رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٨

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٨

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-110-9
الصفحات: ٤٨٦

فإن امتنع صار حربياً ) كما هنا وفي جملة من كتب الفاضل ، ومنها المنتهى (١) ، وظاهره عدم خلاف فيه بين العلماء ، حيث لم ينقل فيه خلافاً ؛ ولعلّه للعموم كتاباً وسنةً خرج منه حال الصباوة وبقي غيرها.

ومنه يظهر أنه لو أفاق المجنون أو أُعتق العبد فعليهما الجزية ويستأنف العقد معهما ، أو يسلما. فإن امتنعا صارا حربيين كما صرّح به في القواعد (٢) ، وفيه وفي المنتهى : أنّه لا اعتبار بجزية الأب (٣). وهو كذلك ؛ للأصل السالم عن المعارض.

( والأولى أن لا يقدّر الجزية ) بحسب الشرع كليةً ، لا في طرف القلّة ولا في طرف الكثرة ، وفاقاً للأكثر كما في كتب (٤) ، بل لا خلاف فيه يظهر ولا ينقل إلاّ من نادر سيظهر ، وفي الغنية الإجماع عليه (٥) ؛ وهو الحجّة ، مضافاً إلى الأصل ، وإطلاقات الكتاب والسنة ، وخصوص الصحيح : ما حدّ الجزية على أهل الكتاب؟ وهل عليهم في ذلك شي‌ء موظّف لا ينبغي أن يجوز إلى غيره؟ فقال عليه‌السلام : « ذلك إلى الإمام يأخذ من كلّ إنسان منهم ما شاء على قدر ماله وما يطيق ، إنّما هم قوم فدوا أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا ، فالجزية تؤخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن يأخذهم به حتّى يسلموا ، فإنّ الله تعالى قال ( حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ ) وكيف يكون صاغراً وهو لا يكترث لما يؤخذ منه‌

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٩٦٣ ، وأُنظر التحرير ١ : ١٤٩.

(٢) القواعد ١ : ١١٢.

(٣) المنتهى ٢ : ٩٦٣.

(٤) راجع المنتهى ٢ : ٩٦٥ ، والمسالك ١ : ١٥٧.

(٥) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨٤.

٤١

حتّى لا يجد (١) ذلاًّ لما أُخذ منه ، فيألم لذلك فيسلم » (٢).

ومع ذلك ( فإنّه أنسب بالصغار ) كما استفيد من الصحيح المزبور ، وصرّح به الحلّي ، فقال بعد أن ذكر اختلاف المفسرين في تفسير الصغار ـ : والأظهر أنّه التزام أحكامنا عليهم وإجراؤها ، وألاّ يقدر الجزية فيوطّن نفسه عليها ، بل يكون بحسب ما يراه الإمام عليه‌السلام بما يكون معه ذليلاً صاغراً خائفاً ، فلا يزال كذلك غير موطّن نفسه على شي‌ء ، فحينئذٍ يتحقق الصغار الذي هو الذلّة. ثمّ قال : وذهب المفيد إلى أنّ الصغار هو : أن يأخذهم الإمام بما لا يطيقون حتى يسلموا ، وإلاّ فكيف يكون صاغراً وهو لا يكترث بما يؤخذ منه فيسلم (٣).

خلافاً للإسكافي ، فقدّرها في طرف القلّة ، بأنه لا تؤخذ من كلّ كتابي أقلّ من دينار ، ووافق المختار في طرف الكثرة (٤) ؛ للنبوي العامي : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر معاذاً أن يأخذ من كلّ حالِم ديناراً (٥).

( و ) لنادرٍ غير معروف ، فقدّرها بما في بعض الأخبار المشهورة بين الخاصّة والعامّة من أنّه ( كان عليّ عليه‌السلام يأخذ من الغنيّ ثمانية وأربعين درهماً ، ومن المتوسط أربعة وعشرين درهماً ، ومن الفقير اثني عشر درهماً ) (٦).

__________________

(١) في المصادر عدا الوسائل : حتى يجد.

(٢) الكافي ٣ : ٥٦٦ / ١ ، الفقيه ٢ : ٢٧ / ٩٨ ، التهذيب ٤ : ١١٧ / ٣٣٧ ، الإستبصار ٢ : ٥٣ / ١٧٦ ، الوسائل ١٥ : ١٤٩ أبواب جهاد العدو ب ٦٨ ح ١.

(٣) السرائر ١ : ٤٧٣.

(٤) كما نقله عنه في المختلف : ٣٣٤.

(٥) سنن البيهقي ٩ : ١٩٣.

(٦) المقنعة : ٢٧٢ ، الوسائل ١٥ : ١٥٣ أبواب جهاد العدو ب ٦٨ ح ٧.

٤٢

وضعفهما ظاهر ؛ إذ بعد الإغماض عن سند الروايتين ، وعدم معارضتهما للصحيح المتقدم بوجه ، قضيّتان في واقعة. فلعلّ فعلهما عليهما‌السلام كان ( لاقتضاء المصلحة ) ذلك التقدير في ذلك الوقت ( لا ) أنه كان منهما ( توظيفاً لازماً ) يجب العمل به ولو اقتضى المصلحة خلافه.

ويؤيّده أنه لو كان توظيفاً ، لما زاد الأمير عليه‌السلام عمّا قدّره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فالروايتان بعد ضمّ إحداهما مع الأُخرى ، يمكن الاستدلال بهما للمختار لو صحّ سندهما كما فعله في المنتهى (١).

( ويجوز وضع الجزية على الرؤوس أو الأرض ) أي على أحدهما من غير أن يتعيّن شي‌ء منهما ، بلا خلاف أجده فتوًى ونصاً.

( وفي جواز الجمع ) بينهما في الجزية ، بأن توضع عليهما ابتداءً أو مطلقاً ( قولان ، أشبههما ) عند الماتن هنا وفي الشرائع ( الجواز ) (٢) وفاقاً للمحكي عن الإسكافي والتقي (٣) ، واختاره أكثر المتأخرين (٤) ، ومنهم الفاضل في جملة من كتبه (٥).

واستدلّ عليه في المنتهى بأنّ الجزية غير مقدّرة في طرفي النقصان والزيادة ، بل هي موكولة إلى نظر الإمام عليه‌السلام ، فجاز أن يأخذ من أراضيهم ورؤوسهم ، كما يجوز له أن يضيف الجزية على رؤوسهم في الحول‌

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٩٦٥.

(٢) الشرائع ١ : ٣٢٨.

(٣) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٣٣٤ ، التقي ( أبو الصلاح ) في الكافي : ٢٤٩.

(٤) كالشهيدين في الدروس ٢ : ٣٤ ، والروضة ٢ : ٣٨٩ ، والمحقق الكركي في جامع المقاصد ٣ : ٤٥١.

(٥) كالمنتهى ٢ : ٩٦٦ ، والتحرير ١ : ١٤٩ ، والقواعد ١ : ١١٣.

٤٣

الثاني ، ولأنّ ذلك أنسب بالصغار (١).

وأجاب عنه في المختلف حيث إنّه فيه ممّن اختار المنع ، وفاقاً لمن حكاه عنه من النهاية والقاضي وابن حمزة والحلّي ، فقال : والجواب : ليس النزاع في تقسيط جزية على الرأس والأرض ، بل في وضع جزيتين عليهما ، واستدلّ على المنع بالصحيح : « عليهم ما أجازوا على أنفسهم ، وليس للإمام أكثر من الجزية ، إن شاء الإمام وضعها على رؤوسهم وليس على أموالهم شي‌ء ، وإن شاء فعلى أموالهم وليس على رؤوسهم شي‌ء » (٢) (٣).

أقول : ونحوه صحيح آخر لراويه (٤).

وأجاب عنهما في المنتهى بعد أن استدلّ بهما للمنع بأنّا نقول بموجبهما ونحملهما على ما إذا صالحهم على قدر معيّن ، فإن شاء أخذ من رؤوسهم ولا شي‌ء له حينئذٍ على أرضهم وبالعكس. وليس فيهما دلالة على المصالحة على أن يأخذ من رؤوسهم وأرضهم ابتداءً (٥).

وكلامه هذا ـ كما ترى ـ ظاهر بل صريح في أنّ محل النزاع إنّما هو تقسيط الجزية على الرؤوس والأرض معاً ابتداءً ، وأنه لو تصالح معهم على أحدهما فليس له الأخذ بالأُخرى اتّفاقاً. مع أنّ المستفاد من كلامه في‌

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٩٦٦.

(٢) الكافي ٣ : ٥٦٦ / ١ ، التهذيب ٤ : ١١٧ / ٣٣٧ ، الإستبصار ٢ : ٥٣ / ١٧٦ ، الوسائل ١٥ : ١٤٩ أبواب جهاد العدو ب ٦٨ ح ١.

(٣) المختلف : ٣٣٤.

(٤) الكافي ٣ : ٥٦٧ / ٢ ، التهذيب ٤ : ١١٨ / ٣٣٨ ، الإستبصار ٢ : ٥٣ / ١٧٧ ، الوسائل ١٥ : ١٥٠ أبواب جهاد العدو ب ٦٨ ح ٢.

(٥) المنتهى ٢ : ٩٦٦.

٤٤

المختلف أنّ جواز تقسيط الجزية الواحدة عليهما ليس محلّ خلاف ، وإنّما هو في تقسيط الجزيتين عليهما مطلقاً ولو بعد أن صالح على جزية واحدة على أحدهما ابتداءً.

وعلى هذا فلم يتشخّص محل النزاع ، أهو ما في المختلف أو ما في المنتهى ، ولكن إطلاق نحو المتن يعمّهما ، فيعمّهما القول بالمنع والجواز. فما في المتن من الجواز كذلك أقوى ؛ لما مرّ في المنتهى ، مضافاً إلى الأصل ، والإطلاقات السليمة عمّا يصلح للمعارضة ، عدا الصحيحين المشار إليهما ، وليس فيهما الدلالة على المنع في محل النزاع أصلاً ، وهو تقسيط الجزية الواحدة على الأمرين أو أخذ جزيتين عليهما ابتداءً أو مطلقاً. وإنما غايتهما أنه ليس عليهم بعد الجزية شي‌ء ، فإذا جعلها الإمام على رؤوسهم ، فليس عليهم بعد هذه الجزية شي‌ء آخر غيرها على أموالهم وبالعكس ، لا أنه ليس للإمام أن يقسطها عليهما مثلاً. ولا تعرّض لهما فيهما بنفي أو إثبات أصلاً. فينبغي الرجوع فيهما إلى مقتضى الأُصول والعمومات ، وهو الجواز مطلقاً كما قدّمنا.

ثم إنّه ليس في المتن وعبائر كثير تقييد الجواز بالابتداء ، وقيّده به في الشرائع (١) معرباً عن عدم الخلاف بالمنع في غيره.

وظنّي أن المراد به الاحتراز عمّا لو تصالح ابتداءً معهم على جزية رؤوسهم أو أراضيهم إحداهما ، فلا يجوز له أخذ جزية أُخرى ولو موضوعة على غير ما وضع عليه الأُخرى ، كما تقدّم التصريح به في المنتهى (٢).

__________________

(١) الشرائع ١ : ٣٢٨.

(٢) المنتهى ٢ : ٩٦٦.

٤٥

ونحوه الفاضل المقداد في شرح الكتاب فقال بعد نقل القولين مع الدليل من الطرفين ـ : والأقوى أن نقول : إذا اتّفقوا هم والإمام على قدر معيّن فأراد الإمام بعد ذلك تقسيطه على الرؤوس والأموال جاز ، وأمّا إذا أراد جعل جزية أُخرى على الأرض فلا يجوز للرواية (١). وأشار بها إلى الصحيحين.

أقول : وفي دلالتهما على ذلك أيضاً نظر ، يظهر وجهه ممّا مرّ.

وفي المسالك : أنه احترز بهذا القيد عمّا لو وضعها على رأس بعضهم وعلى أرض بعض آخر ، فانتقلت الأرض التي وضعت عليها إلى من وضعت على رأسه ، فإنه يجتمع عليه الأمران ، لكن ذلك ليس ابتداءً ، بل بسبب انتقال الأرض إليه (٢).

وفيه نظر : فإنّ الاحتراز به عن ذلك إنّما يتمّ لو قيّد للمنع به وليس كذلك ، فإنّه قد أطلق المنع أولاً ، ثم نقل قولاً بالجواز بهذا القيد فيقيّد المنع في غيره قولاً واحداً لا الجواز ، كما لا يخفى ، ثم إنّ الجواز في غير الابتداء بالمعنى الذي ذكره غير واضح ؛ لعدم وضوح دليل عليه ، إلاّ أن يكون إجماعاً ، كما ربما يفهم منه ومن غيره ، بل نفى الخلاف عنه بعض العلماء.

( وإذا أسلم الذمي قبل ) حلول ( الحول سقطت ) عنه ( الجزية ) فلا يجب عليه أداؤها إجماعاً ، كما في المنتهى (٣).

( ولو كان ) إسلامه ( بعده وقبل الأداء ) لها ( فقولان : أشبههما السقوط ) أيضاً وهو أشهر ، بل لا يكاد فيه خلاف يعتدّ به يظهر ، إلاّ من‌

__________________

(١) التنقيح الرائع ١ : ٥٧٦.

(٢) المسالك ١ : ١٥٧.

(٣) المنتهى ٢ : ٩٦٨.

٤٦

فحوى عبارة الحلبي المحكية في المختلف (١) ، ولم يحكه فيه عن أحد غيره ، حتى الشيخ في الخلاف ، بل أطلق مصيره إلى الأوّل من غير تقييد بما عدا الخلاف ، لكن حكاه عنه في المنتهى ، وولده في الإيضاح (٢).

وكيف كان فلا ريب في ندرة هذا القول ، وضعف مستنده من الأصل ، لوجوب تخصيصه بحديثي الجبّ ونفي الجزية عن المسلم المجمع عليهما من أصلهما ، والمعتضدين هنا بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، بل الإجماع في الغنية (٣).

وإطلاق النصّ والفتوى يقتضي عدم الفرق بين ما لو أسلم لإسقاطها وعدمه وبه صرّح جماعة (٤).

خلافاً لبعضهم (٥) ، فأحتمل الفرق بينهما بالسقوط في الصّورة الثانية دون الاولى.

وهو ضعيف جدّاً.

( وتؤخذ ) الجزية ( من تركته لو مات بعد الحول ذميا ) بلا خلاف فيه بيننا كما يظهر من المنتهى (٦) ؛ للأصل السليم عن المعارض ، عدا بعض القياسات العامية.

( أمّا الشروط ) فهي على ما ذكر هنا ( خمسة : )

( قبول الجزية ).

__________________

(١) المختلف : ٣٣٥.

(٢) المنتهى ٢ : ٩٦٨ ، إيضاح الفوائد ١ : ٣٨٦.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨٤.

(٤) منهم : العلاّمة في المنتهى ٢ : ٩٦٨ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٥٨.

(٥) كالشيخ في التهذيب ٤ : ١٣٥.

(٦) المنتهى ٢ : ٩٦٧.

٤٧

( وأن لا يؤذوا المسلمين ، كالزنا بنسائهم ) واللواط بأطفالهم ( والسرقة لأموالهم ) ونحو ذلك.

( وأن لا يتظاهروا بالمحرّمات كشرب الخمر والزنا ونكاح المحرّمات ) من الأخوات وبناتهن وبنات الأخ.

( وأن لا يُحدثوا كنيسةً ولا يضربوا ناقوساً ) ولا يعلوا بناءً.

[ ( وأن تجري عليهم أحكام الإسلام ) ] (١).

وزاد جماعة (٢) سادساً ، وهو : أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان ، مثل العزم على حرب المسلمين ، وإمداد المشركين.

وإنّما لم يذكره الماتن هنا وكثير ؛ لأنّه من مقتضيات العقد ، ولذا لم يجب اشتراطه فيه ، كما في المنتهى. وينقض بالإخلال به ولو لم يشترط فيه ، كما فيه ، وفيه نفي الخلاف عن لزوم ذكر الشرط الأول والخامس فيه ، وانتقاضه بالإخلال بأحدهما مطلقاً (٣).

وظاهره عدم لزوم ذكر الشروط الأُخر ، وأنّه ممّا ينبغي ، وعدم انتقاض الذمة بالإخلال بها كلا أو بعضاً إلاّ مع الشرط ، فيفعل بهم ما يوجبه شرع الإسلام من حدّ أو تعزير. وهو خيرته في جملة من كتبه (٤) تبعاً للماتن في الشرائع (٥) ، وتبعهما شيخنا في المسالك والروضة (٦).

__________________

(١) أضفنا هذه الفقرة من المختصر المطبوع.

(٢) منهم : الماتن في الشرائع ١ : ٣٢٩ ، والشهيد في الدروس ٢ : ٣٤ ، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة ٧ : ٤٣٩.

(٣) المنتهى ٢ : ٩٦٩.

(٤) كالتذكرة ١ : ٤٤٣ ، والتحرير ١ : ١٥٠.

(٥) الشرائع ١ : ٣٢٩.

(٦) المسالك ١ : ١٥٨ ، الروضة ٢ : ٣٨٩.

٤٨

خلافاً لظاهر المتن واللمعة ، فظاهرهما الانتقاض به مطلقاً (١) ، وبه صرّح في الدروس (٢) وفاقاً للنهاية والسرائر والغنية (٣) ، وفيها الإجماع فتوى. وفي الأوّلين الإجماع رواية (٤). فقالا : وروى أصحابنا : أنهم متى ما تظاهروا بشرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير ، ونكاح المحرّمات في شرعنا والربا ، نقضوا بذلك العهد.

ولعلّهما أرادا بها الصحيح « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الجزية من أهل الذمة على أن لا يأكلوا الربا ، ولا يأكلوا لحم الخنزير ، ولا ينكحوا الأخوات ولا بنات الأخ ولا بنات الأُخت ، فمن فعل ذلك منهم برئت منه ذمّة الله تعالى وذمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٥). وفي دلالته على حصول النقض بالإخلال بها مطلقاً نظر.

نعم هو نصّ في ذلك مع الشرط. فيردّ به ما عن الشيخ رحمه‌الله من عدم النقض به مطلقاً ولو مع الشرط (٦) سيّما مع ندرته ودعوى الإجماع منه ومن غيره على خلافه. فلولاه لكان القول بالتفصيل بين الإخلال مع الشرط فالنقض وبدونه فالعدم ، متوجهاً.

( ويلحق بذلك البحث في الكنائس والمساجد والمساكن ).

__________________

(١) اللمعة ( الروضة البهية ٢ ) : ٣٨٨.

(٢) الدروس ٢ : ٣٤.

(٣) النهاية : ٢٩٢ ، السرائر ٢ : ٧ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨٤.

(٤) الظاهر أن مراده من الأولين النهاية والسرائر ، والعبارة موجودة في السرائر ١ : ٤٧٤ ، ولم نجدها في النهاية ، بل هي موجودة في المبسوط ٢ : ٤٤ من دون ذكر لفظ الربا.

(٥) الفقيه ٢ : ٢٧ / ٩٧ ، التهذيب ٦ : ١٥٨ / ٢٨٤ ، الوسائل ١٥ : ١٢٤ أبواب جهاد العدو ب ٤٨ ح ١.

(٦) انظر المختلف : ٣٣٥.

٤٩

فنقول : ( لا يجوز ) لأهل الكتاب ( استئناف البِيَع ) بكسر الموحدة وتحريك المثناة : جمع بيعة النصارى ومعبدهم ، كسدرة وسدر.

( والكنائس ) جمع كنيسة ، وهي معبد اليهود كما هو ظاهر الأصحاب. وقيل : النصارى أيضاً كما عن الصحاح (١) ، لكن من غير ذكر اليهود ، ونحوه فيه غيره.

وعلى هذا فيكون معبد اليهود مخلاًّ بذكره ، وكان عليه التنبيه عليه بذكر باقي المعابد كصومعة الراهب وغيرها من أنواع البيوت المتخذة لصلاتهم وعباداتهم ، لاشتراك الجميع في الحكم في المنع عن إحداثها ( في بلاد الإسلام ) سواء أنشأها المسلمون وأحدثوه ككوفة وبغداد وبصرة ، وسرّمن‌رأى فيما ذكره جماعة (٢) ، وفتحوها عنوةً أو صلحاً على أن يكون لنا ولم يشترط لهم السكنى فيها ، بلا خلاف في الأُولى بين العلماء ، كما في صريح المنتهى (٣) وظاهر السرائر ، وفيه التصريح بأنّه لا يجوز أن يقرّهم على ذلك وأنّه إن صالحهم على ذلك بطل الصلح بلا خلاف (٤).

وكذا في الثانية ، كما في التحرير (٥).

وفي المسالك والدروس الإجماع في الأُولى (٦) ؛ وهو الحجة ، مضافاً إلى عدم خلاف فيها ولا في غيرها لا ظاهراً ولا محكياً ؛ وما في المنتهى‌

__________________

(١) الصحاح ٣ : ٩٧٢.

(٢) منهم : العلاّمة في المنتهى ٢ : ٩٧٢ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٥٨.

(٣) المنتهى ٢ : ٩٧٢.

(٤) السرائر ١ : ٤٧٥.

(٥) التحرير ١ : ١٥٢.

(٦) المسالك ١ : ١٥٨ ، الدروس ٢ : ٣٩.

٥٠

وغيره : من أنّ هذا البلد للمسلمين وهو ملك لهم ، فلا يجوز لهم أن يبنوا فيه مجامع الكفر (١). لكنه لا يفي بما هو ظاهر الأصحاب من إطلاق المنع وعمومه لما إذا أقرّهم على ذلك الإمام ، وبه وقع التصريح في السرائر (٢).

ونحوه فيه الخبر المرويّ في المنتهى عن ابن عباس أنّه قال : أيّما مصر مصره العرب فليس من أهل الذمّة أن يبني فيه بيعة ، وما كان قبل ذلك فحق على المسلمين أن يقرّ لهم (٣).

وفي حديث آخر : « أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة ، ولا يضربوا فيه ناقوساً ، ولا يشربوا فيه خمراً ، ولا يتخذوا فيه خنزيراً » (٤). مضافاً إلى عدم حجية الخبر ووهنه.

( و ) كلّ موضع لا يجوز لهم إحداث شي‌ء من ذلك ( يزال لو استحدث ) كما هنا وفي كتب الفاضل (٥) ، من غير ظهور خلاف فيه ولا نقله.

واحترز بالاستئناف عمّا لو كان موجوداً في الأرض قبل أن يمصّره المسلمون ، فإنه يقرّ على حاله ، مثل كنيسة الروم في بغداد ، فإنّها كانت في قرى لأهل الذمّة وأقرّت على حالها ، كما صرّح به جماعة ومنهم شيخنا في المسالك والعلاّمة في المنتهى من غير نقل خلاف فيه أصلاً (٦).

ويعضده مضافاً إلى الخبر السابق الأصل واختصاص المانع من النص والفتوى بالإحداث.

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٩٧٢ ؛ وأُنظر التذكرة ١ : ٤٤٥.

(٢) السرائر ١ : ٤٧٥.

(٣) المنتهى ٢ : ٩٧٢.

(٤) المنتهى ٢ : ٩٧٢ وفيه : مصَّرَه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٥) كالإرشاد ١ : ٣٥١ ، والتحرير ١ : ١٥٢ ، والمنتهى ٢ : ٩٧٣.

(٦) المسالك ١ : ١٥٨ ، المنتهى ٢ : ٩٧٢.

٥١

ومنه يظهر الوجه فيما أشار إليه بقوله : ( ولا بأس بما إذا كان ) من ذلك ( عاديا ) أي قديماً ( قبل الفتح ) ولم يهدمه المسلمون.

وعزاه في المسالك إلى المشهور قال : ولم ينقل المصنف والأكثر في ذلك خلافاً ، ونقل في التذكرة أقول : وفي التحرير والمنتهى (١) أيضاً عن الشيخ أنّه لا يجوز إبقاؤه ؛ لما تقدّم من الدليل على المنع عن الإحداث ، والعمل على المشهور ، وقد فتح الصحابة كثيراً من البلاد عنوةً ولم يهدموا شيئاً من الكنائس ، وحصل الإجماع على ذلك ، فإنّها موجودة في بلاد الإسلام من غير نكير. وتردّد في التذكرة حيث نقل المنع عن الشيخ ساكتاً عليه (٢).

أقول : وكذا في كتابيه المتقدمين.

ولكن لا وجه له سيّما مع عدم وضوح دليل على المنع سوى ، ما قدّمنا ، وليس بجارٍ هنا كما مضى.

( و ) كذا لا بأس ( بما أحدثوه في أرض الصلح ) على أن تكون الأرض لهم أو لنا وشرط لهم السكنى فيها وأن يحدثوا فيها كنائس وبيعاً ونحوهما.

وبه صرّح جماعة ، ومنهم السرائر والمنتهى من غير نقل خلاف فيه أيضاً ، ولا في أنه إن شرط عليهم أن لا يحدثوا شيئاً أو يخربوها جاز ذلك أيضاً ، وإن لم يشترط لم يجز لهم تجديد شي‌ء (٣).

وفي المنتهى : إذا شرط لهم التجديد والإحداث فينبغي أن يعيّن‌

__________________

(١) التذكرة ١ : ٤٤٥ ، التحرير ١ : ١٥٢ ، المنتهى ٢ : ٩٧٢.

(٢) المسالك ١ : ١٥٨.

(٣) السرائر ١ : ٤٧٥ ، المنتهى ٢ : ٩٧٣ ؛ وأُنظر المبسوط ٢ : ٤٦.

٥٢

مواضع البيع والكنائس. وكل موضع لا يجوز لهم إحداث شي‌ء فيه إذا أحدثوا فيه جاز نقضه وتخريبه. وكل موضع لهم إقراره لا يجوز هدمه ، فلو انهدم هل يجوز إعادته؟ تردّد الشيخ في المبسوط في ذلك. ثم نقل الخلاف في ذلك والتردّد أيضاً عن العامة ، ولم يرجّح شيئاً. وقال بعد ذلك ـ : قد وقع الاتفاق على جواز رمّ ما يشعب منها وإصلاحه (١).

ولعلّه المستند في قوله : ( ويجوز رَمّها ) مضافاً إلى الأصل وكونه من مقتضيات عقد الصلح.

( ولا ) يجوز أن ( يُعلي الذمّي بنيانه فوق ) بنيان ( المسلم ) بلا خلاف فيه ظاهراً ، بل عليه الإجماع في المسالك والمنتهى (٢) ، وفيه للنبوي : « الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه » (٣).

وظاهر المتن وصريح الشرائع عدم المنع من المساواة (٤). وهو خلاف ظاهر النصّ والأكثر ، كالشيخ وجمع ممّن تأخر ، ومنهم الحلّي والفاضل والشهيدان وغيرهم (٥) ولعلّه الأظهر.

ومقتضى إطلاق النصّ والفتوى عدم الفرق في المنع بين كون بناء الجار معتدلاً ، أو في غاية الانخفاض حتى لو كان نحو السرداب ، لكن استثناه الشهيدان. قال في المسالك : لعدم صدق البناء (٦).

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٩٧٣.

(٢) المسالك ١ : ١٥٨ ، المنتهى ٢ : ٩٧٣.

(٣) الفقيه ٤ : ٢٤٣ / ٧٧٨ ، الوسائل ٢٦ : ١٤ أبواب موانع الإرث ب ١ ح ١١.

(٤) الشرائع ١ : ٣٣٢.

(٥) الشيخ في المبسوط ٢ : ٤٦ ، الحلي في السرائر ١ : ٤٧٦ ، العلاّمة في المنتهى ٢ : ٩٧٣ ، الشهيد الأول في الدروس ٢ : ٣٥ ، الشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٥٩ ؛ وأُنظر جامع المقاصد ٣ : ٤٦٣.

(٦) المسالك ١ : ١٥٩.

٥٣

وهو حسن لو علّق المنع في النصّ على صدق البناء ، وليس كذلك كما ترى وإنما ذلك في الفتوى وهو على تقدير حجّيّته لا يفيد الجواز في غيره ممّا يدخل في عموم المنع المستفاد من النصّ.

ومنه يظهر أنّ المعتبر فيه ما يصدق عليه العلوّ عرفاً من بناء أو هواء ، لا خصوص البناء كما قطع به الشهيد الأول واحتمله الثاني (١).

ويظهر الفائدة فيما لو كان بيت الذمّي على أرض مرتفعة ودار المسلم في منخفضة ، فعلى ما ذكره الشهيدان يجوز للذمّي أن يرتفع بحيث لا يبلغ طول حائط المسلم ، وعلى غيره يعتبر ارتفاع الأرض عن المسلم من جملة البناء ، وجوّزا مع الانعكاس أن يرتفع الذمّي إلى أن يقارب دار المسلم وإن أدّى إلى الإفراط في الارتفاع.

ثم إنّ الظاهر أنّ المنع من ذلك إنّما هو لحقّ الدين ، لا لمحض الجار بحيث يسقط مع رضاه. وأنّه لا يجب أن يكون أقصر من بناء المسلمين بأجمعهم في ذلك البلد ، وإنما يلزمه أن يقصر عن بناء محلّه ، كما صرّح به في السرائر والمنتهى وغيرهما من غير نقل خلاف فيه أيضاً (٢).

( ويقرّ ما ابتاعه من مسلم على حاله ) وإن كان عالياً.

وكذا لو كان للذمّي دار عالية فاشترى المسلم داراً إلى جنبها أقصر منها ، أو بنى المسلم داراً إلى جنبها أقصر منه فإنه لا يجب على الذمّي هدم علوّه ، بلا خلاف في شي‌ء من ذلك يظهر ولا ينقل.

( ولو انهدم ) دار الذمّي العالية فأراد تجديدها فكالمستحدثة ( لم يعل به ) على المسلم إجماعاً ، ولم يساو على الخلاف.

__________________

(١) الشهيد الأول في الدروس ٢ : ٣٥ ، الشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٥٩.

(٢) السرائر ١ : ٤٧٦ ، المنتهى ٢ : ٩٧٣ ؛ وأُنظر التحرير ١ : ١٥٢.

٥٤

وكذا لو انهدم ما علا منها وارتفع ، فإنه لا يكون له إعادته.

ولو تشعّب منه شي‌ء ولم ينهدم جاز رمّه وإصلاحه.

صرّح بجميع ذلك في المنتهى وغيره ، من غير نقل خلاف (١).

( ولا يجوز لأحدهم ) ولا لغيرهم من المشركين ( دخول المسجد الحرام ) مطلقاً بإجماع العلماء ، كما في السرائر والمنتهى (٢) ؛ لنصّ الكتاب ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) (٣). ( و ) كذا ( لا ) يجوز لكل منهم دخول ( غيره ) من المساجد مطلقاً ( ولو أذن له المسلم ) في الدخول ، عندنا كما في الشرائع والتحرير وكنز العرفان (٤) ، وفي المنتهى : إنه مذهب أهل البيت (٥).

وظاهرهم الإجماع كما في صريح المسالك (٦) ؛ وهو الحجة ، دون ما في المنتهى والتذكرة (٧) من وجوه عديدة لم أعرف في شي‌ء منها دلالة وإن صلحت لجعلها مؤيّدة ، كما في الكنز من الاستدلال عليه بنصوص أهل البيت (٨) ؛ إذ لم نقف عليها ولا على من أشار إليها أصلاً وهو أعرف بها (٩).

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٩٧٣ ؛ وأُنظر التذكرة ١ : ٤٤٦.

(٢) السرائر ١ : ١٨٩ ، المنتهى ٢ : ٩٧٢.

(٣) التوبة : ٢٨.

(٤) الشرائع ١ : ٣٣٢ ، التحرير ١ : ١٥١ ، كنز العرفان ١ : ٤٩.

(٥) المنتهى ٢ : ٩٧٢.

(٦) المسالك ١ : ١٥٩.

(٧) المنتهى ٢ : ٩٧٢ ، التذكرة ١ : ٤٤٥.

(٨) كنز العرفان ١ : ٤٩.

(٩) من النصوص ما ورد في الدعائم ١ : ١٤٩ عن علي عليه‌السلام : « لتمنعنّ مساجدكم يهودكم ونصاراكم وصبيانكم ومجانينكم أو ليمسخنّكم الله قردة وخنازير ركّعاً وسجّداً ». وقريب منه ما ورد في البحار ٨٠ : ٣٤٩ عن نوادر الراوندي.

٥٥

وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى.

وهنا‌ ( مسألتان )

( الأولى : يجوز أخذ الجزية من أثمان المحرّمات كالخمر ) والخنزير والأُمور التي يحرم على المسلمين بيعها وشراؤها ، بغير خلاف ظاهر ، مصرّح به في السرائر (١) ، مؤذناً بالإجماع عليه ، كما في ظاهر المختلف حيث قال فيه : وعليه علماؤنا (٢). إلاّ أن فيه وفي الدروس نقل الخلاف فيه على إطلاقه عن الإسكافي ، حيث خصّ الجواز بغير صورة الإحالة على المشتري ، واختار المنع فيها (٣).

وردّه في المختلف بالعموم. ولعل المراد به عموم الصحيح : عن صدقات أهل الذمة ، وما يؤخذ من جزيتهم من ثمن خمورهم وخنازيرهم وميتتهم قال : « عليهم الجزية في أموالهم ، تؤخذ من ثمن لحم الخنزير أو الخمر ، فكلّ ما أخذوا منهم فوِزر ذلك عليهم ، وثمنه للمسلمين حلال ، يأخذونه في جزيتهم » (٤).

وهو حسن ، مع أنّ قوله نادر.

واحترز بالأثمان عن نفس المحرمات ، فإنه لا يجوز أخذها إجماعاً كما في المنتهى (٥). ولم نر في ذلك خلافاً أيضاً.

( الثانية ) كان ( يستحق الجزية ) في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يستحقّ‌

__________________

(١) السرائر ١ : ٤٧٤.

(٢) المختلف : ٣٣٥.

(٣) الدروس ٢ : ٣٤.

(٤) الكافي ٣ : ٥٦٨ / ٥ ، الفقيه ٢ : ٢٨ / ١٠٠ ، التهذيب ٤ : ١١٣ / ٣٣٣ ، الوسائل ١٥ : ١٥٤ أبواب جهاد العدو ب ٧٠ ح ١.

(٥) المنتهى ٢ : ٩٧٠.

٥٦

الغنيمة سواء ، فهي للمجاهدين كما في التحرير والمنتهى (١) وغيرهما ، وفيهما : وكذلك ما يؤخذ منهم على وجه المعاوضة لدخول بلاد الإسلام. وفي الدروس : إنّ مصرفها عسكر المجاهدين (٢).

ولا إشكال فيه ؛ للصحيح : « إنّما الجزية عطاء المهاجرين ، والصدقة لأهلها الذين سمّى الله تعالى في كتابه ، فليس لهم من الجزية شي‌ء » (٣).

وإنما الإشكال في مصرفها اليوم ، ففي النهاية والسرائر بعد ذكر نحو ما سبق : إنها اليوم لـ ( من قام مقام المهاجرين في الذّب ) أي الدفع ( عن الإسلام ) ونصرته (٤). وزاد في السرائر : ولمن يراه الإمام من الفقراء والمساكين ( من ) سائر ( المسلمين ).

والنصّ كما ترى خالٍ عن ذلك كله ، بل صريح في أن الفقراء والمساكين ليس لهم منها شي‌ء ، ولعلّه لذا لم يذكره الشيخ ولا الماتن ، مع موافقتهما له فيما عداه. ولعلّ مستندهم فيما ذكروه الإجماع أو نصّ لم نقف عليه. ويمكن الاستدلال لهم بنوع من الاعتبار.

( الثالث ) (٥) : من ليس لهم كتاب ولا شبهة كتاب من سائر فرق الكفار. وهؤلاء يجب قتالهم إلى أن يسلموا أو يقتلوا ، ولا تقبل منهم الجزية مطلقاً ، بغير خلاف فيه بيننا ، ظاهر ولا محكي ، إلاّ عن الإسكافي في الصابي ، فألحقه بالكتابي (٦).

__________________

(١) التحرير ١ : ١٥٢ ، المنتهى ٢ : ٩٧٣.

(٢) الدروس ٢ : ٤١.

(٣) الكافي ٣ : ٥٦٨ / ٦ ، التهذيب ٤ : ١٣٦ / ٣٨٠ ، الوسائل ١٥ : ١٥٣ أبواب جهاد العدو ب ٦٩ ح ١.

(٤) النهاية : ١٩٣ ، السرائر ١ : ٤٧٤.

(٥) ممّن يجب جهاده.

(٦) كما حكاه عنه في المختلف : ٣٣٣.

٥٧

وهو نادر ، بل على خلافه الإجماع في ظاهر المنتهى وصريح الغنية ، فإنّ فيها : ولا يجوز أخذ الجزية من عباد الأوثان ، سواء كانوا عجماً أو عرباً ، ولا من الصابئين ولا غيرهم ، بدليل الإجماع المشار إليه. وأيضاً قوله تعالى ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (١) وقوله سبحانه ( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ) (٢) ولم يذكر الجزية وقوله تعالى ( قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) إلى قوله ( مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ) (٣) فشرط في أخذ الجزية أن يكونوا من أهل الكتاب ، وهؤلاء ليسوا كذلك (٤). انتهى.

ويدلّ على ذلك زيادة على ما ذكره الأخبار المتقدم إلى جملة منها الإشارة ، ومنها خبر الأسياف ففيه : « فأمّا السيوف الثلاثة المشهورة فسيف على مشركي العرب ، قال الله عز وجل ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (٥) ( فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ ) (٦) فهؤلاء لا يقبل منهم إلاّ القتل أو الدخول في الإسلام ، وأموالهم وذراريهم سبي على ما سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنه سبى وعفا وقَبِل الفداء » إلى أن قال : « والسيف الثالث على مشركي العجم يعني الترك والديلم والخزر ، قال الله تعالى سبحانه في أوّل السورة التي يذكر فيها الذين كفروا ، فقصّ قصّتهم قال‌

__________________

(١) التوبة : ٥.

(٢) محمد « صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » : ٤.

(٣) التوبة : ٢٩.

(٤) انظر المنتهى ٢ : ٩٦١ ، والغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨٤.

(٥) التوبة : ٥.

(٦) التوبة : ١١.

٥٨

( فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) (١) فأمّا قوله ( فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ ) يعني : بعد السبي( وَإِمّا فِداءً ) يعني : المفاداة بينهم وبين أهل الإسلام ، فهؤلاء لن يقبل منهم إلاّ القتل أو الدخول في الإسلام ، فلا تحلّ لنا مناكحتهم ما داموا في الحرب » (٢).

( ويبدأ ) الإمام ( بقتال من يليه ) من الكفار ، الأقرب منهم فالأقرب ، وجوباً كما في ظاهر المتن والدورس (٣) وصريح المسالك ، قال : لقوله تعالى ( قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ ) (٤) والأمر للوجوب (٥).

وفيه نظر ؛ فإنّ الأمر بمقاتلتهم غير الأمر بالبدأة بقتالهم ، ولذا لم أر مصرّحاً بالوجوب عداه ، فقد عبّر الماتن في الشرائع بالأولى ، والحلّي في السرائر والفاضل في المنتهى والتحرير بلفظة « ينبغي » (٦) واللفظتان ولا سيّما الاولى مشعرتان بالاستحباب أو الاحتياط ، كما صرّح به في كنز العرفان (٧).

ولا ريب فيه ( إلاّ مع اختصاص الأبعد بالخطر ) والضرر الأعظم ، أو كان الأقرب مُهادناً ، بلا خلاف ؛ للأصل ، وعدم دليل على رجحان البدأة في هذه الصورة إن لم نقل بظهور الدليل على رجحان العكس فيها بل قد يجب‌

__________________

(١) محمد « صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » : ٤.

(٢) الكافي ٥ : ١٠ / ٢ ، التهذيب ٦ : ١٣٦ / ٢٣٠ ، الخصال : ٢٧٤ / ١٨ ، الوسائل ١٥ : ٢٥ أبواب جهاد العدو ب ٥ ح ٢.

(٣) الدروس ٢ : ٣١.

(٤) التوبة : ١٢٣.

(٥) المسالك ١ : ١٥٠.

(٦) الشرائع ١ : ٣١٠ ، السرائر ٢ : ٦ ، المنتهى ٢ : ٩٠٧ ، التحرير ١ : ١٣٥.

(٧) كنز العرفان ١ : ٣٥٦.

٥٩

أحياناً كما في الصورة الأُولى.

وفي الدروس والمسالك بعد ذكر الاستثناء : ومن ثَم أغار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الحارث بن أبي ضرار لمّا بلغه أنه مجمع له ، وكان بينه وبينه عدوّ أقرب منه ، وكذا فعل بخالد بن سفيان الهذلي (١).

( ولا يبدؤن ) أي الكفّار مطلقاً بالقتال ( إلاّ بعد الدعوة ) لهم ( إلى الإسلام ) وإظهار الشهادتين ، والإقرار بالتوحيد والعدل ، والتزام جميع شرائط الإسلام.

( فإن امتنعوا ) بعد ذلك ( حلّ جهادهم ) بغير خلاف ؛ للنصوص ، منها المرتضوي : « بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليمن فقال : يا علي ، لا تقاتل أحداً حتى تدعوه ، وأيم الله لأن يهدي الله تعالى على يديك خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت ، ولك ولاؤه يا علي » (٢).

ولأنّ الغرض إدخالهم في الإسلام ، وإنّما يتمّ بدعائهم إليه.

وفي المنتهى : ويستحبّ أن يكون الدعوة بما في النصّ : كيف الدعوة إلى الدين؟ فقال : « يقول : بسم الله أدعوك إلى الله تعالى وإلى دينه ، وجماعة أمران : أحدهما معرفة الله تعالى ، والآخر العمل برضوانه ، وإنّ معرفة الله أن يعرف بالوحدانية والرأفة والعزّة والعلم والقدرة والعلوّ في كلّ شي‌ء ، وأنه الضارّ النافع القاهر لكل شي‌ء ، الذي لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ ما جاء به هو الحق من عند الله وما سواه هو الباطل. فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم‌

__________________

(١) الدروس ٢ : ٣١ ، المسالك ١ : ١٥٠.

(٢) الكافي ٥ : ٣٦ / ٢ ، التهذيب ٦ : ١٤١ / ٢٤٠ ، الوسائل ١٥ : ٤٣ أبواب جهاد العدو ب ١٠ ح ١.

٦٠