رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٨

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٨

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-110-9
الصفحات: ٤٨٦

للأصل ، وانتفاء المانع من الإجماع وغيره ، وهو منافاة الأخذ للإخلاص ، فإنّ غايتها هنا عدم ترتّب الثواب لا حرمته ، مع إمكان ترتّبه حينئذٍ أيضاً بعد إيقاع عقد الإجارة ، فإنّها بعده تصير واجبة ، وتصير من قبيل ما لو وجبت بنذر وشبهه ؛ ولا ريب في استحقاق الثواب حينئذٍ. ووجهه أنّ أخذ الأُجرة حينئذٍ صار سبباً لوجوبها عليه ، ومعه يتحقّق الإخلاص في العمل ، لكونه حينئذٍ لمجرّد الإطاعة والامتثال لله سبحانه ، وإن صارت الأُجرة منشأً لتوجّه الأمر الإيجابي إليه ، وهو واضح.

وبه يتّضح جواز أخذ الأُجرة على الصلاة عن الأموات بعد إيقاع عقد الإجارة ، بل لعلّ له قبل إيقاعه أيضاً وجهاً.

فالقول بعدم جواز أخذ الأُجرة على الأُمور المندوبة (١) أيضاً ضعيف ، كالمحكي عن المرتضى (٢) من جواز أخذها على الأُمور الواجبة التي تعلّقت الأوامر بها إلى الولي للأجير إذا لم يكن هو الولي.

( و ) أخذ ( الرُّشا ) بضم أوّله وكسره مقصوراً ، جمع رشوة بهما ( في الحكم ) بالإجماع ، كما في كلام جماعة (٣) ، والنصوص المستفيضة ، في بعضها أنّها سحت ، وفي عدّة منها : أنّها الكفر بالله العظيم ، وفيها الصحيح والموثق وغيرهما (٤).

وإطلاقها كالعبارة ، وصريح جماعة (٥) يقتضي عدم الفرق بين أن‌

__________________

(١) نسبه في الإيضاح ١ : ٤٠٨ إلى القاضي ؛ انظر المهذّب ١ : ٣٤٥.

(٢) حكاه عنه في الدروس ٣ : ١٧٢.

(٣) منهم : الشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٦٧ ، والروضة ٣ : ٧٥ ، والفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٥١.

(٤) انظر الوسائل ١٧ : ٩٢ أبواب ما يكتسب به ب ٥.

(٥) منهم : المصنّف في الشرائع ٢ : ١٢.

١٨١

يكون الحكم للراشي أو عليه.

ويأثم الدافع لها أيضاً ؛ لأنه إعانة على الإثم والعدوان ، إلاّ إذا لم يمكن الوصول إلى الحق بدونها ، فيجوز الدفع حينئذٍ ، فإنّ الضرورات تبيح المحظورات.

وفي الصحيح : عن الرجل يرشو الرجل على أن يتحوّل من منزله فيسكنه؟ قال : « لا بأس » (١).

نعم يحرم على المدفوع إليه مطلقاً.

وقيل : إذا كان يحكم بالحق وإن لم يرتش جاز الدفع ، وإلاّ فلا.

ويدفعه إطلاق النص والفتوى.

وقيل : وكذا يحرم على الحاكم قبول الهدية إذا كان للمُهدي خصومة في المال ؛ لأنّه يدعو إلى الميل وانكسار قلب الخصم. وكذا إذا كان ممّن لم يعهد منه الهدية له قبل تولّي القضاء ؛ لأنّ سببها العمل ظاهراً. وفي الحديث : « هدايا العمّال غلول » (٢) وفي رواية : « سحت (٣) (٤). انتهى.

وهو أحوط ، وإن كان في تعيينه ولا سيّما الأوّل نظر ؛ للأصل ، وقصور سند الروايتين ، وضعف الوجوه الاعتبارية مع عدم تسمية مثله رشوة.

( والأُجرة على الصلاة بالناس ) جماعة ، وفاقاً لجماعة (٥) ؛ للخبر ،

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٧٥ / ١٠٩٥ ، الوسائل ١٧ : ٢٧٨ أبواب ما يكتسب به ب ٨٥ ح ٢.

(٢) المبسوط ٨ : ١٥١ ، وفي أمالي الطوسي : ٢٦٨ ، والوسائل ٢٧ : ٢٢٣ أبواب آداب القاضي ب ٨ ح ٦ ما نصّه : هديّة الأُمراء غلول ، وهو في مسند أحمد ٥ : ٤٢٤.

(٣) المبسوط ٨ : ١٥١.

(٤) المفاتيح ٣ : ٢٥١.

(٥) منهم : الشيخ في النهاية : ٣٦٥ ، والحلّي في السرائر ٢ : ٢١٧ ، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة ٨ : ٩٣ ، وصاحب الحدائق ١٨ : ٢١١.

١٨٢

بل الصحيح المروي في الفقيه في كتاب الشهادات ، عن محمد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « لا تصلّ خلف من يبتغي على الأذان والصلاة بين الناس أجراً ، ولا تقبل شهادته » (١) وهو نصّ في التحريم.

( و ) على ( القضاء ) والحكم بين الناس ، فإنّها من أحد المتحاكمين رشوة محرّمة ، كما مضت إليه الإشارة. وكذا من غيرهما ، مطلقاً ، وفاقاً للحلبي والحلّي (٢) وجماعة (٣) ؛ للصحيح : عن قاضٍ بين فريقين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق ، فقال : « ذلك السحت » (٤) بحمل الرزق فيه على الأجر ؛ للإجماع على حلّه ، ولأنّه لمّا كان جائزاً لجملة المسلمين المحتاجين من بيت المال فلا وجه للفرق بين القاضي وغيره (٥).

خلافاً للمفيد والنهاية والقاضي (٦) ، فيجوز مع الكراهة ؛ للأصل السالم عمّا يصلح للمعارضة ، لعدم دلالة الصحيح على الأُجرة ، وصرف الرزق فيه إليها بمعونة الأمرين المتقدّمين ليس بأولى من صرف السحت فيه بهما إلى الكراهة ، بل هو أولى ، لموافقة الأصل.

ويمكن ترجيح الأوّل بأنّ المجاز اللازم على تقديره التقييد دون‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ٢٧ / ٧٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٧٨ أبواب الشهادات ب ٣٢ ح ٦.

(٢) الحلبي في الكافي : ٢٨٣ ، الحلي في السرائر ٢ : ٢١٧.

(٣) منهم : العلاّمة في القواعد ١ : ١٢١ ، والشهيد الثاني في الروضة ٣ : ٧١.

(٤) الكافي ٧ : ٤٠٩ / ١ ، الفقيه ٣ : ٤ / ١٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢١ أبواب آداب القاضي ب ٨ ح ١.

(٥) مضافاً إلى ما روي عن الخصال : ٣٢٩ / ٢٦ ، أنّه روي عن أبيه ، عن سعد ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن أبي أيوب ، عن عمار بن مروان قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : كل شي‌ء غلّ من الإمام عليه‌السلام فهو سحت ، والسحت أنواع كثيرة ، منها ما أُصيب من أعمال الولاة الظلمة ، ومنها أُجور القضاة ، وأُجور الفواحش ، وثمن الخمر والنبيذ المسكر ، والربا بعد البيّنة. ( منه رحمه‌الله ).

(٦) المفيد في المقنعة : ٥٨٨ ، النهاية : ٣٦٧ ، القاضي في المهذب ١ : ٣٤٦.

١٨٣

الثاني ، فإنّ اللازم منه المجاز المطلق المرجوح بالإضافة إليه ، مع تأيّده في الجملة بفحوى الصحيحة المتقدّمة وغيرها (١) ، المانعة من أخذ الأُجرة على نحو الأذان المستحب.

فالمنع فيما نحن فيه من حيث وجوبه ولو كفاية أولى ، مع أنّ اللازم على الثاني كراهة الارتزاق ، ولعلّهم لم يقولوا به ، بل يخصّونه بالأُجرة ، فيلزم على تقديره مجازان دون الأوّل.

وللماتن في الشرائع والفاضل في المختلف (٢) ، فالتفصيل بين تعيّنه عليه بتعيين الإمام له ونحوه فالأوّل ، وإلاّ فالثاني ، إمّا مطلقاً كما في المختلف ، أو بشرط الحاجة وإلاّ فكالأوّل كما عن الماتن في الكتاب.

والأوّل أحوط وأولى ، وأمّا القول الثاني فضعيف جدّاً.

( ولا بأس ) في صور المنع عن أخذ الأُجرة ( بالرزق من بيت المال ) بلا خلاف ؛ للأصل ، والضرورة ، واختصاص أدلّة المنع بغير هذه الصورة سوى الصحيحة المتقدّمة ، لأنّها ظاهرة المنع فيها ، إلاّ أنّها كما مرّ محمولة على الأُجرة ، أو الكراهة.

والفرق بينه وبين الأُجرة ما قيل : من توقّف العمل عليها دونه (٣) ، أو أنّها تفتقر إلى تقدير العمل والعوض وضبط المدّة والصيغة الخاصّة بخلافه ، لإناطته بنظر الحاكم وعدم تقدّره بقدر ، ومحلّه بيت المال وما أُعدّ للمصالح من خراج الأرض ومقاسمتها (٤).

__________________

(١) انظر الوسائل ٥ : ٤٤٧ أبواب الأذان والإقامة ب ٣٨.

(٢) الشرائع ٤ : ٦٩ ، المختلف : ٣٤٢.

(٣) مجمع الفائدة ٨ : ٩٢.

(٤) قال به في المسالك ١ : ١٦٦.

١٨٤

وفي هذا الفرق نظر ، بل الأوّل أولى وأظهر ، والأمر سهل لمن تدبّر.

( وكذا ) يحرم أخذ الأُجرة ( على الأذان ) ولا بأس فيه بالرزق من بيت المال ؛ لما مرّ.

وأمّا الأوّل وعليه الأكثر ، بل عن بعض الأصحاب نفي الخلاف عنه (١) ، وفي الخلاف (٢) عليه الإجماع (٣) فللخبر المتقدّم في الصلاة بالناس (٤) ، الصريح في التحريم ، المنجبر قصور سنده لو كان بالشهرة بين الأعيان ، المؤيّد بروايات أُخر ، منها : أتى رجل أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : إنّي والله لأُحبّك لله ، فقال : « ولكنّي أُبغضك لله » قال : ولم؟ قال : « لأنّك تبغي على الأذان كسباً ، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً » (٥).

ومنها المرسل في الفقيه : « ولا تتّخذن مؤذّناً يأخذ على أذانه أجراً » (٦) وعّد في المروي من دعائم الإسلام سحتاً (٧).

خلافاً للمرتضى ، فكالارتزاق ؛ للأصل ، وضعف النصوص ، أو عدم حجّيتها ، لكونها من الآحاد (٨). وهو حسن على أصله ، غير مستحسن على‌

__________________

(١) حكاه في مفتاح الكرامة ٤ : ٩٥ عن حاشية الإرشاد للكركي.

(٢) في « ق » زيادة : وكذا في شرح القواعد لثاني المحقّقين ( جامع المقاصد ٤ : ٣٦ ). منه رحمه‌الله.

(٣) الخلاف ١ : ٢٩٠.

(٤) في ص : ٣٧٢٨.

(٥) الفقيه ٣ : ١٠٩ / ٤٦١ ، التهذيب ٦ : ٣٧٦ / ١٠٩٩ ، الإستبصار ٣ : ٦٥ / ٢١٥ ، الوسائل ١٧ : ١٥٧ أبواب ما يكتسب به ب ٣٠ ح ١.

(٦) الفقيه ١ : ١٨٤ / ٨٧٠ ، التهذيب ٢ : ٢٨٣ / ١١٢٩ ، الوسائل ٥ : ٤٤٧ أبواب الأذان والإقامة ب ٣٨ ح ١.

(٧) دعائم الإسلام ١ : ١٤٧ ، المستدرك ٤ : ٥١ أبواب الأذان والإقامة ب ٣ ح ٢.

(٨) نقله عنه في المسالك ١ : ١٦٦.

١٨٥

غيره ، لانجبار الضعف بما مرّ.

( ولا بأس بـ ) أخذ ( الأُجرة على عقد النكاح ) وغيره من العقود بأن يكون العاقد وكيلاً عن أحد المتعاقدين.

أمّا تعليم الصيغة وإلقائها على الوجه اللازم فلا يجوز أخذ الأُجرة عليه ؛ للوجوب.

نعم يجوز أخذها على الخطبة ، والخطبة في الإملاك.

( والمكروه : إمّا لإفضائه إلى المحرّم ) أو المكروه ( غالباً ك‍ ) اتّخاذ ( الصرف ) حرفة ، فإنّ فاعله لا يسلم من الربا.

( وبيع الأكفان ) فإنّه يتمنّى الوباء.

( و ) بيع ( الطعام ) فإنّه يتمنّى الغلاء ، ولا يسلم من الاحتكار غالباً.

( و ) بيع ( الرقيق ) والعبيد ؛ فإنّه يكون أقلّ الناس خيراً ، فإنّ شرّ الناس من باع الناس.

( والصياغة ) لأنّه يُذكّر الدنيا وينسى الآخرة.

( والذباحة ) فإنّه يسلب من قلبه الرحمة.

( وبيع ما يكنّ من السلاح لأهل الحرب ، كالخفّين والدرع ) فإنّ فيه نوع ركون إليهم ومودّة.

ولا خلاف في كراهة شي‌ء من ذلك ؛ للنصوص المستفيضة ، ففي الخبر : « لا تسلّمه صيرفيّاً ، فإنّ الصيرفي لا يسلم من الربا ، ولا تسلّمه بيّاع أكفان ، فإنّ صاحب الأكفان يسرّه الوباء إذا كان ، ولا تسلّمه بيّاع طعام ، فإنّه لا يسلم من الاحتكار ، ولا تسلّمه جزّاراً ، فإنّ الجزّار تُسلب منه الرحمة ،

١٨٦

ولا تسلّمه نخّاساً ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : شرّ الناس من باع الناس » (١).

ونحوه آخر ، مبدّلاً الصيرفي بالصائغ ، معلّلاً بأنّه يعالج زين أُمّتي (٢).

وظاهرهما كغيرهما اختصاص الكراهة باتّخاذ ذلك حرفة ، دون أن يصدر ذلك منه مرّة ، بل ظاهر بعض المعتبرة عدم الكراهة مطلقاً إذا اتّقى الله سبحانه ، ففي الموثق كالصحيح : « كلّ شي‌ء ممّا يباع إذا اتّقى الله عزّ وجلّ فيه العبد فلا بأس به » (٣). وفي الخبر المعتبر الوارد في الصرف : « خذ سواء وأعط سواء ، فإذا حضرت الصلاة فَدَعْ ما بيدك وانهض إلى الصلاة ، أما علمت أنّ أصحاب الكهف كانوا صيارفة » (٤).

ولو لا الشهرة بين الأصحاب وجواز المسامحة في أدلّة الكراهة والاستحباب لكان القول بالإباحة المطلقة من دون كراهة غير بعيد ؛ للأصل ، وما مرّ من المعتبرة ، وقصور سند الروايات المانعة ، واحتمال ورودها مورد الغلبة.

ثم إنّ النصوص والعبارة وغيرها وإن أطلقت المنع عن الأُمور المزبورة والآتية إلاّ أنّه ينبغي التقييد بعدم احتياج الناس إليها ، وإلاّ فيجب عيناً أو كفايةً اتّفاقاً. ولا ينافيه الإطلاق المتقدّم ؛ لوروده مورد الغالب الذي‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ١١٤ / ٤ ، علل الشرائع : ٥٣٠ / ١ ، الوسائل ١٧ : ١٣٥ أبواب ما يكتسب به ب ٢١ ح ١.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٦٢ / ١٠٣٨ ، الاستبصار ٣ : ٦٣ / ٢٠٩ ، علل الشرائع : ١٧٩ ، الخصال : ١٣٨ ، معاني الأخبار : ٤٩ ، الوسائل ١٧ : ١٣٧ أبواب ما يكتسب به ب ٢١ ح ٤ ؛ بتفاوت يسير.

(٣) الكافي ٥ : ١١٤ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٦٣ / ١٠٣٩ ، الإستبصار ٣ : ٦٣ / ٢١٠ ، الوسائل ١٧ : ١٣٥ أبواب ما يكتسب به ب ٢٠ ح ٥.

(٤) الكافي ٥ : ١١٣ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٦٣ / ١٠٤٠ ، الإستبصار ٣ : ٦٤ / ٢١١ ، الوسائل ١٧ : ١٣٩ أبواب ما يكتسب به ب ٢٢ ح ١.

١٨٧

ليس محل الفرض منه جدّاً.

( وإمّا لضعته ) ورذالته ( كالحياكة ) والنساجة ، ففي الخبر : « ولد الحائك لا ينجب إلى سبعة بطون » (١).

( والحجامة ) إذا شرط الأُجرة لا بدونها ؛ للمعتبرين ، أحدهما الموثق كالصحيح : عن كسب الحجّام ، فقال : « مكروه له أن يشارط ، ولا بأس عليك أن تشارطه وتماكسه ، وإنّما يكره له ولا بأس عليك » (٢).

والثاني : « لا بأس به إذا لم يشارطه » (٣).

وبه يجمع بين إطلاق الأخبار المختلفة في المنع والإباحة ، وفيها الصحيح وغيره ، في الجانبين.

ويحتمل الجمع بحمل الأوّل على الكراهة مطلقاً والثاني على الجواز ، إلاّ أنّ الأوّل أرجح ، لوضوح الشاهد عليه من الخبرين وفتوى الأكثر ، وإن كان الكراهة مطلقاً كما في اللمعة (٤) غير بعيدة.

( وضراب الفحل ) بأن يؤاجره لذلك ؛ للمرسل : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عَسْب الفحل ، وهو اجرة الضراب » (٥).

ويستفاد من المعتبرين عدم الكراهة ، أحدهما الصحيح : عن أجر‌

__________________

(١) رواه في المسالك ١ : ١٦٧ عن الصادق عليه‌السلام.

(٢) الكافي ٥ : ١١٦ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٥٥ / ١٠١١ ، الإستبصار ٣ : ٥٩ / ١٩٣ ، الوسائل ١٧ : ١٠٦ أبواب ما يكتسب به ب ٩ ح ٩.

(٣) الكافي ٥ : ١١٥ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ / ١٠٠٨ ، الإستبصار ٣ : ٥٨ / ١٩٠ ، الوسائل ١٧ : ١٠٤ أبواب ما يكتسب به ب ٩ ح ١.

(٤) اللمعة ( الروضة ٣ ) : ٢١٩.

(٥) الفقيه ٣ : ١٠٥ / ٤٣٣ ، الوسائل ١٧ : ١١١ أبواب ما يكتسب به ب ١٢ ح ٣.

١٨٨

التيوس (١)؟ قال : « إن كانت العرب لتعاير به ولا بأس » (٢).

وفي الثاني : إنّ لي تَيْساً أكريه ، فما تقول في كسبه؟ قال : « كُلْ كسبه فإنّه لك حلال ، والناس يكرهونه لتعيير الناس بعضهم بعضاً » (٣).

( ولا بأس بالختانة وخفض الجواري ) بلا خلاف ؛ للأصل ، والصحيح وغيره (٤) في الثاني ، مع أنّهما من السنن المرغّب إليهما في المعتبرة (٥) ، ولا ريب في منافاة ذلك للكراهة.

( وإمّا لتطرّق الشبهة ) المندوب إلى تركها في النصوص المستفيضة ( ككسب الصبيان ) المجهول أصله ؛ لحصول الشبهة فيه من اجتراء الصبي على ما لا يحلّ لجهله ، أو علمه بارتفاع القلم عنه.

ولو علم اكتسابه من محلّل فلا كراهة ، وإن أطلق الأكثر ، كما أنّه لو علم تحصيله أو بعضه من محرّم وجب اجتنابه ، أو اجتناب ما علم منه أو اشتبه به وكان محصوراً.

وفي الخبر : « نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده ، فإنّه إذا لم يجد سرق » (٦).

__________________

(١) التيْس : الذَّكَر من المعز إذا أتى عليه حول. والجمع : تُيُوس. المصباح المنير : ٧٩.

(٢) الكافي ٥ : ١١٦ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٣٥٥ / ١٠١٢ ، الإستبصار ٣ : ٥٩ / ١٩٤ ، الوسائل ١٧ : ١١١ أبواب ما يكتسب به ب ١٢ ح ٢.

(٣) الكافي ٥ : ١١٥ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ / ١٠٠٩ ، الإستبصار ٣ : ٥٨ / ١٩١ ، الوسائل ١٧ : ١١١ أبواب ما يكتسب به ب ١٢ ح ١.

(٤) انظر الوسائل ١٧ : ١٢٩ أبواب ما يكتسب به ب ١٨ ، وج ٢١ : ٤٤٠ و ٤٤٢ أبواب أحكام الأولاد ب ٥٦ ، ٥٧.

(٥) الوسائل ٢١ : ٤٣٣ ، ٤٤٠ أبواب أحكام الأولاد ب ٥٢ ، ٥٦.

(٦) الكافي ٥ : ١٢٨ / ٨ ، التهذيب ٦ : ٣٦٨ / ١٠٥٧ ، الوسائل ١٧ : ١٦٣ أبواب ما

١٨٩

ومحل الكراهة تكسّب الولي به ، أو أخذه منه ، أو الصبي بعد رفع الحجر عنه.

( و ) نحوه كسب ( من لا يجتنب المحارم ) المتعلّقة بالمال لا مطلقاً ، فلا يكره كسب المجتنب عنها فيه ، والغير المجتنب عنها في غيره.

( ومن المكروه ) أخذ ( الأُجرة على تعليم القرآن ، ونسخه ، وكسب القابلة مع الشرط ، ولا بأس به لو تجرّد ) عنه ، وفاقاً للأكثر ، بل لعلّه عليه عامّة من تأخّر ، وعن الحلّي إجماعنا على جواز الأوّلين (١) ؛ استناداً في الجواز إلى الأصل ، ومفهوم النصوص الآتية ، وضعف النصوص المانعة (٢) وإن كانت مستفيضة ، مع معارضتها بصريح بعض المعتبرة ، المنجبر قصور سنده بالشهرة العظيمة المصرّح بالإباحة المطلقة.

ففيه : إنّ هؤلاء يقولون : إنّ كسب المعلّم سحت ، فقال : « كذبوا أعداء الله تعالى ، إنّما أرادوا أن لا يعلّموا القرآن ، ولو أنّ المعلّم أعطاه رجل دية ولده كان للمعلّم مباحاً » (٣).

وفي آخر : ما ترى أن اعطي على كتابته أجراً؟ قال : « لا بأس » (٤) الحديث.

وفي الكراهة في الأوّلين إلى الشبهة الناشئة من الأخبار المزبورة ،

__________________

يكتسب به ب ٣٣ ح ١.

(١) انظر السرائر ٢ : ٢٢٣.

(٢) الوسائل ١٧ : ١٥٤ أبواب ما يكتسب به ب ٢٩ ح ١ ، ٣ ، ٤.

(٣) الكافي ٥ : ١٢١ / ٢ ، الفقيه ٣ : ٩٩ / ٣٨٤ ، التهذيب ٦ : ٣٦٤ / ١٠٤٦ ، الإستبصار ٣ : ٦٥ / ٢١٦ ، الوسائل ١٧ : ١٥٤ أبواب ما يكتسب به ب ٢٩ ح ٢.

(٤) الكافي ٥ : ١٢١ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٦٦ / ١٠٥٣ ، الوسائل ١٧ : ١٥٨ أبواب ما يكتسب به ب ٣١ ح ٤.

١٩٠

وفتوى جماعة بالحرمة إما مطلقاً ، كما عن الحلبي (١) ، أو مع الشرط خاصّة كما عزي إلى الطوسي في الاستبصار (٢) ، وفيه مناقشة.

استناداً من الأوّل إلى إطلاق المنع فيها. ومن الثاني إلى الجمع بينها وبين ما دلّ على الجواز مطلقاً ؛ لظواهر عدة من النصوص : منها : « المعلّم لا يعلّم بالأجر ، ويقبل الهدية إذا اهدي إليه » (٣).

وأظهر منه الخبران الناهيان عن أجر القارئ الذي لا يقرأ إلاّ بأُجرة مشروطة (٤).

وفي الخبر : « إنّ أُمّ عبد الله بنت الحسن أرادت أن تكتب مصحفاً ، فاشترت ورقاً من عندها ، ودَعَت رجلاً فكتب لها على غير شرط ، وأعطته حين فرغ خمسين ديناراً وأنّه لم تبع المصاحف إلاّ حديثاً » (٥).

لكنّها ليست بصريحة في التقييد ، مع اختصاص الخبرين بالقارئ دون المعلّم ، فارتكابه في المطلقات من الجانبين مشكل (٦) ، مع معارضة الخبرين بصريح بعض المعتبرة الظاهر في عموم المنع لصورة عدم الشرط‌

__________________

(١) الكافي في الفقه : ٢٨٣.

(٢) الاستبصار ٣ : ٦٥.

(٣) التهذيب ٦ ك‍ ٣٦٥ / ١٠٤٧ ، الإستبصار ٣ : ٦٦ / ٢١٨ ، الوسائل ١٧ : ١٥٦ أبواب ما يكتسب به ب ٢٩ ح ٥.

(٤) الفقيه ٣ : ١٠٥ / ٤٣٧ ، التهذيب ٦ : ٣٧٦ / ١٠٩٧ ، الوسائل ١٧ : ١٥٦ أبواب ما يكتسب به ب ٢٩ ح ٦ ، ٧.

(٥) التهذيب ٦ : ٣٦٦ / ١٠٥٤ ، الوسائل ١٧ : ١٦٠ أبواب ما يكتسب به ب ٣١ ح ١٠.

(٦) ومع ذلك فالنصوص المانعة مطلقة ، والمجوّزة كذلك ، والمفصّلة بين الشرط وعدمه مخصوصة بتعليم القرآن دون نسخه ، فلا وجه للقول بالحرمة فيه ، بل الكراهة أيضاً لولا الشهرة ، اللهمّ إلاّ أن يدّعى عدم القول بالفرق بين تعليم القرآن ونسخه مطلقاً ، ولا تحريماً ولا كراهة ، فتدبر. ( منه رحمه‌الله ).

١٩١

أيضاً : وفيه : إنّي أقرأ القرآن فيُهدى إليّ الهدية فأقبلها؟ قال : « لا » قلت : إن لم أُشارطه؟ قال : « أرأيت لو لم تقرأ كان يُهدى لك؟ » قلت : لا ، قال : « فلا تقبله » (١).

فالأصح القول إمّا بالكراهة مطلقاً كما عليه جماعة (٢) ؛ لإطلاق النهي عنه في المستفيضة السالمة عن معارضة ما يصلح لتقييدها بصورة الاشتراط. أو انتفائها كذلك ، بناءً على احتمال ورود المنع تقيّة ، كما هو صريح الرواية الأُولى المجوّزة. فلولا الشهرة وجواز المسامحة في أدلّة الكراهة لكان هذا القول في غاية القوّة.

وأمّا القول بالحرمة مطلقاً أو في الجملة فضعيف البتّة ؛ لضعف النصوص المانعة ، ومعارضتها بالأصل والروايات المنجبر قصور أسانيدها بالشهرة في الجملة ، هذا.

وأمّا الكراهة في القابلة مع الشرط فلم أقف فيها على دلالة ، بل أصالة الإباحة المطلقة والضرورة في ردّها أوضح قرينة ، إلاّ أن يكون إجماعاً ، والمناقشة فيه واضحة ، مع أنّ المحكي عن المنتهى (٣) الإباحة من دون تقييد بالكراهة ، إلاّ أنّها لا بأس بها ، لما عرفت من جواز المسامحة في نحو المسألة.

ثم إنّ الواجب تقييد الجواز على القول به مطلقاً أو في الجملة بصورة ما إذا لم يكن أحد الأمرين واجباً ولو كفايةً ، وإلاّ فينتفي رأساً ويثبت‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ١١٠ / ٤٦٢ ، التهذيب ٦ : ٣٦٥ / ١٠٤٨ ، الإستبصار ٣ : ٦٦ / ٢١٩ ، الوسائل ١٧ : ١٥٥ أبواب ما يكتسب به ب ٢٩ ح ٤.

(٢) منهم : العلاّمة في التحرير ١ : ١٦٢ ، والشهيد في الدروس ٣ : ١٧٣ ، والفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٢ : ١٨.

(٣) المنتهى ٢ : ١٠٢١.

١٩٢

التحريم إجماعاً ، فتوًى ودليلاً.

فاتّخاذ بعض شرّاح الكتاب (١) هذا التفصيل قولاً آخر في المسألة ضعيف جدّاً ، وإن كان ما ذكره حقّا.

( ولا بأس بأُجرة تعليم الحِكَم والآداب ) كالكتابة والحساب ، بلا خلاف ، للأصل السالم عن المعارض.

وفي الخبر : « لا تأخذ على التعليم أجراً » قلت : الشعر والرسائل وما أشبه ذلك أُشارط عليه؟ قال : « نعم بعد أن يكون الصبيان عندك سواء في التعليم » (٢).

وفي آخر : إنّ لنا جاراً يكتّب ، وسألني أن أسألك عن عمله ، فقال : « مُره إذا دُفع إليه الغلام أن يقول لأهله : إنّما أُعلّمه الكتاب والحساب وأتّجر عليه بتعليم القرآن حتّى يطيب له كسبه » (٣).

وما في هذه الرواية من وجه الفرار عمّا يترتّب على أخذ الأُجرة على تعليم القرآن من الكراهة حيلة حسنة يحسن اتّخاذ المعلّمين لها وسيلة للخروج عن الشبهة الناشئة من القول بالحرمة إن كان الأطفال من أهل القابليّة لمعرفة الكتاب والحساب ، وإلاّ فيبدّلونهما بالحفظ والتأديب ، فيُجعل الأجر لهما لا للتعليم.

ويستفاد من الأوّل وجوب التسوية بينهم في التعليم ، ولا ريب فيه مع الإطلاق ومساواة الأُجرة. وإلاّ ففيه نظر ؛ للأصل ، وضعف الخبر ، بل‌

__________________

(١) الفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٢ : ١٧.

(٢) الكافي ٥ : ١٢١ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٦٤ / ١٠٤٥ ، الإستبصار ٣ : ٦٥ / ٢١٤ ، الوسائل ١٧ : ١٥٤ أبواب ما يكتسب به ب ٢٩ ح ١.

(٣) التهذيب ٦ : ٣٦٤ / ١٠٤٤ ، الإستبصار ٣ : ٦٥ / ٢١٧ ، الوسائل ١٧ : ١٥٥ أبواب ما يكتسب به ب ٢٩ ح ٣.

١٩٣

ربما يحسن التفضيل ، بل يجب بالقابليّة ، أو عوارض أُخر. فالقول بوجوب التسوية مطلقاً إلاّ إذا آجر نفسه من كلٍّ لتعليم شي‌ء مخصوص يزيد على الآخر خاصّة كما عن النهاية (١) محلّ مناقشة ؛ لما مرّ إليه الإشارة.

( وقد يكره الاكتساب بأشياء أُخر يأتي ) ذكرها ( إن شاء الله تعالى ) في تضاعيف المباحث الآتية.

( مسائل ستّ : )

( الاولى : لا يؤخذ ما يُنثر في ) الإملاك و ( الأعراس ) وغيرهما ؛ للخبر : الإملاك يكون والعرس فينثر على القوم؟ فقال : « حرام ، ولكن كل ما أعطوك منه فخذ » (٢) ولحرمة التصرف في ملك الغير ( إلاّ ما يعرف معه الإباحة ) منه له ، وبه يجبر ضعف سند الخبر ، مع عدم خلاف فيه يظهر.

وفي الصحيح : عن النثار من السكر واللوز وأشباهه ، أيحلّ أكله؟

قال : « يكره أكل كلّ ما انتهب » (٣).

والمراد بالكراهة فيه إمّا الحرمة ، أو المعنى المصطلح ، لكن يخصّ على الأوّل بعدم الإذن ، وعلى الثاني به ، ووجه الكراهة فيه حينئذٍ تضمّنه لمهانة النفس ومخالفة المروءة المرغوب عنها.

( الثانية : لا بأس ببيع عظام الفيل ، واتّخاذ الأمشاط ) وغيرها‌

__________________

(١) النهاية : ٣٦٧.

(٢) الكافي ٥ : ١٢٤ / ٨ ، التهذيب ٦ : ٣٧٠ / ١٠٧١ ، الإستبصار ٣ : ٦٦ / ٢٢٠ ، الوسائل ١٧ : ١٦٩ أبواب ما يكتسب به ب ٣٦ ح ٤.

(٣) الكافي ٥ : ١٢٣ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٣٧٠ / ١٠٧٢ ، الإستبصار ٣ : ٦٦ / ٢٢١ ، الوسائل ١٧ : ١٦٨ أبواب ما يكتسب به ب ٣٦ ح ٢.

١٩٤

( منها ) لما مضى مفصّلاً (١).

( الثالثة : يجوز أن يشترى من السلطان ) الجائر المخالف لا مطلقاً على الأصح ( ما يأخذ باسم المقاسمة ) والخراج ( واسم الزكاة ، من ثمرة وحبوب ونَعَم ، وإن لم يكن ) السلطان ( مستحقّاً له ) بشرط أن لا يزيد في الأخذ على ما لو كان الإمام العادل ظاهراً لأخذه.

وهو في الثالث مقدّر مضبوط ، وقدّر في الأوّلين حيث لا تقدير فيهما في الشريعة بما يتراضى عليه السلطان وملاّك الأرضين في ذلك الزمان.

فلو أخذ الجائر زيادة على ذلك كلّه حرم الزائد بعينه إن تميّز ، وإلاّ حرم الكلّ من باب المقدّمة.

والأصل في المسألة بعد عدم الخلاف في الطائفة ، والإجماع المستفيض حكايته في كلام جماعة (٢) المعتبرة المستفيضة :

منها الصحيح : عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة وغنمها ، وهو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم ، قال : فقال : « ما الإبل والغنم إلاّ مثل الحنطة والشعير وغير ذلك ، لا بأس به حتّى تعرف الحرام بعينه » قيل له : فما ترى في مصدّق يجيئنا فيأخذ صدقات أغنامنا فنقول : بعناها فيبيعناها ، فما ترى في شرائها منه؟ قال : « إن كان قد أخذها وعزلها فلا بأس » قيل له : فما ترى في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظّنا ويأخذ حظّه فيعزله بكيل ، فما ترى في شراء‌

__________________

(١) راجع ص : ٣٦٩٧.

(٢) منهم : الفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٢ : ١٩ ، والمحقّق الثاني في المقاصد ٤ : ٤٥ ، ورسالة قاطعة اللجاج ( رسائل المحقّق الكركي ١ ) : ٢٧٨ ، والشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٦٨.

١٩٥

ذلك الطعام منه؟ فقال : « إن كان ما قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه بغير كيل » (١).

والمناقشة في الدلالة أوّلاً : بمنعها على إباحة الخراج والمقاسمة ؛ فإنّ غايتها الدلالة على حكم الزكاة خاصّة.

وثانياً : بانتفائها على إباحتها أيضاً ؛ للإجمال في الجواب عن إباحتها بقوله : « لا بأس به حتّى تعرف الحرام بعينه » المحتمل لأن يراد منه الكناية عن عدم إباحتها ، بناءً على معلوميّة حرمتها إجماعاً ، ويكون المنشأ في الإجمال هو التقيّة.

وثالثاً : باحتمال كون المصدّق من قبل العدل.

ورابعاً : باحتمال الشراء فيه الاستنقاذ لا المعاملة الحقيقية ، بناءً على كون متعلّقها فيه صدقات المشترين خاصّة.

مدفوعة ، فالأوّل : بظهور لفظ القاسم في كون المأخوذ مال المقاسمة ، سيّما في مقابلة لفظ المصدّق ، مع مضيّ السؤال عن حكم المسئول عن حكمه هنا في الصدر ، المشعر بل الظاهر في أنّه غير الأوّل ، ويتمّ الباقي بعدم القول بالفصل.

والثاني : بانتفاء الإجمال بعد تعلّق السؤال بخصوص إبل الصدقة ووجوب مطابقة الجواب له وإرجاع ضميره إليه ، ولا ينافيه تعليق الإباحة وتحديدها بعدم معلومية الحرمة بعد تضمّن السؤال إيّاها فيما زاد على الصدقة المفروضة ، فيكون حاصل الجواب حلّ شراء الصدقة إذا لم تعلم فيها الزيادة المحرّمة التي تضمّنها السؤال ، وسياق الرواية يأبى عن حمل‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٢٨ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٧٥ / ١٠٩٤ ، الوسائل ١٧ : ٢١٩ أبواب ما يكتسب به ب ٥٢ ح ٥.

١٩٦

الإجمال فيها لو كان على التقيّة.

والثالث والرابع : ببعدهما غايته ، سيّما الأوّل بملاحظة حال الأئمّة عليهم‌السلام زمان صدور الرواية من تقيتهم من العامّة غاية التقيّة.

ويدفع الثاني مضافاً إلى البعد الماضي بأنّ صدرها كالصريح في كون المبيع من غير المشتري.

ومنها الحسن : « ما يمنع ابن أبي سماك أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس ، ويعطيهم ما يعطي الناس؟ » ثم قال للراوي : « لِمَ تركت عطاءك؟ » قال : مخافةً على ديني ، قال : « ما منع ابن أبي سماك أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً » (١).

وهو مع حُسنه واحتمال صحته واضح الدلالة ، من حيث تجويزه عليه‌السلام أوّلاً لشباب الشيعة أخذ ما يعطي الحاكم الناس المعينين له ، ومن جملة ما يعطون وجوه الخراج والمقاسمة ، وثانياً للراوي أخذ العطاء من بيت المال الغالب فيه اجتماع وجوههما فيه ، لندرة الزكوات ، فإنّ لها أرباباً مخصوصة يعطون من دون إحراز لها فيه ، فاحتمالها فيه ضعيف ، وأضعف منه احتمال الوجوه الموصى بها أو المنذورة للشيعة ، فالمناقشة في الدلالة بما مرّ ضعيفة.

ومنها الموثق : عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم؟ فقال : « يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحداً » (٢).

وترك الاستفصال عمّا يشتري منه يفيد العموم لجميع أفراد السؤال‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٣٦ / ٩٣٣ ، الوسائل ١٧ ك‍ ٢١٤ أبواب ما يكتسب به ب ٥١ ح ٦.

(٢) الكافي ٥ : ٢٢٨ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٧٥ / ١٠٩٣ ، الوسائل ١٧ : ٢٢١ أبواب ما يكتسب به ٥٣ ح ٢.

١٩٧

التي منها مفروض البحث ، ولا ينافيه القيد ، لاشتراطه فيه إجماعاً.

وليس المراد من الظلم مطلقه ، كيف لا والعامل لا ينفكّ عنه مطلقاً ، فالمراد منه الظلم الزائد على المتعارف عرفاً ، وهو المستند في الشرط الذي قدّمناه تبعاً لأصحابنا.

وبالوجه في دلالته يعلم الوجه في دلالة إطلاق النصوص المعتبرة بجواز الشراء من الظلمة من دون استفصال وتقييد بما يخرج عن مفروض المسألة : منها الصحيح : أشتري من العامل الشي‌ء وأنا أعلم أنه يظلم؟ فقال : « اشتر منه » (١).

والمرسل كالصحيح : أشتري الطعام فيجيئني من يتظلّم ، يقول : ظلموني ، فقال : « اشتره » (٢).

وينبغي تقييد الظلم فيهما بعدم العلم بوقوعه على المبيع ، أو بعدم زيادته عن متعارفة لو وقع عليه ، ويكون نسبته إلى الحاكم حينئذٍ من حيث عدم استحقاقه لمثله ، وعلى هذا فهما ظاهران فيما ذكره الأصحاب من جواز الأخذ من المالك ولو تظلّم ، أو أظهر عدم الرضاء ، هذا.

مع التأيّد بما سيأتي من الصحاح المستفيضة المبيحة على الإطلاق أو العموم جوائز الظلمة (٣) ، ونحوها المعتبرة المستفيضة الدالّة على جواز قبالة الخراج والجزية ، كالصحيح : عن رجل يتقبّل بخراج الرجال وجزية رؤوسهم وخراج النخل والشجر والآجام والمصائد والسمك والطير ، وهو لا يدري لعلّ هذا لا يكون أبداً أو يكون ، أيشتريه؟ وفي أيّ زمان يشتريه‌

__________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٣٧ / ٩٣٨ ، الوسائل ١٧ : ٢١٩ أبواب ما يكتسب به ب ٥٢ ح ٤.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٣٧ / ٩٣٧ ، الوسائل ١٧ : ٢١٩ أبواب ما يكتسب به ب ٥٢ ح ٣.

(٣) انظر ص : ٣٧٤٨.

١٩٨

ويتقبّل به؟ فقال : « إذا علمت أنّ من ذلك شيئاً واحداً قد أدرك فاشتره وتقبّل به » (١). ونحوه الموثق (٢).

والصحيح : « لا بأس بأن يتقبّل الرجل الأرض وأهلها من السلطان » وعن مزارعة أهل الخراج بالربع والنصف والثلث؟ قال : « نعم لا بأس به » (٣) الخبر.

وهو كالصريح في أنّ حكم تصرّف الجائر في هذه الأراضي حكم تصرّف الإمام العادل في الجملة.

ويستفاد ممّا مرّ من النصوص صريحاً في بعض وإطلاقاً أو عموماً في آخر ما ذكره الأصحاب من غير خلاف يظهر : من عدم الفرق في الحكم المتقدّم بين الشراء وغيره من سائر المعاوضات والمعاملات ، وقبض الجائر أو وكيله لها وعدمه ، فلو وهبها وأحاله بها وقبّل الثلاثة ، أو وكّله في قبضها ، أو باعها وهي في يد المالك أو في ذمّته جاز التناول ؛ لأنّ دليل الإباحة شامل لهذه الصور المفروضة.

وعلى ذلك يحمل الشراء والأخذ في العبارة وغيرها من كلام جماعة. ويؤيّد العموم ما اتّخذ دليلاً في أصل المسألة من استلزام عدم الإباحة العسر والحرج على الشيعة المنفيّين آية ورواية.

ثم إنّ في سقوط الزكاة بأخذ الحاكم لها قولين.

للأوّل : ظواهر الصحاح المستفيضة ، منها : « ما أخذه منكم بنو أُميّة‌

__________________

(١) الفقيه ٣ : ١٤١ / ٦٢١ ، الوسائل ١٧ : ٣٥٥ أبواب عقد البيع وشروطه ب ١٢ ذيل حديث ٤.

(٢) الكافي ٥ : ١٩٥ / ١٢ ، التهذيب ٧ : ١٢٤ / ٥٤٤ ، الوسائل ١٧ : ٣٥٥ أبواب عقد البيع وشروطه ب ١٢ ح ٤.

(٣) التهذيب ٧ : ٢٠١ / ٨٨٨ ، الوسائل ١٩ : ٥٩ أبواب أحكام المزارعة ب ١٨ ح ٣.

١٩٩

فاحتسبوا به ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم ، فإنّ المال لا يبقى على هذا أن تزكّيه مرّتين » (١).

ومنها : عن صدقة المال يأخذه السلطان؟ فقال : « لا آمرك أن تعيد » (٢).

بل يستفاد من كثير من المعتبرة وفيها الصحيح وغيره جواز احتساب ما يأخذه باسم الخراج مكان الزكاة (٣) ، إلاّ أنّ ظاهر الأصحاب الإطباق على ردّها ، بل عليه إجماعنا عن المنتهى (٤) ، فتكون شاذّة ، ومع ذلك محتملة للتقيّة ، فقد حكي القول بمضمونها عن أبي حنيفة (٥).

وللثاني : الأصل ، والعمومات ، وخصوص الصحيح : إنّ هؤلاء المصدّقين يأتون فيأخذون منّا الصدقة فنعطيهم إيّاها ، أتجزي عنّا؟ فقال : « لا ، إنّما هؤلاء قوم غصبوكم أو ظلموكم ، وإنّما الصدقة لأهلها » (٦).

ويخصّ الأوّلان بما مرّ ، ويحمل الثالث لقصوره عن مقاومته على الاستحباب تارة كما عن الشيخ (٧) ، وعلى الإعطاء اختياراً اخرى ، كما ذكره‌

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٤٣ / ٤ ، التهذيب ٤ : ٣٩ / ٩٩ ، الإستبصار ٢ : ٢٧ / ٧٦ ، الوسائل ٩ : ٢٥٢ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٠ ح ٣.

(٢) التهذيب ٤ : ٤٠ / ١٠٠ ، الإستبصار ٢ : ٢٧ / ٧٧ ، الوسائل ٩ : ٢٥٣ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٠ ح ٥.

(٣) الوسائل ٩ : ٢٥١ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٠.

(٤) المنتهى ١ : ٥٠٠.

(٥) حكاه عنه ابن قدامة في المغني ٢ : ٥٨٧.

(٦) التهذيب ٤ : ٤٠ / ١٠١ ، الإستبصار ٢ : ٢٧ / ٧٨ ، الوسائل ٩ : ٢٥٣ أبواب المستحقين للزكاة ب ٢٠ ح ٦.

(٧) انظر الاستبصار ٢ : ٢٧.

٢٠٠