رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٨

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٨

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-110-9
الصفحات: ٤٨٦

وهنا‌ ( مسألتان : )

( الأُولى : إذا باع مرابحة فلينسب الربح إلى السلعة ) وهو كما ذكره الأصحاب كأن يقول : بعتك هذه بكذا وربح كذا ؛ لخلوّه عن شبهة الحرمة والكراهة فتوًى وروايةً.

( و ) لا كذلك ( لو نسبه إلى المال ) وهو كما قالوه كأن يقول : بعتك بمائة وربح المائة عشرة ( فـ ) إنّه فيه ( قولان ، أصحّهما ) وأشهرهما بين المتأخّرين ، بل لعلّه عليه عامّتهم الجوار مع ( الكراهة ) وفاقاً للمبسوط والخلاف والسرائر (١) ، استناداً في الثاني إلى الشبهة الناشئة عن اختلاف الفتوى والرواية ، وفي الأوّل إلى الأصل والعمومات المبيحة.

مضافاً إلى خصوص المعتبرة ، منها الصحيح : الرجل يريد أن يبيع البيع فيقول : أبيعك بده دوازده ، أو ده يازده ، فقال : « لا بأس به ، إنّما هذه المراوضة ، فإذا جمع البيع جعله جملة واحدة » (٢).

وفي الاستدلال به كما فعله الأكثر نظر ؛ لذيله الآمر بجعل البيع جملة واحدة ، الظاهر في أنّ المراد أن يقول : بعتك هذه السلعة بدوازده أو يازده بعين ما فعله مولانا الباقر عليه‌السلام ، كما في الصحيح الآتي ، المستدلّ به في كلامهم للقول الثاني. وليس في صدره ما ينافيه ؛ لاحتمال توجّه نفي البأس إليه بشرط العمل بما في الذيل ، أو إذا كان ذلك قبل البيع.

نعم ، في الصحيح أو الموثق الصحيح : « إنّي أكره بيع عشرة أحد‌

__________________

(١) المبسوط ٢ : ١٤١ ، الخلاف ٣ : ١٣٤ ، السرائر ٢ : ٢٩١.

(٢) التهذيب ٧ : ٥٤ / ٢٣٥ ، قرب الإسناد : ٢٩ / ٩٦ بتفاوت يسير ، الوسائل ١٨ : ٦٣ أبواب أحكام العقود ب ١٤ ح ٥.

٣٤١

عشر وعشرة اثني عشر ، ونحو ذلك من البيع ، ولكن أبيعك بكذا وكذا مساومة » (١).

ونحوه الخبر : « أكره بيع ده يازده وده دوازده ، ولكن أبيعك بكذا وكذا » (٢).

وليسا نصّاً في الجواز ؛ لأعمّية الكراهة في زمان الصدور منها بالمعنى المصطلح ومن الحرمة ، فلم يبق إلاّ الأصل والعمومات ، وفيهما مناقشة بعد ما مرّ في الصحيحة الاولى من الأمر بنسبة الربح إلى السلعة ، والجمع بين الربح والثمن جملة.

ولعلّه لهذا ذهب من القدماء إلى القول الثاني جماعة ، كالنهاية والمفيد والقاضي والتقي والديلمي (٣).

ويؤيّده الصحيح عن مولانا الصادق عليه‌السلام ، قال : « قدم متاع لأبي من مصر فصنع طعاماً ودعا له التجار ، فقالوا : نأخذه منك بده دوازده ، فقال عليه‌السلام : وكم يكون ذلك؟ فقالوا : في كلّ عشرة آلاف ألفين ، فقال : إني أبيعكم هذا المتاع باثني عشر ألفاً » (٤).

وهو وإن لم يكن ظاهراً ظهوراً تامّاً إلاّ أنّ في عدو له عليه‌السلام عن إجراء‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٩٧ / ٤ ، التهذيب ٧ : ٥٤ / ٢٣٦ بتفاوت يسير ، الوسائل ١٨ : ٦٣ أبواب أحكام العقود ب ١٤ ح ٤.

(٢) الكافي ٥ : ١٩٧ / ٣ ، التهذيب ٧ ك‍ ٥٥ / ٢٣٧ ، الوسائل ١٨ : ٦٢ أبواب أحكام العقود ب ١٤ ح ٢.

(٣) النهاية : ٣٨٩ ، المفيد في المقنعة : ٦٠٥ ، والقاضي في الكامل حكاه عنه في المختلف : ٣٦٨ ، التقي في الكافي في الفقه : ٣٥٩ ، الديلمي في المراسم : ١٧٥.

(٤) الكافي ٥ ك‍ ١٩٧ / ٢ ، الفقيه ٣ : ١٣٥ / ٥٨٩ ، التهذيب ٧ : ٥٤ / ٢٣٤ ، الوسائل ١٨ : ٦١ أبواب أحكام العقود ب ١٤ ح ١.

٣٤٢

الصيغة بنحو ما ذكروه إلى ما ذكره نوع إيماء وإشارة إلى بأس فيما ذكروه ، وهو كالكراهة في الخبرين المتقدمين وإن كان أعمّ من الحرمة إلاّ أنّ الأمر بما فعله عليه‌السلام هنا في الصحيحة السابقة قرينة واضحة على الحرمة ، وأخبارهم عليهم‌السلام بعضها يكشف عن بعض كما في الرواية.

إلاّ أنّ في تعيّن المصير إليها نوع مناقشة بعد اعتضاد الأصل والعمومات كتاباً وسنّة بالشهرة العظيمة المتأخّرة التي كادت تكون إجماعاً ، بل لعلّها إجماع في الحقيقة ، مع رجوع الشيخ القائل بالحرمة في النهاية إلى الكراهة في الكتابين المتقدم إلى ذكرهما الإشارة ، مع دعواه الإجماع في الخلاف (١) على الكراهة.

مضافاً إلى التأيّد بالخبرين المتضمّنين للكراهة المشعرين بها بالمعنى المصطلح من حيث بُعد المسامحة في التعبير عن الحرمة بلفظ الكراهة.

مضافاً إلى إشعار الصحيحة منهما بها من وجه آخر مستفاد من تتمة لها هي هذه : وقال لي : « أتاني متاع من مصر فكرهت أن أبيعه كذلك وعظم عليّ ، فبعته مساومة ». ولا ريب أنّ المنع أحوط ، هذا.

وقد ذكر بعض الأجلّة أنّ الظاهر من المعتبرة هنا كراهة المرابحة وأولوية المساومة ، لا الكراهة في موضع المسألة (٢).

وهو كذلك لولا المخالفة لفهم الطائفة ، ولذا بعد الحكم بالكراهة في الصحيحة المتقدّمة ، قال : « ولكن أبيعك كذا وكذا مساومة » فتأمّل.

( الثانية : من اشترى أمتعة صفقة ) أي في عقد واحد ، وسمّي بذلك‌

__________________

(١) الخلاف ٣ : ١٣٤.

(٢) الحدائق ١٩ : ٢٠٦.

٣٤٣

اعتباراً بما كانوا يصنعونه من وضع أحدهما يده في يد صاحبه حال البيع ، أو أنه يصفق أحدهما على يد الآخر عند انتهاء العقد ( لم يجز بيع بعضها مرابحةً ، سواء قوّمها أو بسط الثمن عليها وباع خيارها ) بلا خلاف فيما إذا كانت متفاضلة.

وكذا إذا كانت متساوية ، على الأشهر الأقوى ، بل عليه المتأخّرون كافّة ؛ لأنّ المبيع المقابل بالثمن هو المجموع لا الأفراد ، وإن تقسّط الثمن عليها في بعض الموارد ، كما لو تلف بعضها أو ظهر مستحقّاً.

ولإطلاق الصحيحين : في الرجل يشتري المتاع جميعاً ثم يقوّم كل ثوب بما يسوى حتى يقع رأس ماله يبيعه مرابحةً ثوباً ثوباً؟ قال : « لا ، حتى يبيّن أنّه إنّما قوّمه » (١).

خلافاً للإسكافي (٢) فجوّزه حينئذٍ. وهو ضعيف.

( ولو أخبر بذلك ) أي ببيعه الأوّل وتقويمه المبيع بما يقابله من الثمن ( جاز ) مطلقاً ، بلا خلاف ، و ( لكن يخرج ) بذلك ( عن وضع المرابحة ) لأنّها لا بدّ فيها من الإخبار برأس المال ، وهو هنا غير حاصل ؛ لأنّه لم يشتر تلك السلعة وحدها بشي‌ء حتى يخبر به ، إلاّ أنّ ظاهر الخبرين كونه مرابحة ، ولعلّها مجرّد تسمية.

ومما ذكرنا يظهر الوجه في قوله : ( ولو قوّم ) التاجر ( على الدلاّل متاعاً ) بقيمة معينة ( ولم يواجبه البيع ) بإجزاء الصيغة ( وجعل له الزائد ) عنها ( أو شاركه فيه ، أو جعل لنفسه منه قسطاً ) وشيئاً معيّناً‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٩٧ / ١ ، الفقيه ٣ : ١٣٦ / ٥٩٠ ، التهذيب ٧ : ٥٥ / ٢٣٩ ، الوسائل ١٨ : ٧٧ أبواب أحكام العقود ب ٢١ ح ١ ، ٥.

(٢) نقله عنه في المختلف : ٣٦٨.

٣٤٤

( وللدلاّل الزائد ) عليه ( لم يجز ) للدلاّل ( بيع ذلك ) المتاع ( مرابحة ) بلا خلاف ؛ لأنّه كاذب في إخباره ، إذ مجرّد التقويم لا يوجبه.

وللخبر : عن الرجل يحمل المتاع لأهل السوق وقد قوّموا عليه قيمة ، ويقولون : بع فما ازددت فلك ، فقال : « لا بأس بذلك ، ولكن لا يبيعه مرابحة » (١).

( ويجوز لو أخبر بالصورة ) إلاّ أنّه خارج عن وضع المرابحة ( كما قلناه في الأوّل ).

( و ) لو باع زائداً ( يكون للدلاّل الأُجرة ) أُجرة المثل ؛ لأنّه عمل عملاً له اجرة عادةً ، فإذا فات المشروط له شرعاً كما سيأتي رجع إليها.

( و ) تكون ( الفائدة ) والزيادة المشترطة له ( للتاجر ) مطلقاً ، على الأشهر ، سيّما بين من تأخّر ؛ لأنّه نماء ملكه فيتبعه ، مع عدم ما يوجبه للدلاّل سوى الشرط السابق وليس بموجب ( سواء كان التاجر دعاه ) أوّلاً ، كأن قال له : بع هذا بكذا ولك ما زاد ( أو ) كان ( ابتدأه الدلاّل ) فقال له : خبّرني بثمن هذا المتاع واربح عليّ فيه شيئاً لأبيعه ، ففعل ذلك التاجر.

( ومن الأصحاب ) كالشيخين والقاضي والمختلف (٢) ( من فرّق ) بين الصورتين ، فوافق الأكثر في الثانية وخالفهم في الأُولى ؛ استناداً إلى المعتبرة المستفيضة :

منها ـ زيادة على ما مرّ من الخبر الصحيح : في رجل قال لرجل : بع‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ١٣٥ / ٥٨٨ ، التهذيب ٧ : ٥٤ / ٢٣٣ ، الوسائل ٧ : ٥٤ / ٢٣٣ ، الوسائل ١٨ : ٥٧ أبواب أحكام العقود ب ١٠ ح ٣.

(٢) المفيد في المقنعة : ٦٠٥ ، الطوسي في النهاية : ٣٩٠ ، حكاه عن القاضي في المختلف : ٣٦٩.

٣٤٥

ثوبي هذا بعشرة دراهم فما فضل فهو لك ، فقال : « ليس به بأس » (١) ونحوه الآخر (٢) ، والموثق (٣).

وقد حملها جملة من الأصحاب جمعاً بينها وبين القاعدة على صورة الجعالة ، وردّوا ما يترتّب عليها من الجهالة بأنّ المنع عنها فيها إنّما هو لأدائها إلى المنازعة ، وهي هنا منتفية ؛ إذ الواسطة إن زاد في الثمن مهما زاد كانت له الزيادة وإلاّ فلا شي‌ء له بالمرّة ؛ لأنّهما تراضيا على ذلك ، بخلاف الجعالة المجهولة المؤدّية إلى المنازعة.

وفيه مناقشة ؛ لمنع انحصار العلّة في المنع عنها في الجعالة فيما مرّ ، فقد تكون شيئاً آخر كالغرر الممكن هنا ، لجواز توهّم الدلاّل قدراً يزيد على ذلك ولم يحصل له ، فيقع في الغرر المنهي عنه.

والمسألة محلّ إشكال ، فإنّ اطراح الأخبار الصحيحة من دون معارض صريح مشكل ، ومخالفة القاعدة المعتضدة بالشهرة العظيمة أشكل. إلاّ أنّ في دلالتها نوع مناقشة ؛ فإنّ غايتها نفي البأس مع المراضاة ، ولعلّه لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في عدمها برجوع ربّ المال عمّا قال ، ولا دلالة فيها على لزوم ما قال بحال.

( الثاني : فيما يدخل في المبيع ) عند إطلاق لفظه.

ذكر جماعة من الأصحاب كالفاضلين والشهيدين وغيرهم (٤) من غير‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٩٥ / ٢ ، التهذيب ٧ : ٥٣ / ٢٣١ ، الوسائل ١٨ : ٥٧ أبواب أحكام العقود ب ١٠ ح ١.

(٢) التهذيب ٧ : ٥٤ / ٢٣٢ ، الوسائل ١٨ : ٥٧ أبواب أحكام العقود ب ١٠ ح ٢.

(٣) التهذيب ٧ : ٢٣٥ / ١٠٢٦ ، الوسائل ١٨ : ٥٧ أبواب أحكام العقود ب ١٠ ح ٤.

(٤) المحقق في الشرائع ٢ : ٢٧ ، العلامة في القواعد ١ : ١٤٨ ، والتذكرة ١ : ٥٧٠ ،

٣٤٦

خلاف يعرف أنّ الضابط أنّه يراعى فيه اللغة والعرف العام أو الخاص.

وزاد شيخنا الشهيد الثاني فقال : وكذا يراعى الشرع بطريق أولى ، بل هو مقدّم عليهما ، وقال : ثم إن اتّفقت ، وإلاّ قُدّم الشرعي ، ثم العرفي ، ثم اللغوي (١).

واعترضه وحيد عصره وزمانه وفريد دهره وأوانه خالي العلاّمة أدام الله تعالى بقاءه (٢) بأنّ البائع ما باع إلاّ ما هو مقصوده والمشتري ما اشترى إلاّ كذلك ، ومقصودهما من المطلق ليس إلاّ ما هو باصطلاحهما ، بل لو صرف إلى اصطلاح الشارع يلزم بطلان العقد من جهة أُخرى ، وهو مجهولية المبيع حال العقد ، نعم إذا عرفا اصطلاح الشارع وأوقعا العقد عليه يكون هو المرجع ، لكن لا من جهة تقديمه على اصطلاحهما ، بل من جهة تعيينهما ، كما إذا أوقعاه على اصطلاح طائفة أُخرى. انتهى.

وهو وإن اختصّ بالاعتراض عليه في تقديمه الحقيقة الشرعية على العرف واللغة ، إلاّ أنّه ينسحب في تقديمهما على عرف المتبايعين.

ولعلّه لهذا عدل بعض متأخّرين الأصحاب عن تلك الضابطة إلى أُخرى ، وهي الرجوع إلى العرف العام ، وأنّه لو اختصّ أهل بلد أو قرية بعرف خاص ظاهر شائع بينهم حمل كلامهم في بلدهم على ذلك ، وهذا أمر يختلف بحسب البلاد المختلفة في الأزمان المختلفة (٣).

__________________

والتحرير ١ : ١٧٣ ، الشهيد الأول في الدروس ٣ : ٢٠٥ ، الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ٥٣٠ ، والمسالك ١ : ١٨٣ ؛ وانظر التنقيح الرائع ٢ : ٦٢ ، وجامع المقاصد ٤ : ٣٦٦ ، والكفاية : ٩٥ ، والحدائق ١٩ : ١٤٣.

(١) كما في الروضة البهية ٣ : ٥٣٠.

(٢) هو الوحيد البهبهاني ، ولم نجد الاعتراض في كتبه الموجودة لدينا.

(٣) كفاية الأحكام : ٩٥.

٣٤٧

وهي في غاية الجودة إلاّ أنّ الذي يخطر بالفهم العليل والفكر الكليل عدم الخلاف في ذلك من الجماعة ، وأنّ الظاهر أنّ مرادهم من تلك الضابطة إنّما هو حيث لا يعرف للمتبايعين حقيقة عرفية واختلفوا في المبيع ، أو لم يمكن الرجوع إليهما في معرفتها بموت ونحوه ، فالضابط حينئذ ما ذكروه ، وإلاّ فمع معلوميّة عرفهما لا يمكن الرجوع إلى غيره ، وعدم إرادتهم انسحاب تلك الضابطة إلى هذه الصورة مما يقطع بتعيّنه.

ووجه الضابطة في غيرها ظاهر إلاّ في تقديم الحقيقة الشرعية حيث علمت على العرفية واللغوية إن اختلفت ، فإنّ الظاهر بل المقطوع به عدم إرادة المتبايعين غالباً إيّاها ، بل إنّما أرادا أحد الأمرين البتة ، ولعلّه لهذا لم يذكرها عدا الشهيد الثاني في المسالك والروضة (١).

وأمّا ما ربما يستأنس به له ، ممّا ورد في المعتبرة في النذر والوقف والوصية من الرجوع في الألفاظ إلى المعاني الشرعية المستعملة فيها تلك الألفاظ في الكتاب والسنة ، فمع أنّها مختصّة بموارد مخصوصة ، ومع ذلك ليست بأجمعها متّفقاً عليها بين الطائفة ، والتعدية من دون دلالة حرام البتّة ، محلّ مناقشة ؛ فإنّها وردت في الألفاظ الخاصّة التي لا يعلم لها معانٍ معينة في العرف واللغة ، بل تكون مجملة أو مبهمة ، فالتعدية إلى نحو المسألة ممّا تعرف فيه تلك المعاني فيهما مشخّصة غير واضحة.

ومما ذكرنا تحقق أنّ الضابطة الرجوع إلى عرف المتبايعين إن عُلِمَ ، وإلاّ فإلى العرف العامّ إن كان ، وإلاّ فإلى اللغة ، فتأمّل.

__________________

(١) المسالك ١ : ١٨٣ ، الروضة ٣ : ٥٣٠.

٣٤٨

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ ( من باع أرضاً ) مقتصراً على لفظها ( لم يدخل نخلها ولا شجرها ) بلا خلاف ، كما في التنقيح (١) ؛ وهو الحجة بعد الأصل وعدم المخرج عنه من اللفظ الدال عليه بإحدى الدلالات الثلاث في اللغة والعرف.

( إلاّ أن يشترط ) الدخول ، فيدخل إجماعاً ؛ عملاً بمقتضى الشرط. أو يقول : بحقوقها ، فكذلك عند الشيخ والقاضي وابن حمزة وابن زهرة والحلّي (٢) ؛ بناءً على توهّم شمول الحقوق لهما. وفيه منع.

( و ) التفاتاً إلى ما ( في رواية ) صحيحة من قوله عليه‌السلام في رجل اشترى أرضاً بحدودها الأربعة وفيها زرع ونحل ، وغيرهما من الشجر ، ولم يذكر النخل ولا الزرع ولا الشجر في كتابه ، وذكر فيه أنّه قد اشتراها بجميع حقوقها الداخلة والخارجة فيها ، أيدخل النخل والأشجار والزرع في حقوق الأرض أم لا؟ فوقّع عليه‌السلام : « ( إذا ابتاع الأرض بحدودها وما أُغلق عليه بابها فله جميع ما فيها ) إن شاء الله تعالى » (٣).

وهي مع أنّها مكاتبة غير صالحة للخروج عمّا اقتضته الحجّة المتقدّمة ، المعتضدة بالشهرة العظيمة المتأخّرة غير واضحة الدلالة ، بل هي على خلافه واضحة المقالة ، من حيث تعليق الدخول فيها على ذكر ما أُغلق عليه بابها ، الدالّ بمفهومه على عدمه مع عدم ذكره ، والمنطوق لا‌

__________________

(١) التنقيح الرائع ٢ : ٦٢.

(٢) الشيخ في المبسوط ٢ : ١٠٥ ، والخلاف ٣ : ٨٢ ، القاضي في المهذب ١ : ٣٧٦ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٤٠ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٩٠ ، الحلي في السرائر ٢ : ٣٧٩.

(٣) التهذيب ٧ : ١٣٨ / ٦١٣ ، ١٥٥ / ٦٨٥ ، الوسائل ١٨ : ٩٠ أبواب أحكام العقود ب ٢٩ ح ١.

٣٤٩

خلاف فيه ، كما في التنقيح (١) ؛ وهو الحجة ، مضافاً إلى شهادة العرف بالدخول مع ذكره.

ومنها بمعونة ما ذكرنا يظهر الوجه في عدم دخول الزرع في بيع الأرض مطلقاً ، كان مجزوراً أم لا ، وهو أشهر وأقوى. خلافاً للمبسوط في الثاني إذا كان ظاهراً ، فالجزّة الأُولى للبائع والباقي للمشتري (٢).

( ولو ابتاع داراً دخل ) في مفهومها العرصة ، والحيطان ، والأبواب ، والأغلاق المنصوبة ، والأخشاب المستدخلة ، والسلّم المثبت والمفتاح على قول ، والبيت ( الأعلى والأسفل ) لاقتضاء العرف ذلك كلّه ، ( إلاّ أنّ ) يتغير أو ( تشهد العادة للأعلى بالانفراد ) كما في بعض البلاد ، فتخرج حينئذٍ ، وعليه يحمل ظاهر إطلاق المكاتبة الصحيحة : في رجل اشترى من رجل بيتاً في دار له بجميع حقوقه وفوقه بيت آخر ، هل يدخل البيت الأعلى في حقوق البيت الأسفل أم لا؟ فوقّع عليه‌السلام : « ليس له إلاّ ما اشتراه باسمه وموضعه إن شاء الله » (٣) الحديث. وذيله قريب من صدره ، مع أنّها في البيت لا في الدار (٤).

( ولو باع نخلاً مؤبّراً ) بتشقيق طلع الإناث وذرّ طلع الذكور فيه ليجي‌ء ثمره أصلح ( فالثمرة للبائع ) على الأظهر الأشهر بين الطائفة ؛ للنصوص المعتبرة ، في اثنين منها : « من باع نخلاً قد لقّح » كما في‌

__________________

(١) التنقيح الرائع ٢ : ٦٢.

(٢) المبسوط ٢ : ١٠٣.

(٣) الفقيه ٣ : ١٥٣ / ٦٧٢ ، التهذيب ٧ : ١٥٠ / ٦٦٤ ، الوسائل ١٨ : ٩١ أبواب أحكام العقود ب ٣١ ح ١.

(٤) التهذيب ٧ : ١٥٠ / ٦٦٥ ، الوسائل ١٨ : ٩٢ أبواب أحكام العقود ب ٣١ ح ٢.

٣٥٠

أحدهما ، أو « أُبِرّ » كما في الثاني « فالثمرة للبائع إلاّ أن يشترط المبتاع » (١).

وفي الثالث : « إنّ ثمرة النخل للذي أبرّها ، إلاّ أن يشترط المبتاع » (٢).

خلافاً لابن حمزة ، فجعلها للمبتاع مع عدم بدوّ الصلاح (٣).

وهو شاذّ ، ومستنده مع ذلك غير واضح ، والإجماعات المستفيضة على خلافه محكيّة ، فهو ضعيف غايته.

( إلاّ أن يشترط ) كونها للمتاع ، فيدخل كما قاله ، بل مطلقاً ولو بدا الصلاح ، بلا خلاف ، عملاً بصريح تلك المعتبرة ، والتفاتاً إلى مقتضى الشرطيّة.

ومقتضى الأصل ، واختصاص الانتقال إلى المبتاع مع عدم التأبير في الحجج السابقة بصورة البيع خاصّة صريحاً في بعض وظهوراً في آخر : عدمه فيما عداها من صور وجوه الانتقالات ، كالإرث والوقف والهبة وغيرها من الأُمور الناقلة ، إلاّ أن يقتضي عرف الناقل الدخول ، فيدخل البتة ، وبما ذكرناه صرّح جماعة مدّعياً بعضهم الإجماع عليه (٤).

خلافاً للمبسوط والقاضي فعمّماه إلى الصور المزبورة (٥). ولا دليل لهما سوى القياس بالبيع ، كما صرّح به في السرائر (٦) ، وهو كما ترى.

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٧٧ / ١٢ ، ١٤ ، التهذيب ٧ : ٨٧ / ٣٦٩ ، ٣٧٠ ، الوسائل ١٨ : ٩٣ أبواب أحكام العقود ب ٣٢ ح ٢ ، ٣.

(٢) الكافي ٥ : ١٧٨ / ١٧ ، التهذيب ٧ : ٨٧ / ٣٧١ ، الوسائل ١٨ : ٩٢ أبواب أحكام العقود ب ٣٢ ح ١.

(٣) الوسيلة : ٢٥٠.

(٤) انظر المسالك ١ : ١٨٤.

(٥) المبسوط ٢ : ١٠٠ ، المهذب ١ : ٣٧٤.

(٦) السرائر ٢ : ٣٦٤.

٣٥١

( وكذا لو باع شجرة مثمرة ) فيها ثمرتها لم تدخل في مفهومها مطلقاً ، بلا خلاف هنا كما يفهم عن بعض أصحابنا (١) ، إلاّ أنّ المحكي عن الشيخين المتقدّمين المخالفة في نحو القطن بعد خروج جوزقه (٢) وقبل التشقّق ، وفي الورد قبل تفتّحه ، فحكما بالدخول حينئذٍ (٣). ويمنعهما الأصل الذي قدّمناه ؛ لعدم دخول الثمرتين في مفهوم الأصل مطلقاً.

ومنه يظهر الوجه في قوله : ( أو ) باع ( دابّة حاملاً ) لم يدخل فيها حملها ( على الأظهر ) الأقوى ، وعليه أكثر أصحابنا ، وفاقاً للنهاية والمقنعة والقاضي والحلبي والديلمي وابن زهرة والحلّي (٤) ، مدّعياً الإجماع عليه.

خلافاً للمبسوط والقاضي في المهذب ، والجواهر (٥) ، فيدخل.

ومستندهما غير واضح عدا دعواهما كونه كالجزء. وفيه منع ، ولذا يصحّ الوصية له وبه وكذلك الإقرار ، دون الجزء ؛ إذا لا يصحّ شي‌ء من ذلك فيه. فالخروج عن مقتضى الأصل القطعي المعتضد بالشهرة العظيمة به مجازفة.

نعم ربما يستأنس له ببعض المعتبرة في عتق الأمة : عن رجل أعتق أمة وهي حبلى ، فاستثنى ما في بطنها ، قال : « الأمة حرّة ، وما في بطنها‌

__________________

(١) التنقيح ٢ : ٦٤ ، المهذب البارع ٢ : ٣٩٦.

(٢) جَوْزَقٌ : فَوْعَل استعمله الفقهاء في كِمام القطن. المصباح المنير : ٩٩.

(٣) المبسوط ٢ : ١٠٢ و ١٠٣ ، المهذب ١ : ٣٧٤ و ٣٧٥.

(٤) النهاية : ٤٠٩ ، المقنعة : ٦٠٠ القاضي في الكامل كما في المهذب البارع ٢ : ٣٩٧ ، الحلبي في الكافي : ٣٥٦ ، الديلمي في المراسم : ١٧٦ ، لم نعثر عليه في الغنية حكاه عنه في التنقيح ٢ : ٧٤ ، الحلّي في السرائر ٢ : ٣٤٣.

(٥) المبسوط ٢ : ١٥٦ ، لم نعثر عليه في المهذب حكاه عنه في المختلف : ٣٧٩ ، جواهر الفقه : ٢٣٨.

٣٥٢

[ حرّ (١) ] ، لأنّ ما في بطنها منها » (٢).

لكنه قاصر السند ، غير معمول عليه عند الأكثر ، معارض بأجود منه من المعتبرة المعتضدة بالشهرة في محلّها وفي المسألة ، كالموثق : عن امرأة دبّرت جارية لها ، فولدت الجارية جارية نفيسة ، فلم تدر المرأة حال المولود هي مدبّرة أو غير مدبّرة ، فقال : « متى كان الحمل بالمدبّرة؟ أقبل ما دبّرت أم بعد؟ » فقلت : لست أدري ، ولكن أجبني فيهما جميعاً ، فقال : « إن كانت المرأة دبّرت وبها حبل ولم تذكر ما في بطنها فالجارية مدبّرة ، والولد رقّ ، وإن كان إنّما حدث الحمل بعد التدبير فالولد مدبّر في تدبير امّه ، لأنّ الحمل إنّما حدث بعد التدبير » (٣).

وفي الحسن : عن رجل دبّر جارية وهي حبلى ، فقال : « إن كان علم بحبل الجارية فما في بطنها بمنزلتها ، وإن كان لا يعلم فما في بطنها رقّ » (٤).

وعلى الدخول فهل يجوز الاستثناء للبائع؟ قولان ؛ للعدم كما عمّن تقدم أنّه كالجزء ، فكما لا يجوز استثناؤه فكذلك شبهه. وللجواز كما عن الإسكافي وابن حمزة (٥) الأصل ، ومنع المشابهة. ولا يخلو عن قوّة.

وعلى المختار جاز اشتراط الدخول بلا خلاف ، كما قيل (٦) ؛ للأصل ،

__________________

(١) أثبتناه من المصادر.

(٢) الفقيه ٣ : ٨٥ / ٣٠٩ ، التهذيب ٨ : ٢٣٦ / ٨٥١ ، الوسائل ٢٣ : ١٠٦ أبواب العتق ب ٦٩ ح ١.

(٣) الكافي ٦ : ١٨٤ / ٥ ، الفقيه ٣ : ٧١ / ٢٤٦ ، التهذيب ٨ : ٢٥٠ / ٩٤٧ ، الاستبصار ٤ : ٣١ / ١٠٩ ، بتفاوت ، الوسائل ٢٣ : ١٢٢ أبواب التدبير ب ٥ ح ٢.

(٤) الكافي ٦ : ١٨٤ / ٤ ، الفقيه ٣ : ٧١ / ٢٤٧ ، التهذيب ٨ : ٢٦٠ / ٩٤٦ ، الإستبصار ٤ : ٣١ / ١٠٨ ، الوسائل ٢٣ : ١٢٣ أبواب التدبير ب ٥ ح ٣.

(٥) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٣٧٩ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٤٨.

(٦) قال الأردبيلي في مجمع الفائدة ٨ : ٢٤٥ : ومع التقييد بكونه للمشتري يصحّ البيع ويكون الولد للمشتري بلا نزاع.

٣٥٣

واندفاع الجهالة بالضميمة.

ولا فرق في الاشتراط بين أن يقول : بعتك الجارية وحملها أو شرطت لك حملها ، أو بعتك هذه الأمة بكذا وحملها ، بلا خلاف ، فيما عدا الصورة الأُولى ، وعلى قول جماعة (١) فيها أيضاً ؛ لقاعدة الضميمة. خلافاً للتذكرة (٢) فيبطل ؛ للجهالة.

( ولو لم تؤبّر النخلة فالطلع للمشتري ) بلا خلاف ، بل عليه الإجماع في كلام جماعة ، كشيخنا في الخلاف ، والعلاّمة في المختلف والتذكرة ، وظاهر الماتن في الشرائع ، والفاضلين المقداد (٣) والصيمري في شرحيهما على الكتاب والكتاب المتقدّم ؛ وهو الحجة ، مضافاً إلى مفهوم القيد الذي هو حجّة في أكثر المعتبرة المتقدّمة (٤).

وبهما يخصّ الأصل الدالّ على استصحاب كونه للبائع ، بناءً على عدم دخوله في مفهوم النخل لغة ، بل وعرفاً ، لكن مع تأمّل فيه على إطلاقه.

( الثالث في القبض ) وأحكامه.

اعلم أنّ ( إطلاق العقد ) وتجريده عن شرط تأخير أحد العوضين ، أو تأخيرهما إذا كانا عينين ، أو أحدهما ( يقتضي ) وجوب ( تسليم المبيع

__________________

(١) منهم : الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ٣٠٩ ، الأردبيلي في مجمع الفائدة ٨ : ٢٤٥ ، وصاحب الحدائق ١٩ : ٣٩٣.

(٢) التذكرة ١ : ٤٩٨.

(٣) الخلاف ٣ : ٧٩ ، المختلف : ٣٧٧ ، التذكرة ١ : ٥٧٣ ، الشرائع ٢ : ٢٧ ، الفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٢ : ٦٤.

(٤) راجع ص : ٣٨٨٩.

٣٥٤

والثمن ) على المتبايعين فوراً ، فيتقابضان معاً لو تمانعا من التقدّم سواء كان الثمن عيناً أو ديناً ، وإنّما لم يكن أحدهما أولى بالتقدّم لتساوي الحقّين في وجوب تسليم كلّ واحد منهما إلى مالكه. وعليه الأكثر ، بل لعلّه عليه عامّة من تأخّر ، وفاقاً للإسكافي (١).

خلافاً للمبسوط والخلاف والقاضي والحلّي وابن زهرة العلوي (٢) ، فحكموا بإجبار الحاكم البائع على الإقباض أوّلاً بعد التمانع ؛ لأنّ الثمن تابع للمبيع.

ويضعف باستواء العقد في إفادة الملك لهما ، فإن امتنعا أجبرهما الحاكم معاً مع إمكانه ، كما يجبر الممتنع من قبض ماله.

ويجوز اشتراط تأخير إقباض أحد العوضين مدّة معيّنة والانتفاع به منفعة معينة ؛ لأنه شرط سائغ ، فيدخل تحت العموم.

ولا يجب على المشروط له فوريّة الإقباض ، بل له التأخير إلى الأجل. ولا كذلك غيره ، فإنّه يجب الإقباض عليه فوراً ؛ للأصل ، واختصاص المخرج عنه بمن له الشرط.

( و ) حيث إنّ ( القبض ) من الأُمور المعتبرة شرعاً لما يترتّب عليه من الأحكام بالنسبة إلى الوصيّة والرهن والهبة ، فإنّ للقبض فيها مدخلاً باعتبار شرطيّته للصحة أو اللزوم ، وكذا بالنسبة إلى البيع ، إذ من أحكامه فيه انتقال ضمان المبيع مثلاً إلى المشتري بعده مع عدم الخيار له ، وكونه على البائع قبله ، وجواز بيع ما اشتراه بعده مطلقاً ، وتحريمه أو كراهته قبله على بعض الوجوه ، وجواز فسخ البائع مع تأخير الثمن وعدم‌

__________________

(١) نقله عنه في المختلف : ٣٩٥.

(٢) المبسوط ٢ : ١٤٨ ، الخلاف ٣ : ١٥١ ، حكاه عن القاضي في المختلف : ٣٩٥ ، الحلّي في السرائر ٢ : ٣٠٦ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨٩.

٣٥٥

قبض المبيع بعد ثلاثة أيّام ، وغير ذلك احتيج إلى تعريفه ، وحيث لم يرد فيه نصّ كلّي يتضمّنه وجب الرجوع فيه إلى العرف.

وقد اختلف فيه الأصحاب بعد اتّفاقهم على أنّه ( هو التخلية ) بينه وبينه بعد رفع اليد عنه ( فيما لا ينقل ) خاصّة ( كالعقار ) ونحوه على أقوال ، أحدها ما اختاره الماتن في الشرائع (١) ، وإليه أشار هنا بقوله : ( وكذا ) هو التخلية ( فيما ينقل ) محتجّاً بأنّه استعمل في التخلية إجماعاً فيما لا ينقل ولا يحوّل ، فيجب أن يكون كذلك في غيره ، ويكون حقيقة في المعنى المشترك ، إذ لو استعمل في المنقول بمعنى آخر لكان إما حقيقة فيهما فيلزم الاشتراك ، أو مجازاً في الآخر فيلزم المجاز ، وكلاهما على خلاف الأصل.

وفيه نظر ؛ لوجوب المصير إلى أحدهما بعد قيام الدليل عليه ، كما يأتي ، مع أنّ استعمال القبض في التخلية في المنقول خلاف المفهوم والمتبادر منه في العرف واللغة ، بل المتبادر منه عرفاً عند الإطلاق هو القبض باليد ، وبه صرّح جماعة من أهل اللغة (٢) ، فاللازم الاقتصار عليه ، إلاّ ما قام الإجماع على إرادة الخلية منه ، وهو إنّما يكون في غير المنقول خاصّة.

وكذا لا يجب اعتبار شي‌ء زائد عليه من النقل إلاّ ما قام الدليل على اعتباره ، فيعتبر إن تمّ ، فتأمّل جدّاً.

ومع ذلك تردّه المعتبرة الآتية ظاهراً ، فلا وجه لهذا القول أصلاً.

__________________

(١) الشرائع ٢ : ٢٩.

(٢) منهم : الفيروزآبادي في القاموس ٢ : ٣٥٤ ، وابن الأثير في النهاية ٤ : ٦ ، والفيومي في المصباح المنير : ٤٨٨ ، والطريحي في مجمع البحرين ٤ : ٢٢٦.

٣٥٦

( وقيل : ) إنّه ( في القماش ) ونحوه ممّا يتناول باليد ، كالدراهم والدنانير والجواهر ( هو الإمساك باليد ، وفي الحيوان ) كالعبد والبهيمة ( هو نقله ) وإن اختلف فيهما ، ففي الأوّل بأن يقيمه المشتري إلى مكان آخر ، وفي الثاني بأن يمشي به إلى مكان آخر ، وفي المكيل والموزون الكيل والوزن ، تحقيقاً أو تقديراً ، كأن يخبر بهما مع تصديق المشتري له بهما مثلاً مع رفع اليد عنه ، على قول. صرّح بهذا القول شيخنا في المبسوط ، وتبعه ابن البراج وابنا حمزة وزهرة (١) ، مدّعياً عليه الإجماع ، إلاّ أنّه جعله في المنقول مطلقاً هو النقل خاصّة ؛ وهو الحجة في الجملة.

مع اعتضاده كذلك بالشهرة المحكيّة في كلام جماعة ، كالمهذب (٢) وابن المفلح ، وبفتوى كثير من متأخّرين الطائفة ، كالشهيدين في اللمعتين وشراح الكتاب وغيرهم (٣) ، ويعضده العرف أيضاً في الجملة ، كما صرّح به جماعة (٤) ، ويشهد له في الجملة بعض المعتبرة ، كالصحيح : عن الرجل يبيع المبيع قبل أن يقبضه ، فقال : « ما لم يكن كيل أو وزن فلا تبعه حتى تكيله أو تزنه إلاّ أن تولّيه الذي قام عليه » (٥).

__________________

(١) المبسوط ٢ : ١٢٠ ، ابن البراج في المهذب ١ : ٣٨٥ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٥٢ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨٩.

(٢) انظر المهذب البارع ٢ : ٣٩٨.

(٣) اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ٥٢٣ ، المهذب البارع ٢ : ٣٩٨ ، المقتصر : ١٧٣ ، التنقيح ٢ : ٦٦.

(٤) منهم : العلامة في المختلف : ٣٩٣ ، والفاضل المقداد في التنقيح ٢ : ٦٦ ، والسبزواري في الكفاية : ٩٦.

(٥) التهذيب ٧ : ٣٥ / ١٤٦ ، الوسائل ١٨ : ٦٨ أبواب أحكام العقود ب ١٦ ح ١١.

٣٥٧

والخبر الذي قصور سنده من جميع الوجوه بالشهرة منجبر : في رجل اشترى متاعاً من آخر وأوجبه غير أنّه ترك المتاع عنده ولم يقبضه ، وقال : آتيك إن شاء الله تعالى ، فسرق المتاع ، من مال مَن يكون؟ قال : « من مال صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه من بيته ، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقّه حتى يردّ ماله إليه » (١).

والمناقشة فيهما بضعف الدلالة ، من حيث إنّ ظاهر الاولى أنّ البيع قبل القبض لا يجوز حتى يكيل أو يزن ، وذلك لا يدلّ على كون القبض ذلك بضمّ السؤال ؛ إذ يصحّ جواب السائل هل يجوز قبل القبض؟ بأنّه لا يجوز قبله بدون أحد الأمرين. والثانية أنّه يعتبر في انتقال الضمان من البائع إلى المشتري نقل المتاع وإخراجه من بيته ، وليس فيه تفسير القبض بكونه عبارة عمّا ذا ، مع أنّ ظاهرها أنّه يعتبر في انتقال الضمان الإخراج من بيت البائع ، ولا قائل به.

مدفوعة ، بظهور الاولى في ارتفاع المنع تحريماً أو كراهة بأحد الأمرين ، فليكونا قبضاً ، للإجماع على عدم ارتفاعه إلاّ به ، فالإجماع شاهد عليه ، ولعلّه مراد شيخنا في المختلف من قوله بعد نقلها : فجعل عليه‌السلام الكيل والوزن هو القبض ، للإجماع على تسويغ بيع الطعام بعد قبضه (٢).

وبنحوه يجاب عن الثانية ، وبه صرّح في المهذب ، فقال في تقريب جعل النقل فيها هو القبض لتعليله زوال الضمان به : ولا خلاف في أنه معلّل بالقبض (٣). وبه يندفع ما أُورد عليها من الاعتراض الآخر.

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٧١ / ١٢ ، التهذيب ٧ : ٢١ / ٨٩ ، الوسائل ١٨ : ٢٣ أبواب الخيار ب ١٠ ح ١.

(٢) المختلف : ٣٩٣.

(٣) المهذب البارع ٢ : ٣٩٩.

٣٥٨

وهنا أقوال أُخر ، منها : ما اختاره شيخنا في الدروس من أنّه في الحيوان نقله ، وفيما يعتبر باعتبار مخصوص لدفع الجهالة كيله أو وزنه أو عدّه أو نقله ، وفي الثوب وضعه في اليد (١) ؛ استناداً في الكيل والوزن إلى الصحيح المتقدّم ، وفي النقل إلى ما مرّ من الخبر.

وهو حسن ؛ لما ظهر ، إلاّ أنّ إلحاق المعدود بالمكيل والموزون قياس ، والفرق بين الحيوان وغيره ضعيف.

ومنها : الاكتفاء بالتخلية مطلقاً بالنسبة إلى نقل الضمان لا زوال التحريم والكراهة عن البيع قبل القبض (٢). والعرف يأباه والأخبار تدفعه.

ومنها : ما في المختلف من أن المبيع إن كان منقولاً فالقبض فيه هو النقل أو الأخذ باليد ، وإن كان مكيلاً أو موزوناً فقبضه هو ذلك أو الكيل والوزن (٣).

والفرق بينه وبين المشهور من وجهين الاكتفاء عليه في المنقول بقبض اليد من دون احتياج إلى النقل ، وفي المكيل والموزون بهما من دون احتياج إلى الكيل والوزن ، ولا يكتفى في المقامين بشي‌ء من ذلك على المشهور ، بل لا بدّ من النقل في الأوّل ، وأحد الأمرين في الثاني ، فلو قبض باليد فيهما لم يحصل القبض مطلقاً ، والعرف كما ترى يأباه ويوجب المصير إلى هذا القول جدّاً ، لموافقته له ظاهراً. فالقول به لا يخلو عن قوّة لولا ما قدّمناه من الأدلّة ، لكنها للتنزيل على هذا القول قابلة ، ولذا أيّده القائل به بما قدّمناه من المعتبرة.

__________________

(١) الدورس ٣ : ٢١٣.

(٢) قال به في الدروس ٣ : ٢١٣.

(٣) المختلف : ٣٩٣.

٣٥٩

فهذا القول أقر ، وإن كان المصير إلى المشهور في بعض الأحيان أحوط.

وحيث اعتبرنا الكيل والوزن في القبض ففي الافتقار إلى اعتباره ثانياً لأجله ، أو الاكتفاء بالاعتبار السابق ، وجهان ، من إطلاع توقّف الحكم على الكيل أو الوزن وقد حصلا. وقوله عليه‌السلام : « لا تبعه حتى تكيله أو تزنه » (١) لا يدلّ على أزيد من حصولهما الشامل لما كان قبل البيع.

ومن كون الظاهر أنّ ذلك لأجل القبض لا لأجل صحّة البيع ، فلا بدّ من اعتبار جديد بعد العقد ، وبه صرّح العلاّمة والشهيدان وجماعة (٢).

ولا يخلو عن قوّة ؛ لقوله عليه‌السلام في الصحيح المتقدّم : « إلاّ أن توليه » فإنّ الكيل السابق شرط لصحة البيع أو ما قام مقامه ، فلا بدّ منه في التولية وغيرها ، ومقتضى قوله عليه‌السلام المشار إليه أنّه معها لا يتوقّف على كيل أو وزن ، فدلّ ذلك على أنّهما لأجل القبض لا لأجل صحة البيع. ومن هنا يظهر الوجه في الاكتفاء عنهما تحقيقاً بالإخبار ، فنعم على الأوّل ، ولا على الثاني. ونحوه الكلام في العدّ إن اعتبرناه.

( ويجب ) عند الإقباض ( تسليم المبيع مفرّغاً ) من أمتعة البائع وغيرها مما لا يدخل في المبيع ( فلو كان فيه متاع فعلى البائع إزالته ) فوراً ، ولو كان مشغولاً بزرع لم يبلغ وجب الصبر إلى أوانه إن اختاره البائع.

ثم إن كان المشتري عالماً بالحال ، وإلاّ تخيّر بين الفسخ والصبر إن‌

__________________

(١) تقدّم مصدره في ص : ٣٨٩٦.

(٢) قال العلاّمة في القواعد ١ : .. فحينئذٍ لو اشترى مكابلة وباع مكابلة ، لا بدّ لكل بيع من كيلٍ جديد ليتمّ القبض ، وقال الشهيد في الدروس ٣ : ٢١٣ ، ولا يكفي الاعتبار الأول عن اعتبار القبض ، الشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٨٥.

٣٦٠