كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

محمد حسن بن معصوم القزويني

كشف الغطاء عن وجوه مراسم الاهتداء

المؤلف:

محمد حسن بن معصوم القزويني


المحقق: الشيخ محسن الاحمدي
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

قدري ، فإنّك لو كنت مستحقاً له لسخّرهم ربّك لك ، فإنّه المؤلّف بين القلوب ومفرّقها واصمت عن باطلهم واحذر مصاحبتهم فإنّهم لايقيلون لك عثرة ولايسترون لك عورة ويحاسبونك على النقير والقطمير ويحسدونك على القليل والكثير ويؤاخذون على الخطا والنسيان ويعيّرون الإخوان بالنميمة والبهتان ، فصحبة أكثرهم ضرار وقطيعتهم رجحان ، إن رضوا فظاهرهم الملق ، وإن سخطوا فباطنهم الخنق ، واليؤمنون في خنقهم ولايرجون في ملقهم ، ظاهرهم ثياب ، وباطنهم ذئاب ، يستنصفون ولا ينصفون ويؤذونك ولا يعفون ، بل نيطقون بالظنون ويتربّصون بالصديق من الحسد ريب المنون ، يدّخرون عثراتك في صحبتهم ليحصوها عليك في وحشتهم.

ولا تعتمد بمودّة من لم تمتحنه حقّ الاختبار بالمصاحبة في محل واحد أو في الدار أو في الأسفار فتجرّبة في عزله وولايته وغناه وفقره أو معاملته أو تقع في شدّة فتحتاج إليه ، فإن رضيته في هذه الأحوال فاتّخذه أباً لك إن كان كبيرأً وابناً لك إن كان صغيراً ،وأخاً لك إن ساولك ، انتهى ملخّصاً ». (١)

تذنيب

قد بيّنا حقّ الجوار وحقّ الرحم ، ويدلّ على الثاني أخبار أكثر من أن تحصى ، وقد أشرنا إلى بعضها.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « يقول الله تعالى : أنا الرحمن وهذه الرحم قد اشتققت لها اسماً من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته ». (٢)

وقال الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( واتّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) (٣) : « هي أرحام الناس إنّ الله أمر بصلتها وعظّمهما ، ألا ترى أنّه

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٢٠ ـ ٤٢٢.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٢٧ ـ ٤٢٨.

٣ ـ النساء : ١.

٤٢١

جعلها منه؟ ». (١)

وقال الباقر عليه‌السلام : « صلة الأرحام تزكّي الأعمال وتنمي الأموال وتدفع البلوى وتيسّر الحساب وتنسىء في الآجال وتوسّع في رزقه ». (٢)

وعن السجّاد عليه‌السلام : « قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من سرّه أن يمدّ الله في عمره وأن يبسط له في رزقه فليصل رحمه ، فإنّ الرحم له لسان ذلق يوم القيامة ، يقول ربّ! صل من وصلني واقطع من قطعني ». (٣)

وقال الصادق عليه‌السلام : « إنّ صلة الرحم والبرّ يهوّنان الحساب ويعصمان الذنوب ، فصلوا أرحامكم وبرّوا بإخوانكم ولو بحسن السّلام وردّ الجواب ». (٤)

وقال عليه‌السلام : « صل رحمك ولو بشربة من ماء ، وأفضل ما توصل به الرحم كفّ الأذى عنها ، وصلة الرحم منسأة في الأجل ومحبّة في الأهل ». (٥)

وأفضلها وأحسنها الولادة.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « برّ الوالدين أفضل من الصلاة والصوم والحجّ والعمرة والجهاد في سبيل الله ». (٦)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « برّ الوالدة على الولد ضعفان ». (٧)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الوالدة أسرع إجابة ، قيل : يارسول الله ولم ذاك؟ قال :

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٣٠ ، نقلاً عن الكافي : ٢ / ١٥٠.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٣٣٠ ، نقلاً عن الكافي : ٢ / ١٥٠ إلى « في الآجال » ثم قال في المحجّة : « وفي رواية : وتوسّع في رزقة وتحبّب في أهل بيته » والمصنّف كما ترى جمع بينهما وجعلهما رواية واحدة. والرواية الأخرى في الكافي : ٣ / ١٥٢.

٣ ـ الكافي : ٢ / ١٥٦ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب صلّة الرحم ، ح ٢٩.

٤ ـ الكافي : ٢ / ١٥٧ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب صلّة الرحم ، ح ٣١.

٥ ـ الكافي : ٢ / ١٥١ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب صلّة الرحم ، ح ٩.

٦ ـ المحجة البيضاء : ٣٣ / ٤٣٣٤.

٧ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٤٣٥ وفيه : « على الولد ».

٤٢٢

هي أرحم من الأب ، ودعوة الرحم لاتسقط ». (١)

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رحم الله والدين أعانا ولدهما على برّهما ». (٢)

[ وفي رواية اخرى ] (٣) « قلت : كيف يعينه على برّه؟ قال : يقبل ميسوره ويتجاوز عن معسوره ولا يرهقه ولا يخرق به ، وليس بينه وبين أن يصير في حدّ من حدود الكفر الا أن يدخل في عقوق أو قطيعة رحم ». (٤)

وقال رجل من الأنصار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أبرّ؟ فقال : والديك ، قال : قد مضيا ، قال : برّ ولدك. (٥)

وكلّ ما يذكر في حقوق الاخوة جار في حقوق الأبوين ، فإنّ هذه الرابطة آكد منها ويزيد عليها ما أشرنا إليه من وجوب إطاعتهما شرعاً فيما سوى الحرام المحض.

وحقّ الأمّ أظهر في الجسمانيات ، فلذا اكثر من الحثّ عليه ورجّح على حقّ الأب.

قال السجاد عليه‌السلام : « وحقّ أمّك أن تعلم أنّنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً ، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً ، ووقتك بجميع جوارحها ، ولم تبال أن تجوع وتطمك ، وتعطش وتسقيك ، وتعرى وتكسوك وتضحى وتظلّك ، وتهجر النوم لأجلك ووقتك الحرّ والبرد لتكون لها ، فإنّك لاتطيق شكرها الا بعون الله وتوفيقه ... الحديث ». (٦)

فهذه الحقوق كلّها جسميّة والأب وإن كانت له حقوق جسميّة أيضاً ،

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٣٥ ، وفيه : « دعوة الوالدة ».

٢ ـ الكافي : ٦ / ٤٨ ، كتاب العقيقة ، باب حق الأولاد ، ح ٣٣.

٣ ـ هذه الزيادة لابدّ منها ، لأنّ المصنّف جمع بين روايتين من دون إشارة.

٤ ـ الكافي : ٦ / ٥٠ ، كتاب العقيقة ، باب برّ الأولاد ، ح ٦.

٥ ـ الكافي : ٦ / ٤٩ ، كتاب العقيقة ، باب برّ الأولاد ، ح ٢.

٦ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٥١ ، نقلاً عن الفقيه : ٢ / ٦٢١.

٤٢٣

بل قد تكون أكثر الا أنّ حقوقها أظهر وتعبها فيما تتحمّله من المشاقّ أبين.

نعم حقّ الأب أظهر من حيث المعنى والروحانية ، فإنّه أصل وجودك والنعمة عليك ومربّيك والراغب في استجماعك لما يظنّه كمالاً في حقّك ، والواصل بك إلى كلّ مرتبة تعجبك إن وصلت إليها ، فهو في الحقيقة أحقّ من الأم بالحقوق المقرّرة لهما عليك ، والفرق بينهما بقدر الفرق بين الجسم والروح ، فإنّ أمّك مربّية لجسمك خاصّة وحافظة له عن الآفات الجسمانية بالقدر الممكن لها وأبوك مربّ لنفسك وروحك ، مضافاً إلى جسمك.

ألا ترى أنّه يرضى عليك بما تكرهه ويشقّ عليك من الحرّ والبرد والجوع والعطش والسهر وغيرها في تحصيل مايراه كمالاً في حقّك ممّا لاترضى به أمّك.

قال السجّاد عليه‌السلام : « وأمّا حقّ أبيك فأن تعلم أنّه أصلك فإنّك لو لاه لما تكن ، فمهما رأيت من نفسك ما يعجبك فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه ... الحديث ». (١)

فحقّه أعظم وأوجب حقيقة سيّما فيما يتعلّق بالروحانيّات كالإعظام والإكرام وطلب المغفرة والسعي في بقاء اسمه وأثره بعد موته وأضرابهما ، وهذا ممّا لا سترة فيه ، فاللازم توجيه ما ورد في ترجيح حقّ الأمّ وتقديمه بتخصيصه بالجسمانيات كالخدمة وحسن الإنفاق وأمثال ذلك ، فإنّها لكونها مرأة وهي قاصرة العقل في درك الكمالات والفضائل النفسانية قليلة الطاقة في تحمّل المكاره الجسمانيّة ، فمراعاة شأنها فيها أولى وأليق ، فافهم.

وممّا ذكر يظهر أنّ حقّ المعلّم أعظم لكونه روحانياً محضاً.

قال السجاد عليه‌السلام : « وحقّ سائسك بالعلم التعظيم والتوقير لمجلسه وحسن الاستماع إليه والإقبال عليه ، وأن لاترفع عليه صوتك ، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب ، ولا تحدّث في مجلسه

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٥٠ ، نقلاً عن الفقيه : ٢ / ٦٢٢.

٤٢٤

أحداً ، ولا تغتاب عنده أحداً ، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء ، وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه ، ولاتجالس له عدوّاً ، ولا تعادي له وليّاً ، فإذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة الله بأنّك قصدته وتعلّمت علمه لله لا للناس ، إلى أن قال عليه‌السلام :

« وأما حقّ رعيّتك بالعلم فأن تعلم أنّ الله عزّوجلّ إنّما جعلك قيّماً لهم فيما أتاك من العلم ، وفتح لك من خزائنه ، فإن أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم ولم تضجر عليهم زادك الله من فضله ، وإن أنت منعت الناس علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقّاً على الله عزّوجلّ أن يسلبك العلم وبهاءه ، ويسقط من القلوب محلّك ... الحديث ». (١)

« فالمتعلّم منك ولد روحاني لك ، كما أنّ معلمك والد روحاني لك ، والتفاوت بين حقوقهما وحقوق الوالد والولد الجسمانيين كالتفاوت بين الجسم والروح ، فإن اجتمعتا عظمت الحقوق وواجتمعت » ، وقد أشرنا إلى بعض آداب التعلّم والتعليم فيما سبق بما فيه كفاية.

فصل

وأمّا حقوق الزوجة ، فالحقوق الظاهرة الواجبة شرعاً مذكور في كتاب النكاح من علم الفقه ، ولا حاجة إلى إعادتها ، وقد أشار السيّد السجّاد عليه‌السلام إليها إجمالاً ، فقال :

« وأمّا حقّ الزوجة فأن تعلم أنّ الله جعلها لك سكناً وأنساً ، فتعلم أنّ ذلك نعمة من الله تعالى عليك فتكرمها وترفق بها ، وإن كان حقّك عليها أوجب ، فإنّ لها عليك أن ترحمها لأنّها أسيرك وتطعمها وتكسوها ، وإذا

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٥٠ ، نقلاً عن الفقيه : ٢ / ٦٢٠ ـ ٦٢١.

٤٢٥

جهلت عفوت عنها ». (١)

وحقوق الزوج وإن كانت أعظم وأكثر كما أشار إليها السجّاد عليه‌السلام وتكفّلت لبيانها مفصلّاً كتب الفقه ، الا أنّ الله تعالى يداقّ الناس على قدر عقولهم ، فإذا كان عقلك أتمّ وسلطنتك عليها أكثر كنت أولى بمراعاة جانبها ، وأحقّ بالاحسان إليها والمداراة معها.

فصل

وأمّا حقوق المملوك فقد أشير إليها أيضاً في كتب الفقه.

قال السجّاد عليه‌السلام : « وأمّا حقّ مملوكك فأن تعلم أنّه خلق ربّك وابن أبيك وأمّك ولحمك ودمك ، لم تملكه لأنّك صنعته دون الله ولا خلقت شيئاً من جوارحه ولا أخرجت له رزقاً ، ولكّن الله كفاك ذلك ثم سخّره لك وائتمنك عليه واستودعك إيّاه ليحفظ لك ما يأتيك من خير إليه فأحسن إليه كما أحسن الله إليك ، وإن كرهته استبدلت به ولم تعذّب خلق الله ». (٢)

وكان من آخر ما أوصى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن قال : « اتّقوا الله فيما ملكت أيمانكم أطعموهم ممّا تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ، ولا تكلّفوهم من العمل ما لا يطيقون ، فما أحببتم فأمسكوا وما كرهتم فبيعوا ولا تعذّبوا خلق الله تعالى فإن الله ملّككم إيّاهم ولو شاء لملّكهم إيّاكم ». (٣)

فصل

وأما الصحبة والاخوّة فإنّ أحسنهما ما كان الله وفي الله وهو موقوف على معرفة حقيقة الحبّ والبغض وأقسامهما وسنذكرهما إن شاء الله تعالى

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٥٠ ، نقلاً عن الفقيه : ٢ / ٦٢١.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٥٠ ـ ٤٥١ ، نقلاً عن الفقييه : ٢ / ٦٢١ ، وفيهما : « ما يأتيه من خير إليه ».

٣ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٤٤٤.

٤٢٦

وساعدنا التوفيق.

ثم إنّ لمن يختار صحبته شروطاً فلا يصلح للصحبة كلّ أحد.

ففي النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل ». (١)

وهي تظهر بحسب الغاية المطلوبة منها وهي دينية ودنيوية ، والثانية ليست من غرضنا ، والأولى مختلفة.

فمنها : استفادة العلم والعمل.

ومنها : استفادة الجاه دفعاً للأذية المشوّشة للقلب والصادّة عمّا هو مقصود لذاته ، أو المال احترازاً عن تضييع الأوقات في طلب الأقوات.

ومنها : الاستعانة في المهمّات والاستعداد للمصائب وسائر الحالات.

ومنها : التبرّك بالدعاء أو انتظار الشفاعة في العقبى.

فكلّ من هذه الفوائد تقتضي شروطاً لا تحصل الا بها ، وهي اجمالاً استجماعه لخمس خصال.

أن يكون عاقلاً فلا خير في صحبة الأحمق ، لأنّه يضرّك حال قصده لمنفعتك من حيث لايعلم ، ولذا قيل :

إنّي لآمن من عدوّ عاقل

وأخاف خلاً يعتريه جنون

فالعقل فنّ واحد وطريقه

أدرى وأرصد والجنون فنون

والمراد من العاقل من يفهم الأمور على ما هي عليها بنفسه ، أو بتفهيم الغير.

وأن يكون حسن الخلق ، إذ ربّ عاقل عاجز عن قهر شهوته وغضبه فيخالف ما يدركه عقله من غير شعور.

وأن لايكون فاسقاً ، فإنّ من لايخاف الله لا يوثق به ، بل يتغيّر بتغيّر الأغراض.

قال تعالى : ( فأعرض عمّن تولّى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣٠٩.

٤٢٧

الدنيا ). (١)

وقال : ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه ) (٢) مع أن مصاحبته تهوّن العصيان على القلب ، فلا تتنفّر عنه ، وقد سبق في صدر الكتاب ما يؤكّد ذلك.

ولا مبتدعاً ، إذ فيه خطر السراية وشمول العذاب واللعنة.

قال الصادق عليه‌السلام : « لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الله كواحد منهم ». (٣)

ولا حيصاً على الدنيا ، فإنّ صحبته سمّ قاتل والطبع سارق من حيث لايدري.

ونقل بعضهم أنّه أوصى ابنه عند وفاته فقال : إن عرضت لك حاجة إلى صحبة الرجال فاصحب من إذا خدمته صانك ، وإذا صحبته زانك ، وإن نفدت مؤونتك مانك.

اصحب من إذا مددت يدك لخير مدّها ، وإن رأى منك حسنة عدّها ، وإذا رأى سيّئة سدّها.

اصحب من إذا سألته أعطاك ، وإذا سكت ابتداك ، وإذا سكتّ ابتداك ، وإذا نزلت بل نازلة واساك.

اصحب من إذا قلت صدّق قولك ، وإذا صلت شدّ صولك ، من لاتأتيك منه البوائق ، ولا تلتبس عليك منه الحقائق ، ولا يخذلك عند الطرائق وإن حاولتما أمراً أمّرك ، وإن تنازعتما آثرك.

ولمّا ذكرت للمأمون قال : من أين هذا؟ فقيل : أراد أن لايصحب

__________________

١ ـ النجم : ٢٩.

٢ ـ الكهف : ٢٨.

٣ ـ الكافي : ٢ / ٣٧٥ ، كتاب الإيمان والكفر ، باب مجالسة أهل المعاصي ، ح ٣ ووفيه : « عند الناس » مكان « عند الله ».

٤٢٨

أحداً. (١)

وفي مصباح الشريعة عن الصادق عليه‌السلام قال : « احذر أن تواخي من أرادك لطمع أو خوف أو فشل أو أكل أو شرب ، واطلب مواخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض وإن أفنيت عمرك في طلبهم ، فإنّ الله لم يخلق بعد النبيين على وجه الأرض أفضل منهم ، وما أنعم الله على العبد بمثل ما أنعم الله به من التوفيق لصحبتهم. قال الله تعالى : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ الا المتّقين ). (٢) » (٣)

ولنعم ما قيل : « لو طلب أحد في زماننا صديقاً كذلك بقي بلا صديق ، ألا ترى أنّ أكرم كرامة أكرم الله بها أنبياءه وأمناءه صحبة أنبيائه ، وهو يدلّ على أنّه ما من نعمة في الدارين أجلّ وأزكى من الصحبة والمواخاة لوجه الله تعالى. » (٤)

فإن وجدت من تستفيد به أحد هذه المقاصد فاعرف قدره ، ولا ترفع اليد عنه ، فإنّه من أعظم ما أنعم الله به عليك والا فالوحدة أولى لك وأسلم.

قال أبوذر : « الوحدة خير من جليس السوء ، والجليس الصالح خير من الوحدة ». (٥)

فصل

إذا عرفت حقيقة الاخوّة والصحبة وحصّلت من استجمع شرائطها فاعلم أنّ له بعد انعقاد اخوتّك معه عليك حقوقاً ثمانية :

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣١٤.

٢ ـ الزخرف : ٦٧.

٣ ـ مصباح الشريعة : الباب ٥٥ ، في المواخاة.

٤ ـ هذا بقيّة ما في مصباح الشريعة ، ففيه بعد ذكر الآية : « وأظنّ من طلب في زماننا هذا صديقاً ... » مع تغيير في بعض عباراته.

٥ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣١٨.

٤٢٩

أحدها : حقّ في مالك ، وأدناه تنزيله منزلة العبد والخادم فتعطيه من فضل مالك إن سنحت له حاجة بدون السؤال ، فإن أحوجته إليه كان تقصيراً في حقّه.

ثم تنزيله منزلة النفس فتشاركه فيه وتشاطره عليه بالسوية.

ثم إيثاره به مع حاجتك إليه ، وهو غاية درجات المتحابّين ، ومن تمامه الإيثار بالنفس أيضاً ، كما أنّ عليّاً عليه‌السلام بات على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآثره بنفسه فمن لم يصادف نفسه في إحداها كانت مصاحبته ضعيفة لا وقع لها في الدين والعقل ، بل الأولى ليست مرضية عند ذويهما كما لايخفى على متصفّح الآثار ومتتبّع الأخبار وإنّما المرضي عندهم المشار إليه بقوله : ( وممّا رزقناهم ينفقون ) (١) ـ على ما قيل و ـ الاختلاط فيه بدون تمييز وهو المفضّل على الصدقات.

قال علي عليه‌السلام : « لعشرون درهماً اعطيها أخي في الله أحبّ إليّ من مائة درهم أتصدّق بها على المساكين ». (٢)

والثاني : حقّ في نفسك بقضاء حوائجه ومهامّه قبل سؤاله وتقديمها على حوائجك وأدناه القيام بها عند السؤال والقدرة مع البشاشة والاستبشار والامتنان.

وبالجملة من تمام الاخوّة أن تكون حاجته كحاجتك أو أهمّ منها فلا تغفل عنه كما لاتغفل عن نفسك ، ونفسك ، وتغنيه عن السؤال فتقوم بحوائجه كأنّك لاتدري به (٣) حيث لاترى لك حقّاً فيه وتجتهد في الاكرام بالزيارة والإيثار وتقديم جانبه على الأقارب والأولاد ، بل التنفر بمسّرة ولذّة دونه وتستوحش من فراقه.

__________________

١ ـ البقرة : ٣.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣٢٠ و ٢ / ٩٢.

٣ ـ أي لاتدري بقيامك بحوائجه فالضمير يرجع إلى المصدر المؤوّل المذكور قبله.

٤٣٠

والثالث : حق في لسانك بالسكوت عن معايبه مع حضوره وغيبته ، بل تجاهل عنه ، ولا ترّد عليه فيما يتكلّم به ، وعن التجسس وعن أحواله أي تسكت عن أسراره التي ينهيها إليه دون غيره لأحد حتّى أخصّ أصدقائه ولو بعد الوحشة فإنّه من لؤم الطبع وخبث الباطن ، ولذا قيل :

وترى الكريم إذا اتصرّم وصله

يخفي القبيح ويظهر الإحسانا

وترى اللّئيم إذا تقضى وصله

يخفي الجميل ويظهر البهتان

بل من الجهل والحماقة.

فقد قال علي عليه‌السلام : « قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه ». (١)

ولذا وجب مقاطعة الحمقى ، قيل لبعضهم : كيف تحفظ السرّ؟ فقال : أستره وأستر أنّي أستره ، وقيل فيه :

ومستودعي سرّاً تبوّءت كتمه

فأودعته صدري فصار له قبرا

وزاد آخر فقال :

وما السرّ في صدري كثاو بقبره

لأني أرى المقبور ينتظر النشرا

ولكنّني أنساه حتى كأنّني

بما كان منه لم أحط ساعة خبرا

والقدح (٢) في أهله وولده وأحبّائه بل عن حكايته عن غيره ، فإنّ التأذّي يحصل أوّلاً منه ثم من القائل بخلاف المدح من نفسه أو غيره ، حيث ينبغي إظهاره وافشاؤه لحصول السرور منه أوّلاً ، ثم من القائل إن كان ناقلاً ، والحاصل يسكت عمّا يكرهه مطلقاً الا إذا وجب في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، ولم يكن له رخصة في السكوت فلا يبالي بكراهته ، لأنّه إحسان إليه واقعاً ، وإنّ ظن أنّه إساءة.

وممّا يهوّن عليك السكوت عن معايب أخيك أن تطالع في معايبك ، فإن وجدت لنفسك عيباً فقدّر انّ أخاك مثلك في العجز عن قهر نفسه عنها.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : الحكمة ٤١.

٢ ـ عطف على التّجسس أي : بالسكوت عن القدح في أهله ...

٤٣١

وأن تعلم أن المبرى من كل عيب سيما في هذا الزمان كالكبريت الأحمر ، فلو طلبته لزمك الاحتراز والاعتزال عن كل الناس.

فغاية المنى في المصاحب من غلتب محاسنه على مساويه ، والمؤمن لابد أن ينظر إلى محاسن صاحبه لينبعث منه الود والاحترام والشوق إلى تحصيله (١) إن كان فاقداً لها دون المساوي حتى ينتح نقائضها كما هو هو دأب المنافق اللئيم ، وكما ينبغي السكوت لساناً فكذلك قلباً بأن لاتسيء به الظن وتحمل أفعاله على السهو والنسيان مهما أمكن سواء كانت فراسة أي مستندة إلى علامة محركة للظن تحركاً ضرورياً أو ناشة من سوء الاعتقاد فيه حتى إنه يصدر منه فعل ذووجهين فيحمله سوء العقيدة على تنزيله على الوجه الأردى من غير علامة مخصصة ، وإن كان الأخير شاملاً لكل مسلم كما أشير إليه سابقاً.

والباعث الغالب لكشف العيوب والامتناع عن سترها الحقد والحسد لامتلاء باطنه منهما ، فإذا اغتنم فرصة انحلت الرابطة ورشح الباطن بخبثه والانقطاع حينئذ أولى.

وكذا ينبغي السكوت عن مما راته في تكلماته ، فإنها مثيرة لنار الحقد ، مضافاً إلى كونها من رذائل الأعمال في نفسها مع كل أحد ، وكونها موجبة للتكبر بإظهار التميز بمزيد العقل والفضل وتحقير المسلم بنسبته إلى الجهالة أو الحماقة أو السهو أو الغفلة عن فهم الشيء كما هو حقه ، وهو مذموم ، ومناف للاخوة ، ومستلزم للنفرة والوحشة والمعاداة.

والرابع : حق فيه أيضاً بالنطق ، بأن تتودد إليه باللسان وتسأل عما لابد منه من أحواله وإظهار السرور مما يسره ، والكراهة مما يكرهه ، فإنه مما تزيد به المحبة المطلوبة بين المؤمنين شرعاً وإفشاء محامدة بين الناس في حضوره وغيبته والدفع عما يقدح فيه فيهما أيضاً ، والشكر له إن كان له حق عليك

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر : تحصيلها.

٤٣٢

ولو بالقصد ، وتعليمه ونصحه حيث إنّ حاجته إلى العلم أكثر من المال ، فإن كنت غنيّاً فيه لزمتك مواساته بتعليمه وإرشاده ومع عدم عمله نصيحته بتذكيره لفوائده وتحذيره عن آفاته وتخويفه بما يزجره وتنبيهه على عيوبه وتقبيح القبيح في عينه وتحسين الحسن في نظره بحيث لايطّلع عليه أحد حتّى لايخجل ولايفتضح فيحمله على العداوة دون الإشفاق والنصيحة ، فإنّ من العلامات الفارقة بين النصيحة والتفضيح الاعلان والاسرار ، وذلك لأنّ « المؤمن مرآة المؤمن » (١) كما ورد في النبوي ، فيستفيد به من عيوب نفسه ما لايستفيد بنفسه والعاقل يمتنّ من صديقه بإعلامه لما لا يعلمه بنفسه من عيوبه كما تمتن من الذي ينبّهك على حيّة أو عقربة تحت ذيلك همّت بإهلاكك فعيوب المرء حيّات لادعة وتألّم روحه منها أكثر من تألّم جسمه منها.

نعم ، يستوحش بإعلام ما يعلمه سيّما إذا كان مخفياً له عنه فلا ينبغي له كشفه وإظهاره حينئذ أصلاً ، وأمّا مع إظهاره له فلابدّ من التلطّف في النصح تعريضاً وتصريحاً بحيث لايؤدّي إلى الإيحاش ومع العلم بعدم تأثيره فيه وكونه مقهوراً عليه طبعاً ، فالسكوت أولى ، هذا فيما يتعلّق به من مصالحه.

وأمّا ما يتعلّق بك من تقصيره في حقّك فالواجب العفو والتحمّل والتعامي عنه وإن كان بحيث يؤدّي إلى القطيعة فالعتاب سرّاً أولى من التفضيح والتعريض به خير من التصريح ، والاحتمال خير من الكلّ.

والخامس. عفوك عن زلّته ، وهي إمّا في دينه أو في حقّك ، والاولى إن أصرّ عليها وجب عليك التلطّف في نصحه بما يؤدّي به إلى الورع والصلاح فإن لم ينجع قيل : وجب انقطاعه ، لأنّ خير المحبّة والبغض ما كان لله وفي الله.

وقيل لاتتركه لأنّه يعوج مرّة ويستقيم أخرى ، وأنّه أحوج ماكان

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣٣٤.

٤٣٣

إليك في هذا الوقت بأن تأخذ بيده وتتلطّف في نصحه والدعاء له بالعود إلى ما كان عليه ، وهذا الطف وأفقه ، وإن كان الأول أحسن وأسلم لما فيه من الاستمالة والرفق المفضي إلى الرجوع لاستمرار الحياء عند دوام الصحبة وإذا أيس منها أصرّ واستمرّ ، ولأنّه عقد نزل منزلة القرابة فيتأكّد به الحقّ ويجب الوفاء به.

ومن جملته (١) أن لا يهمله في أيّام فقره وفقر الدين أشدّ ، فينبغي مراعاته والتلطف به حتّى يعان على الخلاص ممّا وقع فيه ، لأنّ الاخوّة عدّة للنوائب والحوادث ، وهذا من أشدّها وهي لحمة كلحمة النسب.

قال الصادق عليه‌السلام : « مودّة يوم صلة ومودّة شهر قرابة ومودّة سنة رحم ماسّة ، من قطعها قطعه الله ». (٢)

ومنه يظهر سرّ عدم جواز مواخاة الفاسق ابتداء وحسن الاستدامة عليها انتهاء ، إذ لم يتقدّم في الأولى له حق بخلاف الثانية ، فنسبة قطع الاخوّة إلى تركها ابتداء كنسبة الطلاق إلى ترك النكاح ، فإن كانت مخالطة الكفّار من الممحذورات فمفارقة الأحبّة أيضاً من المحضورات ، وليس السالم عن المعارض كغيره.

والثانية لابدّ فيه من الصفح والتحمّل ، بل تنزيل أفعاله على الوجه الأحسن مهما أمكن ، وإن لم يمكن فضبط النفس عن الغضب المجبول عليه الطبع الزكي بكظم الغيظ والعمل بخلاف مقتضاه ممكن.

وقد قيل : الصبر على مضض الأخ خير من العتاب ، وهو خير من القطيعة ، وهي خير من الواقيعة ، ولاتبالغ في البغض مع الوقيعة عسى الله أن يجعل بينك وبينه مودّة.

والسادس : حقّ الدعاء له في حياته ومماته بما تحبّه لنفسك فإنّه في

__________________

١ ـ أي من جملة الوفاء به.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣٣٨.

٤٣٤

الحقيقة دعاء لنفسك.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا دعا الرجل لأخيه في ظهر الغيب قال الملك : ولك مثل ذلك. ». (١)

والأخبار بهذا المضمون أو ما يقرب منه كثيرة من الطريقين.

والسابع : الوفاء أي الثبات على الحب حتّى بعد الموت مع أولاده وأصدقائه لأنّه يراد للآخرة فقطيعته به إضاعة للسعي.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله يكرم عجوزاً لأنّها كانت تأتيه في أيّام خديجة (٢) ، والصديق يفرح بمراعاة صديقة لأجله أكثر ممّا يفرح بمراعاته ، إذ تدلّ على قوّة المحبّة ، والشيطان يجتهد في القطيعة فمعها يشمت بهما.

قال الله تعالى : ( وقل لعبادي يقولوا الّتي هي أحسن ، إنّ الشيطان ينزغ بينهم ). (٣)

ومن الوفاء أن لا يتغيّر حاله في التواضع مع أخيه وإن ارتفع شأنه وعظم جاهه.

إن الكرام إذا [ ما ] أسهلوا ذكروا

من كان يألفهم بالمنزل الخشن

ومن تمامه أن يكون شديد الجزع من فراقه ، نفور الطبع من أسبابه كما قيل :

وجدت مصيبات الزمان جميعها

سوى مفارقة الأحباب هيّنة الخطب

وقال الآخر :

يقولون إنّ الموت صعب على الفتى

وإنّ مفارقة الأحباب والله أصعب

وأن لايسمع بلاغات الناس على صديقه ، فإنّ بها تنقطع المودّة ، وأن لايصدّق عدوّه.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣٤٠.

٢ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣٤٢.

٣ ـ الأسرار : ٥٣٣.

٤٣٥

والثامن : تسهيل الأمور عليه وترك التكليف بما يشقّ عليه وترفيهه عن حمل شيء من أعبائك وأن لاتستمدّ منه بحاه أو مال ولا تكلفه التواضع والتفقّد والقيام بحقوقك ، بل لاتقصد بمحبتّه الا الله تعالى بالتبرّك بدعائه والاستيناس من لقائه والاستعانة على دينه والتقرّب إلى الله بتحمّل أعبائه وقضاء حوئجه.

ولذا قيل : من جعل نفسه عند الإخوان فوق قدره أثم وأثموا ، ومن جعل نفسه في قدره أتعب نفسه وأتعبهم ، ومن جعلها دون قدره سلم وسلموا ، بل من تمام التخفيف طيّ بساط التكليف حتّى لايستحيي منه.

ولذا قيل : إذا وقعت الالفة بطلت الكلفة.

وقال الآخر : بين الأحباب تسقط الآداب.

هذا ، وقد قيل : لاتصحب الا من يتوب عنك إن أذنبت ويعتذر عنك إن أسأت ، ويحمل عنك مؤونتك ويكفيك مؤونته.

قال الغزالي : « وهذا تضييق لطريق المواخاة على الناس ، بل ينبغي أن يواخي كلّ متديّن عاقل ويعزم على أن يقوم بهذه الشروط ، ولايكلّفه إيّاها حتّى يكثر إخوانه وتكون اخّوته في الله دون حظوظ نفسه خاصّة. ولذا قال رجل للجنيد : قد عزّ الاخوان في هذا الزمان ، أين أخ في الله؟ فأعرض عنه حتّى أعاده ثلاثاً ، فلمّا أكثر قال : إن أردت أخاً في الله تحمّل أنت مؤونته وتصبر على أذاه فعندي جماعة أعرفهم لك ، فسكت الرجل ». (١)

أقول : لعلّ مراد القائل أنّ الحري بالمواخاة من يكون متّصفاً بهذه الصفات في نفسه لا أن يكون المطلوب من مواخاته تكلّفه له ، فلابدّ لك أن لاتتواخى الا من يتّصف بها ، والا لما كان أخاً في الله ، ولما كان حرّياً من حيث الاخوّة بهذه الحقوق ، وقد مرّ نظائر ذلك من الأخبار وغيرها الدالّة

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣٤٥.

٤٣٦

على أنّه لاينبغي المواخاة الا مع من يتّصف بهذه الصفات.

نعم ، ينبغي لك أن يكون قصدك من مواخاته الاخلاص والتقرّب إلى الله دون الحظوظ النفسانية ، فبعد ما واخيته لاتطلبها منه بل تعزم على قيامك بها مع عدم توقّعك منه شيئاً منها وإن كان فاعلاً لها ، حتى تكون مواخاتك له في الله دون حظوظ نفسك ، وهذا واضح.

قال الغزالي : « ومن ترك التكليف والتخفيف أن لاتعترض عليه في نوافل العبادات ، لأنّ طائفة من الصوفية كانوا يصحبون على شرط المساواة في أربعة : إن أكل أحدهم الدهر كلّه لم يقل صاحبه : صم ، وإن صام الدهر كلّه لم يقل له : لاتصم ، وإن نام الليل كلّه لم يقل له : قم ، وإن قام الليل كلّه لم يقل له : نم ـ إلى آخر ما قال ... ». (١)

أقول : بل من لوازم الوفاء بحقوق لاخوّة أن ينظر أنّ الباعث له على تركها ماذا؟ فإن كان من عذر أو اشتغال بما هو الأهمّ شرعاً أو عرفاً أو عقلاً سكت عنه ، وإن كان من كسل أو تكاهل أو عدم مبالاة منعه رفقاً ونصحه بما يرغّبه فيها ، نعم لايسيء به الظنّ ولا يتفاوت حاله عنده بزيادة ونقصان حتى يحرّكه ذلك إلى الرياء ونحوه الا من جهة الدين والشرع ، فافهم.

وبالجملة فالتكليف مذموم والنهي عنه في الشرع كثير.

قال الله تعالى : ( قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلّفين ). (٢)

فليس التكليف من أخلاق الصلحاء وشعار المتّقين ، ولايتمّ تركه إلا بأن يرى نفسه دون إخوانه ويحسن الظنّ بهم ويسيئه بنفسه وأن يشاورهم فيما يقصده ويقبل مشورتهم ، فهذه هي الحقوق الثابتة للاخوّة والصداقة ، وحاصلها أن تقيّد بحقوقهم جميع جوار حك.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣٤٦.

٢ ـ ص : ٨٦.

٤٣٧

أمّا النظر فبأن يكون مودّة فلا ترى منهم الا المحاسن ، ولا تصرفه عنهم حين إقبالهم عليك.

وأمّا السمع فبالاستماع لكلامهم والتلذّذ منه والتصديق لهم.

وأمّا اللسان ففيما ذكر ، وأن لاترفع صوتك عليهم وتفهّمهم مرادك.

وأمّا اليدان فبأن لاتقبضهما عن مؤونتهم فيما يتعاطى بهما وأمثال ذلك.

وأمّا الرجلان فأن تمشي وراءهم مشي الاتّباع والتعظيم لهم والسعي في قضاء حوائجهم فيما يتعاطى بهما وأمثال ذلك.

تتميم

قال بعض الحكماء : إذا أردت حسن المعيشة فالق صديقك وعدوّك بعين الرضا من غير ذلّة ولا وحشة وتوقّر في غير كبر وتواضع في غير مذلّة ، وكن في جميع أمورك متوسّطاً ، ولاتنظر في عطفيك ، ولاتكثر الالتفات ، ولاتقف على الجماعات وتحفّظ من تشبيك أصابعك والعبث بلحيتك وخاتمك وتخليل أسنانك وإدخال يدك في أنفك وكثرة بصاقك وتنخّمك وذبّ الذباب عن ووجهك وكثرة التمطّي والتّثاؤب في وجوه الناس وفي الصلاة وغيرها ، وليكن مجلسك هاوياً (١) وحديثك منظوماً ، وأصغ إلى الكلامالحسن ممّن حدّثك بغير إظهار تعجّب مفرط ، ولاتسأله إعادته ، واسكت عن المضاحك والحكايات ، ولاتحدّث عن الإعجاب بولدك ولا جاريتك ولا شعرك ولا تصنيفاتك وسائر ما يخصّك ، ولاتتزيّن كما تتزيّن المرأة ولاتبتذل تبذّل العبيد وتوقّ كثرة الكحل والاسراف في الدهن ولاتلحّ في الحاجات ولاتشجّع الظالم في ظلمه ، ولا تخبر أهلك وولدك فضلاً عن غيرهم بمقدار ما لك فإنّهم إن رأوه قليلاً وهنت عندهم وإن روه كثيراً لم يمكنك إرضاؤهم واجفهم (٢) من غير عنف ولن لهم من غير ضعف ولا

__________________

١ ـ كذا في النسخ ، وفي المحجة البيضاء : هادياً.

٢ ـ كذا في النسخ : وفي المحجة البيضاء : وأخفهم.

٤٣٨

تهازل العبيد والاماء فيسقط وقارك ، وإذا خاصمت فتوقّر وتحفّظ من جهلك وتفكّر في حجّتك ولا تكثر من الاشارة بيديك ولا تكثر الالتفات إلى ماوراءك ، وإذا هدأ غيظك فتكلم وإن تقرّبت إلى السلطان فكن منه على حدّ السنان ولاتأمن انقلابه عليك وارفق به رفقك بالصبي وكلّمه بما يشتهيه ولاتدخل بينه وبين أهله وولده وجيشه وإن كان معك في غاية اللطف.

وإيّاك وصديق العافية ، ولايكن مالك عندك أعزّ من عرضك ، وإذا دخلت مجلساً فسلّم على أهله ولاتتخطّ من سبقك واجلس حيث وسعك ، وكلّما كان أقرب إلى لتواضع كان أحسن ، ولاتجلس على الطريق وإن جلست فغضّ بصرك وانصر المظلوم وأغث الملهوف وأعن الضعيف وأرشد الضالّ وردّ السلام وأعط السائل وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وارتد لموضع البصاق مايكون عن يسارك وتحتت قدمك اليسرى ولاتستقبل به وال تجالس الملوك ، وإن فعلت فلا تغتب ولا تكذب ، وأقلل حوائجك واحفظ أسرارهم وعذّب ألفاظك وإعرب في خطابك ، واذكر أخلاق الملوك وقلّل المداعبة وأكثر الحذر منهم وإن أظهروا المودّة ، ولا تجالس العامة ، فإن فعلت فلا تخض في حديثهم وقلّل الإصغاء إلى أراجيفهم ، وتجاهل عمّا يجري في سوء ألفاظهم.

واترك المزاح رأساً ، فإن اللبيب يحقد عليك والسفيه يجترىء عليك ، فإنّه مسقط لماء الوجه ومخرق للهيبة ، وهو يميت القلب ، ويباعد عن الربّ ، ويكسب الغفلة ، ويورث الذلّة ، والله المستعان. (١)

فصل

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية ، ويدلّ عليه الإجماع والكتاب والسنّة والاعتبار.

__________________

١ ـ المحجة البيضاء : ٣ / ٣٥٠ ـ ٣٥٢.

٤٣٩

أمّا الأول : فمن المسلمين كافّة.

وأما الثاني : فقال تعالى :

( ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ). (١)

والأمر يدلّ على الوجوب ، والنسبة إلى الأمّة منكّرة تدلّ على كونه كفائياً.

وقال تعالى :

( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمّة قائمة يتلون إلى آيات الله آناء اللّيل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ). (٢)

وقال : ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ). (٣)

وقال : ( كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ). (٤)

وقال : ( الّذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ). (٥) وغير ذلك.

وأما الثالث : فقد أشير إلى بعضها.

وقال الباقر عليه‌السلام في حديث طويل : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحلّ المكاسب وتردّ المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء

__________________

١ ـ آل عمران : ١٠٤.

٢ ـ آل عمران : ١١٣ ـ ١١٤.

٣ ـ التوبة : ٧١.

٤ ـ آل عمران : ١١٠.

٥ ـ الحج : ٤١.

٤٤٠