كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

وقال الصادق عليه‌السلام : « كلّ داء من التخمة خلا العمى » فإنها ترد وروداً » (١)

وكفاها سناعة صيرورتها باعثة لخروج أبينا وأمّنا من أعلى غرفات الجنان إلى دار الذلّ والهوان ، فإنه منبع المعاصي والباعث على حصول كلّ رذيلة فتتبعها شهوة الفرج ، وتتبعهما الرغبة في الجاه والمال للتوسّع فيهما ، وتتولّد منها ضروب المحاسدات والمناقشات وصنوف الرذائل والآفات من الرياء والعجب والافتخار وغيرها ، ولذا ورد في ذمّها ما ورد.

فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما ملأ ابن آدم وعاء شرّاً من بطنه حسبه لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان هو فاعلاً لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ». (٢)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لاتميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب ، فإنّ القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء ». (٣)

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا ». (٤)

وعن الباقر عليه‌السلام : « ما من شيء أبغض إلى الله من بطن مملوء ». (٥)

وعن الصادق عليه‌السلام : « ما من شيء أضر لقلب المؤمن من كثرة الأكل وهي مورثة شيئين قسوة القلب وهيجان الشهوة ، والجوع أدام المؤمن وغذاء للروح ، وطعام للقلب ، وصحّة للبدن ». (٦)

وقد ورد في مدح الجوع وفضل الصبر عليه ما ورد.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أفضل الناس من قلّ طعمه وضحكه ورضي بما يستر به

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٥٠ نقلاً عن الكافي : ٦ / ٢٦٩ ، وفيهما : « الا الحمّى ».

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٤٧.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٤٧.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٤٩.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٥٠ نقلاً عن الكافي : ٦ / ٢٧٠.

٦ ـ المحجة البيضاء : نقلاً عن مصباح الشريعة (الباب ٤١).

٢٠١

عورته ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كلوا واشربوا في أنصاف البطون ، فإنّه جزء من النبوّة ». (٢)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « سيّد الأعمال الجوع وذلّ النفس ». (٣)

ويترتّب عليه من الفوائد صفاء القلب ورقّته ، وجلاء الذهن وحدّته ، والشوق إلى العبادة ، وسهولة المداومة عليها ، وترحّم أهل المسكنة ، والانكسار المانع عن العصيان والغفلة والطغيان ، ودفع النوم المضيّع للعمر المفوّت للتهجّد وسائر الطاعات ، وسهولة الايثار والصدقات ، وخفّة المؤونة المانعة عن تحصيل المقصد الأصلي وصحّة البدن ودفع الأمراض.

فعلاجها : بتذكّر ما يرد عليها من المفاسد ويترتّب على ضدّها من المحامد ، وما ورد في ذمّها ومدح ضدّها من الأخبار ، والتفكّر في خسّة الشركاء من البهائم الأكولة كالخنزير والفيل ، وأنّها ماحازت بكمال هذه الصفة فيها الا خسّة ودوناً ، وأنّ تناول الغذاء لدفع ألم الجوع وحفظ بدل ما يتحلّل ليتقوّم به البدن.

وممّا ينعف في دفعها صحبة الأماجد.

وربّما يستعان فيه بتحبيب الجاه والاحتشام إلى النفس لتعرض عنها عند الاقبال إلى ما يخالفها ويحافظ على ترك الافراط في الأكل ولو تكلّفاً إلى أن يعتاد عليه.

وأمّا شهوة الفرج والحرص على استبدال الزوجات والاكثار منها فهي من أقوى أسباب تضييع الدين وهلاك النفس والعقل بمقهوريّتهما تحت حكمهنّ حتّى يحرم بسببها عن سلوك المقصد الأصلي ، ويقتحم في الفواحش والمعاصي.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٤٦ ، وفيه : « قيل : يارسول الله : أيّ الناس أفضل؟ قال : من ... ».

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٤٦ ، وفيه : « كلوا في أنصاف ... ».

٣ ـ المحجة البيضاء : ، وفيه : « ... وذل النفس لباس الصوف ».

٢٠٢

وإتلاف البدن بدفع الكيموسات الصالحة التي هي غذاء الأعضاء وصرف الرطوبات الأصلية التي هي موادّ قوامها وتحليل الحرارة الغريزيّة التي هي آلة الطبيعة في تصرّفاتها كالعامل الظالم الذي يأخذ أموال الرعية قهراً ويهلكهم فاقة وفقراً ليصرفهان في مصارفه ، وقد حصلت التجربة بكون المفرط في الوقاع نحيفاً سقيماً بدنه قصيراً عمره ساقطة قوّته ، بل ربما صار فاسداً عقله ، مختلاً دماغه.

وإتلاف المال في وجوه التعمتّعات ، فكثيراً ما أوقعت صاحبها في أودية الفقر والفاقة ، وربما انتهى هذا المرض إلى العشق البهيمي الذي لايعرض الا لقلوب قصيرة الهمم ، فارغة عن حبّ الله ، فربّما أدّى إلى هلاك النفس والبدن ، ولذا ورد في ذمّها ما ورد.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « اتّقوا فتنة الدنيا وفتنة النساء ». (١)

وروي أنّ الشيطان قال : « المرأة نصف جندي ، وهي سهمي الذي أرمي به فلا اخطيء ، وهي موضع سرّي ورسولي في حاجتي ». (٢)

وفي الخبر : « النساء حبائل الشيطان ». (٣)

ولا يغرّنك كثرة زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ استغراقه صلى‌الله‌عليه‌وآله في حبّ الله سبحانه كان بحيث يخشى احتراق قلبه والسراية إلى قالبه ، فكان يشغل نفسه الشريف بهنّ لئلا تنجّر كثرة استغراقه إلى مفارقة روحه عن بدنه.

ولذا كان يقول في بعض حالات استغراقه وخوضه في غمرات المشاهدة : « كلّميني أو اشغليني يا حميراء » (٤) وهي تشلغه بكلامها عن عظيم ما هو فيه لقصور طاقة قالبه عنه ، ثم من جهة كون هذا عرضيّاً له يتكلّفه رفقاً ببدنه الشريف ، وكان من جبلّته الاستغراق في بحار الحبّ والانس بالله

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٨٠.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٧٧ ، ونسبه فيه إلى « بعضهم ».

٣ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٧٦.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٧٩.

٢٠٣

تعالى ، ماكان يطيق طول الجلوس والتحدّث مع الناس ويضيق صدره ويقول :« أرحنا يا بلال » (١) حتّى يعود إلى قرّة عينه في الصلاة ، فيس لأولي الأفهام القاصرة والعقول الناقصة المقايسة في أفعالهم بأفعاله المشتملة على أسرار عجيبة وحكم غريبة.

كار پاكان قياي از خود مگير

گر چه باشد در نوشتن شير شير

وعلاجها بعد تذكّر مفاسدها المشار إليها ، كسرها بالجوع والصوم وسدّ أبوابها من النظر والتخيّل والتكلّم والتخلّي بهنّ.

ولذا منع في الشريعة المطهّرة عن النظر واستماع الرجل لكلام المرأة من غير ضرورة.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ». (٢)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لكلّ عضو من ابن آدم حظّ من الزنا ، فالعينان تزنيان وزناهما النظر ». (٣)

وقيل ليحيى بن زكريّا ما بدؤ الزنا؟ قال : « النظرة والتمنّي » (٤)

فإن لم تنقمع بهما فبالنكاح أو بوطي زوجته » ، فإنّ تشابه النساء في التمتّع أكثر من تشابه الأغذية في سدّ الحاجة ، فكما يستقبح العقل السؤال عن الناس مع الاستغناء بما يتقوّت به ، فكذا يستهجن تتبّع النسوان مع القدرة على الاستمتاع بزوجته.

وأنفع العلاج الاشتغال بما يصرف همّه وفكره عن الشهوات من تحصيل العلوم والاشتغال بالطاعات سيّما الصلوت ، فإنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، والمجالسة مع أهل الورع والزهد والعلم.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٧٩.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٨٠.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٨١.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ١٨٠.

٢٠٤

فصل

ثاني الجنسين الخمود وهو سكون النفس عن تحصيل الضروري منها بحيث يؤدّي إلى سقوط القوّة تضييع العيال وانقطاع النسل ، وهو رذيلة ، لأنّ المقصد الأصلي هو الوصول إلى السعادة ولاتحصل الا باكتساب المعارف واقتناء الفضائل وأداء الطاعات المتوقفة على قوّة البدن المتوقّفة على تحصيل الضروري من المأكل والملبس والمسكن ، وربّما توقّفت في بعض الأحيان وابالنسبة إلى بعض الأشخاص على حصول فراغ لها عن أمور المعيشة من الطحن والكنس والخبز وغيرها الغير المنتظمة الا بالتزويج ، مع ما فيه من بقاء النسل ودوام وجود آثار صنعه تعالى ومقايسة لذات الآخرة بها ، إذ لايمكن الخوف ولا الشوق الا بإدراك لذّة وألم ، ولايتصوّران في عالم الحسّ الا بالجسمانيّات المشابهة لللذّات والآلام الأخروية ، فيقاس بلذّة الجماع الحسّي الذي هو أقوى اللذّات الجسمانية ، وألم النار المحسوس الذي هو أعظم آلامها لذّات الآخرة وآلامها.

مع ما فيه من امتثال أمر الرسول بالتزويج طلباً لزيادة الامّة ، فيباهي بها سائر الأمم وطلب الخيرات الباقية بعد الممات من الأعمال الصالحة والآثار الحسنة الصادرة عن الأعقاب وشفاعة صغارهم الأموات ، كما ورد في الأخبار والتحصّن من وساوس الشيطان بقلع خطرات الشهوة عن القلب ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من تزوّج أحرز نصف دينه ». (١) وترويح النفس وأيناسها بالنظر وغيرها تقوية للقلب على العبادة ، فإن النفس ملولة عن الحقّ نفور على ما يخالف طبعها (٢) ، فلو واظب الانسان على إكراهها على ما يخالفها جمحت ولو روّحت باللذّات أحياناً قويت وتشطت. ولذا قال تعالى :

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٥٥ نقلاً عن الكافي : ٥ / ٣٢٩.

٢ ـ في المحجة البيضاء (٣ / ٦٧) : فإنّ النفس ملولة وهي عن الحقّ نفور لأنّه على خلاف طبعها.

٢٠٥

( ليسكن إليها ). (١)

وفي الخبر : « روّحوا القلوب فإنها إذا اكرهت عميت ». (٢)

ومجاهدة النفس في السعي في حوائج العيال وتحمّل مشاقّهم ومكاره أخلاقهم والاجتهاد في إصلاح شأنهم وإرشادهم وكسب المال الحلال لوجوه معايشهم. كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الكادّ في نفقة عياله كالمجاهد في سبيل الله ». (٣)

فالخمود المؤدّي إلى الحرمان عمّا ذكر رذيلة الا فيمن لم يكن له شبق يؤدي به إلى خطرة محرّمة ووسواس منهيّ عنه مع علمه بعجزه عن القيام بحقوق الزوجيّة ، وتحمّل أخلاق النساء وتحصيل المال الحلال في وجوه المعيشة وأيقن بأدائه إلى الانغمار في الدنيا وعدم تمكّنه من تحصيل ما ينفعه في العقبى ، فإنّ الراجح له حينئذ ترك التزويج يقيناً ، ، ولذا أجريت الأحكام الخمسة في النكاح.

وعلاجه ـ بعد التذكّر لمفاسده وما يترتّب على ضدّه من المحامد المشار إليها. والتأمّل في الأخبار الكثيرة الواردة في ذمّه ومدح تحصيل المال الحلال للكفاف ممّا سيذكر بعضها إن شاء الله ـ السعي في تحصيله ولو تكلّفاً إلى أن يعتاد عليه.

فصل

الدنيا في نفسها عبارة من الأرض من الضياع والعقار وما عليها من الحيوان والنبات والمعادن ، وفي حقّ العبد عبارة عمّاله في حياته من حظّ ونصيب والعلاقة الحاصلة له بها حبّه لها ، لكن من جملة الحظوظ الحاصلة له في دار الدنيا اقتناء الفضائل وتحصيل المعارف التي بها تحصل السعادة الحقيقية ، ولذا كانت مزرعة الآخرة ، فحبّ العبد لها ولما يتوقّف عليها من المأكل والملبس والمسكن والمنكح ليس من الرذائل بل يمدح عليه.

__________________

١ ـ الاعراف : ١٨٩.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٦٨ ، وفي النسخ : « روّحوا القلب » ، وصححناها.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٧٠.

٢٠٦

كما قال نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله : « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وقرّة عيني في الصلاة ». (١)

وإنما المذموم منه حبّ الحظوظ العالجلة التي لايتوسل بها إلى الآخرة ، كما أشرنا إليه وسنزيده توضيحاً.

فعلى هذا لابدّ من كون المراد من حبّ الدنيا المعدود في جملة الرذائل هذا القسم خاصّة ، وكلّه من رذائل الشهوية الا حبّ الجاه وتسخير القلب إذا قصد منه الاستيلاء فإنّه من رذائل الغضبية ، حينئذ كما سيجيء فيكون مرادفاً للشرة بالتفسير الذي ذكرناه حينئذ ، ويلزم منه أن يكون جنساً من طرف الافراط وما ذكرناه في الفصل السابق نوعاً منه كحب المال وغيره ممّا سيذكر.

ثمّ إنّ الحبّ المذكور إحدى علاقتي العبد بها وهي العلاقة القلبيّة بانصراف همّه إليها حتّى يصير رقّاً لها وهي الرقية بالمعنى الأعم ويقالها الحريّة كذلك أي استخلاص النفس من عبوديّتها ، ويترتّب عليها جميع الرذائل القلبية المتعلّقة بالدنيا من المكر والحسد والكبر والرياء وغيرها ، فهي الدنيا الباطنيّة ، والظاهرية الأعيان المجودة التي جمعها الله تعالى بقوله :

( زيّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسمومّة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب ). (٢)

والأخرى العلاقة البدنيّة بالاشتغال بإصلاح تلك الأعيان في وجوه المصارف بالحرف والصنائع التي اشتغل بها الناس فأنستهم أنفسهم وخالقهم واستغرقوا في مشاغلها لجهلهم بحكمتها فاتّصلت وتوالت بعضها ببعض إلى غير النهاية ، إذ لايفتح منها باب الا وينفتح منه كثير من الأبواب وهلمّ جرّاً ، فكأنّهم وقعوا في هاوية لاقعر لها وسقطوا في مهاويها واحدة

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٩٦ / ١.

٢ ـ آل عمران : ١٤.

٢٠٧

بعد اخرى.

ألا ترى أنّ ما يضطرّ إليه الانسان بالذات منحصر في المأكل والملبس والمسكن ومنه حدثت الحاجة إلى الفلاحة والرعاية للمواشي والحياكة والبناء والاقتناص أي حيازة المباحات من الصيد والمعادن والحشائش والأحطاب التي هي الاصول لسائر الصناعات المنتشرة في العالم فاشتغل كلّ بها الا أهل البطالة حيث غفلوا عنه أو منعهم عنه مانع في أوان الصبا ، ثم استمرّوا عليها فاضطرّوا إلى الأخذ من الناس ، ومنه حدثت حرفتان أخبث من كلّ الحرف الكدية واللصوصية ولكلّ منهما أنواع.

واعلم أنّ الدنيا لقطعها الطريق إلى الله تعالى على عباده عدوّة له ، ولذا لم ينظر إليهامنذ خلقها كما في الأخبار. (١) ولأوليائه أيضاً ، فإنّ العدوّ يبغض أولياء عدوّه كما يبغض الولي أعداء وليّه ، ولكون الدنيا سجناً لهم ، حيث لم ترض لهم الا بالبلايا والمتاعب والرزايا والمصائب ، ولكونها حاجبة لهم عن الوصول إلى محبوبهم ماداموا فيها. ولأعدائه أيضاً حيث غرّتهم بمكائدها واقتنعتهم بشبابكها (٢) ، ثم حرمتهم عن السعادة الأبدية وخذلتهم بعد أن أسقطتهم في مهاويها المهلكة الرديّة ، ولذا ترى أكثر القرآن مشتملاً على ذمّها.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصفها : « ما أصف من دار أوّلها عناء وآخرها فناء ، في حلالها حساب ، وفي حرامها عقاب ، من استغنى فيها فتن ، ومن افتقر فيها حزن ، ومن ساعاها فاتته ، ومن قعد عنها أتته ، ومن أبصر بها بصرّته ، ومن عمي عنها أعمته ». (٣)

وقال عليه‌السلام : « لايغرّنكم الحياة الدنيا فإنّها دار بالبلاء محفوفة وبالفناء

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٣٥٥.

٢ ـ كذا في النسخ ، والصحيح : شباكها.

٣ ـ نهج البلاغة : الخطبة ٨٢ ، وفيه : « واتته » بدل « أتته » و « من أبصر إليها أعمته » بدل « من عمي عنها أعمته ».

٢٠٨

معروفة وبالغدر موصوفة ، فكلّ ما فيها إلى زوال ، وهي بين أهلها دول وسجال ... بينما أهلها منها في رخاء وسرور ، فإذا هم منها في بلاء وغرور ، العيش فيها مذموم ، والرخاء فيها لايدوم ، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها ، وتفنيهم بحمامها ... الحديث ». (١)

وقال :« إنّما مثل الدنيا كمثل الحيّة ما ألين مسّها وفي جوفها السمّ الناقع ، يحذرها الرجل العاقل ، ويهوي إليها الصبيّ الجاهل ». (٢)

والأخبار الواردة في ذمّها من الأئمّة الراشدين سلام الله عليهم أجمعين ممّا لاتحصى ، ولايليق بهذا المختصر ذكرها ، بل لايمكن ضبطها وحصرها ، وإنّ بالتأمّل في خطب نهج البلاغة وغيرها ممّا وصل إلينا من أميرالمؤمنين وقدوة المتّقين عليه‌السلام في ذمّها وسرعة زوالها وخساستها وهلاكة طلاّبها لبلاغاً لقوم يعقلون. وللحكماء في الزجر عنها وجعل ذمائمها محسوسة في أعين طلابها أمثلة معروفة مشهورة ، هي في الكتب المتداولة مذكورة.

تنبيه

الباقيات الصالحات للعبد المشار إليها بقوله تعالى : ( والباقيات الصالحات خير عند ربّك ثواباً وخير أملاً ) (٣) بعد مفارقة الروح عن البدن هي صفاء القلب وحبّه تعالى والأنس به فبها تحصل اللذّة الحقيقية والابتهاج التامّ من مشاهدة جمال الحقّ.

أمّا صفاء القلب فلأنّ بالموت يرتفع الحواجب الحسّية والعلائق المادّية المانعة عنها كمنع الأجفان عن رؤية الأبصار ، فإن كانت النفس ملوّثة بكدورات الدنيا وشهواتها كانت كمرآة تراكم عليها الخبث والصدأ ، فلاتصل إلى مقام الكشف والشهود الا بعد زوالها ، فإذا كانت من شدة

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٦.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٣٦٣.

٣ ـ الكهف : ٤٦.

٢٠٩

تكدّرها بها وطول صدأها قد وصلت إلى حد الرين والطبع لم تقبل الاصلح والتصقيل مطلقاً ، فلاتصال إلى مقام الكشف والشهود أبداً ، وإن لم تصل إلى ذلك الحد لم يصل إليه الا بعد مدّة مديدة يعرض عليها النار حتّى ينقلع عنها الخبث الحاصل لها من كدورات الدنيا بقدر ما حصل لها ، فكلّما كان صفاء القلب أكثر كان أمكمن من الوصول ، ولايحصل الا بالكفّ عن شهوات الدنيا وقطع العلاقة القلبيّة عنها وتطهير النفس عن أدناسها.

وأمّا اللذّة المترتّبة على حبّ الله الحاصل من المعرفة والتفكّر فلاتحصل أيضاً الا بترك الدنيا وحبّها ، فإنّ الموت ليس عدماً صرفاً ، بل هو فراق لمحابّ الدنيا وقدوم على الله ، فإذا كان العبد محبّاً لله تاركاً للدنيا ارتفع بموته الحجاب المانع له عن وصوله إلى محبوبه ، فتحصل له لذّة المشاهدة واللقاء ويصير له القبر روضة من رياض الجنّة حيث إنّ محبوبه منحصر فيما وصل إليه ، فيقدم عليه سالماً منالعوائق آمناً من الفراق مستخلصاً نفسه عن السجن الحاجب بينه وبين محبوبه ، وإن كان محبّاً للدنيا لم يتمكّن مع ذلك من حبّ الله لتناقض الحبّين ، فلايمكن اجتماعهما في قلب واحد ، ولو فرض إمكانه فلايمكن معه الوصول إلى الله ، لأنّ تلك العلاقة الباقية للنفس بعد الموت بالدنيا حاجبة لها عن الوصول إليه حتّى تلتذّ بمشاهدته ولقائه ، كما كان في الدنيا ، فلاتحصل له تلك اللذّة المتفرّعة على الحبّ ، بل يتألّم ويعذّب ، لأنّه حيل بينه وبين محبوبه ، أعني الدنيا وانسدّت عليه أبواب الحيلة في الرجوع إليه.

وأما الأنس به تعالى فهو إنّما يحصل بالمواظبة على ذكر الله والمداومة عليه حتّى يأنس قلبه به والانس والحبّ متلازمان [ فمن استأنس بشيء ابتهج بمشاهدته والتذّ بملاقاته ]. (١)

وقد عرفت أنّ الحياة حاجبة عن اللقاء والمشاهدة وبالموت يرتفع

__________________

١ ـ كما في « الف » فقط.

٢١٠

الحجاب ويصل إلى لذّة اللقاء والمشاهدة ، بشرط أن لايكون له علاقة بالدنيا ، فإنّ المحبّ لها قد استأنس بزخارفها ، فتحصل له من الموت وحشة عظيمة من مفارقتها ، فتلك العلاقة حاجبة له عن تلك اللذّة المترتّبة على الانس كما في الحبّ ، فعلم أنّ سالك الآخرة لابدّ له من المواظبة على الذكر المحصّل للانس ، والفكر المحصل للحبّ ، والعمل المحصّل لصفاء القلب حتّى تقطعه عن ملاذّ الدنيا وتمنعه عن شهواتها وهي متوقّفة على صحّة البدن وهي على المأكل والملبس والمسكن ، ولكلّ منها لوازم وأسباب ، فمن أخذها لتحصيل هذه الثلاثة لم يكن من أبناء الدنيا ، وكلّ من يتنعّم منها ولو بسماع صوت طائر أو نظر إلى خضرة أو شربة ماء بارد كان منهم ، فإنّ حوظ الدنيا.

وإن لم تكن بأسرها معرضة لسخط الله وعذابه لكنّها حائلة بين العبد وبين الدرجات العالية مفوتّة لحظوظ دائمة باقية مع كونها في جنبها حقيرة زائلة فانية موجبة طول الحساب والمناقشة من ربّ الأرباب.

ومعلوم أنّ طول الموقف في عرصة القيامة لأجل الحساب أيضاً نوع من العذاب.

ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « في حلالها حساب وفي حرامها عقاب ». (١)

فمن كان معرفته بالله سبحانه أقوى وأتمّ كان حذره من الدنيا أكثر وأعظم حتّى إنّ عيسى بن مريم عليهم‌السلام وضع رأسه على حجر لمّا نام ثم رمى به إذ تمثّل له إبليس وقال : رغبت في الدنيا. (٢)

وكلّ من كان عنايته تعالى به أكثر ومنّته عليه أوفر ابتلاه في الدنيا بأنواع المحن والبلاء من الأنبياء والأولياء ، ثم الأمثل فالأمثل في درجات

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٢١ ، وفيه : « حلالها حساب ، وحرامها عقاب » نعم في النهج (الخطبة : ٨٥) عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام كما في المتن.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٢١ ـ ٢٢.

٢١١

العلى ليوفّر من الآخرة حظّهم كما يمنع الوالد المشفق ولده عن لذائذ الفواكه والاطعمة ويلزمه بالفصد والحجامة حبّاً له وإشفاقاً عليه ، ولأجله لم يرض لهم بقليل الدنيا وكثيرها.

روي أنّ روح الله اشتدّ به المطر والريح والرعد والبرق يوماً فجعل يطلب بيتاً بلجا إليه ، فرفعت خيمة من بعيد ، فأتاها فإذا فيها امرأة فما دعته ، ثم نظر فإذا بكهف في جبل فأتاه فإذا فيه أسد فوضع يده عليه وقال : إلهي جعلت لكل شيء مأوى ، ولم تجعل لي مأوى ، فأوحى الله إليه : مأواك في مستقرّ من رحمتي ... الحديث. (١)

تلخيص

قد تلخّص ممّا ذكر أنّ من الدنيا ما ليس لله صورة ومعنى كالمعاصي وغيرها ممّا لايكون لتحصيل الآخرة.

ومنها : ما صورته منها ويمكن أن يكون معناه كذلك أيضاً ، مثل ما يتوقّف عليه تحصيل الآخرة إذا قصدت به الدنيا وحظّ النفس ، ويمكن كونه لله بالاستعانة به على الآخرة.

ومنها : عكس ذلك ، كترك الشهوات والاتيان بالطاعات ، فيمكن أن يكون معناه لله بقصد التقرّب إليه ، يمكن كونه من الدنيا إذا قصد به حفظ المال والاشتهار بالزهد والعلم.

فصل

ثمّ من أفراده حبّ المال ، لكونه من الحظوظ العاجلة ، لكنّه أعظمها آفة ، لاحتياج الكلّ إليه ، فبوجوده يحصل الغرور والطغيان ، وبعدمه الفقر المؤدّي إلى الكفر في أغلب الأحيان ، وله فوائد منجية وآفات مردية ، وتمييز كلّ منها عن الآخرة مشكلة ومعرفة دقائق أخطاره معظلة ، فلفاقده غالباً

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٣٥٧ ، وفيه : « فحاد عنها » بدل « فما دعته ».

٢١٢

خصلتان القناعة المحمودة والحرص المذموم ، ويترتّب على الحرص الانهماك (١)في الصناعة والطمع من الناس المؤدّي إلى الذلّة ودناءة الهمّة ، وللواجد حالتان إمساك مذموم وإنفاق محمود ، ويترتّب على الإنفاق اقتصاد محمود وإسراف مذموم ، فهذه أمور تشابهة لابدّ أوّلاً من تمييز مذمومها عن محمودها حتّى يمكن تحصيل محمودها والتجنّب عن مذمها ، فيحصل النجاة من غوائلها وسمومها. قال بعض الأكابر : الدرهم عقرب ، فإن لم تحسن رقيته فلاتأخذه ، فإنه إن لدغك قتلك سمّه ، قيل : ما رقيته؟ قال : أخذه من محلّه (٢) ووضعه في حقّه.

وقد ورد في ذمّه من الآيات والأخبار ما لاتحصى.

قال الله تعالى : ( إنّما أموالكم وأولادكم فتنة ). (٣)

( المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربّك ). (٤)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكالكم ». (٥)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لكلّ أمّة عجل وعجل هذه الأمّة الدينار والدرهم ». (٦)

وغير ذلك ممّا لاتحصى.

وورد أيضاً في مدحه ما لا تحصى.

__________________

١ ـ عبارة أبي حامد هكذا : « وللحريص حالتان : طمع فيما في أيدي الناس أو تشمّر للحرف والصناعات مع الياس عن الخلق ، والطمع شرّ الحالتين » (المحجة البيضاء : ٦ / ٤٠).

٢ ـ كذا في النسخ ، والصحيح : « من حلّه » كما في المحجة : ٦ / ٤٣ ، قاله يحيى بن معاذ.

٣ ـ التغابن : ١٥.

٤ ـ الكهف : ٤٦.

٥ ـ الوسائل : كتاب الزكاة ، ب٦ من أبواب ، تجب فيه ، ح ٥.

٦ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٢٨.

٢١٣

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم المال الصالح للرجل الصالح ». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال ». (٢)

وقال رجل للصادق عليه‌السلام : « إنّا لنطلب الدنيا ونحبّ أن نؤتاها ، فقال عليه‌السلام : تحبّ أن تصنع بها ماذا؟ فقال : أعود بها على نفسي وعيالي وأصل بها وأتصدّق وأحجّ وأعتمر ، فقال : ليس هذا طلب الدنيا ، هذا طلب الآخرة ». (٣)

وقال الباقر عليه‌السلام : « ليس منّا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه ». (٤)

وقال عليه‌السلام في رجل قال : لأقعدنّ في بيتي ولأصلّينّ ولأصومنّ ولأعبدنّ ربّي فأما رزقي فسيأتيني : « هذا من أحد الثلاثة الذين لايستجاب لهم ». (٥)

وغيرها من الأخبار.

وطريق الجمع أنّك عرفت أنّ له فوائد كتحصيل السعادة بها (به ظ) ، فإنّ من جملة أسبابها الفضائل الخارجة التي لاتتحقّق بدونه ، ومفاسد كالمقاصد المانعة عن حصولها. فإذن هو محمود بالنظر إلى غاياته المحمودة ، ومذموم بالنظر إلى غاياته المذمومة ، وكيف يكون المال مذموماً مطلقاً مع إنّ به تحصل فضيلة الحرّية بالمعنى الأخصّ ، أعني تحصيل المال من المكاسب الطيّبة ، وبعدمه يحصل الافتقار إلى الناس فيما يحتاج إليه ، وحوالة رزقه عليهم إمّا بطريق محرّم كالغصب والنهب والسرقة وغيرها ، أو غير محرم كالأخذ من الصدقات التي هي أو ساخ الناس وهو معنى الرقية التي يقابلها ،

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٤٤.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٢٠٦ نقلاً عن الكافي : ٥ / ٧٨.

٣ ـ الكافي : ٥ / ٧٢ ، كتاب المعيشة ، باب الاستعانة بالدنيا على الآخرة ، ح ١٠.

٤ ـ المحجة البيضا :٧ / ٤١٨ ، عن الصادق عليه‌السلام.

٥ ـ الكافي : ٥ / ٧٧ ، كتاب المعيشة ، باب الحثّ على الطلب ، ح ١ عن الصادق عليه‌السلام ، وفيه : « هذا أحد الثلاثة ».

٢١٤

وهي مذمومة مطلقاً ، لكون أول فرديها محرّماً وأداء ثانيهما إلى الذلّ والمسكنة والتخضّع والعبودية للناس الممنوع شرعاً والمذموم عقلاً ، رفع الوثوق بالله ، والتوكّل عليه ، وترجيح المخلوق على الخالق المنافي لقوّة اليقين.

فظهر أنّه كحيّة فيها سمّ وترياق ، فلابدّ للعاقل من معرفة غوائله حتّى يحترز من شروره وآفاته والاطّلاع على فوائده حتى يستدرّ منّ محاسنه وخيراته. فغوائله الدنيوية من المخاوف والمتاعب والأحزان وتفرّق الخاطر في كسبه وحفظه ودفع كيد حسّاده وغير ذلك غنيّة عن البيان ، لأنّ أصحابه أعرف بها ، فلا حاجة لهم إلى بيانها ، ومن غوائله الدينيّة أداؤه إلى المعصية لكونه من أقوى أسبابها المحصّلة للقدرة عليها ، فإذا استشعر الانسان به انبعث داعيه إلى فعلها ، فإن فعل عصى وإن ترك وقع في مضيق الصبر على تركها ، بخلاف العجز ، ثم إلف صاحبه بسبب ثمرّنه على الشهوات والتنعّمات بها ، بحيث لايقدر على تركها ، فإذا لم يقدر على حلالها اقتحم في الشبهات ، ثمّ في المحرّمات لتنظيم الشهوات وما أقلّ من قويت نفسه مع القدرة عليها على تركها والاكتفاء بقدر الضرورة منها.

ثم في أمثال هذا الزمان لايمكن محافظة المال وتنميته الا بارتكاب أنواع المكر والحيلة والتحمّل لما يسخط الله تعالى طلباً لمرضاة أهل الدنيا باحتياجه إلى معاشرتهم ومعاملتهم. هذا.

والعمدة فيه اشتغاله بسبب الدنيوي في تنمية ماله عن إصلاح حاله ، كما قال عيسى بن مريم عليه‌السلام :

« في المال ثلاث آفات ، أن يأخذه من غير حلّه. فقيل : إن أخذه من حله؟ قال : يضعه في غير حقّه. فقيل : إن وضعه في حقّه؟ قال : يشغله إصلاحه عن الله تعالى ». (١)

فإنّ أودية الأفكار الدنيوية ممّا لا تنتهي إلى حدّ ».

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٤٩.

٢١٥

وأمّا قوائده الدنيوية فكالحظوظ العاجلة الحاصلة لصاحبه مضافاً إلى خلاصه عن ذلّ السؤال ، والعزّ والوقار عند الناس ، وكثرة الأصدقاء والأعوان ، وغير ذلك.

وأمّا فوائده الدينية فكالانفاق في الطاعة كالحج والجهاد والأكل واللبس والسكنى والنكاح للتقوّي عليها والصدقات الواجبة والمستحبّة والمروءات كالهدايا والضيافات وإقراض ذوي الحاجات واستجلاب فضيلة الجود والسخاء ووقاية العرض بدفع مثالب المغتابين والفحّاشين من السفهاء وهجاء الشعراء ومنع الظلمة والأعداء.

فقد ورد بكلّ منها أخبار لاتحصى ، مع شهادة الاعتبار بحسنها ، وكأجرة الاستخدام لتهيئة ما يحتاج إليه من الخياطة والنكس والغسل وطبخ الطعام وغيرها ممّا يحتاج إليه ، فإنّ المباشرة لها بنفسه يستوعب الأوقات ، فلايبقى له مجال لتحصيل ماهو المقصود بالذات من الذكر والفكر وسائر الطاعات وكالخيرات الباقية الجارية من بناء المسجد والقناطير والمدارس ونسخ المصاحف والأدعية والعلميّات.

إرشاد

فإذ قد ظهر لك محاسنه ومفاسده فينبغي لك التجنّب عن غوائله بمراعاة التفكّر والتأمّل في علّة الحاجة إليه والباعث على خلقته ، وما هو المقصود الأصلي منه ، فإنّك إذا عرفت أنّه خير مضاف وآلة وأنّ الافراط فيه مانع عن الوصول إلى ما هو المقصود بالأصالة ، لم تكتسب ولم تحفظ مايزيد عن حاجتك ولزمك الاجتناب عن الحرام والشهبة والسؤال الموجب للذلّ والمهانة ، ولم تنفقه الا على وجه الاقتصاد ، قال الله تعالى :

( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ). (١)

فلا تصرفه في غير حقّه ولايكون قصدك في تحصيل ماتحصّله وترك

__________________

١ ـ الفرقان : ٦٧.

٢١٦

ما تترك الا كونها آلة يستعان بها على حصول السعادة ، فيصير كلّ عمل صادر منك خالصاً لوجه الله تعالى وفرداً من أفراد العبادة.

ثمّ إنّ حبّ المال إن كان لغاية أعني اقتناء ما يتوقّف عليه من المشتهيات مع طول الأمل بحياته واقتنائه منها أو بحيياة أولاده ومنت ينتسب إليه حيث إنه لحبه لهم يقدّر بقاءهم فيجمعها لأجلهم ، كان علاجه بضدّ تلك الغاية ، أعني الصبر على تركها والقناعة وكثرة ذكر الموت الماحي لطول الأزمل ، والتأمّل في مفاسد شهوة البطن والفرج والأموال وغوائلها المشار إليها ، وفي حال أقرانه الذين سبقوه في الجمع والحرص والادّخار وانقطاعهم عنها بالموت وتلفها بتمتع الظلمة والحكام بعده منها أو أزواج البنات أو الزوجات ، وغير ذلك من الحاثات ، وصيرورة أولادهم بعدهم بيسير من الأوقات في أقصى الفقر والفاقة ومن جملة ذوي الحاجات.

وإن كان لذاته حيث إن له تعشّقاً به من حيث هو مال كما نرى كثيراً من المعمّرين أنّ لهم من المال ما يكفيهم لغاية ما يحتمل بقاؤهم إليها من المدّة ، بل يزيد عليه ، وليس لهم من الأولاد وغيرهم من يحتاطون لأجله ، ومع ذلك لايسمحون بالواجبات فضلاً عن المستحبّات والمرؤات ، فليس ذلك الا لكون الدرهم والدينار معشوقاً لهم يلتذّون برؤيتها ووجودها في أيديهم ، كان من الأمراض الصعبة سيّما للمعمّرين ، حيث صار بطول المدّة مزمناً وضعفت الطبيعة عن مقاومته ، فسلمت الأمر إليه وحاله حال من يعشق أولّاً بأحد ثم يحبّ رسوله ويعشقه فينسى معشوقة الأوّل الأصلي ، ويشتغل بالرسول ، فإنّ الأموال رسل الشهوات ، ولأجلها حبّبت إلى القلوب ، وهذا قد نسيها وعشق برسلها ، فهو في غاية الجهالة ونهاية الضلالة. ولما كان هذا القسم مستلزماً للبخل فعلاجه بعد التذكّر لمفاسد الأموال وغوائلها وما ورد في ذمّها بما سيذكر في البخل.

٢١٧

فصل

ثم الحرص من أقوى شعب حبّ الدنيا وهو ملكة مهلكة تبعث على جمع الزائد عن الحاجة من الأموال من دون وقوف على حدّ مخصوص.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يشيب ابن آدم ويشبّ فيه خصلتان الحرص وطول الأمل ». (١)

وقال الباقر عليه‌السلام : « (مثل) الحريص على الدنيا كمثل دودة القزّ كلما ازدادت على نفسها لفّاً أبعد لها عن الخروج حتّى تموت غمّاً ». (٢)

وعن الصادق عليه‌السلام فيما نزل به الوحي من السماء : « لو أنّ لابن آدم واديين يسيلان ذهباً وفضّة لبتغى لهما ثالثاً ، يابن آدم إنّما بطنك بحر من البحور ، وواد من الأودية لايملأه شيء الا التراب ». (٣)

وعلاجه التذكّر لما ورد في ذمّه من الأخبار وما فيه من الذلّ والمهانة ورقيّة الشهوة ، والتأمّل في أنّ ايثارها على غز النفس نقص في الإيمان والمعرفة ، ثم ما في جمعه من الآفات الدينية والدنيوية ، والاعتبار بالقرون الماضية والألم السالفة ، وأن القناعة من شيم عظماء الأمم من الأنبياء والأولياء والسلف الأتقياء الأبدال.

والحرص من خبائث طبائع الأداني والجهّال والأذال من الأعراب والأكراد وطوائف الكفّار من الرجال.

ويعرف أنّ المقصود من المال قضاء الضرورة وهو ممّا ضمنه الله تعالى على نفسه في مواضع كثيرة.

( فوربّ السماء والأرض إنّه لحقّ ). (٤)

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٢ / ١٠٠.

٢ ـ جامع السعادات : ٢ / ١٠٠ ، الكافي : ٢ / ٣١٦ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب حب الدنيا والحرص عليها ، ح ٧.

٣ ـ جامع السعادات : ٢ / ١٠٠.

٤ ـ الذاريات : ٢٣ ،

٢١٨

ولا خلف لو عده ، ولا مانع له عن فضله وجوده ، فإذا حصلت له المعرفة التأمة بذلك حصل له التوكل والاعتماد على الوهاب الجواد ، فليبادر بعده إلى العلاج العملي بالتوسط في أمر المعيشة والاقتصاد حتى لا يحتاج إلى المشقة الزائدة في تحصيله والاجتهاد ، ولذا ورد في مدح الاقتصاد أخبار كثيرة غنية عن الايراد ، وليكن نظره دائماً إلى من هو دونه ، دون من هو فوقه ، حتى يحصل له الرغبة في التشبه به.

قال أبوذر رضي‌الله‌عنه : « أوصاني خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن النظر إلى من هو دوني لا إلى من هو فوقي في الدنيا ». (١)

فصل

الطمع أيضاً من شعبه وهو التوقع لما في أيدي الناس من الأموال من غير استحقاق ولا عوض ، وهو من رذائل الحرص إذا انضم إليه البطالة الجهالة بحكمة الله وهو الرقية بالمعنى الأخص.

وقد أشرنا إليها سابقاً ، وذكرنا أنها من الرذائل المهلكات المؤدية إلى الاتيان بالمناهي والمحرمات في وجوه المعاشرات والمعاملات ، مضافاً إلى ما فيه من الذل والمهانة والعبادة لمن هو دونه أو مثله في الحاجة.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إياك والطمع ، فإنه الفقر الحاظر ». (٢)

وعن علي عليه‌السلام : « استغن عمن شئت تكن نظيره ، وارغب إلى من شئت تكن أسيره ، وأحسن إلى من شئت تكن أميره ». (٣)

وعنه عليه‌السلام : « المنية ولا الدنية والتقلل ولا التوسل ». (٤)

مع ما فيه من سلب التوكل والوثوق بالله تعالى والاعتماد على نظائره

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٦ / ٥٨ ، « أي في الدنيا » والتفسير من أبي حامد.

٢ ـ جامع السعادات : ٢ / ١٠٦.

٣ ـ جامع السعادات : ٢ / ١٠٦.

٤ ـ نهج البلاغة : الحكمة : ٣٩٦.

٢١٩

في الفقر والحاجة.

وعلاجه بالتذكّر لمفاسده وغيره ممّا ذكر في الحرص ، ثم النظر في حكمة المعاملات والمعاوضات ، فإنّ النظام يختلّ بإطلاق الخيرات مجّاناً والعطيات والانتهاء عن كلّ مكسب حتى في التحف والهديّات ، وتشويق النفس إلى اللذّات الفعلية حتى تعلو همّتها عن الانفعاليات ومخالطة الأحرار واستماع كلماتهم وما نقل عنهم من الحكايات.

وعن بعض الأكابر : أنّ الحرّ من لايتوكّل على الله.

ومعناه أنه لا يطلب ما لا يستحقّه فيحتاج إلى تفويض حصوله إلى الله ، بل يدري أنّ كلّ ما يليق به ويقتضيه [ استعداده موهوب له من حضرته ] (١).

فصل

البخل هو الامساك حيث ينبغي البذل وعكسه الاسراف ، وقد نهى الله ورسوله عنها ، فقال :

( ولا تجلع يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كلّ البسط فتقعد ملوماً محسوراً ). (٢)

وقال : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ). (٣)

والأولّ من نتائج حبّ المال ، ومن رذائل القوّة الشهويّة من طرف الافراط ، ويترتّب عليه مفاسد دينية ودنيوية يشهد بها الوجدان ، ويؤدّي إلى الحرمان عن صنوف السعادات من وجوه الخيرات والقربات وقسوة القلب وزوال المرؤّات بحيث يسري إلى الغير ممّن ينظر إليه ويتسلّط الناس بسبه على عرضه وماله وغير ذلك من الآفات ، وكفاه ذمّاً استعاذة الأئمّة عليهم‌السلام عنه

__________________

١ ـ ساقط من « ج ».

٢ ـ الاسراء : ٢٩.

٣ ـ الفرقان : ٦٧.

٢٢٠