كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

بالمرة ، غاية ما في الباب ضعفها ونقصها في بعض المواد ، فتزيد وتهيّج بالتحريك والتهييج ، كما يلتهب النار الضعيف وتتوقّد بالتحريك أو المتواتر ، وقد نقل عن بعض الحكماء أنهم كانوا يخوضون في الأخطار العظيمة دفعاً لهذه الرذيلة وطلباً لما يقابلها من الفضيلة.

وعن عليّذ عليه‌السلام : « إذا خفت أمرً فقع فيه ». (١)

وممّا يجرّىء المرء إكثاره ذكر الموت وأنه عاقبة كلّ حيّ وأن الآجال مقدّرة لا تزيد ولا تنقص.

فصل

من أعظم أنواعها الخوف من غير الله سبحانه ، سواء كان غير مقدور له مع كونه لازم الوقوع أو ممكن العدم ، أو كان مقدوراً له ناشئاً من سوء اختيار أو ما يتوحّذش منه الطبيعة بلا داع ظاهر كالجنّ والميّت وأشباههما سيّما مع الوحدة والظلمة ، فإنّ الخوف من ذلك كلّه خطا محض يقبح عند العقل لعدم فائدة في الاولى سوى تعجيل عقوبة مانعة عن تدبير مصالحه ، وكذا الثانية مضافاً إلى احتمال عدمه فلعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً ، فهو أجدر بعدمه ، وكون رفعه بيده في الثالثة وإن كان بعد الفعل ، وظنه حين الفعل بعدم ترتّب أثر السوء عليه ناش من حكمه بالامتناع المتفرّع على جهله ، كما أنّ ظنّه في الثانية ناش من حكمه بالوقوع ، ولو حكم في كلّذ منهما بما يقتضيه ذات الفعل أمن منهما ، وكونه في الرابعة من غلبة الواهمة المورثة للجبن ، فلابدّ من تحريك الغظبية وتهييجها حتّذى تغلب عليها العاقلة ، أو الالزام على نفسه تدريجاً بما يزيلها عنه.

قال الله تعالى : ( إنّما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم ) (٢).

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ١٧٥ ، وفيه : « إذا هبت أمراً ».

٢ ـ آل عمران : ١٧٥.

١٤١

ثم مما يعلمّ أغلب أفراد النوع الانساني منه خوف الموت ، ولعلّذة من قبيل الاولى والباعث الكلّي له أنّ للنفس ارتباطاً خاصّاً واتّحاداً معنويّذاً بالبدن ، كما تقدّم ، والطبيعة مجبولة على التألّم من المفارقة بعد حصول الانس والألفة ، كما قال الحكيم النظامي :

شنيدستم كه افلاطون شب وروز

به كريه داشتى چشم جهانسوز

يكى پرسيد از او كاين كريه از چيست

بكفتا چشم كس بيهوده نكريست

از آن ترسم كه جسم وجان ودمساز

به هم خو كرده اند از ديركه باز

جدا خواهند گشت از آشنايي

همي گريم بدان روز جدايي

ولذا ترى حرص الشيوخ والعجائز بالحياة وشوقهم إلى البقاء أكثر من الأحداث ، وكذا إلى المقتنيات الحسّية لطول الانس والعلاقة بها ، كما أنها مجبولة على التناكر والوحشة مع مشاهدة أمر غريب غير معهود لم تأنس به أصلاً.

ولذا إنّ الحسن بن علي عليه‌السلام لما سئل عن سبب قلقه عند وفاته اعتذر بهول المطّلع وفراق الأحبّة (١) وأيّ محبّة أشدّ وأقوى من الاتّحاد والارتباط الحاصلين للنفس والبدن في مدّذة مديدة من الزمان.

والعمري إنّ إزالته من أصعب ما يمكن أن يكون ولا يتيسّر الا لمن وفّقه الله تعالى للتجرّذد التامّ والفناء المحض والاستغراق في حبّذ الله وأنسه بحيث يرى بدنه حجاجاً شاغلاً له عن الوصول إلى مطلوبه ومعشوقه ومحبوبه ، فيقول :

آزمودم مرك من در زندكى است

چون رهم زين زندكى پايندكى است

__________________

١ ـ الكافي : ١ / ٤٦١ ، كتاب الحجة ، باب مولد الحسن بن علي عليه‌السلام ، ح ١ ، ولايخفى استهجان هذا التعميم لمعنى الأحبّة في كلام الإمام عليه‌السلام.

١٤٢

اقتلوني اقتلوني يا ثقات

إنّ في قتلي حياةً في حياة

ولا يتمكّن منه الا بتحصيل ثالث المراتب المتقدّمة من اليقين ، ولا أقلّ من ثانيهما ، إذ بعدما حصل له أحد اليقينين بما له بعد مفارقة النفوس السبعيّة والبهيميّة والشياطين الانسيّة والجنيّة واتّصاله بالمباديء العالية ووصوله إلى الحضرة القدسية المتعالية كان دائماً طالباً للممات متعطّذشاً شائقاً كالمستسقي للنوع السرمدي الحقيقي من الحياة.

چونكه اندر مرك بيند صد وجود

همچو پروانه بسوزاند وجود

وهذا أحد معاني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الدنيا سجن المؤمن ».

وقد عرفت أنّ هذه المرتبة لاتحصل الا بعد رياضات شاقّة ومجاهدات صعبة ، وقطع العلائق والشهوات بالمرّة ، وهجر الرسوم والعادات بالكلّية.

ثم إنّ سائر التصوّرات الباعثة للخوف المزبور يرجع حاصلها إلى نقص في التعقّل وجهل بالموت وما بعده ، وحزن على فوت الحطام الذي عنده ، وهذه سهلة الزوال بتحصيل فضائل العاقلة من العلم والفكر واليقين ، وسلب العلاقة بالزخارف الفانية بمشاهده أمثاله والاعتبار ببني نوعه من عدم وفاء الدنيا بهم ، فيتفكّر في أنّ توقع البقاء الأبدي له مستحيل لكون من الكائنات اللازم فسادها ، كما تقرّر في محلّه.

وأنّذ ما يفعله الباري تعالى هو النظام الأصلح الأكمل الذي لايعتريه شائبة قصور وخلل.

وأنّ خوفه منه إن كان لأجل حرمانه عن اقتناء الشهوات الحسّية فلاريب في أنه بعد كبر سنّه تنحلّ بنيته وتضعف قواه وتزول صحّته التي كان بها يلتذّذذ منها ، ولايخلو حينئذ عن ألم حادث ومرض جديد دائماً ، وعن

__________________

١ ـ الجامع الصغير : ٢ / ١٧.

١٤٣

مفارقة صديق وموت قريب أو رفيق ، والابتلاء بمصيبة أو بليّة فطالب العمر الطويل يطلب في الحقيقة هذه الآلام.

وإن كان من مرض جسماني لعلّه يعتريه بالموت فهو جهل منه ، إذ لا ألم جسمانياً بعد انقطاع علاقة النفس عن البدن ، بل ينقطع مواده بانقطاعها.

وكذا إن كان من تصوّر فنائه بالمرّة ، لأنّ النفس لاتفني بفناء البدن كما ذكرناه في صدر الكتاب ، بل ينقطع علاقتها به.

وكذا إن كان من تصور نقص يعتريه بسببه لما عرفت من أنه سبب وسرور أعدائهم بذلك وشماتتهم فإنه ناش من توهّم كونه سبباً لاستكمال الغير وهو ناش من نقصان عقله ، لأنّه تعالى هو الرزّاق ذوالقوّة المتين ، وهو الخالق للعباد الرؤوف بهم بهم المتكفّل لحوائجهم والمتمّم لنقائصهم ، وفيضه الأقدس لابدّ أن يصل إلى كل أحد يقدر استعداده ، وليس لأحد أن يغيّره عن الحدّ اللائق له ، فربّما يصل أيتام المساكين إلى أعلى المراتب الدنيوية ، ولايصل إلى أدناها أولاد السلاطين مع حشمتهم وغناهم ، فلو فوّض أمورهم إلى من خلقهم وربّاهم ووكلهم إلى ربّهم ومولاهم كان حسبهم ذلك الكفيل ، فإنه نعم المولى ونعم الوكيل.

وبالجملة فهذا الخوف من نتائج الجبن وضعف النفس ، وعلاجه بما ذكرناه هنا مع ما ذكرناه في دفع الجبن.

فصل

ومنها صغر النفس ، أي ملكة استعظام مايرد عليه من ملاذّ الدنيا

١٤٤

ومكارهها ، فيفرح وينشط بوجدان الاولى ويحزن من فقدانها ، ويجزع من عروض الثانية ، ويعجز عن تحمّلها ، ولايقوى على مقاومتها ، بل يصير رقّاً لها مفوّضاً أمره إليها ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلام له طويل :

« من عظمت الدنيا في عينه وكبر موقعها من قلبه آثرها على الله تعالى فانقطع إليها وصار عبداً لها ... ـ الحديث ». (١)

ويترتّب عليها أغلب الملكات الرديّة من الطمع والبخل ، وهي أيضاً من نتائج الجبن وضعف النفس ، ويلزمها الذلّ والمهانة وقصور النفس عن طلب المعالي والمسامحة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاضطراب من أدنى بليّة وحادثة وغير ذلك.

وعلاجها بعد تذكّر مفاسدها وما يترتّب على ضدّها أعني كبر النفس من المحاسن ، وماورد من الأمر به والحثّ عليه ، بما تقدّم في الجبن والتذكّر لمفاسد الدنيا وكثرة عيوبها ومخازيها وعدم وفائها بطالبيها ممّا سيذكر إن شاء الله تعالى.

فصل

ومنها : عدم الغيرة والحميّة بالاهمال في ما يلزم شرعاً وعقلاً محافظته من الدين والعرض والمال والعيال ، وهو من نتائج ضعف النفس ، ومن المهلكات العظيمة وربما يؤدّي إلى الدياثة والقيادة.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا لم يغر الرجل فهو منكوس القلب ». (٢)

وقال أيضاً : « جدع الله أنف من لايغار من المؤمنين والمسلمين ». (٣)

والفاقد للغيرة غير معدود من الرجال.

وعلاجه بعد التذكّر لما دلّ على قبحه عقلاً ونقلاً ومادلّ على مدح الحميّة والغيرة من العقل والنقل بما مرّ في الجبن.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الخطبة : ١٦٠.

٢ ـ الكافي : ٥ / ٥٣٦ ، ح ٢ ، وفيه عن الصادق عليه‌السلام.

٣ ـ الكافي : ٥ / ٥٣٦ ، ح ٤.

١٤٥

فصل

ومنها : العجلة ، أعني المعنى الراتب في القلب الباعث على الاقدام على الأفعال بأوّل خاطر من دون تأمّل وتدّبر ، وهي من لوازم ضعف النفس ، وقد أهلك بها الشيطان أكثر بني نوع الانسان.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « العجلة من الشيطان والتأنّي من الله ». (١)

والعقل يحكم بأنّ العمل لابدّ وأن يكون بعد البصيرة والتروّي الموقوفين على التأمّل والتأنّي ، وهما ضدّان للعجلة ، فمن استعجل في أمره لقيه (تلقّاه خ ل) الشرّ من حيث لايعلم ، والتجربة شاهدة بأن ما يصدر عن العجلة يورث الندامة والخسران بخلاف التأنّي وأنّ كل خفيف عجول لاوقع له في القلوب.

ثم إنك عرفت أنّ أحبّ الأشياء للعاقلة هو التشبّه بالمبدأ في صفاته بطلب الاستيلاء والملكية للأشياء من الملك العظيم الذي لاغاية له ، والسعادة الأبديّة التي لانفاد لها والبقاء الذي لافناء بعده ، والعزّ الذي لاذلّ معه ، والغنى الذي لافقر معه ، والأمن الذي لاخوف فيه ، والكمال الذي لا نقصان يعتريه ، فإنّها من صفات الربوبية والشيطان لحسده الذاتي معه ثمّ شدّة عداوته له بصيرورته طريداً لأجله أضلّة من طريق العجلة وزيّن في نظره الاستيلاء على الملك العاجل المشوب بأنواع الآلام وصدّه عن الملك الآجل المقترن بالثبات والدوام ، فانخدع بغروره واشتغل لعجلته المركوزة في جبلّته بطلب الزخارف الفانية الدنيوية عن طلب السلطنة الباقية الحقيقيّة ، والرئاسة الدائمة الأبديّة ، فهو في طلب الاستيلاء غير ملوم ، إنّما اللوم والذمّ على الخطاء الصادر عنه من قبل الشيطان في متعلّقه ووضعه إيّاه في غير موضعه الذي هو الظلم في الحقيقة بنفسه.

ولذا ورد ما من ذمّ طلب الدنيا ومدح نعيم الآخرة من الآيات

__________________

١ ـ الجامع الصغير : ١ / ١٣٤ ، مع تقدم الجملة الثانية على الاولى.

١٤٦

والأخبار ، وهو الباعث لارسال الرسل الكرام إلى كافّة الأنام بالوعد والوعيد الترغيب والتأكيد.

قال الله تعالى : ( يا أيّها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سيب الله اثّاقلتم إلى الأرض ، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قيل ). (١)

ولو تأمّل وتفكّر ولم يبن أمره على العجلة علم أنّ ما يطلبه ويمييل إليه من الزخارف الدنيوية ليس استيلاء وتملّكا لها في الحقيقة ، بل عبوديّة وانقياد لبطنه وفرجه مثلاً ، وإن كان استيلاء والتملّك للملك العاجل متوقّف أيضاً على تركها ، إذ به يتحقّق الحريّة للعبد وملكيّته لقوّتيه الشهوية والغضبية ، فما أعظم اغترار الانسان حيث يظن أنّه ينال الملك بصيرورته مملوكاً ، والربوبية بصيرورته عبداً.

فظهر أنّ أكثر مفاسد النفس مترتّبة على العجلة.

وعلاجها : بعد تذكّر فسادها وسوء خاتمتها وتأديتها إلى الخفة في أعين الناس والندامة والخسران وتذكر شرافة الوقار الذي هو ضدّها أن يكلّف نفسه بعدم ارتكاب فعل الا بعد عرضه على العاقلة ، والتأمّل في وجوه مصالحها ومفاسدها ، فإذا فعل كذلك مدّة صارت له عادة واتّصف بصفة الوقار والطمأنينة.

فصل

ومن نتائج ضعف النفس سوء الظن بالخالق والخلائق.

قال الله تعالى : ( يا أيّها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنّ إنّ بعض الظنّ إثم ). (٢)

وقال تعالى : ( وذلكم ظنّكم الذي ظننتم بربّكم أرداكم فاصبحتم من

__________________

١ ـ التوبة : ٣٣٨.

٢ ـ الحجرات : ١٢.

١٤٧

الخاسرين ). (١)

وقال تعالى : ( وظننتم ظنّ السوء وكنتم قوماً بوراً ). (٢)

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لاتظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً ». (٣)

ويتبعه الغيبة والحقد والحسد والتقصير في أداء حقوق الاخوان غير ذلك من المهلكات ، على أنّ كلّ إناء يترشّذح بما فيه.

فهو علامة لخبث الباطن ، حيث يقيس الناس بنفسه ، مع أنّه لا علم بأسرار القلوب الا لعلام الغيوب ، فما لم يعلمه يقيناً لا ينبغي أن يعتقده ويميل إليه وإن احتفّ بقرائن الفساد ، لأنّه من الشيطان حينئذ وهو فاسق والله أمر بتكذيبه بقوله :

( إن جاء كم فاسق بنبا فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا علا ما فعلتم نادمين ). (٤)

والمراد منه عقد القلب وميل النفس لا مجرد حديثها ، بل الشكّ أيضاً لاختصاص النهي في الأخبار بالظنّ ، وكذا العقل يحكم بقبح الأوّل دون الثاني.

وعلمته تغيّر القلب عمّا كان عليه من الإلف والمحبّة إلى التنفّر والكراهة والجوارح عن العشرة بعنوان الصداقة إلى خلافها وهو السرّ في المنع عن التعرّض للتهمة صيانة لنفوس الناس عنه ، فإنّ من صار باعثاً لمعصية غيره شاركه فيها ، ولذا قال تعالى :

( ولا تسبّوا الّذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم ). (٥)

__________________

١ ـ فصّلت : ٢٣٣.

٢ ـ الفتح : ١٢.

٣ ـ الكافي : ٢ / ٣٦٢ ، كتاب الايمان والكفر ، باب التهمة وسوء الظن ، ح ٣.

٤ ـ الحجرات : ٦.

٥ ـ الأنعام : ١٠٨.

١٤٨

وفي الخبر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « كيف ترون من يسبّ أبوية؟ فقالوا : هل من أحد يسبّ أبويه؟ فقال : نعم يسبّ أبوي غيره فيسبّون أبويه ». (١)

وعلاجه : بعد تذكّر فساده وفضيلة ضدّه أن لايتبع خاطره ولا يغيّر قلبه وجوارحه عما كانت عليه قبل ذلك بل يزيد في التعظيم والتكريم والدعاء حتى يدفع الشيطان عن نفسه ويقنّطه ولو تكلّفاً إلى أن يصير له عادة.

فصل

الغضب كيفيّة نفسانيّة موجبة لحركة النفس إلى دفع الأذيات أو التشفّي بالانتقام ونحوه ، فإن كانت معتدلة كانت من فضيلة الشجاعة ، وإن خرجت عن الاعتدال إلى الافراط فهو من المهلكات ، وقد تشتدّ بحيث يمتلي لأجلها الدماغ والأعصاب من الدخان المظلم فيستر نور العقل ويضعف فعله ، فلا يؤثر في صاحبه الموعظة ، بل تزيده غلظة.

قيل (٢) : الغضب شعلة مقتبسة من نار الله الموقدة الّتي تطّلع على الأفئدة مستكنّة في طيّ الفؤاد كالجمر تحت الرماد ، تستخرجها حميّة الدين عن قلوب المؤمنين أو حميّة الجاهليّة والكبر الدفين في قلوب الجبابرة المترفين ، التي لها عرق من الشيطان اللعين ، حيث قال :

( خلقتني من نار وخلقته من طين ) (٣)

فشأن الطين السكون والتأنيّ ، وشأن النار التلهّب والتلظّي.

ثمّ إن صدر عن القادر على الانتقام مع استشعاره به احمرّ لونه من انبساط الدم من باطنه إلى ظاهره وهو الغضب الحقيقي ، وإن صدر عن العاجز عنه مع شعوره به اصفرّ لونه من الميل عن الظاهر إلى الباطن ، وهو

__________________

١ ـ جامع السعادات ، ١ / ٢٨٤ ، والمحجة : ٣ / ٣٧٧.

٢ ـ القائل هو أبو حامد الغزالي ، راجع المحجّة : ٥ / ٢٨٩ مع تغيير وتلخيص.

٣ ـ الأعراف : ١٢.

١٤٩

الحزن ، وإن صدر عن الشاكّ فيه اضطربت أحواله فيه.

والأخبار في ذمّه كثيرة :

فعن الصادق عليه‌السلام : « أنّ الغضب مفتاح كلّ شرّ ». (١)

وعن الباقر عليه‌السلام : « الغضب جمرة من الشيطان [ توقد ] في جوف ابن آدم ، وإنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه ، وانتفخت أوداجه ، ودخل الشيطان فيه » (٢) [ وعن الصادق عليه‌السلام ] : « وكان أبي يقول : أيّ شيء أشدّ من الغضب ، انّ الرجل ليغضب فيقتل النفس التي حرّم الله ويقذف المحصنة ». (٣)

وقال : « إنّ الرجل ليغضب فما يرضى أبداً حتّى يدحل النار ». (٤)

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الحدّة نوع من الجنون » ، لأنّ صاحبها يندم ، فإن لم يندم فجنونه مستحكم » (٥)

ربما يؤدّي إلى اختناق الحرارة والموت فجأة.

وقيل : إنّ السفينة الواقعة في اللجج الغامرة المظطربة بأنواع الرياح العاصفة والأمواج الهائلة المتراكمة في الليلة الممطرة المظلمة أرجي إلى الخلاص من المتهب الغضبان.

ومن مفاسد ترتّب ذمائم الأخلاق التي نشير إلى بعضها كالحقد والحسد والبغضاء وقبائح الأعمال من الشتم وإفشاء الأسرار وهتك الأستار والاسهزاء والضرب والجرح والقتل وغيرها من الفحشاء عليه.

ومنها : أيضاً تألّم الروح ، وسقم البدن ، وشماتة الأعداء ، وعداوة

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٣٠٣ ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح ٣.

٢ ـ الكافي : ٢ / ٣٠٤_٣٠٥ ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح ٣.

٣ ـ الكافي : ٢ / ٣٠٣ ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح ٤ ، واعلم أنه وقع هنا في النسخ خلط بين الحديثين وصحّحناه على ما في الكافي.

٤ ـ الكافي : ٢ / ٣٠٢ ، كتاب الايمان والكفر ، باب الغضب ، ح ٢ ، وفيه : عن الباقر عليه‌السلام.

٥ ـ نهج البلاغة الحكمة ٢٥٥ ، وفيه : « ضرب من الجنون ».

١٥٠

الأحبّاء ، وغير ذلك.

والعجب ممّن يدّعي أنه من فرط الرجولية مع ما يشاهد من أنّ ظهور آثاره في ذوي العقول الناقصة كالمجانين والصبيان والشيوخ والنسوان والمرضى أكثر من الكاملين في العقل سيّما ما يتعلّق برداءة الكيفية من ضرب البهائم والحيوانات وسبّ الريح والمطر والشمس والقمر وأنواع الجمادات وتمزيق الثوب ولطم الوجه ونحوهما من المضحكات.

فكلّ ذلك أبين شاهد على أنه ناش من نقصان العقل وضعف النفس.

ولو تتبّعت كتب التواريخ والأخبار وتأمّلت في طبقات الناس من الأخيار والأشرار علمت أنّ الحلم والعفو وكظم الغيظ من شيم الأنبياء والعلماء والحكماء وأكابر الملوك وغيرهم من العقلاء والحدّة والغضب من عادات الأداني والأراذل والجهّذال وضعفاء العقول من الرجال.

ثم إنّذه قد اختلف في امكان إزالته بالمرة ، فقيل بامتناعه لأنه مقتضى الطبيعة ، وإنما يمكن كسر سورته وتضعيفه كي لا يشتدّ هيجانه ، وقيل بإمكانه لشهادة التجربة بزوالها بمعالجاتها المقرّرة لها ، والذمّ عليها عقلاً ونقلاً ، ولا ذمّ على الممتنع.

والتتحقق أنّ جنس القوّة الغضبية كالشهوية والعقلية جبلية يستحيل قمعها ، لكنها قد تضعف عن القدر الممدوح شرعاً ، وقد تزيد وهما طرفا إفراطها وتفريطها المعدودان من الرذائل ، والممدوح اعتدالها بحيث يكون تحت حكم العاقلة تأتمر بأمرها وتنزجر بزجرها.

فمراد القائل بالامتناع قمع جنسها بالمرة وإماطتها بالكلّية ، وهو من البيّن الواضح الذي لاشكّ فيه ولا مرية.

ومراد القائل بالامكان إزالة نوع خاص منها ، أي طرف إفراطها ، ولاينافي ذلك إطلاق اللفظ ، فإنّ الشائع المتعارف في طرف التفريط إطلاق الجبن عليه ، وفي الاعتدال إطلاق الشجاعة عليه وفي

١٥١

الافراط إطلاق الغضب عليه ، وهذا أيضاً حقّ لاريب فيه ، فالنزاع لفظيّ ثمّ إنّ علاجه يتمّ بأمور :

منها : إزالة أسبابه من العجب والكبر والحقد والغدر واللجاج والخصومة والمزاح والمراء ، لأن كلّ حادث يحتاج إلى سبب ، فعدم السبب يستلزم المسبّب.

ومنها : التذكّر لما تقدّذم من قبحه وذمّه وما ورد في مدح دفعه وسلبه عن نفسه ، وماورد في مدح الحلم الذي هو ضدّه مع ما يترتّب عليه من المحاسن.

ومنها : تحصيل ملكة التروّذي والاستشارة بالعاقلة في كل فعل أو قول يصدر منه.

ومنها : الاحتراز عن مصاحبة أصحاب هذه الرذايلة ، والاختلاط باصحاب ما يقابلها من الفضيلة.

ومنها : تحصيل فضيلة التوحيد أعني معرفة أنّ جميع الأشياء مسخّرة تحت حكمه تعالى ، وكلّ شيء كائن بقضائه وقدره ، وأنّذ الأمر والملك لله ، وأنه لا يقدر له الا ما فيه خيره وصلاحه ، فيحصل له ملكة التوحيد والعلم بأن كل شيء حادث منه تعالى ، وأنه النظام الأصلح الذي لاريب فيه ، فلا يكون له التفات إلى الوسائط ، ولايغضب من شيء أبداً ، لكنه الكبريت الأحمر الذي لايظفر به إلا ما فيه خيره وصلاحه ، فيحصل له ملكة التوحيد والعلم بأن كل شيء حادث منه تعالى ، وأنه النظام الأصلح الذي لاريب فيه ، فلا يكون له التفات إلى الوسائط ، ولايغضب من شيء أبداً ، لكنه الكبريت الأحمر الذي لايظفر به الا خلّص الأنبياء والأولياء.

ومنها : تحصيل فضيلة التفكّر في أنّ قدرة الله تعالى وبطشه أقوى وأشدّ ، وهو ذوالبطش الشديد ، الفعّال لما يريد ، فإذا لم يغضب على عباده مع مايرى من شدّة مخالفتهم لأوامره ونواهيه وتضييعهم لحقوق إحسانه وأياديه وعظائم آلائه وكرائم نعمائه وقلّة حيائهم وشدة وقاحتهم ، ولاتخفى عليه خافية من أمورهم مع أنه ذوالقدرة الحقيقة وصاحبها ومعطيها وواهبها ، فهذا الضعيف مع مساواته لمن يغضب عليه في الحاجة والضعف

١٥٢

وكون قدرته الضعيفة من مواهبه تعالى أحقّ بترك الغضب ، واللائق بحالة استعمال الحياء والأدب.

ثم في انه كيف يأمن من مكافاته تعالى مع قدرته على نصرة المظلوم وأخذ حقّه سيّما مع وعده بذلك.

وقد روي أنّه ما كان ملك في بني إسرائيل الا ومعه حكيم إذا غضب أعطاه صحيفة فيها : ارحم المساكين ، واخش الموت ، واذكر ربّك ، فكان يقرؤها حتّى يسكن غضبه (١).

وفي الحديث القدسي : « اذكرني حين تغضب ، أذكرك حين أغضب ، فلا أمحقك فيمن أمحق ». (٢)

ثم في أن تعالى يحبّ منه ترك الغضب ، فإن كان صادقاً في محبّذة الله أطفأ غضبه بشدّة حبّه له تعالى.

ثم في أن من يغضب الآن عليه ربّما تقوّى بعده للمعارضة والمكافاة بذكر فضائحه وترويج قبائحه وتشهير معائبه والشماتة عليه في مصائبه وغير ذلك.

ثم في أن السبب الداعي لغضبه إن كان الخوف من توصيف الناس له بالعجز والمهانة فلاشكّ في أن الحلم والعفو وكظم الغيظ من آثار قوّذة النفس والشجاعة ، وليست من الذلّ في شيء ، ولو في أعين الناس.

ولذا ترى أنّ من تعدّى على غيره بالسبّ والشتم والضرب وسكت الآخر عنه مع قدرته على الانتقام منه مدحه الناس ، وفتحوا لسان الذمّ والطعن على المتعدّي البادي ، ومع فرض سقوطه في أعين الأراذل ينبغي أن لايبالي به ، ويتفكّر في أنّ الاتّصاف بالذلّة في نظر الأخسّاء أحسن من ارتكاب ما يترتب عليه اللوم والندامة والذلّذة والخزي في يوم القيامة.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٣٠٦.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٣٠٦.

١٥٣

وإن كان الباعث فقد محبوب وفوت مطلوب ، فإن كان ممّا يمكن تحصيله والوصول إليه في ثاني الحال تمكّن منه بدون الغضب والاستعجال ، والا لم ينفعه غضبه على كلّ حال ، فلا فائدة فيه سوى زيادة الألم في العاجل وعقوبة الباري وسخطه في الآجل.

ومنها : الاستعاذة من الشيطان والجلوس إن كان قائماً والاضطجاع إن كان جالساً ، والوضوء أو الغسل بالماء البارد ، وإن كان على ذي رحم فليمسه ، لأنّ الرحم إذا مسّذت سكنت ، كما في الأخبار. (١)

تنبيه

كما أنّ الاعتدال في الغضب فضيلة والتعدّي عنه إلى الافراط مذموم ، فالانتقام الذي من نتائجه وآثاره المتفرّعة عليه كذلك أيضاً ، والاعتدال فيه الاقتصار على مارخّصه الشارع من القصاص في النفس والجوارح واسترداد ما أخذه من ماله بمثله وغير ذلك ممّا ورد له حدّ معيّن في الشريعة ، وإن كان العفو فيه أولى وأفضل.

وما لم يرد فيه حدّ معيّن يقتصر فيه على مالم يرد فيه منع بخصوصه بشرط أن يكون كذباً ، والتعدّي عنه إلى مالم يجوّزه الشرع كمقابلة الفحش والشتم والغيبة والبهتان وأمثالها بمثلها معصية.

وفي الخبر : « المستبّان شيطانان يتهاتران ». (٢)

وورد في الأخبار : « انّ البادي أظلم ووزر صاحبه عليه حتّى يعتدي المظلوم ». (٣)

ولاريب أنّذذ السكوت والعفو مطلقاً أفضل مالم ينجرّ إلى عدم الغيره والحميّة في الدين ، وأحوال الناس مختلفة في سرعة الغضب وزاله وبطئهما.

__________________

١ ـ راجع المحجة : ٥ / ٣٠٧ والكافي : ٢ / ٣٠٢.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٣١٥.

٣ ـ راجع الكافي : ٢ / ٣٢٢.

١٥٤

وفي الخبر : « المؤمن سريع الغضب ، سريع الرضا ». (١)

فصل

العنف وسوء الخلق من نتائج الغضب.

والأوّل غلظة وخشونة في الاقوال والافعال والحركات.

والثاني سوء الكلام والتضجر ، وكلّ منهما منفّر لطباع العباد ، ومؤدّ إلى اختلال أمور المعاش والمعاد.

قال تعالى : ( ولو كنت فظّاً غليظ القلب لا نفضّوا من حولك ). (٢)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ العبد ليبلغ من سوء خلقه أسفل درك من جهنّم ». (٣)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أبي الله لصاحب الخلق السيّء بالتوبة ، قيل : وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال : لأنّه إذا تاب من ذنب وقع في [ ذنب ] أعظم منه ». (٤)

وقال : « سوء الخلق ذنب لا يغفر ». (٥)

والتجربة شاهدة بأنّ كلّ من ساء خلقه صار اضحوكة بين الناس ، وما خلا عن الغمّ والهمّ أبداً.

ولذا قال الصادق عليه‌السلام : « من ساء خلقه عذّب نفسه ». (٦)

وعلاجهما بعد تذكّر مفاسدهما وما ورد ف ذمّها ومحاسن ضدّيهما مع ما ورد في مدحهما ما ذكر في الجبن من تقديم التروّي في كلّ قول وفعل ، ولو بالتكلّف حتّى يصير له عادة.

__________________

١ ـ جامع السعادات : ١ / ٣٠٠ ، والمحجة : ٥ / ٣١٦.

٢ ـ آل عمران : ١٥٩.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٩٣.

٤ ـ الكافي : ٢ / ٣٢١ ، كتاب الايمان والكفر ، باب سوء الخلق ، ح ٢.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٩٣.

٦ ـ الكافي : ٢١ / ٣٢١ ، كتاب الايمان والكفر ، باب سوء الخلق ، ح ٤.

١٥٥

فصل

ومن نتائجه الحقد أيضاً ، أي العداوة الباطنة ، وإذا قويت ولم يقدر صاحبها على إضمارها أظهرها فصارت عداوة ظاهرة ، وهو من المهلكات العظيمة ، ويلزمه من الآفات الحسد والهجرة عن المحقود وأذيته بالضرب والشتم والغيبة والكذب والبهتان والشماتة والسخريّة وغيرها من المحرّمات ، وأدناه أن يحترز عن جميع ما ذكر ، لكن لايخلو بغضه عن باطنه ، وهو أيضاً مرض مولم للنفس مانع لها عن القرب إلى جناب القدس ، وعن الاتّذصاف بأوصاف المؤمنين من البشاشة والرفق والتواضع والقيام بحوائج الناس ومعاشرتهم.

قال الله تعالى : ( ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ). (١)

والأخبار في ذمّ كلا القسمين من العدواة كثيرة لاتحصى.

وعلاجهما : التذكّر لألمهما في العاجل وضررهما في الآجل ، ونفعهما بحال المحقود وعدم تضرّره منهما ، فلا يفعل ما يكون مضرّاً له نافعاً لعدوّه.

ثم لما دلّ على مدح ضدّهما أي النصيحة الظاهرة والباطنة من الأخبار وغيرها. ثمّ المداومة على آثارها من المصاحبة والرفق والانبساط والقيام بحوائج المحقود زيادة على مايفعله بأحبّائه جهاداً للنفس ، ورغماً لأنف الشيطان ، ويكرّر ذلك ولو تكلّفاً ، حتّى تزول تلك الملكة وتتبدّل بضدّها.

فصل

ومنها : العجب ، أي استعظام نفسه لما يرى لها من الكمال ، سواء اتّصف به في نفس الأمر أم لا ، وسواء كان كمالاً في الحقيقة أم لا ، وقيل : هو إعظا النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم ، فلو تصوّر كونها من عطاياه تعالى يسلبها متى شاء لم يكن عجباً.

__________________

١ ـ الحشر : ١٠.

١٥٦

ويمتاز الكبر عنه بتصوّر مزيته على الغير فيه ، فيستدعي متكبّراً عليه بخلافه ، فلو لم يخلق الا وحده أمكن في حقّه العجب دون الكبر ، ولايكفي في الكبر مجرّد استعظام نفسه أو استحقار غيره ، إذ لعلّه يرى نفسه أحقر منه أو غيره أعظم منه أو مساوياً له.

ويمتاز الادلال عنه باعتقاد ترتّب ثواب على فعله أو دفع مكروه عن نفسه بسبب عمله ، فهو أخصّ منه.

وفي الخبر : « إنّ العجب على درجات ، منها : أن يزيّن للعبد سوء عمله فيراه حسناً ، ويحسب أنه يحسن صنعاً ،ومنها : أن يؤمن العبد بربّه فيمنّ على الله ولله عليه المنّة ». (١)

وهو من المهلكات العظيمة ، كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ثلاث مهلكات : شحّ مطاع ، وهوىّ متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه ». (٢)

وعن الباقر عليه‌السلام : « من دخله العجب هلك ». (٣)

وفي كثير من الأخبار : « إنّ الذنب خير منه ولو لاه ما ابتلي مؤمن بذنب أبداً » (٤).

وممّا يترتّب عليه الكبر كما سيأتي ، ونسيان الذنوب واستحقارها فلا يتداركها ، وتزكية نفسه وترك السؤال والتعلّذم إن كان في العلم وعدم قبول النصح وترك الاستشارة إن كان من خطأ ، وبه يحصل الضلال والهلاكة في أمور الدين والضرر والفضيحة في أمور الدنيا والفتور في السعي لظنّذه الفوز بما ينجيه مع أنّه الهلاك الذي وقع فيه.

وعلاجه الاجمالي : أن يعرف ربّذه بأن كل كمال له منته إليه.

باد ما وبود ما از داد اوست

هستى ما جمله از ايجاد اوست

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٣١٣ ، كتاب الايمان ولكفر ، باب العجب ، ح ٣ مع اختلاف.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٢٧٢.

٣ ـ الكافي : ٢ / ٣١٣ ، كتاب الايمان والكفر ، باب العجب ، ح ٢ ، وفيه ، عن الصادق عليه‌السلام.

٤ ـ راجع الكافي : ٢ / ٣١٣ ، والمحجة البيضاء : ٦ / ٢٧٣.

١٥٧

فلا يليق العزّة والعظيمة إلّذا به.

ثم نفسه ثانياً من كونه عدماً محضاً واحتياجاً صرفاً ، وأنّ كلّ شيء له فهو من ربّه.

ما عدم هاييم وهستى هاى ما

تو وجود مطلق وفانى نما

ما همه شيران ولى شير علم

حمله مان از باد باشد دم به دم

حمله مان از باد ونا پيداست باد

وانكه ناپيداست هرگز گم مباد

ومن كون أوّذله نطفة وآخره جيفة ، وفيما بينهما حاملاً للقاذورات ، عاجزاً عن كلّذ شيء من الحادثات ، عبداً مملوكاً لايقدر على شيء من الخير والشرّذ ، ولايملك شيئاً من النفع والضرّ. فما له وللعجب لولا جهله؟ وأيّذ كمال له وهذا شأنه وعقله؟

ثمّ تضمحلّ صورته وأعضاؤه وتبلى عظامه وأجزاؤه ، ثم يساق بعد طول البلى إلى تحمّل أنواع البلاء ويوقفه الملائكة الغلاظ الشداد في موقف الحساب بين يدي ربّ العباد ، فإن أمر بتصليته إلى الجحيم باستحقاقه العذاب الاليم تمنّى أن يكون من التراب أو من جنس الخنازير والكلاب ، ولا يشاهد ما أعدّ له في الجحيم من الزقّوم والضريع والحميم والسلاسل والاغلال والعقوبات الشديدة والأنكال ، ممّا لو رآه أهل الدنيا في دنياهم صعقوا من تلك الرؤية الموحشة القبيحة ، القبيحة ، وشهقوا من استشمام كريه تلك الريحة ، ولو لم يؤمر به إلى مقرّ الفجّذذار كان عفواً وتفضّلاً من الرحيم الغفّار ، إذ مامن عبد إلّذذا وقد أذنب وعمل ما يستحقّذ به النار الا من عصمه الله من الانبياء والائمّذة الأطهار. فما لهذا الجاهل المغرور والعجب في دار الغرور؟

ألا ترى أنّ بعض مماليك السلطان إذا ابتلي بالخيانة والعصيان واستحقّ العقوبة والخذلان وحبس للتنبيه والتأديب وهو ينتظر الخروج لعرض أعماله عليه بمحضر من الشاهد والرقيب ثم الحكم عليه إما بالعفو أو

١٥٨

التعذيب ، فهو في هذا الحال مع ما له من أسباب التشويش والاذلال هل يعجب من نفسه مع كونه مسجوناً الا أن يكون سفيهاً أو مجنوناً.

بسته درر زنجير ، چون شادي كند

كي اسيرر حبس ، آزادي كند

فيكفيه التأمّل فيما ذكر معرفة بنفسه من كونه فاقداً لكلّ كمال باقياً في أدون مراتب المهانة والاذلال ، فلا يعجب بنفسه في حال من الأحوال.

وعلاجه التفصيلي : قطع مواده وأسبابه.

فإن كان سببه العلم ، تفكّر في أنّذ حقيقته العلم بربّذه ونفسه كما عرفت وهو جاهل بهما.

صد هزاران فضل دارد از علوم

جان خود را مى نداند اين ظلوم

داند او خاصيت هر جوهرى

در بيان جوهر خود چون خرى

قيمت هر كاله مى داند كه چيست

قيمت خود را نداند احمقى است

جان جمله علم ها اين است اين

كه بدانى اصل خود را يوم دين

فلوكان عالماً بهما ازداد خوفاً وتذلّلاً واعترافاً بالعجز والقصور. فما حصّله إما من العلوم الدنيوية والصناعات الرسمية التي ليست علوماً حقيقية ، أو اعتقادات خالية عن النور والضياء لخبث جوهره ، وما حصل من الصدأ ، وخوضه فيها قبل تهذيب نفسه بالرياضات وانلمجاهدات ، لما عرفت من أنّذ العلم بدون ذلك لايزيد في النفس الا تيهاً في الظلمات ، كما أنّ الغيث النازل من السماء مع ماله من العذوبة والصفاء يزيد شرب المنابت المرّة منه مرارة والحلوة منها حلاوة ، وأنّ الله يحبّذ من عبده الاستكانة والتذلّل ، حيث قال تعالى بلسان رسله :

« إنّ لك عندي قدراً ما لم تر لنفسك قدراً ، فإن رأيت لها قدراً فلا قدر لك عندي ». (١)

فإن كان صادقاً في محبّذذة مولاه كلّف نفسه على ما يحبّه منه ويرضاه ،

__________________

١ ـ جامع السعادات : ١ / ٣٣٠_٣٣١ ، المحجة : ٦ / ٢٦٢.

١٥٩

وأنّ خطر العالم أشدّ من الجاهل ، لأنّ الله تعالى يداقّ الناس على قدر عقولهم واستخفاف العالم في معصيته بالله أشدّ ، فالحجّة عليه ثم أتمّ وأوكد.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه ، وإنّ أشدّ الناس حسرة وندامة رجل دعا عبداً إلى الله تعالى فاستحباب له وقبل منه فأطاع الله فأدخله الجنّذة وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل ». (١)

وأيّ عالم يطمئنّ بعلمه يجميع ما علمه وامتثاله لجميع ما أريد منه من التحلّذي بالفضائل النفسيّة والأعمال الصالحة والتخلّي عن الرذائل الخلقيّة والاعمال الفاضحه؟ فلو تفكّر في ذلك طال حزنه وخوفه وزال عجبه وكبره ، بل كلّما ازداد علماً وتعقلّاً ازداد تواضعاً وتذلّلاً.

هر كه بيدارتر پر دردتر

هر كه او آگاه تر رخ زردتر

وإن كان الباعث عليه عبادته ، تأمّل في أنّ المقصود منها تحصيل ملكة العبودية ، أعني الانكسار والذلّة وهو يضاد العجب مع كثرة شرائطها وشدّذة آفاقها الموجبة لحبطها. فمن أين له العلم بحصولها وسلامتها عن آفات قبولها فلو ادّعاه كان في أدون مراتب القصور والجهل بحقائق الأمور. على أنّ فائدتها السعادة ، وهي ممّذا لايعلمها الا العالم بالقضاء الأزلي.

وإن كان أحد الفضائل النفسية ، تأمّذل في اشتراط ظهور خواصها وآثارها بفقد هذه الصفة وإبطالها لها ، فكيف يرضى بارتكاب ما يبطل فضائله التي حصّلها برياضات شاقة وممجاهدات عظيمة ، ولايهتمّ في حفظها؟ ولو علم مشاركة كثير من بني نوعه معه فيها بل مزّيتهم عليه زال إعجابه بها.

ويروى أنه كان من مشاهير الشجعان من يرتعد فرائصه وتضطرب

__________________

١ ـ الكافي : ١ / ٤٤ ، كتاب فضل العلم ، باب استعمال العلم ، ح ١ ، وفيه : « وإنّ أشدّ أهل النار حسرةّ ».

١٦٠