كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

وأوحى الله إلى موسى عليه‌السلام : « أنّ من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنّة ، ومن مات مصرّاً عليها فهو أوّل من يدخل النار ». (١)

وقال الصادق عليه‌السلام : « من اغتاب أخاه المؤمن من غير ترة بينهما فهو شرك شيطان » (٢) و « إنّ الغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ». (٣)

إلى غير ذلك.

فما أقبح حال من أغفله الشيطان عن عيوب نفسه وأشغله بعيوب الناس ، وما أحسن حال من أشغله عيوب نفسه عنها ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) ، فاللازم على العاقل المؤمن بالله وما جاءت به رسله إذا ابتلي بهذه الخصلة الذميمة السعي في قلعها وقمعها بالتذكّر لمفاسدها الأخرويّة ، والمواظبة على ملاحظة التشديدات الواردة فيها والدنيوية من صيرورتها سبباً للعداوة أو ازديادها غالباً ، فربما انجرّ إلى ما لايمكن تداركه من الفواحش كالقتل والضرب ونحوهما.

وبالجملة : فليتفكّر بعد ذلك في أنّ العيب إن كان خلقيّاً فذمّه عليه في الحقيقة ذمّ لصنع الخالق ، وليس اختيارياً له حتّى يثبت له وإن كان اختيارياً فإنّ عيوب نفسه ليست بأقلّ وأهون منه ، ولو زعم أن لاعيب له كان ذلك من أعظم العيوب ، مضافاً إلى ما ارتكبه من الغيبة ، وأنّ تألّم الغير من غيبته كتألّمه من غيبة الغير له فإن رضي بذا فليرض بذا فليرض بذلك ، فيدعوه التذكّر والتفكّر المذكوران إلى العزم على الترك ، إن شاء الله تعالى.

والعمدة في تسهيله على النفس الاطلاع على أسبابها حتّى يمكن له الاحتراز عنها بالاحتراز عنها كما أشير إليه مراراً ، وهي لا تخلو من أحد أشياء.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٥٢.

٢ ـ البحار : ٧٣ / ٣٥٦ ، مساوى الأخلاق ، الباب ١٣٧ ، ح ٦٦ ، وكان ذيل الحديث في النسخ هكذا : « من غير تنزه منهما فهو شريك الشيطان » وصحّحناه.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٥٥.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٦٤.

٣٨١

تشفّي الغيظ بسكون هيجان الغضب بذكر المساوي طبعاً ، وقد لايتشفّى به لكمونه واستقراره في الباطن حتّى صار حقداً ثابتاً فيدعو إلى ذكر المساوي دائماً ، فهما من أعظم دواعيها.

أو موافقة الأقران ومجاملة الأصحاب خوفاً من تنفّرهم عنه لو خالفهم فيساعدهم ظنّاً منه أنّه من حسن العشرة والمجاملة في الصحبة.

أو توهّم سبقه عليه في الخوض في عيوبه وتقبيح حاله عند الناس أو شهادته عليه بسوء فيسبقه في ذلك يستشهد لأكاذيبه التالية به والتلبيس بتعرّضها في معرض الصدق أو دفع ما ينكر عليه من القبائح الصادرة عنه عن نفسها بإثباتها لغيره حتّى يسكتوا عنه.

وقد يكون غرضه الاعتذار في سلب القبح عن نفسه بعدم تفرّده فيه ووجود شريك له في ذلك ، هذا مع تسليمه القبح ، فلو اعتقد عدمه واستشهد بفعل من يرى فعله حجّة ، فلعلّه ليس بغيبة.

أو الافتخار وتزكية النفس نحو فلان ليس من شأنه فهم هذه المطالب وتعليمها ، بل هو محض ادّعاء منه إشعاراً بتفرّده فيها.

وربّما ذكره توقّعاً لمثل ما يفعله الناس بالمغتاب من الإكرام أو نحوه ، أو الحسد بما يراه منه من نعمة المال أو الجاه أو غيرهما ، فيتوقّع زوالها عنه بذكر معايبه فيسقط ماء وجهه عند الناس فلا حاجة إلى سابقة كلفة بينهما بل ربّما صار مع الصديق أو القريب الموافق.

أو اللعب والهزل وتضحيك الناس بالمحاكاة وأنواع التعجّبات أو الاستهزاء تحقيراً له وتكّبراً عليه ، فإنه يجري في الغيبة كما يجري في الحضور.

وربما نشأت من التعجّب أو الإنكار الناشئين من الدين مع الصدق في ذلك الا أنّ الشيطان غرّه بالتعيين بذكر اسمه فلم يتفطّن بإمكانه بدونه ومنه

٣٨٢

ما شاع بين الناس من قولهم عجباً من فلان مع فضله وذكائه كيف يقرأ عند فلان مع أنّه لايفهم شيئاً ، أو العجب منه مع حسن سليقته واستقامة طبعه كيف يحبّ هذه الجارية او المرأة المكروهة وأمثال ذلك.

وقد تنشأ من الترحّم والاغتمام الصادقين ممّا ابتلي به فينسيه ذلك لم ينفع إلا بالتفضيح جاز ، وربما كان له عذر في فعله بحيث لم يطلع عليه فلا وجه لغيبته أولاً.

وقد تكون غضباً لله تعالى مع أنّ الواجب أوّلاً نصحه ومنعه سرّاً ، فإن لم ينفع إلا بالتفضيح جاز ، وربما كان له عذر في فعله بحيث لم يطّلع عليه فلا وجه لغيبته أوّلاً.

كما روي أنّ رجلاً مرّ على قوم فسلّم عليهم فردّوا عليه فلمّا جاوزهم قال واحد منهم : إنّي ابغضه لله تعالى ، فأنكر أصحابه عليه فبثوا إلى الرجل من يخبره بذلك ، فاشتكى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فدعاه فسأله فصدّقه ، فقال : لم تبغضه؟ فقال : إنّي جاره وأنا به خبير ، والله مارأيته يصلّي صلاة الا هذه المكتوبة ، فقال : يا رسول الله! فاسأله هل رآني أخرّتها عن وقتها أو أسأت الوضوء لها والركوع والسجود؟ فسأله فقال : لا ، فقال : والله ما رأيته يصوم شهراً قطّ الا هذا الشهر الذي يصومه كلّ برّ وفاجر ، قال : فاسأله يارسول الله هل رآني أفطرت فيه أو نقصت من حقّه شيئاً؟ فسأله فقال : لا قال : والله مارأيته يعطي سائلاً قطّ ولا مسكيناً ولا رأيته ينفق من ماله شيئاً في سبيل الخير الا هذه الزكاة التي يؤدّيها البرّ والفاجر ، قال : فاسأله هل رآني نقصت منه شيئاً أو ماكست طالبها الذي يسألها؟ فسأله فقال : لا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للرجل : قم فلعلّه خير منك. (١)

فإذا علم أنّ دواعيها لا تخلو مما ذكر تفحّص عن نفسه أنّ داعيه من أيّها فإن كان الغضب عالجه بما ذكرناه فيه ، وكذا الحقد والحسد.

وأمّا الموافقة فبأن يعلم أنّ من طلب سخط الله تعالى في رضى

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤ مع اختلاف.

٣٨٣

المخلوقين كان حقّاً على الله أن يسخط الخلق عليه كما جرّبناه مراراً ، وكيف يرضى عاقل بتوقير مثله العاجز عن إحسانه وإساءته وتحقير مولاه المنعم المحسن إليه القادر على الانتقام عنه وممّن يوفقهم في معصيته ، بل اللازم الغضب عليهم لله سبحانه لعصيانهم له بأفحش الذنوب.

وأمّا التنزيه فمرجعه إلى سابقه في الحقيقة لأنّه دفع لمقت الخلق شكّاً أو وهماً بما يسخط الربّ يقيناً وهو من غاية الجهل والحماقة ، وأشدّ منه الاعتذار بحصول شريك له فيه ، إذ لايجوز الاقتداء بالغير في المعاصي والقبائح ، فلو سقط أحد من الجدار بجهله فأسقطت نفسك مع التمكّن عن الشرع ، بل ضحكت بنفسك ممّن يعتذر بمثله تعجّباً من نقصان عقله ، فكيف وقد أضفت إلى حماقتك الفاضحة عصياناً مجدّداً.

وأمّا تزكية النفس والافتخار فبأنّ فضيلتك سقطت بهما عن الاعتبار عند الله سبحانه يقيناً وغير معلوم ثبوتها عند الخلق بذلك ، بل المظنون سقوط منزلتك عندهم أيضاً بمدح نفسك وذمّ غيرك فهو بيع لما عند الله يقيناً بما عند المخلوقين وهماً ، ولو فرض ثبوت اعتقادهم فيك لم يغنوا عنك من الله شيئاً ولم ينفعوك أصلاً.

وأمّا الاستهزاء فما أقبح حال من غفل عن خصارته في حسناته وخزيه وهوانه بحمله سيّئات من يستهزي به مساقاً (١) إلى جهنّم وما أجهله بعاقبة حاله ولو عرفها كان أولى بالضحك من نفسه والاستهزاء بها.

وأمّا التعجّب فهو أحرى بالتعجّب وهتك الستر فيتعجّب منه ، كما هتك ستر الغير بحيث تعجّب منه.

وأمّا الرحمة فهو حسن الا أنّ إبليس حسده فغرّه فإنّ تنطّقه بما ينقل

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر : مسوقاً أي يحمل سيئات من يستهزىء به ويساق إلي جهنّم.

٣٨٤

حسناته إليه أشدّ ممّا يتوقّع به من ترحّمه عليه.

وبالجملة فعمدة ما ينفع المرء في هذه الأبواب المعرفة لأبواب الإيمان واليقين بها.

تنبيه

قد تجوز الغيبة لأغراض مشروعة كالتظلّم عند من له رتبة الحكم وإحقاق الحقّ ، فيجوز لاستيفاء حقّه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه » (١) ولم ينكرعلى هند حين اشتكت عن أبي سفيان بأنّه شحيح لايعطيني ما يكفيني وولدي أفآخذ من غير علمه؟ بل قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خذي مايكفيك وولدك بالمعروف ». (٢)

والاستعانة على رفع المنكر وردّ العاصي إلى الصلاح إذا لم يمكن بدونه ، ونصح المستشير في التزويج والإيداع ونحوهما.

وكذا جرح الشاهد والقاضي والمفتي إذا سئل عنهم فله ذكر ما يعرفه من عدم العدالة والأهلية مع صحّة القصد بإرادة الهداية وتوقية المسلمين من الضرر أو سراية الفسق والبدعة دون الحسد والتلبيس ، وردّ من ادّعى نسباً ليس له ، والقدح في مقالة أو دعوى باطلة في الدين ، والشهادة على فاعل المحرّم حسبة وضرورة التعريف وتجاهره بالفسق مع عدم التعدّي عنه.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له ». (٣)

تذنيب

كفّارتها بعد التوبة والندم للخروج عن الحقّ الإلهي الاستحلال من المغتاب بالتأسّف والاعتذار والمبالغة في المدح والتودّد إليه والثناء عليه حتّى

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٧٠ ، وفيه : « عرضه وعقوبته ».

٢ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٧١.

٣ ـ مستدرك الوسائل : ٩ / ١٢٩ ، الباب ١٣٤ من أبواب أحكام العشرة ، ح ٣.

٣٨٥

يطيب قلبه ويحلّه ، فإن لم يقبل كانت لا أقل حسنة تقابلها ، فإن لم يتمكّن لموته أو غيبته أكثر من الدعاء والاستغفار حتى يقابلها.

وكذا لو تمكّن وكان في إخباره مظنّة فتنة أو عداوة ، وعليه يحمل قوله : « وكفّارة من اغتبته أن تستغفر له ». (١)

تتمّة

قد ظهر لك الفرق بين الغيبة والبهتان ، فإن كان في غيبته كان كذباً وغيبة ، وإن كان بحضوره كان كذباً وأذيّة وإثمه أشدّ من الغيبة ، قال الله تعالى :

( ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثمّ يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً ). (٢)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيه مما ليس فيه أقامه الله عزّوجلّ على تل من النار حتى يخرج ممّا قال فيه ». (٣)

فصل

ومنها : قطيعة الرحم أي أيذاء ذواللحمة لمروفين بالنسب وإن بعدت النسبة وجازت المناكحة ، قولاً وفعلاً أو منعاً عمّا يحتاجون إليه من الملبس والمطعم والمسكن مع القدرة عليه والتكاهل عن دفع الأذيّات عنهم مع الإمكان أو التباعد والهجران حقداً وحسداً ، وهي من أعظم المهلكات.

قال تعالى : ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ... ). (٤)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أبغض الأعمال إلى الشرك ، ثم قطيعة الرحم ، ثم

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٥ / ٢٧٣.

٢ ـ النساء : ١١٢.

٣ ـ جامع الأخبار : ١٧٣.

٤ ـ الرعد : ٢٧.

٣٨٦

الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ». (١)

وقال علي عليه‌السلام : « أعوذ بالله من الذنوب التي تعجّل الفناء ، فسئل عنها ، فقال : قطيعة الرحم ، إنّ أهل البيت ليجتمعون ويتواسون وهم فجرة فيرزقهم الله عزّوجلّ ، وإنّ أهل البيت ليتفرّقون ويقطع بعضهم بعضاً فيحرمهم الله وهم أتقياء ». (٢)

وفي أخبار كثيرة أنّ الرحم معلقة بالعرش تقول : « اللّهمّ صل من وصلني واقطع من قطعني ». (٣)

وهو تمثيل للمعقول بالمحسوس ، وإثبات للرّحم على أبلغ وجه ، وتعلّقها بالعرش كناية عن مطالبة حقّها بمشهد من الله.

وقد ورد في كثير من الأخبار وساعدته التجربة والاعتبار أن صلة الرحم تبعث على طول العمر وقطيعته على نقصه.

وأشدّ أنواعها عقوق الوالدين ، لأنّ أخصّ الأرحام وأمسّها الولادة ، فدلّ على ذمّه مادلّ على ذمّ مطلق القطيعة مضافاً إلى خصوص ماورد فيه ، وقد أردف الله تعالى توحيده بإطاعة الوالدين ، كما أردف الشرك بالعقوق في عدّة مواضع.

وفي بعض الأخبار القدسيّة : « وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني لو أنّ العاقّ لوالديه يعمل بأعمال الأنبياء جميعاً لم أقبلها منه ». (٤)

وروي أنّ أوّل مكتوب في اللوح المحفوظ : « إنّي أنا الله لا إله الا أنا ، من رضي عنه والده فأنا عنه راض ، ومن سخط عليه والده فأنا عليه

__________________

١ ـ راجع الكافي : ٢ / ٢٩٠ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب أصول الكفر وأركانه ، ح ٤ ، والمصنف نقله بالمعنى.

٢ ـ الكافي : ٢ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب قطيعة الرحم ، ح ٧ مع تلخيص.

٣ ـ الكافي : ٢ / ١٥١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب صلة الرحم ، ح ٧.

٤ ـ جامع السعادات : ٢ / ٢٦٣.

٣٨٧

ساخط ». (١)

ودلّت التجربة والاعتبار على أنه لايردّ دعاء الوالد في حقّ ولده ، وإن لم ترض عنه أمّه يشتدّ عليه سكرات الموت وعذاب القبر.

وفي الإسرائيليات : أوحى الله إلى موسى : « اي من برّ والدية وعقني كتبته برّاً ، ومن برّني وعقّ والديه كتبته عاقاً ». (٢)

فليس للولد أن يرتكب مباحاً ولا مستحباً الا بإذنهما حتّى إنّ طلب العلم والمسافرة له بغير إذنهما غير جائز الا مع كونه واجباً عينيّاً عليه ، وسنذكر ما يزيده تأكيداً في المقام الثاني.

تذنيب

حقّ الجوار قريب من حقّ الرحم ، فإنّ له حقاً وراء حقّ المسلم على أخيه المسلم.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الجيران ثلاثة : جار له حقّ واحد ، وهو الجار المشرك له حقّ الجوار ، وجار له حقّان ؛ حقّ الجوار وحقّ الاسلام وهو الجار المسلم ، وجار له ثلاثة حقوق ؛ حقّ الجوار وحقّ الاسلام وحقّ الرحم ، وهو الجار المسلم ذوالرحم ». (٣)

وقيل : إنّ فلانة تصوم النهار وتقوم الليل الا أنّها تؤذي جيرانها ، فقال : صلى‌الله‌عليه‌وآله : « هي في النار ». (٤)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع ». (٥)

وروي أنّ الجار الفقير يتعلّق بالجار الغني يوم القيامة ويقول : « سل

__________________

١ ـ جامع السعادات : ٢ / ٢٦٣ ، وفيه : « والداه » في الموضعين.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٣٥.

٣ ـ راجع المحجة البيضاء : ٣ / ٤٢٢ ، المصنف نقله المعنى.

٤ ـ المحجة البيضاء : ٣٣ / ٤٢٣.

٥ ـ الكافي : ٨ / ٦٦ ، كتاب العشرة ، باب حق الجوار ، ح ١٤.

٣٨٨

ياربّ هذا لم منعني معروفه وسدّ بابه دوني؟ » (١)

ومعرفته موكولة إلى العرف ، وفي بعض الأخبار التحديد بالأربعين من أربع (أربعة ظ) جوانب. (٢)

ولا ينحصر حقّه في كفّ الأذى ، فإنّه حقّ كلّ أحد ، بل لابدّ من الرفق وإسداء الخير وتشريكه فيما يملكه ويحتاج هو إليه من لمطاعم وعيادته في المرض وتعزيته في مصيبته وتهنئته في مسرّته والصفح عن زلّته وستر عورته وغضّ البصر عن حرمته والتوجّه لعياله في غيبته وإرشاد إلى مصلحته وتشييع جنازته وأن لايضايقه فيما يلتمس منه إذا أمكنه ولم يضرّه مطلقاً ولا يطيل البناء عليه فيشرف على بيته أو يحجب الهواء عنه الا بإذنه ، وغير ذلك مما ورد في الأخبار ، والمعيار الكلي رضاؤهم عنك ، فإن قالوا : أحسنت كنت محسناً وإن قالوا : أسأت كنت مسيئاً ، كما في النبوي (٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فصل

ومنها : التكاهل عن أمور المسلمين والتكاسل عنها كسلاً أو بخلاً أو غيرهما.

وعن الصادق عليه‌السلام : « أيّما رجل من شيعتنا أتاه رجل من إخوانه فاستعان به في حاجته فلم يعنه وهو يقدر ابتلاه الله بأن يقضي حوائج غيره من أعدائنا يعذّبه الله عليها يوم القيامة ». (٤)

وقال عليه‌السلام : « أيّما مؤمن منع مؤمناً شيئاً ممّا يحتاج إليه وهو قادر عليه من عنده أو من عند غيره أقامه الله يوم أقامه الله يوم القيامة مسودّاً وجهه مزرقة عيناه مغلولة يداه إلى عنقه ، فيقال : هذا الذي خان الله ورسوله ، ثم يؤمر به إلى

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٢٤.

٢ ـ الكافي : ٢ / ٦٦٩ ، كتاب العشرة ، باب حدّ الجوار ، ح ٢.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٢٥.

٤ ـ الكافي : ٢ / ٣٦٦ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من استعان به اخوه ، ح ٢ ، مع اخلاف.

٣٨٩

النار ». (١)

وقال عليه‌السلام : « من أتاه أخوه في حاجة يقدر على قضائها فلم يقضها له سلّط الله عليه شجاعاً ينهش إبهامه في قبره إلى يوم القيامة مغفوراً له أو معذّباً ». (٢)

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم ». (٣)

وسنذكر ما يزيده تأكيداً في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.

وعلاج هذه الرذائل كما عرفت مركّب من علم وعمل ، بأن يتذكّر أوّلاً مادلّ على ذمّها ممّا ذكر ولم يذكر ومدح أضدادها مما سيذكر إن شاء الله تعالى ، ثم يتفكّر في بواعثها من الحقد والحسد والبخل وضعف النفس وأمثالها ، وبعد ما تعيّن الباعث توجّه نحو قلعه وقمعه ، حيث يستلزم زواله زواله ، ثم يكلّف نفسه على فعل أضدادها ولو قهراً إلى أن يعتاد فتصير له ملكات راسخة.

فصل

ومنها : المداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأشدّ منه الأمر بالمنكر والنهي عن العروف ، والغالب حوث الأول من ضعف النفس وصغرها ، وربما كان باعثه وهو الغالب في الثاني الطمع ممّن يسامح به أو يؤثر بضدّ الواجب إذا علم شوقه إليه ، أو الغضب والحسد والحقد على شخص خاص فيسامح في ردع من يغتابه أو يؤذيه مع تمكّنه منه أو بحثّه عليه وهي من المفاسد العامة البلوى الساري أثرها وضرّها إلى جلّ البرايا ، ولذا ترى الشرائع مضمحلّة والنبوّة متعطّلة وأحكام الدين ضائعة ، والضلالة شائعة والجهالة ذائعة ، ورسوم الهداية مندرسة ، وآثار الشرع منطمسة ،

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٣٦٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب من منع مؤمناً شيئاً ، ح ١.

٢ ـ الكافي : ٢ / ١٩٤ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب قضاء حاجة المؤمن ، ح ٥.

٣ ـ الكافي : ٢ / ١٦٤ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الاهتمام بامور المسلمين ، ح ٤ عن الصادق عليه‌السلام.

٣٩٠

ولأجله خربت البلاد وشاع الفسق والفجور بين العباد ، والمنشأ في الحقيقة لفساد حال الرعية فساد حال السلاطين ، والباعث له فساد حال العلماء المتردّدي إليهم وخبث طينتهم والطمع في حطامهم ، وإن سمعك أنّ في بعض الأزمنة السالفة نهض بعض الأمراء والحكّام بإقامة هذه السنّة في الرعية وردعهم عما شاع بينهم منهم المنكرات التي هي رأس كل رزيّة وبلية أو بعض العلماء الذين حصل لهم بسط يد في بعض الأيام ولم تك تأخذهم في الله لومة لائم من الأنام فقد سمعت أيضاً أنّه صار سبباً لانحرافهم عن السيّئات وميلهم إلى الخيرات والطاعات ، وانفتحت عليهم بسببه أبواب البركات من الأرضين والسماوات ، وأمّا في هذه الأيام وما شابهها من الأوقات فقد استرسلوا لتركها والمداهنة فيها في أودية الشهوات وخاضوا بسببه في لجج الهوى ، فانمحت أعلام الهدى وانسدّت أبواب التقى واندرس علمه وعمله ول يبق بينهم اسمه ولا رسمه فهم في بيداء الضلالة حيارى وفي أيدي الأبالسة أسارى.

وما ورد في ذمّ ذلك من الآيات والأخبار لاتكاد تحصى.

قال الله تعالى : ( لولا ينهاهم الربّانيّون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون ). (١)

وقيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتهلك بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم ». (٢)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليسلطنّ الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم ». (٣)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الله لايعذّب الخاصة بذنوب العامة حتّى يظهر المنكر بين

__________________

١ ـ المائدة : ٦٣.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ١٠٢ ، وفيه : « بشهادتهم وسكوتهم عن معاصى الله عزوجل ».

٣ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ٩٩ ، وفي : « ولتنهونّ » وهو الصحيح.

٣٩١

أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروا فلا ينكرونه ». (١)

وقال : « من ترك إنكار المنكر بقبله ويده ولسانه فهو ميّت بين الأحياء ». (٢)

وقال الباقر عليه‌السلام : « أوحى الله إلى شعيب النبي أنّي معذّب من قومك مائة ألف ، أربعين ألفاً من شرارهم وستّين ألفاً من خيارهم ، فقال : ياربّ هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟! فأوحى الله إليه : داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي ». (٣)

وفي الأخبار النبوية : « أنّ أمتّي إذا تهاونوا ف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بحرب من الله ورسوله ». (٤)

وورد في الأخبار المنع من حضور مجالس المنكر ، فإنّ اللعنة تعمّ من فيها.

ولذا اختار جمع من السلف العزلة حذراً عن مشاهدة المنكرات مع عجزهم عن تغييرها ، وإذا كانت المداهنة في ذلك بهذه المثابة فما حال الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبانكم فلم يؤمروا بعروف ولم ينهوا عن منكر ، فقيل : ويكون ذلك؟ قال : نعم ، وشرّ من ذلك ، قيل : وكيف ذاك يارسول الله؟ قال : كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ، فقيل : ويكون ذلك؟ قال : نعم وشرّ منه ، [ قيل : كيف ذاك يارسول الله؟ قال : ] (٥) كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ١٠٠.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٤ / ١٠٥ ، عن أميرالمؤمنين عليه‌السلام.

٣ ـ الكافي : ٥ / ٥٦ ، كتاب الجهاد ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ح ١.

٤ ـ راجع الكافي : ٥ / ٥٩ ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ح ١٣.

٥ ـ في « ج » فقط.

٣٩٢

والمنكر معروفاً ، وعند ذلك يبتلى الناس بفتنة يصير الحليم فيها حيران ». (١)

ومن تتبّع السير والتواريخ والأخبار المشتملة على حكايات الأمم الماضية علم أنّ العقوبات العظيمة الأخروية والدنيوية السماوية والأرضية من القحط والغلاء والطاعون والوباء وحبس المياه والأمطار وتسلّط الظلمة والأشرار بالقتل والنهب والأسر وحدوث الصواعق والزلازل إنّما نزلت عليهم لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكيف يؤاخذ الله غير العاصي بالعاصي ، وسيجيء مزيد تحقيق لهذا الأصل وساير الأصول الماضية في المقام الثاني إن شاء الله تعالى.

ختام

الهجرة والاعتزال عن الناس ليس بمذموم مطلقاً ، بل من كلام الأخلاق كما عرفت ، وأمّا الاعتزال عن شخص معيّن للحقد أو الحسد أو الغضب فهي من رذائل الملكات ، وما دلّ على ذمّه كثير.

فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيّما مسلمين تهاجرا فمكثا ثلاثاً لايصطلحان الا كانا خارجين عن الإسلام ولم يكن بينهما ولاية ... ». (٢)

وقال : « لايحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ... ». (٣)

وقال الصادق عليه‌السلام : « لايفترق رجلان عن الهجران الا استوجب أحدهما البراءة واللعنة ، وربما استوجبه كلاهما الحديث ... ». (٤)

وبالجملة : فالأخبار كثيرة فلابدّ من التأمّل فيها والتذكّر لما ورد في ضدّها من الثواب حتّى يحافظ نفسه عن هذه الخلة الذميمة ، ولو حصلت له فليكلّف نفسه بالمبادرة على المسالمة والتألّف حتّى يغلب على الشيطان ويفوز بما يرجوه من الأجر الجزيل والثناء الجميل ، والله الموفّق.

__________________

١ ـ راجع الكافي : ٥٩ ، والمحجة البيضاء : ٤ / ١٠٠ ، والظاهر أنّ المصنّف ركّب بينهما.

٢ ـ الكافي : ٢ / ٣٤٥ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الهجرة ، ح ١.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣٦٢.

٤ ـ الكافي : ٢ / ٣٤٤ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الهجرة ، ح ١.

٣٩٣

المقصد الثاني

في أنواع الظلم التي حاصلها ترك العبد مايجب عليه مراعاته فيما بينه وبين الله تعالى لكونه ظلماً على نفسه وتعدّياً عن الوسط اللازم مراعاته في تحقّق معنى العدالة.

فمن جملتها العصيان مطلقاً ، وهو جنس لما ذكر ، وسيذكر إن شاء الله تعالى من المعاصي الظاهرة والباطنة ، وضدّه التقوى والورع ، وقد أشير إليهما فيما سبق.

فصل

ومنها : الأصرار على العصيان ، وهو من نتائج الأمن من مكر الله وعدم الحبّ له ، وكلّ ما يدلّ على ذمّ مطلق المعاصي أو خصوص أفرادها يدلّ على ذمّه بطريق أولى ، وقد أشير فيما سبق إلى بعض ماورد في ذمّ أفرادها المشار إليها.

ومن جملة ما دلّ على ذمّ مطلقة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها الا وملكان يتجاوبان (١) بأربعة أصوات ، فيقول أحدهما : ياليت هذا الخلق لم يخلقوا ، فيقول الآخر : ياليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا ، فيقول الآخر : ياليتهم إذا يعلموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا ، فيقول الآخر : ياليتهم إذا لم يعملوا بما علموا تابوا ممّا عملوا ». (٢)

وقال أميرالمؤمنين عليه‌السلام : « لاتبدّين عن واضحة وقد عملت الأعمال الفاضحة ، ولاتأمنّن البيات وقد عملت السيّئات ». (٣)

وقال الباقر عليه‌السلام : « ما من شيء أفسد للقلب من الخطيئة ، إنّ القلب ليواقع الخطيئة فما تزال به حتّى تغلب عليه حتّى يصير أعلاه أسفله ». (٤)

__________________

١ ـ كما في المصدر ، وفي « الف » و « ب » : يتجاذبان ، وفي « ج » : يتحادثان.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٩٣.

٣ ـ الكافي : ٢ / ٢٧٣ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ، ح ٢١.

٤ ـ الكافي : ٢ / ٢٦٨ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ، ح ١.

٣٩٤

وقال عليه‌السلام : « إنّ العبد ليذنب فيزوى عنه الرزق ». (١)

وقال الصادق عليه‌السلام : « يقول الله : إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي أن احرمه عن لذيذ مناجاتي ». (٢)

وقال عليه‌السلام : « من همّ بسيّئة فلا يعملهما فإنّه ربما عمل العبد السيئة فرآه الرّب منه فيقول : وعزّتي وجلالي لا أغفر لك بعد ذلك أبداً ». (٣)

وقال عليه‌السلام : « أما إنّه ليس من عرق يضرب ولا صداع ولا مرض الا بذنب ، وذلك قوله تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) (٤) قال : وما يعفو الله أكثر ممّا يؤاخذ به ». (٥)

والأخبار لاتحصى ولا تظنّ أنّ أثر الذنوب لايصل إلى كثير من الناس ظاهراً ، فإنّه من المحالات ، فإذا لم يتجاوز عن الأنبياء مع تركهم الأولى حتّى أخرج بسببه من الجنّة أبونا ، وتطايرت عورته ، ونودي من فوق العرش : أن اهبط عن جواري ، فإنّه لايجاورني من عصاني ، ولم يقبل منه توبته الا بعد أن بكى مائتي سنة ، فإذا كنت مؤاخذته مع أصفيائه في المناهي التنزيهية على ما ذكر فما ظنّك بمن صرف عمره في كبائر المعاصي الموفورة والذنوب الغير المحصورة ، فلتطمئنّ خواطرك بأنّ من سعادة المرء تعجيل عقوبته في دار الدنيا وعدم تأخيره إلى الآخرة ، وإنّما أمهل المصرّون لكي يزدادوا إثماً ويستحقّوا من الله بعداً وهواناً وخزياً وخسراناً ، ولو لم يكن الا الحرمان بسببها عن نيل السعادات الحقيقية واستنارة القلوب بأنوار المعارف الإلهية والوصول إلى

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٢٧٠ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ، ح ٨.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٩٦ من دون نسبته إلى الصادق عليه‌السلام ، نعم في جامع السعادات (٣ / ٤٨) نسبه إليه عليه‌السلام.

٣ ـ الكافي : ٢ / ٢٧٢ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ، ح ١٧.

٤ ـ الشورى : ٣٠.

٥ ـ الكافي : ٢ / ٢٦٩ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الذنوب ، ح ٣.

٣٩٥

درجات المقرّبين إلى الحضرة الربوبية لكفاه خزياً ووبالاً وخيبة ونكالاً.

واعلم أنّ مثارات الذنوب تنحصر في أربع :

الصفات الربوبية والشيطانية والبهيمية والسبعية ، لأنّ طينة الانسان معجونة من أخلاط مختلفة الآثار.

فممّا يقتضيه الاولى : الكبر والفجر وحبّ الجاه والمدح والذمّ والعجب ، ويتشعّب منه أشياء آخر هي من أمّهات المعاصي أشرنا إليها فيما سبق.

والثانية : كالحسد والبغي والمكر والحيلة والحيلة والإفساد والغشّ والنفاق والدعوة إلى البدع.

والثالثة : كالشره المتفرّع عليه الزنا والسرقة وأكل مال الأيتام ونحوها.

والرابعة : كالغضب والحقد والتهجّم على الناس بالضرب والشتم والقتل ونحوها.

فالذنوب كلّها منفجرة من هذه المنابع على الجوارح ، فبعضها في القلب خاصّة كالكفر والبدعة والنفاق ، وبعضها على السمع والعين. وبعضها على اللسان. وبعضها على البطن والفرج واليدين والرجلين. وبعضها على جميع البدن.

ثم إنّها تنقسم إلى مابين العبد وبين الله ، وما يتعلّق بحقوق العباد ، والثاني أغلظ.

وأمّا الأوّل ففيما سوى الشرك والبدعة يكون العفو أرجى وأقرب.

ففي الخبر : « أنّ الدواوين ثلاثة : ديوان يغفر ، وديوان لايغفر ، وديوان لايترك ».

فالذي يغفر ما بين العبد وبين الله ، والذي لايغفر الشرك ، والذي لايترك مظالم العباد » (١) ، أي لابدّ من المطالبة واستيفاء الحقّ.

واعلم أنّ صاحب الشرع قسم المعاصي إلى صغيرة وكبيرة ، وحكم بأنّ

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٢٩.

٣٩٦

اجتناب الكبائر يكفّر عن الصغائر ، وكذلك الصلوات الخمس.

قال الله تعالى : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم وندخدكم مدخلاً كريماً ). (١)

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أنّ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة تكفّر ما بينهنّ إن اجتنب الكبائر » (٢) قيل : معنى الأولى أنّ من تمكن من الكبيرة كالجماع مثلاً وجاهد نفسه في تركه واكتفى بالصغيرة كالنظر مثلاً كان كفّه عن اجتناب الكبائر أشدّ تأثيراً في تنوير قلبه وتقرّبه إلى الله بسببه من تأثير الصغائر في إظلامه ، والا فإنّ اجتنابها عن عجز أو خوف أو فقد شهوة لايكفّر عن الصغائر. (٣)

ثم الكبيرة من مجملات الألفاظ ، إذ لا موضوع لها معيّناً لغة وعرفاً وشرعاً ، فإنّ الصغر والكبر إضافيان ، فما من ذنب الا وهو كبير بالنظر إلى مادونه وصغير بالنظر إلى مافوقه ، ولذا اختلفت الأقوال والأخبار في عددها اختلافاً فاحشاً لايرجى زواله.

قال بعض المحقّقين (٤) ما ملخّصة :

إنّا بعد ما تأمّلنا في أنّ الكبيرة ليست مكفّرة بالصلوات الخمس شاهدنا بنور البصيرة والاعتبار أن المعاصي تنقسم إلى مانعلم قطعاً أنه لاتكفّره ، وإلى ماينبغي أن تكفّره ، وإلى مايتوقّف فيه ، والثالث بعضه مظنون بالنفي والاثبات ، وبعضه مشكوك فيه شكّاً لايزيله الا نصّ كتاب أو سنّة ، وإذ لا مطمع فيهما فطلب رفع الشكّ فيه محال.

لايقال : إنّه إقامة برهان على استحالة معرفة حدّها فكيف يرد الشرع بما يستحيل معرفة حدوده؟

__________________

١ ـ النساء :٣١.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٣٠.

٣ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٤٠.

٤ ـ هو أبو حامد كما في المحجة البيضاء : ٧ / ٣٥ ـ ٤٠.

٣٩٧

لأنّا نقول : إنّ كلّ ما لا يتعلّق به حكم في الدنيا يجوز أن يطرّق إليه الابهام ، لأنّ الدنيا دار التكليف والكبيرة من حيث إنّها كبيرة لا حكم لها فيها ، فإنّ موجبات الحدود معلومة بأساميها ، وإنّما كبيرة لا حكم لها فيهان فإنّ موجبات الحدود معلومة بأساميها ، وإنّما حكمها عدم تكفير الصلاة لها وهو أمر يتعلّق بالآخرة ، فالابهام أليق به حتّى يكون الناس منه على وجل ، فلا يجترؤا على المعاصي الصغائر اعتماداً على الصوات الخمس أو كون اجتناب الكبائر مكفّراً عن الصغائر.

أقول : فيه نظر ، فإن فعل الكبيرة قادح في العدالة على مذهبنا مطلقاً دون الصغيرة ، والعدالة أمر عامّ البلوى يتوقّف عليها كثير من الأحكام الشرعية كالشهادة والقضاء والفتوى والامامة وغيرها ، فكيف لايتعلّق بها حكم في الدنيا ، على أنّ التوبة واجبة بالاجماع والنصوص ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى ، متصل وهي مقيّدة بالكبائر ، لأنّ اجتنابها يكفّر عن الصغائر بنصّ الكتاب ، فإذا لم تكن معلومة لزم تعليق التكليف بالمجمل وهو قبيح عقلاً.

نعم يمكن إن يقال : إنّ التكليف بالمجمل جائز مع إمكان الاتيان به ولو بمقدّمات يسهل تحصيلها بدون عس وحرج ، وله نظئر غير عزيزة فالمعاصي لاتخلو عمّا يعلم كونها كبيرة قطعاً أو يعلم كونها صغيرة كذلك ، أو يشكّ فيه والأوّلان لا إشكال فيهما ، والأخير يجب الاجتناب عنه ولو فرض صدوره عنه وجبت التوبة عنه من باب المقدّمة ، فمع علم الحاكم باجتنابه أو توبته عن القسمين على الوجه المعتبر ثبوته شرعاً يحكم بعدالته ومع شكّه أو علمه بعدمها يحكم بعدمها ، ولا أقلّ من الشكّ فيها الموجب لعدم إجراء ما يتوقّف عليها في حقّه ، فإنّ الشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط اللازم منه عدم ثبوته ، هذا حال الحاكم فيما يتعلّق به.

وأمّا ما يتعلّق به نفسه فهو أبصر بنفسه مع تمكّنه من التوبة عن المعاصي الصادرة عنه في نفس الأمر ممّا يعلمها العالم بخفايا الأمور ، وإن لم يعلم هو

٣٩٨

تفاصيلها ، أو جزئياتها هذا مع أنّ التوبة إذا كانت مكفّرة للذنوب مطلقاً ، وواجبة على آحاد المكلفين عيناً فإمّا أن يتركها المكلّف ولايبالي بتركها أصلاً ، فهذا الترك منه حرام جزماً ، ولو سلم أنّه صغيرة ، فإنّ الاصرار على الصغائر كبيرة قطعاً ويلزم منه سقوط العدالة التي تتفرّع عليها الأحكام الشرعية ، وإمّا أن يواظب على القدر الممكن في حقّه منها بشرائطها الآتية فيرتفع آثار الكبائر عنه لو كان فاعلاً لها في نفس الأمر وثبت في حقّه العدالة ولا يبقى محذور أصلاً فتدّبر.

ثم اعلم أنّ الصغيرة تكبر بأسباب : أحدها الأصرار والمواظبة ، ولذا ورد « لا صغيرة مع الأصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار » ١ ـ وسرّه ، كما قيل أنّ قطرة من الماء لو وقعت على حجر لم تؤثّر فيه لقلّته ، ولو تعاقبت القطرات تدريجاً أثّرت فيه ، بل تأثيرها حينئذ أشدّ من تأثير الصبّ عليه دفعة واحدة. ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « خير الأعمال أدومها وإن قلّ ». (٢)

والسيّئة كالطاعة في التأثير في القلب ومعرفة الاصرار موكولة إلى العرف.

وفسّره الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : ( ولم يصرّوا على ما فعلوا ) (٣) « أنّه أن يذنب الذنب فلا يستغفر ولايحدّث نفسه بتوبة ، فذلك الاصرار ». (٤)

وثانيها : استصغار الذنب لصدوره عن الألف الموجب لشدّة الأثر في القلب المطلوب تنويره بالطاعات ، والمحذور تسويده بالسيّئات ، كما أنّ استعظامه يصدر عن نفور القلب وكراهيته له المانعة له عن شدّة التأثّر في ، ولذا عفي عن الغفلة.

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لايصغر ما ينفع يوم القيامة ، ولا يصغر ما يضرّ

__________________

١ ـ الكافي : ٢ / ٢٨٨ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب الإصرار على الذنوب ، ح ١.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٥٨.

٣ ـ آل عمران : ١٣٥.

٤ ـ الكافي : ٢ / ٤٥٦ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب محاسبة العمل ، ح ١٤.

٣٩٩

يوم القيامة ». (١)

وقال الكاظم عليه‌السلام : « لاتستكثروا كثير الخير ولاتستقلّوا قليل الذنوب فإنّها تجتمع حتّى تكون كثيرة ».

والسرّ في عظم الذنوب في قلب المؤمن كونه عالماً بجلال الله وكبريائه ، فإذا نظر إلى عظم من عصاه رأى الصغير كبيراً ، وأوحى الله إلى بعض أنبيائه : « لاتنظر إلى قلّة الهدية وانظر إلى عظم مهديها ، ولاتنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها ». (٢)

وثالثها : الغترار في فعلها والتهاون بها بستر الله عليه وحلمه عنه ظنّاً منه أنّه عناية منه تعالى به وهو أمن منه بمكر الله وجهل بأنّه يمهل مقتاً ليزداد إثماً.

ورابعها : السرور بفعلها وعدّها نعمة ، كما هو الشائع بين الناس ، فمنهم من يفتخر بما يفعله من المعاصي ويقول كيف رأيت صنعي ففلان ، غبّنته وروّجت عليه الزيف وأغلظت عليه في القول وخجّلته ، ومنهم من يحمد الله عليها فيقول : الحمد الله الذي غلبني على فلان حتّى مزّقت عرضه وفضحته بين الناس ونحو ذلك ، فكلّما غلبت حلاوة المعاصي في قلب العاصي عظم أثرها في تسويد قلبه ، وكان أشدّ ممن يندم عليها ، ويتحسرّ قلبه على فعلها ، ويتأسّف عليه لعلمه بظفر عدوّه الشيطان عليه ، بل يدلّ ذلك على غاية حمقه وجهله كالمريض الذي يفرح من انكسار إنائه الذي فيه دواؤه الذي يرجى منه شفاؤه.

وخامسها : التظاهر بذنوبه وذكرها للناس ، فإنّه هتك لستر الكريم الذي أسدله عليه ، وكفران لنعمة الذي هو إظهار الجميل وستر القبيح وتحريك لرغبة الناس في المعاصي فانضمّت خيانتان منه إلى خيانته ، وازداد

__________________

١ ـ راجع الكافي : ٢ / ٢٨٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب استصغار الذنب ، ح ٢.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٧ / ٥٩.

٤٠٠