائل الغضبيّة ، وإن كانت من الميل إليها بدون باعث فهي من رداءة الشهوية ، وهي من أعظم أنواع الأذية. والتجربة شاهدة مضافاً إلى الأخبار بأنّ الشامت لايخرج عن الدنيا حتى يبتلى بمثلها ، على أنّ ابتلاءه بالمصائب لايدلّ على سوء حاله ، بل ربّما دلّ على عدم استدراجه وكونه مرحوماً بها حتّى جعلت كفّارة لمعاصيه ، أو سبباً لرفع درجاته في الآخرة ، فإنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، ولذا ترى أنّ أعظم المصائب ينزل بالأنبياء فالأولياء ، ثمّ الأمثل فالأمثل في درجات العلى.

وعلاجها برفع بواعثها والتأمّل فيما يترتّب عليه من الابتلاء بمثلها كما يشهد به التجربة والاعتبار ، مضافاً إلى الأخبار ، وأنّه لايرضى بشرّ الناس مطلقاً الا الشرير ، كما تقدّم ، ثم تكليف نفسه على سبيل القهر والتعنيف على ترك هذه الخصلة الخبيثة وفعل ما يضادّها من الحزن والمساءة وغيرهما حتّى تعتاد نفسه عليه.

فصل

السخرية والاستهزاء أي محاكاة أقوال الناس وأفعالهم وصفاتهم قولاً

__________________

١ ـ الوسائل : كتاب الحج ، الباب ١٥٧ من أبواب أحكام العشرة ، ح ٤ ، والآية في سورة النور : ١٩.

٢٧٧

أو فعلاً أو إيماءاً على وجه يضحك منه الناس نوع من الأذية والاهانة. وتنبيه الناس على عيوب المستهزىء به ولو كانت في غيبته كانت غيبة أيضاً. ولو بالغ بما ليس فيه كان كذباً وبهتاناً أيضاً. فإن كان الباعث عليها الكبر والتحقير أو العداوة كانت من رذائل الغضبية ، وإن كان مجرّد ضحك الأغنياء وتنشيط قلوبهم طمعاً كان من رذائل الشهوية.

ويشتمل هذا القسم من خسّة النفس ودناءة الهمّة والوقاحة وهتك أستار الحياء والذلّ والهوان على مالا يخفى. وهو مضافاً إلى كونه بنفسه عقوبة عاجلة مستلزم لعقربات عظيمة في الآجل ، إذ لا ظلم أعظم من وضع النفس الشريفة التي هي بن سنخ عالم الربوبيّة القابلة لخلافة الله تعالى في أخس المراتب البهيمية. وأيّ شناعة أعظم من أخذ أذى المسلمين حرفة ، وما يؤدّي إى قسوة القلوب وغفلتها عن الله تعالى بالضحك الملاهي عملاً وصنعة ، فما هو الا من غاية الحمق وخفّة العقل والجهالة بخواصّ النفس الانسانيّة ، وما به تمتاز عن البهائم. ويشهد لذلك أنّ موسى عليه‌السلام لمّا قيل له ( أتتّخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) (١) فلو جعلت من رذائل القوّتين لم يكن بعيداً.

وعلاجها بإزاحة عللها ، أي الكبر والعداوة والجهل ، وتبديلها بأضدادها ، أي التواضع والمحبّة والعلم بما به امتياز النفس الانسانية من غيرها ، ويكون الأرزاق والأقوات والأموال من قبيل آلات لحفظ البدن الذي هو مركب للنفس ، فتضييع النفس وتنكيسها إلى المرتبة البهيميّة لأجل المال وغيره انتكاس على أمّ الرأس ـ نعوذ بالله منه فليزجر قوته الشهوية بهذه الزواجر القلية مع الأوامر والنواهي الشرعية ، قال الله تعالى :

( لا يسخر قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهنّ ) (٢)

__________________

١ ـ البقرة : ٦٧.

٢ ـ الحجرات : ١١.

٢٧٨

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « المستهزىء بين الناس يفتح لأحدهم باب من الجنّة ، فيقال له : هلمّ هلمّ فيجيء بكربه وغمّه ، فإذا أتى أغلق دونه ، ثم يفتح له باب آخر فيقال له : هلمّ هلمّ فيجيء بكربه وغمّه فإذا أتى أغلق دونه ، فمايزال كذلك حتى يفتح له الباب ويقال له : هلمّ هلمّ فما يأتيه » (١).

وأمّا من يجعل نفسه مسخرة أي يسرّ بأن يسخر به الناس فهو وإن كان كالقسم الثاني في الظلم على نفسه ، لكن فعل ما يؤذن بإيذائه وتحقيره محرّم.

وعلاجه كما تقدّم. على أنّ من تفكّر فيما صدر ويصدر عنه من سيّئات الأعمال وتأمّل في حقيقة حاله يوم القيامة وما أعدّ له فيه من الشدائد والأهوال كان بأن يشغله الضحك على نفسه تارة ، والبكاء عليها أخرى أحقّ وأحرى.

فصل

المزاح إمّا من خفّة النفس فيكون من رذائل الغضبية أو ميل النفس إليه ، أو الطمع في أموال الناس بتطييب خواطرهم فيكون من رذائل الشهويّة ، وإكثاره مذموم يوجب قسوة القلب بكثرة الضحك ، وغفلته عن يوم الجزاء ويسقط المهابة ويورث البغضاء ، وربّما آل إلى الهزل والاستهزاء.

قال بعض الأكبر لابنه : يابني! لا تمازح من هو أعلى منك فيعاديك ، ولا من هو أدنى منك فيجتري عليك.

وقال الآخر : المزاح مسلبة للبهاء مقطعة للأصدقاء.

وقيل : لكلّ شيء بذر ، وبذر العداوة المزاح.

وأمّا القليل الذي يبعث على تطييب قلوب الاخوان وانبساط خواطرهم واستيناسهم ، ولا يتضمّن كذباً وايذاء ، فهو ممدوح لفعل الرسول والأئمة عليهم‌السلام ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يمزح ويمزح به ، ويقول : « إنّي لأمزح ولا أقول

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٣٦ وفيه : « إنّ المستهزئين بالناس ».

٢٧٩

إلا حقّاً ». (١)

وكان أميرالمؤمنين عليه‌السلام مزّاحاً حتّى عابوه به وقالوا : لولا دعابة فيه لكان أولى الناس بالخلافة. (٢)

وقال له سلمان لما مازحه : هذا الذي أخرّك إلى الرابعة.

لكن الوقوف على حدّ الاعتدال كما قيل صعب ، وكم من دعابة خفيّة (٣) شاهدناه من بعض الظرفاء ازدادت تدريجاً إلى أن أورثت وحشة وبغضاء ، فيجب الاحتياط في رعاية القصد ومع العجز الترك بالكلّية.

فصل

قيل : إنّ المراء خصومة تحدث عن رعاية المصلحة الجزئية وشدّة تعلّق النفس بالمنافع البدنيّة والسعادات الخارجية ، فإنّه إذا كثر شعف النفس بالملاذّ الحسّية لم تجذب الا ما يخصّها من النفع ولم تخصّ الا ما يضرّها بالدفع ولم تبال مع حصول النفع له بما يحصل للغير من الضرر ، وهذا من قصور النظر وعدم إدراك المطالب الكلية والمنافع العامّة حتى تجلو به الغمّة وتعلو به الهمّة ، فلو أدركت قاعدة التوحيد زال عنها عشق الشيء المخصوص ، بل وجد نفعه في نفع الغير وضرّه في ضرّ الغير ، ومنشأ ظهور التوحيد في النفس النظر الكلّي العقلي ، كما أنّ مبدأ الكثرة النظر الجزئي الحسيّ.

وصاحب المراء أخسّ الناس رتبة ، أدونهم منزلة ، إذ به يبطل الألفة التي ابتنى عليها نظام العالم ، وهي أثر الوحدة التي بها قوام نوع بني آدم.

وأمّا الجدال فربّما كان له اختصاص اصطلاحيّ بالمسائل الاعتقاديّة وتقرير أدلّتها ، ويقرب منه المناظرة ، أو هي أعمّ ، وقد لايكون بقصد الأذى

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٣٢.

٢ ـ راجع البحار : ٤١ / ١٤٧.

٣ ـ كذا ، والظاهر ، خفيفة.

٢٨٠