كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

أحواله في حال الحرب ، فقيل له : ما هذه الحالة وأنت أشجع الناس؟ فقال : لم أمتحن خصمي فلعلّه أقوى منّي.

وأنّ إعجابه بكماله إن كان لكونه محلاً وقابلاً له فهو مسخّر تحت حكم الفاعل وليس له الا القبول والانفعال والفضل للمؤثّر الفاعل دونه. مع أنّ الاستعداد والقبول أيضاً من فيضه وفضله ، فإنه الخالق للأعضاء والجوارح والقوى والادراكات وغيرها ، وإن كان من تصوّر أنه البعث على حصوله وأنّه ناش عن قدرته ، فهو جهل منه بكون قدرته وأسبابه التي بها يحصل الكمال ويتمّ الأعمال من الكريم الواهب المتعال (١) من غير حق له عليه تعالى فبالحريّ أن يعجب من كرمه وفضله حيث أفاض عليه ما لايستحقّه وهو المنعم الحقيقي بجلائل النعم ودقائقها ، والواهب لصور الأشياء وحقائقها.

فالعجب ممّن يعجب بنفسه في عبادته أو عبادته أو غيرها مع عجزه عن جميع الأسباب والمصالح المؤدّية إلى ما أعجبه منها وعدم مدخليّته له فيها أصلاً ولا يعجب ممّن يستند إليه كل الأمور وهو الذي اختاره واجتباه وآثره واصطفاه على كثير من خلقه بتمكينهم من استعمال اللذّات التي أغفله عنها وذرأها (٢) عنه ، وصرف بواعث الخيرات عنهم وإعدادها له.

روي أنّ أيّوب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « إلهي إنّك ابتليتني بهذا البلاء ، وماورد عليّ أمر الا آثرت هواك على هواي ، فنودي من غمامة بعشرة آلاف صوت : يا أيّوب أنّى لك ذلك؟ فأخذ رماداً فوضعه على رأسه وقال : منك ياربّ [ ، منك يا ربّ ] » (٣) فلو لا فضله ورحمته الواسعة ما زكى أحد » ولذا قال نبيّنا عليه‌السلام الذي هو أشرف خلق الله سبحانه : « ما منكم من أحد ينجّيه عمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا الا أن يتغمّدني الله برحمته ». (٤)

__________________

١ ـ كذا ، والصحيح : المتعالى.

٢ ـ كذا ، والصحيح : زواها كما في المحجة : ٦ / ٢٨٠.

٣ ـ المحجة اليضاء : ٦ / ٢٨١_٢٨٢.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٢٨٢.

١٦١

ولا يلزم منه سلب الاختيار كما حقّق في محلّه.

وإن كان من حسبه ونسبه تأمّل أوّلاً في أن إعجاب المرء من نفسه بكمال غيره حمق غريب ، وأنه لشيء عجيب ، فلو كان خسيساً في ذاته الانسان شرفاً على الدودة المخلوقة من فضلة الحمار؟ هيهات ، بل هما سيّان في الدناءة والاستقذار ، لو لم تكن الأولى أخسّ واأدنى بحسب الاعتبار.

لئن فخرت بآباء ذوي شرف

قالوا صدقت ولكن بئس ما ولدوا

ولذا قال علي عليه‌السلام :

إن الفتى من يقول ها أنا ذا

ليس الفتى من يقول كان أبي

ونقل أنّ وحداً من أولاد الملوك افتخر على غلام حكيم ، فقال له الغلام : إن كان فخرك بأبيك فالفخر له ، وإن كان من ملبوسك فالشرف له ، وإن كان من مركوبك فالفضل له ، ولو أخذ كلّ حقه لم يبق فيك ما يصلح لافتخارك.

وثانياً : في أنّ الله تعالى قد عرّف نسبه بقوله :

( وبدأ خلق الإنسان من طين ثمّ جعل نسله من سلالة من ماء مهين ). (٢)

وأيّ شرف في أصل تطأه الأقدام أو تتنجّس من ملاقاته الأجسام.

وثالثاً : في أنّ شرافة من يفتخر بهم إن كان من تحلّيهم بالكمالات النفسيّة وتخلّيهم عن الرذائل الخلقيّة فلم يكن فيهم العجب أيضاً لا محالة فلابدّ لمن يفتخر بهم أن يقتدي بهم في ترك إعجابه حتّى لا يكون طاغياً في أنسابه.

وإن كان من تحليهم بالزينة الدنيوية والشوكة المجازية فما أجهله بحقيقة

__________________

١ ـ ديوان أميرالمؤمنين عليه‌السلام : ص ٧٨.

٢ ـ السجدة : ٧_٨.

١٦٢

حالهم وما أغفله عن كيفيّة مآلهم ، كيف والانتساب إلى الخنازير والكلاب أحسن من الافتخار بتلك الأنساب. ولو ارتفع عنه الحجاب واطّلع على ما هم فيه من أليم العذاب وعظيم المصاب ونظر إلى صورهم المشوّهة في النار وما لحقهم من النتن والاستقذار لا ستننكف منهم وتبرّأ عنهم.

وروي أنه افتخر رجلان عند الكليم عليه‌السلام فقال أحدهما : أنا فلان بن فلان إلى أن عدّ تسعة ، فأوحى الله إلى الكليم قل له : « كلّ التسعة من أهل النار وأنت عاشرهم ». (١)

وإن كان من جماله ، تأمّل في سرعة زواله بعروض أدنى مرض وألم ، ثم عروض الشيب والهرم ، ثم لحوق الفناء والعدم.

ثم في ما وكل في كلّ عضو منه من الأقذار المنفرة والفضلات القبيحة القذرة كبصاق الفم ومخاط الأنف ووسخ الاذن وصديد البشرة ونتن الابط وفضلات المعدة كالبول والعذرة ووجع (٢) الأمعاء وديدان الأحشاء وخروج ما لو رآه تنفّر عن رؤيته من بطنه كلّ يوم ، فضلا عن مسّه أو شمّه لكثافته ونتنه مع ما كان في أوّل أمره من النطفة ودم الحيض وخروجه عن مجاري الأقذار كالذكر والرحم والفرج ولو لم يتعاهد لنفسه التنظيف من الأقذار على الدوام كان أشوه من مهملات الدوابّ والأنعام.

وما يؤول إليه أمره بعد شيبه من قبح الصورة ثم موته وصيرورته جيفة قذرة ، فكيف يعجب بالهيأة التي هذا دوامها وحقيقتها.

وإن كان من المال ، تأمّل في آفاته من الغصب والنهب والحرق والغرق وغيرها من أسباب وزواله.

ثم في كون كثير من النصارى واليهود والمجوس والهنود أكثر مالاً منه. فتّباً لشرف لا وثوق له ببقائه في ساعة فضلاً عن أيّام وليال ويسبقه فيه من

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٢٤٣.

٢ ـ كذا ، والظاهر : « رجيع الأمعاء » كما في المحجة : ٦ / ٢٥٨.

١٦٣

ذكرناه من الرجال.

بر مال وجمال خويشتن غرّه مشو

كان را به شبى برند واين را به تبى

ثم في ماورد في ذمّه وذمّ الأغنياء ومدح الفقر والفقراء وشرافتهم واستباقهم إلى ما أعدّ لهم من النعيم في دار البقاء.

ثم في موته وتمتّع زوج امرأته أو ابنته أو زوجة ابنه وسائر ورثته منه مع عظم خطره وكثرة حقوقه وطول المحاسبة عليه ، ففي حرامها العقاب ، وفي حلالها الحساب ، وفي الشبهات منها العتاب.

وإ ، كان من قوّته وشدّة بطشه ، تأمّل في حصول أشدّ الضعف له بأدنى مرض يسلّط عليه وأقلّه ، ولو توجّع عرق واحد من أعضائه صار من أعجز ما يكون وأذلّه ، ولو سلبه الذباب شيئاً لم يستنقذه منه ، وعجزه عن قمّلة وبقّة وأدنى شوكة تدخل في رجله ، وأنّ كثيراً من الحيوانات أشدّ بطشاً منه ، فأيّ إعجاب بما يكون في البهائم والسباع أكمل منه.

وإن كان من الجاه وقرب السلطان أو كثرة الأنصار والأتباع والأعوان من الأولاد والأقارب والعشائر والخدم الغلمان ، تفكّر في قرب أو ان انقطاعها ومفارقتها لها بفنائه أو فنائها ، وكونها اعتبارات ضعيفة كسراب بقيعة ، فإذا مرض عجزوا عن دفع أدنى مرضه ورفع أقلّ ما يؤذيه ، وأذا دفن في حفرته وخلّي في البيت الجديد وحيداً غريباً ذليلاً كئيباً سلمه أعوانه المذكورون إلى العقارب والحيّات والديدان ، وأنواع ما أعدّ له من الهموم والمصائب والأحزان ، وهو في أحوج حال إلى إعانتهم وإسعادهم وأبعده عن إغاثتهم وإمدادهم.

على أنّ التجربة شاهدة بأنّ محبّتهم وإعانتهم تبع لما يأملون منه من وجوه البذل والانفاق مادام يرونه متعرّضاً لسخط الله بتحصيل الأموال لهم من غير وجهها ، موقعاً نفسه في المهالك لتحصيلها وبذلها وصرفها فيهم ، فإذا نقص شيء مما يشتهونه مالوا إلى عداوته وتعرّضوا لمقته ومعارضته.

١٦٤

اين دغل دوستان كه مى بينى

مگسانند دور (گردخ ل) شيرينى

ثم من أقبح أنواعه العجب بالرأي الفاسد والجهل المركّب ، فإنّ جميع أهل البدع والضلال أصرّوا على آرائهم الفاسدة لعجبهم بها وبه هلك الأمم بفرقها فإنّ كلّ حزب بقما لديهم فرحون وقد أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بظهوره في الأمّة بعد وفاته.

وعلاجه في غاية الصعوبة ، لما عرفت من صعوبة متعلّقة ، فلا يزول إلا بزواله. وأنفع شيء له الرياضة والمجاهدة التامّة والتضرّع والابتهال والاستعداد من النفوس القدسيّة وممارسة الكتاب والأخبار المعصومية ومجالسة العلماء ومدارسة العلوم الرياضية حتى يألف بالعلم واليقين ويهتدي إلى حبل الله المتين.

فصل

قد تبيّن لك حقيقة الكبر وأنّه من تنائج العجب ، وما يترتّب عليه من التحقير للغير كالاستنكاف عن مواكلته ومصاحبته وتوقّع التقديم فيما يدلّ عرفاً على التعظيم عليه ، وعدم الالتفات في المحاورات وغيرها إليه يسمّى تكّبراً ، وهو من الآفات العظيمة التي هلك بها خواصّ الأنام فضلاً عن العوام ، وهو أعظم الحجب المانعة عن الوصول إلى دار السلام.

ويترتّب عليه من المفاسد ترك التواضع وكظم الغيظ وقبول النصح والغضب والحقد والحسد والغيبة وازراء الناس وغيرها.

فما من رذيلة الا ويضطرّ إليها لحفظ عزّه الموهوم ، وما من فضيلة الا وهو عاجز عنها خوفاً عن ذلّه الموهوم.

وربما زاد إلى أن يؤدي إلى الاستكبار على الله ورسله وأمنائه الأطهار بإنكار كلامهم ونصائحهم والاستنكاف عن امتثال أو امرهم ونواهيهم ، فيصير كفراً بالله الكريم ، أعاذنا الله منه بمنّه العظيم ولطفه العميم.

١٦٥

قال الله تعالى : ( إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين ) (١) ( ادخلوا أبواب جهنّم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبّرين ) (٢) ( إن في صدورهم الا كبر ماهم ببالغيه ). (٣)

وفي النبويّ : « لايدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من الكبر ». (٤)

وفيه أيضاً : « قال الله تعالى : الكبرياء ردائي والعظمة أزاري ، فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في جهنم ». (٥)

وقال عيسى بن مريم عليه‌السلام : « كما أنّ الزرع ينبت في السهل ولاينبت على الصفا ، كذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولاتعمر في قلب المتكبّر ». (٦)

وبالجملة : فالأخبار كثيرة لاتحصى.

وأقبح أفراد المتكبّر من مكّنه (كمنه خ ل) في قلبه وأظهره بلسانه وجوارحه في أقواله وأفعاله. وأحسن منه في الجملة من مكنّه في القلب والجوارح ماخلا اللسان. وأحسنها من مكنّه في القلب ولم يظهره بقول ولا عمل ، بل يجتهد في التواضع. فإن كان قصده التلبيس على الناس بإثبات التواضع لنفسه فلعلّه أشدّ من الأولين لكونه متكبّراً ومرائياً معاً ، وإن كان منكراً لما يميل إليه قلبه مجتهداً في إزالته عنه ، كلن لايقدر عليه بسهولة ، بل يميل نفسه إلى ما يشتهيه من دون اختيار فيرجى له أجر المتواضع ، والله تعالى عسى أن يوفّقه بموجب وعده لغاية مراده وقصده.

__________________

١ ـ غافر : ٦٠.

٢ ـ الزمر : ٧٢.

٣ ـ غافر : ٥٦.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٢١٢.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٢١٣.

٦ ـ تحف العقول : ٥٠٤.

١٦٦

وعلاجه : بما ذكر في العجب لاشتراك بواعثهما وكونه من نتائجه ، ويخصّه بعد التذكّر لما دلّ على ذمّه ومدح ضدّه من الآيات والأخبار ، التأمّل في أنّ حكمه بمزيته على غيره من غاية جهله ، إذ شرف المرء بسعادته وحسن خاتمته ولا علم بهما الا للعالم بالقضاء الأزلي ، فربّما حسنت خاتمة المتكبّر عليه ووصل إلى أقصى مراتب السعادة وختم للمتكبّر بالشقاوة.

وأيضاً شرفه بالفضائل النفسيّة ، وخسّته بالرذائل الخلقية ، وهي أمور باطنية لا يعلمها الا علام الغيوب المطّلع بما تخفيه الضمائر والقلوب.

على أنه لو حصّل مرتبة الشوق والحبّ وبلغ إلى مرتبة اليقين نظر إلى كلّ الموجودات بعين واحدة ، وهي الانتساب إليه تعالى بكونها رشحة من رشحات وجوده وقطرة من قطرات بحار فضله وجوده ، وآثاراً لذاته ومظاهر لصفاته ، فلا ينظر إلى أحد بعين الحقارة.

ولايرد لزوم حسن التواضع والمحبّة للكفّار والأشرار ، مع كونه مأموراً ببغضهم ولعنهم وترك مودّتهم ، لاختلاف الحيثية ، فبغض الكافر مثلاً لكفره وعداوته لايستلزم ميل النفس إلى التكبّر عليه ، وحبّه لأجل كونه من مظاهره وآثاره لا ينافي بغضه لأفعاله وأخلاقه وعقائده ، فلو وكلّ أحد غلامه المأمون على ولده بمراقبته وتأديبه فالمطلوب المحمود من الغلام ضربه وتأديبه إذا أساء ظاهراً لمجرّد امتثال مولاه ، ومحبّته له باطناً من حيث إنه ولده ومنسوب إليه ، ولايحسن منه أن يتكبّر عليه ويرى لنفسه مزيّة بالنسبة إليه. فالمعيار الكلّي كون حبّه وبغضه خالصاً لوجه الله ، فاينافي حدوث كلّ منهما وزواله وزيادته ونقيصته بالنسيبة إلى ما يعرضه من العقائد والأخلاق والأعمال.

على أن المناط حسن الخاتمة وسوء العاقبة ، فلعلّ الكافر يسلم ويتوب ، والفاسق يندم ويؤوب.

والعلاج العملي له المواظبة على ضدّه ولو تكلّفاً إلى أن يعتاد عليه وينقلع عن قلبه شجرته الراسخة فيه بأصولها وأغصانها.

١٦٧

وله علامات كحصول السرور القلبي له من ظهور الخطأ في رأيه وحقّية رأي خصمه في مناظراته وشكره الظاهري له على تنبيهه عليه من دون ثقل عليه لا في الخلأ ولا في الملأ.

وكتقدم أقرانه على نفسه في المجلس والممشى من دون ثقل في الخلأ والملأ.

وكإجابة دعوة الفقراء وقضاء حوائجهم وحمل حوائجه وحوائجهم إلى منزله ومنازلهم بنفسه من دون ثقل عليه في الخلأ والملأ.

واللبس من دون زيّ أقرانه كلبس الصوف وغيره من الخشن.

والأكل مع الفقراء والمعلومين والخدم والغلمان من دون ثقل عليه في الخلأ والملأ.

وإن ثقل عليه أحد ماذكر في الملأدون الخلأ ، فهو وإن لم يكن متكبّراً الا أنّه مراء ، ينبغي له إعمال معالجات الرياء.

وفي الخبر : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعلف الناضح ، ويعقل العبير ، ويقمّ البيت ، ويحلب الشاة ، ويخصف النعل ، ويرقّع الثوب ، ويأكل مع الخادم ، ويطحن عنه إذا أعيى ، ويشتري من السوق ويعلّقه بيده ، أو يجعله في طرف ثوبه ، ويصافح الغنيّ والفقير والصغير والكبير ، ويسلّم مبتدءاً على كلّ مستقبل من صغير وكبير وأحمر وأسود ، حرّ أو عبد من أهل الصلاة ، وكان أشعث أغبر ، ولايحقّر مادعي إليه ... الحديث ». (١) وسيجيء تمام الكلام في التواضع.

وأعلم انّ من أظهر أنواعه الافتخار ، وقد ورد في ذمّه بخصوصه أيضاً كثير من الاخبار وعلاجه بعلاجه.

تنبيه

كما أنّ الكبر طرف إفراط من فضيلة التواضع ، فالتذلّل والتخاسّ

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٢٥٠ نقلاً عن أبي سعيد الخدري.

١٦٨

ظرف تفريط منها من التملّق لأرباب الدول ، والتواضع للمتكبّرين وغير ذلك ممّا يذكر بعضها في التواضع مع ما يدلّ على ذمّها.

وعلاجه بعد التذكّر لقبحه عقلاً ونقلاً ، ومدح التواضع كذلك ، بتحصيل ضدّه الذي هو التواضع.

فصل

البغي عسر الانقياد لمن يجب انقياده عقلاً ، وربما فسّر بمطلق الاستطالة والعلوّ حتّى يشمل أنواع الكبر بأسرها مع الظلم والتعدّي ، وهو من أفحش أنواع الكبر ، والباعث لتكذيب المكذّبين للأنبياء والمرسلين ، وقد هلك به أغلب الكفّار والباغين.

والأخبار في ذمّه بخصوصه أكثر من أن تحصى.

وعلاجه ـ بعد تذكر تلك الأخبار ومادلّ على مدح التسليم والانقياد من الآيات والأخبار الدالّة على وجوب إطاعة الله ورسله وأوليائه ـ بما تذكر في الكبر والعجب وتكليف نفسه بالانقياد ولو تكلّفاً حتّى تنقاد ويصير لها ملكة.

فصل

ومن نتائج العجب تزكية النفس بنفي النقائص عنها ، وإثبات الفضائل لها. ويكفيك في قبحه ما قدّمناه في العجب ، مع أنّ فيه من القبح العرفي ما يشهد به الوجدان. ولذا قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « تزكية المرء لنفسه قبيح ». (١)

قال الله تعالى : ( فلا تزكّوا انفسكم هو أعلم بمن اتّقى ) (٢).

وعلاجه علاج العجب مع تكليف نفسه بضدّها ، أي هضمها وكسرها وإثبات النقص لها إلى أن يصير لها ملكة.

__________________

١ ـ جامع السعادات : ١ / ٣٦٦.

٢ ـ النجم : ٣٢.

١٦٩

فصل

العصبيّه أي حماية المرء لنفسه أو ما ينسب أليه من الدين والاتباع قولأً وفعلاً ، فإن لم يكن متعدّياً عن الانصاف ولم يقع بسببها في محرّم شرعي فهي غيرة ممدوحة ، وسيجيء ذكرها ، وإن تعدّى عنه أو وقع في المحرم فهي من رذائل قوّة الغضب من باب الرداءة (الإفراط خ ل).

وقد فسّرها سيّد الساجدين عليه‌السلام بقوله : « العصبيّة التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين » ، وليس من العصبيّة أن يحبّ الرجل قومه ، ولكن من العصبيّة أن يعين قومه على الظلم ». (١)

فالذمّ المطلق في الأخبار مقيّد به ، لأنّه الشائع من معناه ، سيّما في أمثال ذلك الزمان.

وعلاجها ـ بعد التذكّر لما ورد في ذمّها من الأخبار ومدح ضدّها أي الانصاف ، والتأمّل في المفاسد المترتّبة عليها والمحاسن المترتّبة على ضدّها ـ تكليف نفسه بالعمل بمرّ الحق ولو تكلّفاً إلى يصير له عادة.

فصل

كتمان الحق إن كان ناشئاً من العصبية كان من رذائل الغضبية من جانب الافراط ، وإن كان من الجبن كن منها من جانب التفريط ، ويندرج فيه كثير من المحرمات ككتمان الشهادة وشهادة الزور والحكم بغير الحقّ وتصديق المبطل وتكذيب الحقّ وغيرها.

والأخبار في ذمّ مطلقه وكل ممّا يندرج تحته أكثر من أن تحصى.

وعلاجه ـ بعد التذكّر لكونه موجباً لسخط الله ومقته وفوائد ضدّه أي

__________________

(١) الكافي : ٢ / ٣٠٨ ـ ٣٠٩ ، كتاب الايمان والكفر ، باب العصبيّة ، ح ٧.

١٧٠

الاستقامة على الحق ـ تكليف نفسه على ذلك ولو تكلّفاً إلى أن يصير له عادة.

فصل

ومن رذائل قوّة الغضب القساوة أي ملكة عدم التأثّر من تألّم أبناه النوع. ويترتّب عليها من الصفات الذميمة الظلم والايذاء وترك إعانة الضعفاء ومواساة الفقراء ونحوها وامتناع النفس عن قبول المواعظ والنصائح والخوف من الله تعالى.

وفي الخبر النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يقول الله تعالى : اطلبوا الفضل من الرحماه من عبادي وتعيّشوا في أكنافهم فإنّي جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم ، فإني جعلت فيهم سخطي ». (١)

والأخبار في ذمّ القسوة وفضل ضدّها الرحمة أكثر من أن تحصى ، والله سبحانه وتعالى شبّه قلوبهم بالحجارة ، ثمّ قال : ( أو أشدّ قسوة ). (٢)

وبينّها بأنّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار وأنّ منها لما يهبط من خشية الله.

وبالجملة فذمّ القساوة في الكتاب والسنّة كثير ، والمفاسد المرتّبة عليها أظهر من أن تخفى ، وكذا مدح الرحمة وشرفها ، ويكفيها فضلاً كونها من أظهر الصفات الالهيّة التي ينسبها إلى ذاته في كلامه المجيد دائماً ، والله يحبّ من عبده التشبّه به في صفاته ، ويكره منه ما يضادّها. لكن إزالتها عن القلب في غاية الصعوبة ، فيحتاج إلى رياضة تامّة بترك لوازمها وآثارها ، و (من خ ل) المواظبة على آثار الرحمة والرأفة من الأعمال الظاهرة ، ويكلّف نفسه عليه تكليفاً عنيفاً حتّى تتبدّل تدريجاً.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٦٠.

٢ ـ البقرة : ٧٤.

١٧١

المقام الثاني

في ذكر معظم الفضائل المتعلّقة بالقوّة الغضبية

وفيه فصول

فصل

الشجاعة إحدى الفضائل الأربع النفسانية وهي جنس لفضائل القوّة الغضبيّة.

وقد عرفت أنها عبارة عن تعديلها بإطاعتها بالقوّة العقلية في الاقدام على الأهوال وسكونها تحت أمرها ونهيها. وقد تقدّم في الفصول السابقة ما يكفيك في معرفة فضيلتها ، كما يظهر لك في الفصول الآتية أيضاً.

وبديهة العقل تشهد بحسنها ، وأن بها يتم الرجولية والفحلية ، وكفاه مدحاً كونه من أظهر صفات أميرالمؤمنين عليه‌السلام وذرّيته الطيّبين سلام الله عليهم أجمعين.

وقد قال الله تعالى في مدح جماعة من المؤمنين :

( أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم ). (١)

وقال الحسن بن علي عليه‌السلام في وصف أخ له :

« كان ضعيفاً مستضعفاً فإذا جاء الجدّ كان ليثاً عادياً ». (٢)

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ثلاث خصال من كنّ فيه استكمل خصال الايمان : إذا »

__________________

١ ـ الفتح : ٢٩.

٢ ـ الكافي : ٢ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، كتاب الايمان والكفر ، باب المؤمن وعلاماته ، ح ٢٦.

١٧٢

رضي لم يدخله رضاه في باطل ، وإذا غضب لم يخرجه الغضب عن الحقّ ، وإذا قدر لم يتعاط ماليس له ». (١)

وعن الباقر عليه‌السلام : « المؤمن أصلب من الجبل. الجبل يستقلّ منه ، والمؤمن لايستقلّ من دينه شيء ». (٢)

فصل

ومن جملة أنواعها الخوف من الله تعالى.

قال الصادق عليه‌السلام : « يا إسحاق! خف الله كأنّك تراه ، فإن كنت لاتراه فإنّه يراك فان (وإن خ ل) كنت ترى أنّه لايراك فقد كفرت ، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين اليك ». (٣)

وقال عليه‌السلام في قوله تعالى : ( ولمن خاف مقام ربّه جنّتان ) (٤) : « من علم أنّ الله يراه ويسمع ما يقول ويعلم ما يفعله من خير وشرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى ». (٥)

وقال عليه‌السلام : « من عرف الله خافه ، ومن خافه سخت نفسه عن الدنيا ». (٦)

وقال عليه‌السلام : « من خاف الله أخاف الله منه كلّ شيء ، ومن لم يخف الله أخافه الله من كلّ شيء ». (٧)

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين : بين أجل قد مضى لايدري ما الله صانع فيه ، وأجل قد بقي لايدري ما الله قاض فيه

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٢٣٩ ، كتاب الايمان والكفر ، باب المؤمن وعلاماته ، ح ٢٩.

٢ ـ الكافي : ٢ / ٢٤١ ، كتاب الايمان والكفر ، باب المؤمن وعلاماته ، ح ٣٧.

٣ ـ الكافي : ٢ / ٦٧ ـ ٦٨ ، كتاب الايمان والكفر ، باب الخوف والرجاء ، ح ٢.

٤ ـ الرحمن : ٤٦.

٥ ـ الكافي : ٢ / ٧٠ ، كتاب الايمان والكفر ، باب الخوف والرجاء ، ح ١٠.

٦ ـ الكافي : ٢ / ٦٨ ، كتاب الايمان والكفرن باب الخوف والجاء ، ح ٤ ، وفيه : « خاف الله » في الموضعين.

٧ ـ الكافي : ٢ / ٦٨ ، كتاب الايمان والكفر ، باب الخوف والرجاء ، ح ٣.

١٧٣

... الحديث » (١).

وناهيك دالاً على فضاء أنه القامع للشهوات الذابّ عن السيّئات الباعث على الطاعات ، فإن السقيم إذا خاف طول السقام احتمى عمّا يضرّه من الطعوم ، والعالم بإهلاك السمّ يمتنع عن أكل الطعام المسموم.

ثم إنه لايتحقّق الا من انتظار مكروه إمّا لذاته كخوف الموت وسكراته وما يترتّب عليه من هول المطّلع وسؤال القبر وعذابه والحياء عن اطلاع أهل المحشر عن فضائح أعماله والحساب والصراط وعذاب النار والحرمان عن نعيم دار القرار والنقصان عن درجة المقرّبين والأبرار والبعد والاحتجاب عن ربّ الأرباب ، وهو خوف الزاهدين والعابدين.

وإمّا لغيره كالموت قبل التوبة عن ذمائم أخلاقه وأعماله ، أونقضها قبل الموت ، أو ضعفه عن استيفاء (٢) حقوق الله ، أو الاشتغال عن الله بغيره ، أو البطر والاستدراج بتواتر النعم والاغترار بالدنيا أو تعجيل العقوبة فيها ، أو غفلة عن القبائح ، أو سوء الخاتمة وهو من أعظم المخاوف الذي قطع قلوب السالكين العارفين بخطره ، وأعلى منه خوف السابقة لكونه أدلّ على كمال المعرفة لكون الخاتمة فرعها ومظهرها ، ولذا ورد : « الشقيّ شقّي في بطن أمّه ، والسعيد سعيد في بطن أمّه » (٣).

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٧٠ ، كتاب الايمان والكفرن باب الخوف والرجاء ، ح ٩.

٢ ـ في نسخة « ب » : استقصاء.

٣ ـ الجامع الصغير : ٢ / ٣٧ ، توحيد الصدوق : ٣٥٦ ، واعلم أنّه ليس معنى الحديث أنّ السعادة والشقاوة أمران مقدّران أزليّان قاهران على الانسان ـ شاء أم لا ـ ولايمكن الفرار عنهما أبداً ، إذ لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ولسقط الوعد والوعيد ولم يكن حكمة في إرسال الرسل وإنزال الكتب ، بل معناه ـ كما عن الامام موسى بن جعفر عليه‌السلام ـ أنّ الشقي من علم الله وهو في بطن أمّه أنّه سيعمل عمل الأشقياء وكذا السعيد ، وقول ذلك البعض الّذي يخاف من الأول إن رجع إلى الخوف من علم الله المتعلّق بأفعال العباد باختيارهم فهو ، والا فذلك قول الأشاعرة من العامّة ولاينبغي عدّه معرفة فضلاً عن كمالها.

١٧٤

وقال بعضهم : الناس يخافون من اليوم الآخر وأنا أخاف من الأوّل.

فظهر أنّه تابع للمعرفة واليقين ، فكلّما حصّل علماً بالمخوف عنه حصّل خوفاً مثمراً للاجتناب عن المفضي إليه ، وكلّما ازداد يقيناً تمواعيده تعالى وماله من الصفات والأفعال وبعيوب النفس وما أعدّ لها من الأخطار والأهوال زاد خوفه وخشوعه وتذلّله وخضوعه إلى أن يبلغ مبلغاً لايكون له همّ الا المجاهدة والمراقبة ومؤاخذة النفس دائماً بالمحاسبة ، كما لاهمّ لمن وقع في مخالب السبع الضاري الا استخلاص نفسه منه ، كما كان حال الخلّص من الصحابة والتابعين والسلف الصالحين.

قال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « أما والله لقد عهدت أقواماً على عهد خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنهم ليصبحون ويمسون شعثاً غبراً خمصاً بين أعينهم كركب البعير يبيتون لرّبهم سجّداً وقياماً ، يراوحون بين أقدامهم وجباههم ، يناجون ربّهم في فكّ رقابهم من النار ، والله لقد رأيتهم مع هذا خائفين ، مشفقين ، وكأنّ زفير النار في آذانهم إذا ذكر الله عندهم مادوا كما يميد الشجر ، كأنّما القوم باتوا غافلين ، فما رئي أميرالمؤمنين بعد ذلك ضاحكاً حتّى قبض ». (١)

ثم ربما تبلغ المعرفة بصاحبها في الخوف مبلغ الصدّيقين ، وهو الاستغراق في بحار عظمة الله وجلاله فيصير مدهوشاً والهاً دائماً.

ويسمّى هذا القسم من الخوف في اصطلاح السالكين خشية ورهبة.

وله أيضاً مراتب بحسب اختلاف المعرفة الحاصلة في تلك المرتبة لعدم تناهي صفاته الجمالية والجلالية ، وقصور النفس عن الاحاطة بغير المتناهي مع العجز عن تحمّلها ، كيف ولو تجلّى ذرّة منها على أكمل العقول التامّة

__________________

١ ـ خلط المصنّف هنا بين روايتين : الاولى الرواية ٢١ من باب المؤمن وعلاماته من كتاب الايمان والكفر من الكافي ، وهذه الرواية تنتهي إلى قوله : « مشفقين » ، على أنّ في الكافي : « وهم خائفون مشفقين » بدل « خائفين مشفقين » وفيه أيضاً « كركب المغرى » بدل « كركب البعير » ، والثانية ذيل الرواية ٢٢ من نفس الباب وفيه بعد قوله « غافلين » : « قال (أي الراوي وهو عليّ بن الحسين عليه‌السلام) : ثمّ قام فما رئي ضاحكاً حتّى قبض صلوات الله عليه ».

١٧٥

لاحترق من أنواره الباهرة ، وذاب من مشاهدة عظمته القاهرة.

ولو تتبّعت ما في كتب السير والأخبار من عروض الغشيات المتواترة في كل ليلة لأميرالمؤمنين وأولاده المعصومين الأطهار عليهم‌السلام وماكانوا عليه من الدهشة وعدم التفطّن في صلاتهم وغيرها من خلواتهم للآلام العظيمة وسائر الأولياء المخلصين الأبرار ، لاستشممت رائحة ماكانوا عليه من شدّة المعرفة والمحبّة والاستغراق في بحار العظمة ، فهؤلاء ليس لهم التفات إلى ماض وآت ولا كراهة من مكروه ، ولا شوق إلى مطلوب ، ولا خوف من شيء من مكاره الدنيا والآخرة ، ولا مطمع في مطالبها إذا فيض عليهم نور الوحدة ، فلم يبق فيهم حجاب الخوف والخشية.

ولذا : قيل إنّ المحبّ إذا شغل قلبه مع مشاهدة المحبوب بخوف الفراق كان نقصاً في دوام الشهود الذي هو غاية مقامات العارفين (١).

تنبيه

لمّا عرفت أنّ الفضيلة من كلّ شيء وسطه ، فالخوف المزبور يكون فضيلة إذا كان بأعثاً للمواظبة على تحصيل المعارف الحقّة والأعمال الصالحة حتّى يحصل منه رتبة القرب ولذّة الحبّ ، فكما أنّ لسوق البهيمة وتأديب الصبيّ حدّاً لو قصر عنه لم تحصل الغاية المطلوبة منهما ، ولو تجاوز عنه في الكمّ أو الكيف أدّى إلى هلاكته وتضييعه ، فكذا الخوف.

وعلامة وصوله إلى حدّ الاعتدال تأثيره في الجوارح بالكفّ عن المعاصي ، والتقيّد بالطاعات ، فلو لم يصل إليه كان مجرّد حديث نفس كبكاء النساء والاطفال من أدنى شيء وعودهم إلى ماكانوا عليه بانقطاعه. ولو وصل إلى حدّ اليأس والقنوط كان ضلالاً وكفراً ومؤدّياً إلى ترك العمل

__________________

١ ـ لا اعتبار باقوال غير المعصومين وأتباعهم في هذه المسائل وما قيمة هذه الأقوال التي تنفي الخوف عن الأئمة عليهم‌السلام وتعتبره حجاباً عن مشاهدة نور الوحدة في قبال ما ذكر من الآيات والروايات وسيرة الأئمة عليهم‌السلام الذين أمرنا باتباعهم واقتصاص آثارهم ، ولذا ذكر في جامع السعادات بأن هذه الأقوال مما لا التفات لنا اليها. فراجعه : ١ / ٢٢٤.

١٧٦

وكسالة الأعضاء ، وهو الفساد المحض المحظور شرعاً وعقلاً.

وتلخيص الكلام في المقام أنّ الخوف في نفسه نقص وعجز ، ينشأ من الجهل بعاقبة الأمور والشكّ فيها ، وإنما يعدّ كمالاً بالنسبة إلى ما هو أعظم نقصاً منه ، وكونه آلة لتحصيل كمالات اخر ، فلو لم يؤدّ إليها بل أدىّ إلى النقائص كفساد العقل وترك تحصيل المعارف والأعمال الحسنة كان فساداً محضاً ونقصاناً صرفاً. وقد ظهر ممّا ذكر أنّ أعظم أسبابه المهيجة له اليقين بالله ، وصدق مواعيده ، والتفكّر في أهوال القيامة ، وأصناف مكاره الآخرة ، وعسر الثبات على الحقّ ، وعظم خطر الخاتمة ، وكثرة تقلّبات القلوب ، واستماع النذر وحكايات خوف الأنبياء والملائكة ، وكمّل الأولياء المسطورة في السير والآثار والاهتمام في زيادة المعرفة بالله ، وصفات جلاله وعظمته تعالى.

تذنيب

لسوء الخاتمة أسباب ، أعظمها غلبة الجحود أو الشكّ في بعض العقائد أو كلّها أصالة أو سراية عند سكرات الموت فيقبض الروح على تلك الحالة الحاجبة بينه وبين ربّه ، الباعثة لحرمان الأبد والعذاب المخلّد ، ونعني بالسراية أن يعتقد في ذاته تعالى وصفاته خلاف الواقع بالدليل أو التقليد ثمّ من جهة كون حالة الموت حالة كشف الغطاء ينكشف له في تلك الحالة فساده ، فيشكّ بسببه في سائر عقائده الحقّة كما نقل عن الفخر الرازي أنّه بكى يوماً ، فسئل عن سببه ، فقال : « قد ظهر لي اليوم بطلان ما اعتقدته منذ سبعين سنة ، فلا أدري أنّ حال سائر ما اعتقدته أيضاً كذلك أم لا ». (١)

وإنّما يتّفق هذا القسم للخائضين في غمرات الشكوك والشبهات والآخذين عقائدهم من بضاعتهم المزجاة من دون تثبّت لهم فيه لقصورهم عن درك حقائق الأمور على ما هي عليه في نفس الأمر وتعارض الأدلّة

__________________

١ ـ جامع السعادات : ١ / ٢٣٤.

١٧٧

المستخرجة لها ، وانفتاح أبواب الشكّ والحيرة فيها بالبحث والنظر ، فربّما اطمأنّوا ببعضها ، ثمّ تبيّن لهم بعد ذلك ضعفها فهم تائهون في غمرات الحيرة دائماً ، فلو أخذتهم سكرة الموت على هذه الحالة أمكن حصول الشكّ لهم في عقائدهم لأجل ذلك ، فمثلهم كمثل سفينة منكسرة في ملتطم الأمواج ومرماها ، فإنّ الغلب هلاكها ، وإن اتّفق نادراً رميها إلى الساحل.

وأمّا البله أعني الذين حصّلوا عقائدهم الراسخة بطريق الاجمال فهم بمعزل عن هذا الخطر ، ولذا حكم بأنهم أكثر أهل الجنّة ، وورد المنع عن الخوض في الكلام والبحث عن ذات الله تعالى.

فالاحسن تلقّي العقائد من صاحب الوحي مع تطهير الباطن من ذمائم الأخلاق وتحلّيه بمحاسنها ومحاسن الأفعال ، وترك التفكّر في حقائق المعارف ، الا من أيّده الله بالقوّة القدسيّة ، فأشرق في قلبه نور الحكمة ، فإنّ لكلّ صواب نوراً ، ولكلّ حقّ سطوعاً وظهوراً ، وأمّا من لم يبلغ تلك المرتبة فليأخذ أصول عقائده بوساطته بالاشتغال بخدمته حتّى تشمله بركات أنفاسه ، فإنّ العاجز عن القتال يخدم أهله ليحشر في زمرتهم ، وإن كان فاقداً لدرجتهم.

ثم بعدها ضعف الايمان وعلامته شدّة حبّ الدنيا وضعف حبّ الله ، بحيث لايلقى منه الا حديث نفس ، ولايظهر منه أثر في أداء الطاعات وترك الانهماك في الشهوات ، فيظلم القلب ويسودّ من تراكم الذنوب ، وينطفي نور الايمان رأساً ، فإذا حان حين الفراق والتفّت الساق بالساق ازدزاد حبّه لله ضعفاً ، ورأى فراق محبوبه أي الدنيا من الله تعالى كرهاً فينكر عليه ما قدّر له ، بل يبغضه ، فهذا سوء الختم ، نعوذ بالله منه فمن وجد حبّ الدنيا في قلبه أقلّ وأضعف من حبّ الله كان أبعد عن هذا الخطر ، ومن كان بالعكس فبالعكس.

( قل إن كان آباؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال

١٧٨

اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتّى ياتي الله بامره ). (١)

فيكون قدوم الأوّل عليه تعالى قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مواله ، ويلحقه الفرح والسرور ماشاء الله ، والثاني عليه تعالى قدوم العبد الآبق المبغض لمولاه إذا قدم عليه قهراً ، ولايخفى ما يكون فيه من الذلّ والهوان والخزي والحرمان.

ثمّ أهونها كثرة العصيان ، وإن قوي الايمان فتألف طبيعة الانسان بها في حياته فيعود ذكرها لأجله عند مماته ينعقد في قلبه حبّ ما خطر له منها ويقبض روحه على ذلك الخاطر ، ويكون ذلك حجاباً له عن ربّه ، وهو الختم بالسوء أيضاً.

وكلّ من غلبت عليه المعاصي وكان قلبه أميل إليها من الطاعات كان أقرب إلى هذا الخطر ، ومن كان بالعكس كان عنه أبعد ، ومن تساوى حاله فأمره إلى الله ، ولا يعلم ما يختم عليه.

والسرّ فيه أنّ الغشية التي قبل الموت شبيهة بالنوم ، فكما لايرى الانسان في منامه الا ما عهده وألف به في اليقظة حتّى إنّ المراهق إذا احتلم لايرى صورة الوقاع ، فكذلك الحال عند سكرات الموت ، فربّما صارت غلبة الانس سبباً لتمثّل فاحشة في قلبه وميله إليها فيقبض على تلك الحالة روحه فيكون بالسوء ختمه وإن كان ما يرجى به خلاصه من فضل الله تعالى أعني الايمان باقياً.

وكما أنّ ما يخطر بالبال في اليقظة إنما يخطر أسباب خاصّة يعرف بعضها كالانتقال من الشيء إلى ما يشابهه أو يضادّه أو يقارنه ، ولايعرف بعضها كالانتقال من شيء إلى أخر لايعرف وجه مناسبته ، أو الانتقال إلى شيء لايعرف سببه أصلاً ، فكذا ما يرى في المنام أو يختلج في حالة الموت له

__________________

١ ـ التوبة : ٢٤.

١٧٩

أسباب مخصوصة يعرف بعضها بالنّهج المزبور ، ولايعرف بعض آخر.

فمن أراد كفّ خاطره عن السيّئات فلابدّ له من المجاهدة في قمع الشهوات عن قلبه في حال الحياة ، كما أشرنا إليه وتقييده بحبّ الله وأنسه والتوجّه إليه حتّى يصير له عدّة في تلك الحالة ، إذ المرء يموت على عاش عليه ، ويحشر على مامات عليه ، كما ورد في الخبر (١)

وممّا ذكر يظهر أنّ أعمال العبد كلها ضائعة إن لم يسلم الوقت الأخير الذي فيه خروج الروح ، والسلامة مشكلة مع اضطراب الخواطر ولذا ورد في الخبر :« أن الرجل يعمل عمل أهل الجنة خمسين سنة حتّى لايبقى بينه وبين الجنّة الا فواق ناقة فيختم له بما سبق به الكتاب ». (٢)

والظاهر أنّ فواق الناقة ليتّسع للأعمال بل هي الخواطر التي تمرّ كالبرق الخاطف ولذا قيل : إني لا أعجب ممّن هلك ، كيف هلك ولكن أعجب ممّن نجى كيف نجى. (٣)

ومنه يظهر سرّ ما ورد في بعض الأخبار : « أنّ الناس كلّهم هلكى الا العالمون ، والعالمون كلّهم الا العاملون ، والعاملون كلّهم هلكى الا المخلصون على خطر عظيم ». (٤)

ولعظم خطره استعيد. من موت الفجأة ، فإنّ غلبة خواطر السوء واستيلائها على القلب في حالة الصحّة وبعد المظنة عن الموت أكثر ، وطلب الشهادة من الله تعالى في سيبله لأنها عبارة عن قبض الروح في حالة لايبقى

__________________

١ ـ نقل هذه الجملة في المحجة : ٧ / ٣٠٠ من دون إشارة إلى كونها خبراً ، نعم أطلق عليها الخبر في جامع السعادات : ١ / ٢٣٩.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٠٢.

٣ ـ قيل لعلي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام يوماً : إنّ الحسن البصري قال : ليس العجب ممّن هلك كيف هلك ، وإنّما العجب ممّن نجا كيف نجا؟ فقال عليه‌السلام : أنا أقول : « ليس العجب ممّن نجا كيف نجا ، وأمّا العجب ممّن هلك كيف هلك مع سعة رحمة الله » البحار : ٧٨ / ١٥٣.

٤ ـ المحجة اليبضاء : ٧ / ٣٠٣ من دون اشارة إلى كونه خبراً ، نعم في مجموعة ورّام نسبه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في هامش جامع السعادات : ١ / ٢٤٠.

١٨٠