كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

( والّذين إذا فعلوا حشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا ). (١)

وإمّا أن يستقيم عليها مدّة ثم ينقضها في بعض شهواته بقصد وصدق شهوة لعجزه عن قهرها مع المواظبة على الطاعات وتركه لجملة من السيّئات مع شهوته لها أيضاً بقهره لها والندم على ما فعله بعد الفراغ وتسويف نفسه بالتوبة والمجاهدة في تركها مرّة بعد أخرى ، نفسه مسولة.

( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ). (٢)

وعاقبته مخطرة بالتسويف ، فربّما اختطفه الموت قبل التوبة ، فإن تداركه الله بفضله وجبر كسره وامتنّ عليه بالتوبة لحق بالسابقين ، وإن قهرته شهوته فغلبت عليه شقوته فيخشى عليه أن يحقّ عليه في الخاتمة ماسبق عليه القول في الأزل ، فإنّ ارتباط سعادات الآخرة وشقاوتها بالحسنات والسيّئات بحكم المقدّر الأزلي كارتباط المرض والصحّة بتناول الأدوية والأغذية ، فكون الذنب نقداً والتوبة نسية من علامات الخذلان كما أنّ التدافع من الأدوية والأغذية النافعة للمرض من علامات الممات ، فلا يصحّ لملك نعيم العقبى والقرب من جوار ربّ العلى الا القلب المزكّى ، كذا جرى الحكم في الأزل من خالق القضاء والقدر.

( ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكّاها * وقد خاب من دسّاها ). (٣)

وإمّا أن يستقيم مدّة ثم يعود من غير إحداث للنفس بالتوبة وأسف على الفعل ، بل ينهمك كالغافل في شهواته فهو من المصرّين ونفسه أمّارة ، وأمره في المشيّة ، فإن ختم له بالسوء شقي شقاوة الهالكين ، وإن مات على

__________________

١ ـ آل عمران : ١٣٣٥.

٢ ـ التوبة : ١٠٢.

٣ ـ الشمس : ٧ ـ ١٠.

٤٦١

التوحيد انتظر له الخلاص من النار ولو بعد حين ، ولا يستحيل شمول العفو له بسبب خفيّ لايطلع عليه كما لايستحيل أن يدخل الانسان خراباً ليجد فيه كنزاً فيجده أو يجلس في البيت ليجعله الله عالماً بالعلوم من غير تعلّم كما للأنبياء عليهم‌السلام ، فطلب المغفرة بالطاعة كطلب العلم بالجهد والتكرار والمال بالتجارة وركوب البحار وإن لم يكن كل طالب واصلاً إلى مطلوبه ، وطلبه بالرجاء دون عمل كطلب الكنز من المواضع الخربة ، فإن كان المضيّع نفسه وعياله منتظراً الكنز يجده في بيته مغروراً أحمق عند ذوي البصائر وإن لم يكن مستحيلاً بالنظر إلى قدرة القادر ، فكذا الراجي للمغفرة من دون عمل ، فالناس محرومون الا العالمون ، وهم كذلك الا العاملون ، وهم كذلك الا المخلصون ، وهم على خطر عظيم.

تنبيه

لايمنع العاصي من التوبة بها عدم وثوقه بها فيقول لافائدة فيها ، فإنّه غرور من الشيطان ، فلعلّه يموت تائباً قبل العود إلى الذنب وليتدارك الخوف بتجريد القصد وصدق العزم ، فإن وفي به نال مطلبه والا غفرت له ذنوبه السابقة ، ولم يكن عليه الا الحادث ، ثم إن لم يساعده النفس على العزم على الترك فلا يترك الاشتغال بحسنة تضادها وتكفّرها حتى يكون ممّن خلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً وهي بالقلب بالندم والتذلّل والتضرّع وإضمار الخير للمسلمين والعزم على الطاعات ، وباللسان بالاعتراف بالظلم والاستغفار وبالجوارح بالطاعات والصدقات ، ولايمنعه عن الاستغفار عدم حلّه لعقدة الإصرار لما في الخبر : « إنّ المستغفر من الذنوب مع إصراره عليها كالمستهزىء بآيات الله ». (١)

فإنّ الأخبار في فضله كثيرة ، والكذب والاستهزاء إنّما يتمّان مع عدم تأثّر القلب به ، ومشاركته له بالغفلة عنه فيكون مجرّد تحريك لسان.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٨٥ ـ ٨٦ مع اختلاف.

٤٦٢

وأمّا مع انضياف التضرّع والابتهال في سؤال المغفرة عن صدق إرادة وخلوص نيّة فهي حسنة في نفسها تصلح لدفع السيّئة.

وعليه يحمل ما ورد في فضله وليس وجودها كعدمها ، إذ لايخلو ذرّة من الخير من أثر كما لاتخلو شعيرة تطرح في الميزان عنه ، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره أو شرّاً يره ، فكّل ذرّة ترجّح الميزان حتّى تثقل إحدى الكفّتين على الاخرى ، فإيّاك وأن تستصغر ذرّات الطاعات فلا تأتيها أو المعاصي فلا تنقيها كالمرأة الخرقاء تكسل عن الغزل تعللّاً بأنّها لاتقدر في كلّ ساعة الا على خيط واحد ، وأيّ غنى يحصل منه ولاتدري أنّ ثياب الدنيا اجتمعت خيطاً [ خيطاً ] (١) بل الاستغفار اللساني الخالي عن الحضور القلبي أيضاً حسنة ، إذ هو خير من حركة اللسان بغيبة أو فحش ، بل من السكوت أيضاً.

نعم هو نقص بالاضافة إلى عمل القلب ، فمهما عوّدت الجوارح بالخيرات منعتها عن المعاصي فلا تفترنّ رغبتك فيها بهذه الخيالات التي هي من مكائد الشيطان فتسعف بذلك حاجته ، ولا تظن أنّ ذمّنا لحركة اللسان من جهة مكانها ذكراً ، بل هي عبادة من تلك الجهة ، بل من جهة غفلة القلب ، والحاجة إلى الاستغفار لأجلها ، فتارك الذكر اللساني محتاج إلى الستغفارين ، فهي أمور إضافية ، كما قيل : إنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين.

تذنيب

ثمّ الطريق إلى تحصيل التوبة وعلاج حلّ عقدة الإصرار تذكّر ما دلّ على الحثّ عليها وذمّ المعصية والتأمّل في أحوال الأنبياء وحكايات أكابر الأولياء وما جرى عليهم من المصائب بسبب تركهم الأولى والعلم بأن كلّ عقوبة تصل إلى العبد في الدنيا فهو بسبب المعصية كما ورد في الأخبار ، والتذكّر لعجزه وضعفه عن قليل من مكاره الدنيا وقوباتها فكيف بالآخرة

__________________

١ ـ في « ج » فقط.

٤٦٣

وبلائها مما تطول مدته ويدوم بقاؤه ، ثم لخساسة الدنيا وشرف الآخرة وقرب الموت ولذة المناجاة مع الله سبحانه مع ترك الذنوب.

فمن تأمل فيما ذكر انبعث منه خاطر التوبة وإلا فهو أحمق أو منكر للمعاد. ومن أعظم أسبابها قلع حب الدنيا عن القلب ، فإن المعاصي بأسرها ناشئة عنه.

ويعالج تسويفه وطول أمله بالتفكر في أن بناء الموت على أمر ليس إليه ، وهو البقاء إلى تلك المدة ، فلعله يموت قبلها أو لايقدر على الترك فيها كما لايقدر عليه الآن ، فعجزه الآن ليس إلا من غلبة الشهوة ، وهي إن لم تتضاعف غداً بالعادة فلا تنقص قطعاً.

ويعالج رجاءه الكاذب بفضل الله وعفوه أيضاً بالتفكر في أن إمكان العفو من الذنب ليس بأقوى من إمكان أن يعطيه الله مالا بغتة من غير كد ، فإن أنفق ماله وضيع عياله على ذلك فليفعل هنا أيضاً كذلك ، فإن الكريم في الحالين واحد ، وإن نسب المتكل في ذلك عليه إلى الحمق والغرور فهنا أولى بذلك وأحرى.

ويعالج ضعف خوفه بسبب تأخر العقاب في الآخرة والإمهال في الدنيا بالحياة بالفكر في أن حصوله مجزوم به بعد ثبوت الايمان بالله ورسوله وما أتى به الرسول من الوعد والوعيد ، غاية ما في الباب فرض تأخره وهو فرض باطل ، إذ لعل أجله قريب فإن الموت أقرب إلى كل أحد من شراك نعله ، ولو أخبره نصراني بضرر الغذاء الفلاني وسوقه إياه إلى المرض والممات لتركه وإن كان ألذ شيء عنده مع أن ألم الموت لحظة لاخوف بعده أصلاً ، وهو أمر لابد منه ، فكيف يطمئن بقول كافر يدعي الطب من غير معجزة بمجرد شهادة العوام ويترك ما يأمره بتركه ولايثق بقول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات القاهرة والبراهين الظاهرة ولا يتصور أن النار أعظم وأشد من المرض وأن كل عند ربه مقدار ألف سنة مما تعدون.

٤٦٤

وبمثله يعلج الصبر على ترك اللذّة التي يعتقدها في فعل المعصية ، فإنّه إذا لم يقدر على الصبر على هذه اللذّة الضعيفة في المدّة القليلة فكيف يقدر على ألم النار العظيم أبد الآباد.

واعلم أنّه ربما ينجرّ كثرة المعصية والاستخفاف بحدود الله إلى قساوة القلب وانظلامه بحيث يشكّ في التهديدات الواردة من الشرع الشريف والمواعيد المختلفة المنساقة إلى أهل التكليف وهو كفر في الاعتقاد يخلّد به في النار مع الكفّار ، نعوذ بالله من ذلك.

ويمكن علاجه بالتفكّر في أنّ ما قالوه وإن لم يجزم به فلا أقلّ من عدم الجزم بكذبه ، إذ لابرهان عقلياً على استحالته والعاقل يدفع الضرر المحتمل عن نفسه ، إذ لا ضرر يلحقه في الإطاعة ، ولعلّ ضرراً يلحقه في العصيان ، وهذا نظير مناظرة الصادق عليه‌السلام مع ابن أبي العوجاء. (١)

قال أبو العلاء المعرّي :

قال المنجم والطبيب كلاهما

لاتحشر الأموات قلت إليكما

إن صحّ قولكما فلست بخاسر

أو صحّ قولي فالخسار عليكما

فصل

لمّا علم أصحاب القلوب أنّ الله تعالى لهم بالمرصاد ، حيث قال :

( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً ) (٢)

( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين ممّا فيه ). (٣)

( ووفّيت كلّ نفس ما كسبت ). (٤)

__________________

١ ـ الكافي : ١ / ٧٥ ، كتاب التوحيد ، باب حدوث العالم ، ح ٢.

٢ ـ الأنبياء : ٤٧.

٣ ـ الكهف : ٤٩.

٤ ـ آل عمران : ٢٥.

٤٦٥

( اليوم تجزى كلّ نفس بما كسبت لاظلم اليوم ). (١)

فيطالبون بمثقال ذرّة من الخطرات ، ولاينجيهم منه الا المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات واللحظات والحركات ، ولذا أمرهم بالصبر والمرابطة ، فرابطوا أنفسهم أوّلاً بالمشارطة ثم بالمراقبة ثم بالمحاسبة ثم بالمعاقبة ثم بالمجاهدة ثم بالمعاتبة ، فلابدّ من شرح هذه المقامات التة :

أمّا المشارطة: فكما أنّ التاجر يستعين بشريكه ويسلّم إليه مالاً للتجارة ثم يحاسبه ، فكذا العقل تاجر في طريق الآخرة وربحه فلاح النفس ، وفلاحها بالأعمال الصالحة ، والعقل يستعين بها في التجارة ، وكما أنّ التاجر يشارطه النفس أولاً فيوظّف عليها الوظائف ويشترط عليها ويرشدها إلى ما فيه صلاحها ، ويجزم عليها ، ثم لا يغفل عن مراقبتها لحظة فإنّها لو أهملها لم ير منها الا الخيانة والتضييع ، ثم بعد الفراغ يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط ، فهذه تجارتها وربحها الفردوس الأعلى وهو أحسن الأرباح لكونه باقياً لايفنى ، وسائرها فانية لاتبقى ، ولاخير في خير فإن ، بل الشرّ الفاني أهون منه ، فإنّه إذا انقطع بقي الفرح بانقطاعه دائماً ، وقدً انقضى ، والثاني يبقى أسفه على انقطاعه دائماً.

أشدّ الغم عندي في سرور

تيقّن عنه صاحبه انتقالاً

فكلّ نفس جوهر نفيس لاعوض له ممكن أن يشترى به كنز لايتناهى نعيمه أبداً ، فتضييعه أو صرفه إلى ما يؤدّي إلى الهلاك خسران عظيم لا تسمح به نفس عاقل ، فإذا أصبح العبد وفرغ من فريضته فرّغ قلبه لمشارطة النفس وقال لها : « مالي بضاعة الا العمر وبفنائه يفنى رأس المال ، فلا يمكن الربح وهذا يوم جديد ، أمهلني الله فيه وأنعم به عليّ ، ولو متّ تمنّيت أن

__________________

١ ـ غافر : ١٧.

٤٦٦

يرجعني إلى الدنيا ساعة أعمل فيها صالحاً ، فاحسبي وفاتك ثم ردّك ، فإيّاك والتضييع ، فإنّه لاغبن ولاحسرة أعظم من ذلك ، ولذا سمّي يوم القيامة بيوم التغابن » ، فهذه وصيّة لنفسه في أوقاته ، ثم يستأنف لها وصيّة في أعضائه السبعة ويسلّمها إليها لكونها خادمة لها ، وبها يتمّ أعمال التجارة ، فإنّ لجهنّم سبعة أبواب ، لكلّ باب منها جزء مقسوم ، فيتعيّن تلك الأبواب بالمعاصي بأحد هذه ، فيوصيها بحفظها عنها كالنظر إلى عورة المسلم أو وجه محرّم أو إلى المسلم بعين الحقارة ، بل عن كلّ فضول ولايقنع به ، بل يشغله بالنظر إلى عجائب صنع الله للاعتبار وإلى أعمال الخير للاقتداء وإلى مطالعة الكتاب والسنّة وكتب الحكمة للاتّعاظ ، وكذا يفعل في كلّ عضو سيّما البطن واللسان لانطلاق الثاني بالطبع وكثرة آفاته مع كونه مخلوقاً للذكر وغيره من الخيرات فيكلّفه ويشترط عليه عدم تحريكه الا بها ويكلّف البطن بترك الشره وتقليل الأكل والاجناب عن الشبهات فضلاً عن المحرّمات ، ثم يستأنف الوصيّة بوظائف الطاعات ويرتّب لها تفصيلها ، وكيفيّة الاستعداد لها ، فإ ذا عوّد على نفسه المشارطة أيّاماً وطاوعته في الوفاء بها استغنى عن المشارطة بعده ، لكن لايخلو في كلّ يوم عن مهمّ جديد وأمر حادث لله عليه فيه حقّ فيشترط عليها الاستقامة فيها ويعظها كما يوعظ العبد المتمرّد الآبق ( وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين ). (١)

وأمّا المراقبة بعد ذلك ، فإذا خاض في الأعمال لاحظتها بالعين الكالئة.

قال الصادق عليه‌السلام : « اعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ». (٢)

__________________

١ ـ الذاريات : ٥٥.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٨ / ١٥٥.

٤٦٧

قال الله تعالى : ( إنّ الله كان عليكم رقيباً ). (١)

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل

خلوت ولكن قل عليّ رقيب

ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة

ولا أنّ ما تخفي عليه يغيب

ألم تر أنّ اليوم أسرع ذاهب

وأنّ غداً للناظرين قريب

فالمراقبة ملاحظة الرقيب وانصراف الهمّ إليه ، وهي حالة يثمرها نوع من المعرفة بأنّ الله مطّلع على الضمائر رقيب على أعمال العباد ، قائم على كلّ نفس بما كسبت ، فهذه المعرفة إذا صارت يقيناً ، ثمّ استولت على القلب وقهرته جرّت إلى مراعاة جانب الرقيب وصرف همّته إليه.

ومراقبة العارفين الموقنين بما ذكر إمّا مراقبة التعظيم والاجلال ، أي استغراق القلب بملاحظته والانكسار تحته فلا يلتفت إلى غيره ، وحينئذ تكون الجوارح متعطّلة عن الالتفات إلى المباحات فضلاً عن المحظورات ، وإذا تحرّكت بالطاعات كانت كالمستعمل بها ، فلا يحتاج إلى تدبّر وتثبّت على حفظها بل تكون جارية على نهج السداد من غير تكلّف.

ومن نال هذه الدرجة استغرق همّه بالله فقد يغفل عن الخلق حتى لايرى من يحضر عنده ولايسمع ما يقال له ، ولايبعد ذلك ، فإنك ترى من استغرق قلبه بمهم حقير من مهمّات الدنيا فيعرض (٢) في الفكر فيه فيمشي فربّما يتخطّى عن مقصده وينسى الشغل الذي نهض له ، فكيف بمن استغرق همّه بملوك الدنيا ثم كيف بمن استغرق همّه بمالك الملوك ، فهذه مراقبة المقرّبين.

__________________

١ ـ النساء : ١.

٢ ـ كذا ، وفي المحجة البيضاء : (٨ / ١٥٧) فيغوص.

٤٦٨

وإمّا بغلبة اليقين بإطّلاع تعالى على ظاهرهم وباطنهم مع عدم دهشتهم بملاحظة الجلال بل بقيت قلوبهم على حدّ الاعتدال ملتفتة إلى الأعمال والأحوال الا أنّه غلب عليهم الحياء من الله تعالى ، فلا يقدمون ولا يحجمون الا بعد التثبت فيه ويمتنعون عمّا يفضحهم في الآخرة ، فإنّهم يرونه تعالى في الدنيا مطّلعاً عليهم فلايحتاجون إلى انتظار القيامة ، وفرق ما بين الدرجتين يعرف بالتأمّل فيما تتعاطاه في خلوتك من الأعمال ، فبحضور صبيّ تعلم اطلاعه عليك تستحيي منه فتحسن جلوسك وتراعي أحوالك لا عن إجلال وتعظيم ، بل عن حياء ، وبحضور ملك أو كبير تعظّمه وتجلّه تترك ما أنت فيه شغلاً به لا حياء منه ، وهذا يحتاج إلى مراقبة جميع حركاته وسكناته وكلّ اختياراته فينظر قبل العمل فيما تحرّك إليه خاطره أهو لله خاصّة أو في هوى نفسه ، فيتوقّف حتى ينكشف له بنور الحقّ فيمضيه في الأوّل دون الثاني بل يلوم نفسه فيه على الميل والهمّ ، وهذا التوقّف في بدو (١) الأمر واجب.

ففي الخبر : « ينشر للعبد في كلّ حركاته وإن صغرت ثلاثة دواوين : الأوّل لم ، والثاني كيف ، والثالث لمن ». (٢)

ولايخلص من هذا الا بالمعرفة التامّة بأسرار الأعمال واغترارات النفس ومكائد الشيطان والتمييز بين ما يحبّه هواه أو يحبّه الله ويرضى به في نيّته وفكرته وسكونه وحركته ، والجاهل غير معذور ، بل ينبغي التوقّف حتى ينكشف بنور العلم أنّه لله فيمضيه ، أو لهوى النفس فيتّقيه ، فإنّ الخطرة الاولى في الباطل إذا لم تدفع أحدثت الرغبة المورثة للهمّ المورث للقصد الجازم المورث للفعل المنتج للبوار ، فلابدّ من حسم مادة الشرّ عن أصله أعني الخاطر وإن لم يستضيء له الحق لعجزه عن الفكر بنفسه استضاء بنور علماء

__________________

١ ـ كذا ، والصحيح : « بدء » فإنّ البدو بمعنى البادية لا الابتداء.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٥٨.

٤٦٩

الدين المعرضين عن الدنيا.

ثم ينظر عند الشروع في العمل بتفقّد كيفيّته ليقضي حقّ الله فيه ويحسن النيّة في إتمامه (١) ويكمل صورته ، وهذا ملازم له في جميع الحالات ، إذ لايخلو عن حركة وسكون ، فإذا راقب الله فيها قدر على عبادته تعالى بالنيّة ومراعاة الأدب وحسن الفعل فلايخلو العبد عن طاعة أو مباح أو معصية ، فمراقبته في الطاعة بالاخلاص والاكمال ومراعاة الآداب وحراستها عن الآفات ، وفي المباح بمراعاة الأدب وشهود المنعم في النعمة والشكر عليها وفي المعصية بالتوبة والندم والحياء والتدارك لما فات ، ولايخلو أيضاً عن مصيبة لابدّ له من الصبر عليها أو نعمة لابدّ له من الشكر عليها ، بل لاينفكّ عن فرض في الفعل أو الترك أو ندب يسارع به إلى المغفرة أو مباح فيه صلاح جسمه وقلبه والعون على طاعته تعالى ، ولكلّ من ذلك حدود لابدّ من مراعاتها بدوام المراقبة. ( ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه ). (٢)

والساعات ثلاثة : ساعة فاتت لاتعب على العبد فيها كيف ما انقضت في تعب أو راحة ، ومستقبلة لايدري العبد يعيش إليها أم لا ، وما يقضي الله فيها ، وحاضرة ينبغي أن يجاهد فيها نفسه ويراقب ربّه ، فإن لم تأته الساعة المستقبلة لم يتحسرّ على فوت هذه الساعة ، وإن أتته استوفى حقّها أيضاً ، ولا يطول أمله بل يكون من وقته (٣) كأنّه آخر أنفاسه ، فلعلّه كذلك وهو لايدري ، فيكون على وجه لايكره أن يدركه الموت على تلك الحالة ، ويكون له كما قبل أربع ساعات : ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتفكّر في صنع الله ، وساعة يخلو فيها للطعام والشراب (٤) ،

__________________

١ ـ كما في المحجّة البيضاء (٨ / ١٦٢) وفي النسخ : إيمانه.

٢ ـ الطلاق : ١.

٣ ـ في المحجّة البيضاء (٨ / ١٦٣) : بل يكون ابن وقته.

٤ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٦٤ مرسلاً.

٤٧٠

بل لايخلو في هذه الأخيرة عمّا هو أفضل الأعمال ، أي الذكر والفكر فيما يتناوله ، فإنّ فيه من العجائب ما لو فطن به علم أنّه أفضل من كثير من الأعمال ، بأن يتفكّر إمّا في عجائب نفعها وكيفية ارتباط قوام الحيوانات بها وتقدير الله لأسبابها وخلق الشهوات الباعثة إليها والآلات المسخّرة للشهوة فيها ، أو يتفكّر في وجه الاضطرار إليها وأنّها تؤذي (١) لو استغنى عنها ، فيرى نفسه مقهوراً مسخّراً لشهواتها ، أو يتفكّر في صنع صانعها ويترقّى منها إلى صفاته فيتذكّر لأبواب تنفتح عليه من عالم الملكوت هي أعلى مقامات العارفين والمحبّين ، إذ المحبّ إذا رأى صنع حبيبه نسي الصنعة واشتغل بالصانع.

وأمّا المحاسبة للنفس بعد العمل ، فقد قال الله تعالى : ( ولتنظر نفس ما قدّمت لغد ). (٢)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حاسبوا قبل أن تحاسبوا ». (٣)

فكما ينبغي أن يكون للعبد ساعة قبل العمل في أوّل النهار يشارط نفسه ويوصيّها فكذا ينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب النفس فيها أو يحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها ، كما يفعل التجّار في آخر السنة أو الشهر أو اليوم مع شركائهم خوفاً من أن يفوتهم ما يورث الحسرة في فواته ، مع كون الحسرة قليلة ، والثمرة ضعيفة فانية ، فكيف لايحاسب فيما يتعلّق بأمر الآخرة الباقبة من السعادة والشقاوة الدائمة.

ومعنى المحاسبة أن ينظر إلى أصل المال والربح والخسران لينكشف له الزيادة والنقصان ، فإن حصل فضل استوفاه وشكره ، وإن خسر طالبه وضمّنه بتداركه في المستقبل ، فرأس مال العبد في دينه الفرائض وربحه النوافل وخسرانه المعاصي ، وموسم العمل جملة النهار والتاجر النفس

__________________

١ ـ كذا ، وفي المحجّة (٨ / ١٦٤) : ويلاحظون وجه الاضطرار إليها وبودّهم لو استغنوا عنه.

٢ ـ الحشر : ١٨.

٣ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٦٥ ، وفيه : « حاسبوا أنفسكم ».

٤٧١

الأمّارة ، فليحاسبها على الفرائض ، فإن أدّاها على وجهها شكر الله عليه ورغّبها إلى مثلها ، وإن فوّتها من أصلها طالبها بالقضاء ، وإن أدّاها ناقصة جبر نقصها بالنوافل ، وإن عصى عاقبها وعذّبها حتّى يتدارك لما فرط ، وكما يفتّش التاجر عن الحبّة والقيراط في حساب الدنيا حتّى لايغبن في شيء منها فكذا هذا ، بل أشدّ فإنّ النفس خدّاعة ملبّسة فليتكفّل بنفسه من الحساب ما سوف يتولّاه غيره عن تكلّماته ونظراته وخطراته وقيامه وقعوده وجملة أفعاله حتّى عن سكونه وسكوته لم سكت.

ثم النفس غريم يمكن الاستيفاء منها بالغرامة والضمان في بعضها وردّ عينها في بعض آخر ، وتعذيبها في آخر ، ولايمكن تفصيل ذلك الا بتحقيق الحساب ، وتمييز الباقي من الحقّ الواجب عليه ، فإذا حصل ذلك اشتغل بعده بالاستيفاء والمطالبة.

وينبغي أن يحاسب على جميع العمر يوماً فيوماً وساعة ساعة ، في كل عضو ظاهر وباطن ، فلو رمى العبد بكلّ معصيته حجراً في داره امتلأت داره في مدّة قريبة ، ولكنه يساهل في حفظه والملكان يحفظان عليه ، أحصاه الله ونسوه.

وأمّا المعاقبة على تقصيرها مهما حاسب نفسه فإنّه لايسلم عن مقارفة معصية وارتكاب تقصير في حقّ الله ، فلا ينبغي له إهمالها والا سهلت عليه مقارفة المعاصي ، فأنست به نفسه وصار ذلك سبباً لهلاكها ، بل ينبغي أن يعاقبها ، فإن أكل لقمة بشهوة عاقب بطنه بالجوع ، وكذلك يمنع كلّ طرف من أطرافه عن شهواتها كما كانت عادة الأكابر السسلف في سلوك طريق الآخرة.

فقد روي أنّه كان في بني إسرائيل رجل يتعبّد في صومعته فمكث زماناً طويلاً فأشرف من صومعته يوماً فنظر إلى امرأة فافتتن بها فأخرج رجله بالنزول إليها فأدركه الله بلطفه فرجعت إليه نفسه وعصمه الله تعالى وندم ،

٤٧٢

فلمّا أراد أن يعيد رجله إلى الصومعة قال : هيهات! رجل خرجت تريد المعصية تعود معي في صومعتي لايكن والله أبداً ، فتركها معلّقة من الصومعة تصيبها الأمطار الرياح والثلج والشمس حتّى تقطّعت ، فسمّي ذاالرجل ، فشكر الله له ذلك وأنزل في بعض الكتب ذكره (١). والحكايات في هذا الباب كثيرة.

والعجب أنّك تعاقب عبدك وأمتك وأهلك وولدك على تقصير صدر من أحدهم لأنّك تخاف أن يخرج أمرك عن الاختيار لو داريتهم ويبغوا عليك ، ثم تهمل نفسك مع كونها أعظم عداوة وأشدّ طغياناً عليك وضررك من طغيانها أشدّ من ضررك منهم ، إذ غايته تشويش عيش الدنيا والعيش عيش الآخرة ، والنفس هي التي تخلّصه لك.

وأمّا المجاهدة ، فإنّ النفس إذا قارفت معصية عاقبها بما تقدّم ، وإن توانت بحكم الكسل في شيء من الطاعات والفضائل والأوراد أدّبها بتثقيل الأوراد عليها وإلزامها فنوناً من الوظائف جبراً لما فات ، كما نقل عن جملة من الأكابر حين كسلوا في ورد ونحوه عاقبوا النفس بصوم أو حجّ أو صلاة مرابطة للنفس ومؤاخذة لها بما فيه نجاتها ، وإن لم تطعك فعالجها بإسماعها ما ورد في فضيلة الاجتهاد.

قال الصادق عليه‌السلام : « طوبى لعبد جاهد نفسه وهواه ، ومن هزم جند هواه ظفر برضا الله ، ومن جاوز عقله نفسه الأمّارة بالسوء بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة الله فقد فاز فوزاً عظيماً ».

ولا حجاب أظلم وأوحش بين العبد وبين الله تعالى من النفس والهوى ، وليس لقتلهما وقطعهما سلاح مثل الافتقار إلى الله والخشوع والجوع والظمأ بالنهار والسهر بالليل ، فإن مات صاحبه مات شهيداً ، وإن عاش استقام أدّاه عاقبته إلى الرضوان الأكبر. [ قال الله تعالى : ]

__________________

١ ـ إحياء العلوم : ٤ / ٤٠٦.

٤٧٣

( والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين ). (١)

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلّي حتّى يتورّم قدماه ويقول : أفلا أكون عبداً شكوراً.

« ولو وجدت حلاوة العبادة ورأيت أنوارها وبركاتها لم تصبر عنها ولو قطعت ارباً اربا ، فما أعرض من أعرض عنها الا للحرمان عن التوفيق ». (٢)

والأخبار الواردة في فضل الاجتهاد أكثر من أن تحصى.

ثمّ عالجها بمصاحبة المجتهدين وملاحظة أحوالهم والتأسيّ بهم وإن تعذّر عليك الوصول إليهم فعليك بسماع آثارهم والاطّلاع على أعمالهم ، وقد انقضى تعبهم وبقي ثوابهم ونعيمهم أبداً ، فما أشدّ حسرة من لايقتدي بهم لأجل شهوات فانية ، ثم يأتيه الموت فيحول بينه وبين مايشتهيه ، وإن تمرّدت عليك النفس وحدّثتك بان هؤلاء رجال أقوياء لايطاق الاقتداء بهم فطالع أحوال النساء المجتهدات كرابعة العدوية وأمثالها ، وقل للنفس : الا تمتنعين من أن تكون أقلّ من امرأة في أمر دينك ودنياك؟

يحكى أنّ رجلاً كانت له جارية رومية وكان بها معجباً ، قال : كنت بعض الليالي نائمة يجنبي فانتبهت فلمستها فلم أجدها فطابتها فإذا هي ساجدة تقول : بحبّك لي إلّأ غفرت دنوبي ، فقلت : لاتقولي كذا وقولي : بحبّي لك ، فقالت : لا يامولاي بحبّه لي أخرجني من الشرك إلى الاسلام وبحبّه لي أيقظني وكثير من خلقه نيام. (٣)

وقال رجل : خرجت إلى السوق ومعي جارية حبشية ، فأجلستها في موضع بناحية السوق وقلت : لاتبرحي من مكانك حتّى أقضي حوائجي ، فلمّا رجعت لم أجدها فانصرفت إلى المنزل وأنا شديد الغضب عليها ، فلمّا

__________________

١ ـ العنكبوت : ٦٩ ، وما بين المعقوفتين في المصدر.

٢ ـ مصباح الشريعة : الباب ٨٠ ، في الجهاد والرياضة ، مع اختلاف.

٣ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٧٧.

٤٧٤

عرفت الغضب في وجهي قالت : لاتعجل عليّ يامولاي! أجلستني في موضع لم أرفيه ذاكراً لله تعالى فخفت أن يخسف بي ذلك الموضع ، فتعجّبت منها وقلت : أنت حرّة لوجه الله ، فقالت : ساء ما صنعت ، كنت أخدمك فيكون لي أجران وأمّا الآن فقد ذهب أحدهما. (١)

ونقل عن بعضهنّ أنّها إذا جاءها النهار تقول : هذا يومي الذي أموتت فيه فما تطعم حتّى تمسي ، وإذا جاءها الليل تقول : هذه ليلتي التي أموت فيها فتصلّي حتّى تصبح ، فعليك بمطالعة أحوال هؤلاء حتّى ينبعث نشاطك على الجدّ والعبادة ، ولاتنظر إلى أهل عصرك فيضلّوك عن سبيل الله تعالى.

وأمّا المعاتبة فاعلم أنّ أعدى عدوّك نفسك الّتي بين جنبيك ، فهي الأمّارة بالسوء الميّالة إلى الشرّ الفرّارة عن الخير ، وقد أمرت بقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربّها ومنعها عن شهواتها ، فإن أهملتها شردت وجمحت وإن لازمتها بالتوبيخ والعتاب كانت لوّامة ، وقد حلف الله بها فيرجى أن تصير مطمئنّة داخلة في عباد الله فلا تغفلنّ ساعة عن عتابها وتذكيرها ولا تشتغل بوعظ غيرك أبداً مالم تعظ نفسك أوّلاً بتقرير جهلها وحمقها ، فإنّها تتعزّز أبداً بذكائها وفطنتها ويشتدّ أنفتها واستنكافها فتقول لها : ما أجهلك بنفعك وضرّك وخيرك وشرّك ، أما تدرين مابين يديك من الجنّة والنار ومصيرك إلى إحديهما ، فما لك تفرحين وتضحكين وأنت مطلوبة غداً ، ولعلّك تختطفين الآن أو غداً فالموت يأتي بغتة من غير مواطاة وتمهيد ، فمالك لا تستعدّين للموت الذي هو أقرب إليك من كلّ قريب.

قال تعالى : ( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون * مايأتيهم من ذكر من ربّهم محدث الا استمعوه وهم يلعبون * لاهية قلوبهم ). (٢)

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ١٧٨.

٢ ـ الأنبياء : ١ ـ ٣.

٤٧٥

ويحك! إن كنت ترى (١) أنّ الله لايراك فما أعظم كفرك والا فما أعظم وقاحتك وأقلّ حياءك.

ويحك! أتظنّين أنّك تطيقين عذابه فجرّبي نفسك واحتبسي ساعة في البيت أو في الحمّام (٢) أو تقرّبي إلى النار ليتبيّن لك طاقتك ، أم تظنّين كرمه تعالى وعفوه واستغناءه عن عذابك ، فمالك لاتعوّلين على كرمه في حوائجك في الدنيا أفتحسبين أنّه كريم في الآخرة دون الدنيا ، ولا تعلمين أنّ الربّ واحد وأنّه ليس للانسان الا ما سعى.

ويحك! ما أعجب نفاقك! تدّعين الإيمان بلسانك وقد قال مولاك في أمر دنياك ( وفي السماء رزقكم ) (٣) فضمن الرزق وتكفّله ولم يتكفّله في أمر الآخرة ووكله إلى سعيك فتكذّبينه بأفعالك وتكالبك على الدنيا كالمستهتر ، وإعراضك عن الآخرة كالمستخفّ المستحقر ، أما تدرين أنّ المنافق في الدرك الأسفل من النار؟

ويحك! ما أجهلك بحساب يوم الجزاء ، أتحسبين أنّك تتركين سدى ، ألم تكوني نطفة من مني يمنى؟ فخلقك وسوّاك ، أفلا يقدر أن يحييك مرّة أخرى؟ وإن صدّقته فما بالك لا تأخذين حذرك ويكون قول الأنبياء ووعدهم ووعيدهم عندك أهون من إخبار طفل بعقربة في أحد جنبيك ، أو يهودي يدّعي الطبابة بالضرر في أكلك ولزوم مداواتك ، أفتظنّين أنّ سموم النار وعقاربها وحيّاتها أحقر من لدغ العقربة التي لاتدوم يوماً فما أجهلك ولو انكشف على البهائم أمرك ضحكوا عليك.

ويحك! مالك تسوّفين نفسك وتقولين غداً وغداً ، فقد جاء الغد وصار يوماً ، ألا تعلمين أنّ الغد كالأمس في عجزك فيه عمّا كنت عاجزة عنه فيه وقدرتك على ماكنت تقدرين عليه؟ بل أنت أعجز في الغد من اليوم

__________________

١ ـ كذا ، والصحيح : ترين.

٢ ـ كذا ، وفي المحجّة البيضاء : (٨ / ١٨١) : ساعة في الشمس أو في بيت الحمّام.

٣ ـ الذاريات : ٢٢.

٤٧٦

لرسوخ الشهوة ببقائها ، فيصعب قلعها ، فمن عجز في حال شبابه وقوته عن قلع الشجرة الشابّة كيف يقدر على قلعها بعد انقضاء مدّة طويلة تزيد قوتها ورسوخها وتزيد ضعفه بشيبه وهرمه واحتفاف الأسقام والأوجاع به وضعف الجوارح والآلات عنه.

ويحك! يانفس أتستعدّين للشتاء بقدر طول مدّته فتجمعين له القوت والحطب واللبد والجبة والحبوب ، ولا تتّكلين على فضل الله ورحمته حتى يدفع عنك البرد بغير حطب وجبّة ، فإنّه قادر على ذلك ، أفتظنّين أنّ الزمهرير أخفّ برداً أو أقصر مدّة من زمهرير الشتاء؟ أم تظنّين أن العبد ينجو من دون سعي ، هيهات! فكما لايندفع برد الشتاء الا بالجبّة والفرو والاستدفاء بالنار وغيرها ، فكذا لايندفع حرّ النار وبرد الزمهرير (١) الا بمحض الطاعات والاجتهاد في العبادات ، وإنّما كرمه تعالى في الهداية والإرشاد إلى طريق النجاة والخلاص عن الهلاك وتيسير الأسباب لا في اندفاع العذاب عنك بدون سبب من الأسباب ، كما أنّ كرمه في دفع برد الشتاء بخلق النار وإهدائك إلى طريق استخراجها ودفع البرد بها دون شراء الحطب والجبّة ، فارجعي عن جهلك ولاتبيعي آخرتك بدنياك.

ويحك! يا نفس أما تستحين؟ تزيّنين ظاهرك للخلق ، وتبارزين الله في السرّ بالعظائم؟ فتستحين من الخلق دون الخالق؟

ويحك! أتراه (٢) أهون الناظرين إليك قد جعلت نفسك حماراً لإبليس يقودك حيث يريد وتشتغلين بعمارة دنياك مع خراب آخرتك كأنّك غير مرتحلة منها إليها؟ أما تنظرين إلى أهل القبور قد جمعوا كثيراً وبنوا شديداً وأمّلوا بعيداً ، فأصبح جمعهم بوراً وبنيانهم قبوراً وأملهم غروراً ، فانظري إلى الدنيا اعتباراً واسعي اضطراراً وارفضيها اختياراً ، واطلبي

__________________

١ ـ كذا في « ج » ، وفي « الف وب » : بردها.

٢ ـ كذا ، والصحيح : أترينه.

٤٧٧

الآخرة ابتداراً ، فاتّعظي وإن منعتك القساوة عن قبول الموعظة فاستعيني عليها بدوام التهجّد والقيام وكثرة الصلاة والصيام ، وقلّة المخالطة والكلام ، وصلة الأرحام ، واللطف بالأيتام ، وواظبي على النياحة والبكاء اقتداء بأبيك آدم وبأمّك حوّاء ، واستغيثي بأرحم الرحمين ، وتوسّلي بأكرم الأكرمين ، فإنّ مصيبتك أعظم وبليّتك أجسم ، وقد انقطعت عنك الحيل ، وزاحت عنك العلل ، فلا مذهب ولا مطلب ولا مستغاث ولا مهرب الا إليه ، فلعلّه يرحم فقرك ومسكنت ويغيثك ويجيب دعوتك ، فإنّه يجيب دعوة المضطرّ إذا دعاه ، ولايخيب رجاء من أمّله ورجاه ، ورحمته واسعة ، وأياديه متتابعة ، ولطفه عميم ، وإحسانه قديم ، وهو بمن رجاه كريم.

فصل

الرضا أفضل مقامات الدين ، وأعلى منازل المقرّبين ، وهو ترك الاعتراض السخط لأفعال الله تعالى ظاهراً وباطناً قولاً وفعلاً ، وهو من ثمرات المحبّة ، إذ المحبّ يستحسن مايفعله المحبوب ، وصاحب الرضا يستوي لديه الحالات كلّها ، والآيات والأخبار في مدحه ممّا لاتحصى.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لطائفة : « ما أنتم؟ فقالوا : مؤمنون ، فقال : ماعلامة إيمانكم؟ فقالوا : نصبر عند البلاء ونشكر عند الرخاء ونرضى بمواقع القضاء. فقال : حكماء علماء كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، وإن رضي اصطفاه ». (٢)

وقال الصادق عليه‌السلام : « أعلم الناس بالله أرضاهم بقضائه ». (٣)

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٨٧.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٦٧.

٣ ـ الكافي : ٢ / ٦٠ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الرضا بالقضاء ، ح ٢ ، مع اختلاف.

٤٧٨

وفي الخبر : « أنّ موسى عليه‌السلام سأل ربّه أن يدله على ما فيه رضاه ، فقال تعالى : إنّ رضاي في رضاك بقضائي ». (١)

وبهذا المضمون أخبار كثيرة ، وهذا من فوائد الرضا وهو من أعظمها ورضوان من الله أكبر.

وورد ذلك في تفسير : ( ولدينا مزيد ) (٢) يقول الله تعالى : « إنّي عنكم راض وهو أفضل من النعيم والهدية والتسليم ». (٣)

ورضا الله من العبد حبّه له ، وهو سبب لدوام النظر والتجلّي وهو غاية مراد المريدين.

تنبيه

أنكر بعض الناس تحقّق الرضا في أنواع البلاء وما يخالف الهوى وجعل الممكن فيها الصبر ، وهو كما قيل في ناحية من إنكار المحبّة (٤) ، فإن حبّ المخلوق قد يستغرق الهمّ بحيث يبطل إحساس الألم فتصيبه الجراحات ولايحسّ بألمها ، بل الطالب المسارع في شغل قد يعدو فتصيبه جراحة من شوك يدخل في رجله ونحوه ولا يشعر به ، وقد حكى الله تعالى عنالنسوة اللاتي قطّعن أيديهنّ ما هو أعظم ، وحكايات العشّاق مشهورة مسطورة نظماً ونثراً ، وحبّ الله تعالى أعظم المحابّ وشغل القلب به من أعظم المشاغل فلايقاس بجماله جمال ، وكلّ جمال من آثار جماله ومظاهر قدرته وجلاله ، فأيّ بعد في أن تدهش به عقول ذوي العقول فلا يحسّوا بما يجري عليهم من المصائب والآلام ، وربما لم يبلغ المحبّ هذا المبلغ فيحسّ بالألم ، لكن يرضى به ويرغب إليه بعقله دون طبعه ، كالذي يفصد أو يحتجم بإرادته

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٨٩.

٢ ـ ق : ٣٥.

٣ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٨٧ وفيه تفصيل يعرف به المراد من الهدية والتسليم ، وليس فيه ذكر « النعيم ».

٤ ـ كذا ، والظاهر أنّ الصحيح : كما قيل من ناحية إنكار المحبة.

٤٧٩

ترجيحاً للنفع المتوقّع على الألم العاجل أو لرضاء محبوبه على رضاه فيسعف مأموله وينجح مطلوبه ومسؤوله.

فإذا حصلت هذه المراتب في المحبّة الضعيفة الحاصلة للمخلوقين فيما بينهم فأولى بحصولها في محبّة الله تعالى سبحانه.

تمحيص وتحقيق

الدعاء الذي تأكد الأمر به في الآيات والأخبار لاينافي الرضا ، وكذا بغض الكفّار والعاصين والأمر بنهيهم عن مخالفة شعائر الدين المبين ، ومع عدم الانزجار بدفعهم وقمعهم ومع عدم التمكّن بالاعتزال الهجرة عنهم.

وما توهّمه بعضهم من أنّ ما يقصد ردّه بالدعاء من قضاء الله وقدره وكذا الكفر والعصيان فيجب الرضا بها ، فرأوا السكوت عنها من مقامات الرضا ، واضح الفساد ، كيف ومقام الأنبياء والأوصياء من أعلاها وقد كثرت الأدعية المأثورة بما لاتحصى.

وكذا الحثّ والثناء في الكتاب والسنّة على الدعاء وأهل الدعاء وبولغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهما وصرّح بموادّة المؤمنين وبغض الكفّار والمنافقين ، بل مطلق المخالفين بما هو أظهر من أن يخفى ، هذا مع ما يشاهد من إيجاب الدعاء لصفاء القلب وتنوّر النفس وكشف الأسرار وتواتر مزايا لطف الكريم الغفّار وإفاضة الخيرات والبركات بسببه إلى العباد ، فإنكار ذلك جهل وغرور أو مكابرة وعناد ، ولامنافاة بينها وبين مادلّ على علوّ مرتبته الرضا بالقضاء ، فإنّ عادة مبدع النظام الأصلح وربّ الأرباب قد جرت بترتيب المسببات على الأسباب وإسناد المبدعات والكائنات والأفعال طرّاً إلى الوسائط التي بها يتمّ الانتساب ، كما قال تعالى :

( وإن من شيء الا عندنا خزائنه وماننزّله الا بقدر معلوم ) (١)

والقدر عبارة عن وجود الأشياء مفصّلة في الخارج مرتّبة على أسبابها

__________________

١ ـ الحجر : ٢١.

٤٨٠