كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

تأكّد بأنّ المدركات التي هي شواهد على الله أدركها الانسان في الصبا حال فقد العقل ، ثم لمّا بدت غريزة العقل قليلاً ، كان مستغرق الهمّ في الشهوات ذاهلاً عن هذه الدلالات ، مستأنساً بما أحسّه من المدركات ، ساقطاً وقعها عن قلبه بطول الأنس وكثرة العادات ، ولذا إذا رأى حيواناً غريباً أو شيئاً عجيباً خارجاً عن العادة المستأنس بها انطلق لسانه إلى المعرفة طبعاً فقال : سبحان الله! وهو يرى طول النهار نفسه وأعضاءه وسائر المخلوقات المشتملة على صنوف البدائع والحكم الشواهد الصادقة على ربّه ولا يحسّ بشهادتها لكثرة إلفه وأنسه بها ، ولو فرض أكمه بلغ عاقلاً ، ثم انقشعت عنه غشاوة الكمه ومدّ بصره إلى الأرض والسماء وما فيهما دفعة واحدة لخيف عليه أن يبهر عقله لعظم تعجّبه.

ولذا قيل :

لقد ظهرت فما تخفى على أحد

الا على أكمه لايعرف القمرا

لكن بطنت بما أظهرت محتجبا

فكيف يعرف من بالعرف استترا (١)

وقال آخر :

خفيّ لافراط الظهور تعرّضت

لإدراكه أبصار قوم أخافش

وحظّ عيون الزرق عن نور وجهه

لشدّته حظّ العيون العوامش

وعن علي عليه‌السلام : « لم تحظ به الأوهام بل تجلّى لها وبها امتنع منها ». (٢)

وقال عليه‌السلام : « لايجنّه البطون عن الظهور ولا يقطعه الظهور عن البطون قرب فنأى ، وعلا فدنا ، وظهر فبطن ، وبطن فعلن ». (٣)

فصل

قد دلّ كثير من الآيات والأخبار على أنّ الله يحبّ العبد أيضاً.

__________________

١ ـ في المحجّة البيضاء : (٨ / ٥٥) : قد سترا.

٢ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٨٥.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ١٩٥.

٦٢١

( يحبّهم ويحبّونه ). (١)

( إنّ الله يحبّ الّذين يقاتلون في سبيله ). (٢)

( إنّ الله يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين ). (٣)

وفي الحديث القدسي : « لايزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى احبّه فإذا أحببته ... الحديث ». (٤)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أحبّ الله عبداً لم يضرّه ذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له والنائب حبيب الله » ثم تلا : ( إنّ الله يحبّ التوّابين ). (٥)

والمحبّة في أصل الوضع ميل النفس إلى الموافق والعشق هو الميل الغالب المفرط ، فإطلاقها في العبد صحيح حقيقة ، وأمّا في الله تعالى فمستحيل بهذا المعنى ، لأنّه يتصوّر في نفس ناقصة (٦) تستفيد كمالاً بنيل ما يوافقها وتستلذّ به ، والواجب تعالى يجب أن يكون كلّ كمال وبهاء وجمال وجلال ممكن في الالهيّة حاصلاً له بالفعل أبداً وأزلاً ، .................................................................................... .................................................................................... .................................................................................... .................................................................................... .................................................................................... ....................................................................................

__________________

١ ـ المائدة : ٥٤.

٢ ـ الصف : ٤.

٣ ـ البقرة : ٢٢٢.

٤ ـ راجع الكافي : ٢ / ٣٥٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من آذى المسلمين ، ح ٨.

٥ ـ راجع المحجّة البيضاء : ٧ / ٧ و ٨ / ٦٣ فالمصنّف (ره) جمع بين الروايتين ظاهراً.

٦ ـ في « الف » و « ب » : ناطقة.

٦٢٢

قلت : لابدّ من التأويل وصرف اللفظ عن معناه الظاهر بعد البرهان القاطع على استحالته بأنّ المراد كشف الحجاب عن قلبه حتّى يراه به وتمكينه من التقرّب إليه وإرادته له في الأزل لا لحصول كمال له بذلك تعالى عن ذلك ، بل كما أنّ الملك قد يقرّب عبداً له إليه لا للانتفاع به واستخدامه لحوائجه بل لكونه موصوفاً من مرضيّ الأخلاق ومستحسن الخصال بما يليق به أن يكون قريباً من حضرته من دون غرض يعود إليه في ذلك ، فرفع الملك الحجاب بينه وبينه إذا اكتسب ما يقتضيه يسمّى حبّاً له ، ويقال توصّل العبد وحبّب نفسه إلى الملك ، والقرب المستعمل هنا ليس على حذو مايستعمل في الأجسام من القرب في الجهة والمكان ، تعالى الله عن تغيّرات المكان والجهة والزمان ، بل لايزال تعالى شأنه في نعوت الجلال والجمال على ما كان عليه في أزل الآزال.

وكما أنّ القرب المحسوس بين الشخصين قد يحصل بترّحكهما معاً وقد يكون بسكون الآخر مع تحرّك أحدهما فيحصل التغيّر في المتحرّك دون الساكن ، وكذا في الصفات كتقرّب التلميذ إلى الاستاذ مع سكون الاستاذ في مرتبته الحاصلة له بالفعل ، فكذا تقرّب العبد بالنسبة إلى الله تعالى بكمال العلم والإحاطة بحقائق الأشياء والتجرّد عن المادّيات والتشبّه به في صفاته وأفعاله ، وإن كان يتصوّر في التلميذ بلوغه بل تجاوزه عن درجة الأستاذ لتناهيها ، ولايمكن هنا لتناهي كمالات العبد وعدم تناهي معلومات الله وكمالاته فلا مطمع في المساواة ، ولذلك يتفاوت درجات القرب إلى مالا نهاية لها لعدم انتهاء ما يتقرّب إليه. فهذا محبّة الله للعبد.

ويمكن أيضاً أن يراد معناه الحقيقي ويكون الإسناد مجازياً أي بالعرض ، فإنّ محبّة الله لذاته حقيقة فمحبّة للعبد راجعة إلى محبّته لذاته ،

٦٢٣

فيكون المراد محبته للعبد من حيث إنّه رشحة من رشحاته ، مظهر من مظاهر جماله وكماله ، والفرق بين المعنيين أنّ التجوّز في الأول قد ارتكاب في لفظ الحبّ ، وفي الثاني في متعلقه أو في الإسناد ، فتطّن.

ثم لكلّ من الحبّين علامات.

فمن علامة حبّ الله للعبد ما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه ، فإذا أحبّه الحبّ البالغ أفناه ، قيل : وما أفناه؟ قال : لم يترك له مالاً ولا أهلاً ». (١)

فالعلامة أن يوحشه عن غيره ويحول بينه وبين غيره.

قيل لعيسى عليه‌السلام : لم لاتشتري حماراً فتركبه؟ قال : أنا أعزّ على الله من أن يشغلني عن نفسه بحمار. (٢)

وفي الخبر : « إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه وإن رضي اصطفاه ». (٣)

ومن أختصّ علاماته حبّه لله تعالى ، فإنّه يدلّ على حبّ الله له.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا أحبّ الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه ». (٤)

ومن علاماته أن يتولّى أموره ظاهراً وباطناً ، سرّاً وجهراً فيكون هو الوكيل والمشير والمدبّر في أمره ومسدّد ظاهره وباطنه وجاعل همومه همّاً واحداً وكاشف الحجب بينه وبين معرفته.

وأمّا علامات حبّ العبد لله فهي كثيرة :

منها : حبّ لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار الخلود ، فلا معنى لادّعاء الحبّ من عدم حب اللقاء.

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٦٧ ، وفيه : « اقتناه ، قيل : وما اقتناؤه؟ ».

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٦٧.

٣ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٦٧.

٤ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٦٧.

٦٢٤

فمن علم أنّه لايمكن الوصول واللقاء الا بالموت والفناء أحبّذ الموت لامحالة ، إذ لايثقل على المحبّ السفر عن الوطن إلى مستقرّ المحبوب ليتنعّم بمشاهدته ، والموت مفتاح اللقاء.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه ». (١)

وقال السجّاد عليه‌السلام : « حبّب إليّ لقاءك وأحبب لقائي واجعل لي في لقائك الراحة والفرج والكرامة ». (٢)

ولذا قال تعالى :

( قل يا أيّها الّذين هادوا إن زعمتم أنّكم أولياء لله من دون الناس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين ). (٣)

فكراهة الموت غالباً إنّما يكون لحبّ الدنيا والعلاقة بها ولن يجتمع حبّان في قلب واحد كما عرفت.

( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ). (٤)

سيّما إذا فرض تنافيهما وتعاديهما وكونهما كالضرّتين لايجتمعان ، وقد علمت أنّ الدنيا عدوّة لله ولأوليائه ، فكيف يجتمع حبّ المتعاديين في قلب واحد وبقدر حبّه للدنيا يكون خالياً عن حبّ الله ، ويكون نعيمه بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبّه ، وعذابه بفراق الدنيا عند الموت على قدر حبّها وكثيراً ما يكره الموت لكثرة المعاصي وعدم الاستعداد لللقاء.

فإن كان في هذا الحال سالكاً سبيل الآخرة ساعياً في تحصيل الزاد والاستعداد وكان كراهته للموت مخافة أن لايكمل لقاءه للحبيب على النهج الذي يريده فهو لاينافي الحبّ لله ، بل هو كالمحبّذ الذي وصل الخبر بقدوم حبيبه عليه فأحبّ أن يتأخّر ساعة ليهدي له داره ويعدّ أسبابه فيلقاه كما يهواه

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٦٨.

٢ ـ مفاتيح الجنان : دعاء أبي حمزة الثمالي.

٣ ـ الجمعة : ٦.

٤ ـ الاحزاب : ٤.

٦٢٥

فارغ القلب عن المشاغل خفيف الظهر عن العوائق. وعلامته المواظبة على العمل استغراق الهمّ في الاستعداد.

وإن كان مع بقاء الغفلة والذهول وتثقيل الظهر بالمعاصي الجديدة وتسويف النفس بالآمال من دون إنابة واستعداد ، فمآل كراهته في الحقيقة إلى كراهة لقاء الله وعدم حبّه له ، وحبّه للدنيا وأسره تحت حكم الشهوات أيضاً.

ومنها : إيثار محابّ الله على ما يحبّه في ظاهره وباطنه من الشهوات والكسل في الطاعات بالاجتهاد في الطاعة ولزوم المراقبة والمرابطة ومزايا الدرجات.

وبالجملة ، يترك هوى لنفسه لهوى محبوبه.

أريد وصاله ويريد هجري

فأترك ما أريد لما يريد

وقال آخر :

وأترك ما أهوى لما قد هويته

وأرضى بما ترضى وإن سخطت نفسي

بل إذا غلب الحبّ قمع الهوى فلا يبقى له تنعّم بغير المحبوب.

روي أنّ زليخا لمّا تزوّجها يوسف كانت تسوّفها وتهرب منه منقطعة إلى الله تعالى ، متخلّية للعبادة ، فلمّا أصرّ عليها قالت : إنّما كنت أحبّك قبل أن أعرفه ، والآن ما أبقت محبّته محبّة لسواه ، وما أريد به بدلاً. (١)

وبالجملة : الصادق في الحبّ لايعصي حبيبه.

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقاً لأطعته

إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

هذا ، وقد قيل : إنّ العصيان لاينافي أصل الحبّ ، وإنّما ينافي كماله ، فكم من مريض يأكل ما يضرّه مع حبّه لنفسه ضرورة ، ولذا أنّ نعيمان لمّا حدّه

__________________

١ ـ إحياء العلوم : ٤ / ٣٣١.

٦٢٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مراراً لعنه رجل مرّة وقال : ما أكثر ما يؤتى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : لاتلعنه فإنّه يحبّ الله ورسوله (١) ، فتأمّل.

ومنها : استهتاره بذكر الله تعالى بلا فتور في اللسان وفراغ القلب عنه فمن أحبّ شيئاً أكثر ذكره لامحالة.

فعلامة حبّ الله الإكثار من ذكره وقراءة كلامه وحبّ رسوله وكلّ ما ينسب إليه ، فإنّ المحبّة إذا قويت تعدّت عنه إلى من ينتسب إليه ويتعلّق به وليس ذلك شركة في المحبّ لأنّه حبّ عرضيّ من حيث إنّه منتسب إليه فإنّه المقصود من الحبّ خاصّة في الحقيقة ، وهذا دليل على كمال حبّه له ، بل من غلب حبّه تعالى على قلبه أحبّ جميع خلقه ، لأنّهم صنيعه [ فكيف بخواصّهم الذين محبّتهم له محبّة خاصّة وبالعكس ]. (٢)

ولذا قال تعالى : ( إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ). (٣)

ومنها : استيناسه بالخلوة والمناجاة والعبادة ، سيّما في هدوء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق ، فأوّل مراتب الحبّ التلذّذ بالخلوة بالحبيب والتنعّم بمناجاته والاستيحاش من كلّ ما ينغّصها ويعوق عن لذّتها.

ومنها : أن لايتأسّف على فوت شيء من الدنيا ويعظم أسفه على فوت ساعة خلت عن ذكر الله وطاعته فيكثر بعد التذكّر من الاستغفار والتوبة وأن يتنعّم بالطاعة ولايثقلها ويسقط عنه تعبها.

قال بعض الأكابر : علامة المحبّة دوام النشاط والدؤوب على العبادة بشهوة ، يفتر بدنه ولا يفتر قلبه وكيف يستثقل العاشق السعي في هوى معشوقه ولا يستلذّ من خدمته الشاقّة على بدنه.

قيل لبعض المحبّين وقد بذل ماله ونفسه في سبيل الله حتّى لم يبق معه

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٧٠.

٢ ـ مابين المعقوفتين في « ج » فقط.

٣ ـ آل عمران : ٣١.

٦٢٧

شيء : ما سبب حالك في هذه المحبّة قال : سمعت يوماً محبّاً يقول لمحبوبه : أحبّك والله بقلبي كلّه وتعرض عنّي بوجهك كله ، فقال المحبوب : إن كنت صادقاً فماذا تنفق عليّ؟ فقال : أملكك ما أملك ثم أنفق روحي حتّى أهلك ، فقلت : هذا خلق بخلق وعبد بعبد فكيف عبد بمعبود؟

أقول : بل هذا حال محبّ بمن لا يحبّه فكيف بمحبّ مع من هو أحبّ إليه منه.

ومنها : أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله رحيماً عليهم شديداً على عداوة أعداء الله ، أشدّاء على الكفّار رحماء فيما بينهم ، لاتأخذه في الله لومة لائم.

ومنها : أن يكون في حبّه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم ، ومن ظنّ أن الحبّ ينافي الخوف فقد أخطأ ، بل إدراك العظمة تورث الهيبة كما أنّ إدراك الجمال يورث الحبّ ، ومخاوف المحبّين في مقام المحبّة أشدّ وأعظم من غيرها ، وبعض منها أشدّ من بعض آخر.

فأوّلها : خوف الإعراض ، وأشدّ منه خوف الحجاب ، ثم خوف الإبعاد ، وإنما يعظم هيبة البعد وخوفه في قلب من وصل إلى القرب وألف به.

آتش قرب ز بعد افزون است

جگر از محنت قربم خون است

نيست در بعد جز اميد وصال

هست در قرب بسي بيم زوال

فالوزير الأعظم أشدّ خوفاً وهيبة من السلطان ممّن هو من عرض العسكر ومضطرب دائماً من أن يصدر عنه ما يزيله عن تقرّبه ويبعده عن حضرة الملك.

ثم خوف الوقوف وسلب المزيد ، فإنّ درجات القرب غير متناهية كما أشرنا إليه ، وحقّ السالك أن يجتهد في كلّ نفس حتى يزداد قرباً.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ساوى يوماه فهو مغبون ، ومن كان يومه شرّاً من

٦٢٨

أمسه فهو ملعون ». (١)

ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « وإنّه ليغان على قلبي حتّى استغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة ».

فكان استغفار من المقام الأوّل بعد وصوله إلى المقام الثاني.

ثمّ خوف ما لايدرك بعد فوته ، ثم التسلية بلطف جديد يعرضه فيتكيء عليه فيقف أو يرجع والسلوّ يدخل عليه من حيث لايشعر كما يدخل الحبّ كذلك ، فإنّ لهذه التقلبات في القلب أسباب خفيّة سماوية ليس في قوّة البشر الاطّلاع عليها ، وإذا أراد الله المكر والاستدراج أخفى عنه ما ورد عليه من التسلية فيقف مع الرجاء أو يغترّ بحسن الظنّ أو تغلبه الغفلة والنسيان ، وكلّ ذلك من جنود الشيطان التي تغلب جنود الملائكة من العقل والعلم والذكر والبيان.

ثم خوف الاستبدال به من حبّه إلى حبّ غيره. وعلامته الانقباض عن دوام الذكر وملالته عن وظائف الأوراد وملازمة الخوف عن هذه الأمور والحذر منها بصفاء المراقبة دليل على صدق الحبّ ، فإنّ من أحبّ شيئاً خاف فقده إذا كان المحبوب ممّن يمكن فواته.

ولذا قال بعض العرفاء : من عبدالله بمحض المحبّة من غير خوف هلك بالبسط والإدلال ، ومن عبده من طريق الخوف دون المحبّة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش ومن عبده بهما أحبّه الله فقرّبه ومكّنه وعلّمه ، فالمحبّ لايخلو عن الخوف والخائف لايخلو عن الحبّ ، وكان شوب الخوف يسكن قليلاً من سكر الحب ، فلو غلب الحبّ واستولت المعرفة لم يثبت لها طاقة البشر فالخوف يعدله ويخفّف وقعه على القلب.

فقد روي أن بعض الصديقين ساله بعض الأبدال أن يسأل الله أن

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٧٥.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٧ / ١٧.

٦٢٩

يرزقه ذرّة من معرفته ، ففعل ذلك فهام في الجبال وحار عقله ووله لبّه وبقى سبعة أيّام شاخصاً لاينتفع بشيء ولا ينتفع منه شيء فسأل الصدّيق أن ينقص بعض الذرّة ، فأوحى الله إليه إنّما أعطيناه جزءاً من مائة ألف جزء من الذرّة ، فإنّ مائة ألف عبد سألوني في ذلك الوقت الذي سأله أن أعطيهم ذرّة من المعرفة فقسمتها بينهم ، فهذا ما أسابه منه فقال : سبحانك يا أحكم الحاكمين انقصه ، فأذهب الله عنه جملة من الجزء وبقي فيه عشر معشاره أي جزء من عشرة ألف ألف جزء من الذرّة ، فاعتدل خوفه وحبّه ورجاؤه وسكن وصار كسائر العارفين.

ومنها : كتمان الحبّ والتوقّي من إظهار الوجد والمحبّة تعظيماً للمحبوب وإجلالاً وغيرة على سرّه فإنّ الحبّ سرّ من أسرار الله تعالى ولأنّه قد يدخل في الدعوى ما يجاوز ويزيد على المعنى ويكون ذلك من الافتراء وتعظم العقوبة عليه في العقبى ويتعجّل عليه البلوى في الدنيا ، .....

ولقد كان أكثر الشيعة من أصحاب الأئمّةعليهم‌السلام لايطيقون لما يرونه من جمال أئمّتهم الصوري ممّا يدهش العقول والألباب. فربّما لاحظوا فيهم بعين الربوبية أو وقع في أوهامهم ذلك مع أنّه قليل من كثير ما هم فيه.

وكذا لايطيقون لاستماع أصواتهم وألحانهم فضلاً عن مراتب معارفهم العالية.

٦٣٠

وهذا هو السرّ في طعن جملة من علماء الرجال وقدماء الأصحاب في جملة من وراة أسرار أخبار الأئمّة الأطهار كمحمّد بن سنان والجعفي والمفضّل بن عمر والمعلى بن خنيس وأضرابهم ، فإنّهم كانوا يحتملون ما لايحتمله غيرهم كما صرّح به المفيد في إرشاده والسيد الأجل ابن طاووس. (١)

قال السيّد (ره) : إنّ بعض أجلّاء الشيعة الذين رووا أسرار الأئمة عليهم‌السلام كان جلالة قدرهم وعلوّ مرتبتهم سبباً لانحطاطها عند أصحابنا حتى نسبوهم إلى ما لايليق بجنابهم وعدّ منهم محمد بن سنان مع أنّ حديثه في الضعف عند أصحابنا أشهر من أن يذكر.

ولمّا كان قصور قوالبهم وضعف طاقتهم عن تحمّلها يفضي إلى الافشاء احياناً من غير اختيار ، فربّما رخصّوا لهم الجنون والخروج عن زيّ العقلاء ، وربّما منعوهم فلم ينتهوا وعصوا فخرج لعنهم من الأئمة عليهم‌السلام إمّا لمخافتهم وعصيانهم أولئلّاً يفتتن بهم الناس ويفشى سرّهم ويذيع بواطن الأمور عند من لايليق به ، وهذا أحد أسباب لعنهم ، وربما افتتنوا ففهموا الزائد على ما أشرنا إليه فكفروا واقعاً ، ولذلك لعنوا فإذا لم يكن لخواصّ الشيعة الواصلين إلى المراتب العليا ببركات أنفاس أولئك الأقطاب قوّة تحمّل قليل من كثير ممّا هم عليهم‌السلام فيه فكيف يطيق أحد يمكن أن يدعي الطاقة في الوصول إلى المرتبة معرفة الله سبحانه وحبّه ويتظاهر به.

نعم قد يكون للمحبّ سكرة في حبّه حتى يدهش ويضطرب أحواله

__________________

١ ـ لم يصرّح المفيد رحمه‌الله بأن محمد بن سنان كان يحتمل مالا يحتمل غيره ، نعم صرّح في إرشاده (ج٢ / ٢٤٨) بكونه من خاصّة الكاظم عليه‌السلام مع أنّه ضعّفه في الرسالة العدديّة (ص ٢٠ طبع المؤتمر) وقال : وهو (أي محمّد بن سنان) مطعون فيه لا تختلف العصابة في تهمته وضعفه.

وكذا لم يصرّح السيّد بما قاله المصنّف (ره) بل صرّح بجلالته وعلوّ شأنه ورئاسته ولقائه ثلاثة من الأئمّة : ومعجزة لأبي جعفر الثاني بالنسبة إليه فراجع فلاح السائل : ١٣.

٦٣١

فيظهر شيئاً من غير اختيار واكتساب فهو معذور ، لأنّه مقهور وليس طاقة الناس على نمط واحد ، فالقادر على الكتمان يقول :

وقالوا قريب قلت ما أنا صانع

بقرب شعاع الشمس لو كان في حجري

فمالي منه غير ذكر بخاطري

يهيج نار الحبّ والشوق في صدري

والعاجز عنه يقول :

ومن قلبه مع غيره كيف حاله

ومن سرّه في جنبه (١) كيف يكتم

على أنّ العارف لو كان صادقاً في عرفانه وعرف أحوال الملائكة في حبّهم الدائم وشوقهم اللازم الذي به يسبّحون الليل والنهار لايفترون لاستنكف عن نفسه ومن إظهار حبّه وقطع بأنّه من أخسّ المحبّين في مملكته ، وكذا لو عرف أحوال الأنبياء والأولياء وما اعترفوا به من العجز والقصور لخرس لسانه عن التظاهر بدعوى المحبّة ، فسبحان من لا سبيل إلى معرفته الا بالعجز عن معرفته.

ومن علامات المحبّة : الرضا وقد تقدّم ، والأنس وسيأتي.

وبالجملة ؛ جميع محاسن الدين ومكارم الأخلاق من ثمرات الحبّ ، وقد جمع بعض العرفاء علامات الحبّ في عدة أبيات فقال :

لاتخد عنّ فللمحبّ دلائل

ولديه من تحف الحبيب وسائل

منها تنعّمه بمرّ بلائه

وسروره في كلّ ما هو فاعل

فالمنع منه عطية مقبولة

والفقر إكرام وبرّ عاجل

ومن الدلائل أن يرى من عزمه

طوع الحبيب وإن ألحّ العاذل

ومن الدلائل أن يرى متبسّما

والقلب فيه من الحبيب بلابل

__________________

١ ـ في الإحياء (٤ / ٣٣٧) : جفنه.

٦٣٢

ومن الدلائل أن يرى متفهّماً

لكلام من يحظى لديه السائل

ومن الدلائل أن يرى متقشفا

متحفّظاً عن كلّ ما هو قائل

وزاد آخر :

ومن الدلائل أن تراه مشمّراً

في خرقتين على شطوط الساحل

ومن الدلائل حزنه ونحيبه

جوف الظلام فماله من عاذل

ومن الدلائل أن تراه مسافراً

نحو الجهاد وكلّ فعل فاضل

ومن الدلائل زهده فيما يرى

من دار ذلّ والنعيم الزائل

ومن الدلائل أن تراه باكياً

أن قد رآه على قبيح فعائل

ومن الدلائل أن تراه مسلّماً

كلّ الأمور إلى المليك العادل

ومن الدلائل أن تراه راضياً

بمليكه في كلّ حكم نازل

ومن الدلائل ضحكة بين الورى

والقلب محزون كقلب الثاكل

فصل

من الوازم المحبّة ونتائجها الشوق وهو الميل إلى الوصول إلى الشيء بعد غيبة عنه أو إدراك ما أدرك بوجه دون آخر ، فإنّ الحاصل الحاضر لايشتاق إليه ، وكذا ما لم يدرك بوجه أصلاً فالشخص الغير المسموع وصفه ولا المرئي مطلقاً لايتصوّر التشوّق إليه ، وكذا الحاضر حين الرؤية فإنّه من قبيل تحصيل الحاصل.

نعم المتّضح [ له ] بوجه ما مع عدم استكمال الوضوح يشتاق إلى الكمال الذي هو عادمه حين الشوق ، كمن غاب معشوقه عنه وهو في خياله حيث يشتاق إلى استكماله بالرؤية ، والذي رآه في ظلمة واستتر عليه بعض ما يطلبه من صورته يشتاق إلى إشراق الضوء عليه باطلباً لإكمال الرؤية ، أو يكون ممدركاً لبعض كمالات المعشوق مع العلم بأنّ له كمالات أخر لم يدركها كان يرى وجهه ويشتاق إلى رؤية شعره وسائر أعضائه ، والشوق

٦٣٣

إلى الله ثابت للمشتاقين ، ممكن في حقّ غيرهم بجميع ما ذكر ، فإنّ ما يتضح للعارف من المعارف الالهية.

[ وإن اتّضح لديه في الدنيا الا أنّك عرفت أنّه لا يحصل له النكشاف التامّ الرافع لمطلق الأستار والحجب الا في الآخرة ، لكونه في الدنيا مشوباً بأنواع الكدورات والمنغّصات ، فيشتاق إلى الوصول إلى تلك المرتبة العالية التي لايتصوّر بالنسبة إليه ما هي فوقها ، وأيضاً قد عرفت أنّ المعارف الالهيّة ] (١) وصفات كماله وجماله وجلاله ممّا لا نهاية لها ، والذي ينكشف للعارف شيء متناه قليل جدّاً بالإضافة إلى ما لم ينكشف ، مع علمه إجمالاً بوجوده فلايزال متشوّقاً إليه.

قال أبو حامد ما ملخّصه : إنّ الشوق الأوّل ربما انتهى في الآخرة إذا حصل اللقاء بخلاص النفس عن ظلمة البدن وحصول تمام التجرّد لها عن العلائق المادية ، بخلاف الثاني ، إذ نهايته كشف مثل معلوماته تعالى عليه وهو محال ، لأنّها غير متناهية فيمتنع الإحاطة بها ، بل لايزال عالماً بوجود درجات غير متنناهية فوق درجاته ويشتاق إلى الوصول إليها فلا ينتهي شوقه لعدم انتهاء متعلّقه. (٢)

أقول : ادّعاء الفرق بين الكمّ والكيف في التناهي وعدمه لايخلو عن نظر قد أشرنا إليه سابقاً ، فإنّ زيادة الانكشاف والإشراق إنما تكون بكثرة المعارف والمعلومات.

فإذا كانت غير متناهية كانت مراتب المشاهدات والانكشافات كذلك أيضاً ، فلايزال متشوّقاً إلى المراتب الانكشاف المعلومة له إجمالاً كتشوّقه إلى علله.

وبالجملة ، فكما أنّ المعلومات غير متناهية فكذا التجلّيات

__________________

١ ـ ما بين المعقوفتين في هامش « ج » فقط ولابدّ منه لارتباط كلام أبي حامد به.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٥٦ ـ ٥٧.

٦٣٤

والإشارقات ، فادّعاء التناهي في الثاني دون الأوّل غير معقول ، الا أن يقال : إنّ عدم تناهي المعلومات النكشافات ممّا لا يستريب فيه أحد وهو ما حكمنا بعدم تناهيه.

والمراد من الأوّل الذي حكم فيه بالوصول إليه في الآخرة هو أنّ المرتبة الحاصلة للعارف في دار الدنيا من المعرفة حيثما هي حاصلة له متكدّرة بنوع من الظلمة تزول بالممات وتتبدّل بنوع أجلى من الانكشاف ، وهذا هو الذي يشتاق إليه ويصل إليه بالموت ، وهذا وإن كان صحيحاً ، الا أنّه مضافاً إلى أنّه حينئذ سكون لا حركة فيه ، والمطلوب من هذه المقامات حصول سير تدريجي للسالك من المباديء إلى الغايات.

يرد عليه أنّ ما يتيقّن الوصول إليه جنس النكشاف المغاير للانكشاف الحاصل له في الدنيا وكونه أشرف وأبهى وأكمل وأسنى ، الا أنّ له في جنسه مراتب لاتتناهي في كيفيّة التجلّيات والنكشافات والترقّيات الحاصلة له في الآخرة كعدم تناهي المعلومات ، فتفطّن.

فإن قلت : الشوق هو الميل إلى شيء غير مدرك كما ذكرت وهو لايخلو عن ألم والآخرة دار الراحة والأمن ن الآلام فكيف يتصوّر فيها الشوق المحرق المؤلم للقلب؟

قلت : أمّا أوّلاً : فالمراد من الشوق الذي نبحث عنه هنا وندّعي عدم تناهيه مايحصل للعبد في دار الدنيا كما أشرنا إليه حتى يحصل منه السير ويترتّب علي الكمال الاكتسابي الصناعي ، والمراد من عدم تناهيه عدم وقوفه إلى حدّ يقف عنده ، وهو وإن كان موجباً للألم من الجهة التي ذكرت ، الا أنّ لهذا الألم مع كونه ألماً لذّة غريبة لايدركها الا من أدرك حقيقة الحبّ والعشق وأدرك لذّتهما مع أنّ الدنيا سجن المؤمن ودار ألمه واحتراق قلبه.

وأمّا ثانياً : فلو فرض ذلك في الآخرة أيضاً لم يبعد أن يكون الشوق شوقاً لذيذاً لايظهر فيه الألم لحصول أصل الوصال ، وكون الشوق مؤلماً إنّما

٦٣٥

هو إذا وقف على حدّ خاص من عدم الإدراك وبقي على تلك الحالة مدّة من الزمان.

ولعلّ توالي لطائف الإشراقات والابتهاجات وعدم انقطاع مراتب ترقّيات العبد وتجلّيات المعبود لايبقي له ألماّ ، إذ لا يزال اللذّة والنعيم يتزايد له أبدالآباد.

فالبهجة الحاصلة له في كل آن بالفعل واللذّة المتجدّدة من غير انقطاع تشغله عن الإحساس بألم مالم يدركه ، فإن أمكن حصول الكشف في الآخرة فيما لم يحصل أصله في الدنيا من المعارف فيتجدّد له فيها ويتوارد عليه منها على سبيل الاستمرار من غير زوال ولا انقطاع.

وربما كان في قوله تعالى : ( نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربّنا اتمم لنا نورنا ) (١) إشارة إليه ، وإن اختصّت النعم الاخرويّة وأنوار تلك النشأة بما تزوّد أصلها في الدنيا وامتنع حصولها مالم يحصل له فيها ، وإن تغايرا في الكيف كان الكمّ متناهياً في الآخرة لتفرّعه على المتناهي الذي حصل له في الدنيا ، الا أنّ الكيف الذي هو من فيوض الوّهاب المطلق وفنون أنواره وتجلياته الباقية الصافية مجازاة لما اكتسبه في دار الدنيا من المعرفة المتناهية الكدرة الناقصة المشوبة بأنواع الشوائب غير متناه كما أشرنا إليه.

ولعلّ الظاهر من الآية هذا الذي أوضحناه أخيراً فيكون المراد من إتمام النور إفاصة فنون النكشافات وكيفيّات التجلّيات تفضّلاً منه تعالى عليه.

قيل : ويشهد للأخير قوله تعالى : ( انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً ) (٢) فافهم.

ولا يمكن تعيين الأصل الذي ترتّب عليه الغير المتناهي من الأنوار كيفاً

__________________

١ ـ التحريم : ٨.

٢ ـ الحديد : ١٣.

٦٣٦

وكمّاً الا على سبيل الإجمال والإبهام بتحصيل اليقين ـ بالمعنى الثاني الذي يستولي على القلب بالأمر والنهي دون مجرّد الاعتقاد الثابت الجازم ، فإنّه لايترتّب عليه شيء ـ بوجوده ووجوبه ووحدانيته ذاتاً وصفة وفعلاً ، وعظمته وجلاله وقدرته وحكمته واتّصافه بأشرف ما يمكن أن يتّصف به.

فأصل هذه العقائد ممّا يشترك فيه عامّة المؤمنين ، والانكشاف عن حقائقها بالكنه متعذّر لأشرف المخلوقات ، وإنما ينكشف بالرياضات والمجاهدات القدر الممكن في حقّ الممكن ما يترتّب عليه تلك الأنوار المتناهية بقدر السعي والاجتهاد والقابلية والاستعداد الحاصلة في دار الدنيا ، فهذا مايمكن أن يفهم من الأصل والفرع ، والله العالم.

تذنيب

من أنكر المحبّة يلزمه إنكار الشوق أيضاً ، لأنّه من فروعه وثمراته ، وقد عرفت ما يدلّ على ثبوته عقلاً ، والشواهد النقلية الدالّة عليه أيضاً أكثر من أن تحصى.

ففي الدعاء النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اللّهمّ إنّي أسألك الرضا بعد القضاء ، وبرد العيش بعد الموت ، ولذّة النظر إلى وجهط الكريم وشوقاً إلى لقائك ». (١)

وفي أخبار داود عليه‌السلام : « أنّي خلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعّمتها بجلالي » (٢).

وفيها : « يا داود! إلى كم تذكر الجنّة ولاتسألني الشوق إليّ؟ قال : ياربّ من المشتاقون إليك؟ قال : إنّ المشتاقين إليّ الذين صفيّتهم عن كلّ كدر ـ إلى أن قال ـ : وإنّ قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتي ، كما تضيء الشمس لأهل الأرض. يا داود! إنّي خلقت قلوب المشتاقين من رضواني ونعّمتها بنور وجهي واتّخذتهم لنفسي محدّثين وجعلت أبدانهم موضع

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٥٧ ـ ٥٨.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٥٨.

٦٣٧

نظري إلى الأرض وقطعت من قلوبهم طريقاً ينظرون به إليّ ، يزدادون في كلّ يوم شوقاً » (١).

وفي بعض الأخبار القدسيّة : « إنّ لي عباداً يحبّونني وأحبّهم ، ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم ، ويذكرونني وأذكرهم ... وأوّل ما أعطيهم أن أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عنّي كما أخبر عنهم » (٢).

وقال سيّد العابدين عليه‌السلام : « اللّهم املأ قلبي حباً لك وخشية منك وإيماناً بك وفرقا منك وشوقاً إليك يا ذالجلال والإكرام » (٣).

وقال عليه‌السلام : « يا من قلوب المشتاقين إليه والهة [ وعقولهم في بحار عظمته تائهة ] » (٤).

وقال الصادق عليه‌السلام : « المشتقا لايشتهي طعاماً ، ولايلتذّ شراباً ولا يستطيب رقاداً ، ولايأنس حميماً ، ولايأوي داراً ، ولايسكن عمراناً ، ولايلبس ليناً ، ولايقرّ قراراً ، ويعبد الله ليلاً ونهاراً راجياً لأن يصل إلى ما يشتاق إليه ويناجيه بلسان شوقه ... الحديث » (٥).

وبالجملة ؛ فهي ممّا لاتحصى ، وإنّما ذكرنا اليسير تبرّكاً بكلماتهم.

فصل

ثم من ثمرات الحبّ الأنس كالشوق والخوف ، والفرق بينها بالاعتبار واختلاف نظر المحبّ إلى المحبوب وما يغلب عليه في وقته ، فإن غلب عليه التطلّع من وراء حجب الغيوب إلى منتهى الجمال واستشعر قصوره من الاطّلاع على كنه الجلال انبعث القلب إلى الطلب وانزعج له وهاج إليه ،

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٥٩.

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٥٨ ـ ٥٩.

٣ ـ مفاتيح الجنان : دعاء أبي حمزة ، مع اختلاف.

٤ ـ لم أجده.

٥ ـ مصباح الشريعة : الباب ٩٨ ، في الشوق.

٦٣٨

فتسمّى هذه الحالة في الانزعاج شوقاً ، وإذا غلب عليه الفرح بالقرب والحضور وحصول ماتيسّر له بالفعل من الانكشاف ومطالعة الجمال الحاضر المكشوف له من دون التفات إلى ما لم يدركه سمّي استبشاره بذلك أنساً ، وإن نظر إلى عزّ المحبوب وغناه وجلاله وعظمته وعدم مبالاته وكونه تحت لواء الخطر بزوال ما هو فيه وبعده ، تألّم قلبه من ذلك وسمي تألّمه المزبور خوفاً ، فالأنس معناه استبشار القلب وفرحه بمطالعة الجمال الأقدس ، فإذا غلب على القلب ذلك وتجرّد عن ملاحظة الغائب وخطر الزوال عظمت اللذّة ولابتهاج بما ناله فلا يكون شهوته الا في العزلة والخلوة والانفراد والمناجاة ، فإنّ الانس بالحبيب يستلزم التوحّش عن كلّ ما يعوق عن الخلوة ، فيكون من أثقل الأشياء على القلب ، ولذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله 9 لتضجّره وتبرّمه عن مصاحبه الناس يقول : « أرحني يا بلال » (١) حتّى يعود إلى قرّة عينه من مناجاة حبيبه.

ومن علامته الخاصّة ضيق الصدر من معاشرة الخلق واستهتاره بعذوبة الذكر ، فإن خالط فهو منفرد في جماعة ومجتمع في خلوة وغريب في حضر وحاضر في سفر ومشاهد في غيبة وغائب في حضور ومخالط بالبدن منفرد بالقلب كما قال علي عليه‌السلام :

« هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة فباشروه بروح اليقين واستلانوا ما استوعوه المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالملأ الأعلى ، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه » (٢).

ومنهم من أنكر الشوق والانس والحبّ ، بل أنكروا مقام الرضا أيضاً كما سبق الكلام في جميعها ظنّاً منهم أنّ الأنس يدلّ على التشبيه ، وهذا

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء : ١ / ٣٧٧ ، وفيه : « أرحنا ».

٢ ـ المحجّة البيضاء : ٨ / ٨٠ ، نهج البلاغة : الحكمة : ١٤٧.

٦٣٩

جهل منهم بالمدركات العقليّة وقصور منهم على القشور الحسيّة ، فكيف يمكن لهم إدراك هذه المقامات العالية؟

الأنس بالله لايحوية بطّال

وليس يدركه بالحول محتال

والآنسون رجال كلّهم نجب

وكلّهم صفوة الله عمّال

والكلمات الدالّة على طلب الانس من سادتنا الأطيبين سلام الله عليهم ممّا لايحصى.

إنارة

قيل : إذا استحكم الأنس وغلب على القلب ولم يشوّشه قلق الشوق ولا خوف الحجاب والبعد أثمر نوعاً من النبساط والإدلال في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الملك المتعال ، وقد ينكر بحسب الصورة لما فيه من الجرأة ، لكنّه محتمل ممّن أقيم ذلك المقام ، ومن لم يصل إليه وأراد التشبيه به في الفعل والكلام هلك وكفر ، ومثاله مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله تعالى كليمه عليه‌السلام في سبعين ألفاً للاستسقاء فأوحى الله تعالى : كيف أستجيب لهم وقد أظلمت عليهم ذنوبهم ، يدعونني على غير يقين ويأمنون مكري ، ارجع إلى عبد من عبيدي يقال له : برخ ، فقل له يخرج حتّى أستجيب له ، فسأل عنه موسى عليه‌السلام فلم يعرف ، فبينما هو ذات يوم في الطريق إذاً بعبد أسود قد استقبله وبين عينيه تراب من أثر السجود في شملة قد عقدها على عنقه ، فعرفه موسى بنور الله تعالى فسلّم عليه وقال : ما اسمك؟ قال : برخ ، فقال : أنت طلبتنا منذ حين اخرج بنا فاستسق لنا ، فخرج وقال في كلامه : « ما هذا من فعالك؟ وما هذا من حلمك؟ وما الذي بدالك؟ أنقصت عيونك أم عاتت الرياح عن طاعتك؟ أم فقد ما عندك ، أم أشتدّ غضبك على المذنبين؟ ألست كنت غفّاراً قبل خلق الخاطئين خلقت الرحمة وأمرت بالعطف؟ أم ترينا أنّك ممتنع أم تخشى الفوت فتعجل

٦٤٠