رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٧

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٧

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-109-5
الصفحات: ٤٨٤

بالحج الواجب فكالأول ، والتطوع فيذبح في محل الحصر كالصد.

وللإسكافي ، فخيّر مطلقاً بين البعث والذبح محلّ الحصر ، وجعل الأول أولى (١).

وللمقنع ، فالمحصر والمضطر ينحران بدنتهما في المكان الذي يضطران فيه (٢).

ولعلّ مستندهم الصحيح : « إنّ الحسين بن علي عليهما‌السلام خرج معتمراً فمرض في الطريق ، فبلغ علّياً عليه‌السلام وهو بالمدينة ، فخرج في طلبه فأدركه بالسقيا وهو مريض ، فقال : يا بنيّ ما تشتكي؟ قال : أشتكي رأسي ، فدعا عليّ عليه‌السلام ببدنه فنحرها وحلق رأسه وردّه إلى المدينة » (٣).

ونحوه آخر مرّ في بحث إجزاء هدي السياق عن هدي التحلل في الصدّ (٤).

وظاهرهما الضرورة ، ويحتملها عبارة المقنع المتقدمة.

ويحتملان التطوع ، كما مرّ عن ظاهر المفيد وسلاّر ، وأن لا يكون الحسين عليه‌السلام أحرم كما مرّ ، وإنما نحرها هو أو أبوه تطوعاً وخصوصاً إذا كان قد ساق.

ويؤيده الصحيح : عن رجل أُحصر فبعث الهدي ، قال : « يواعد أصحابه ميعاداً ، إن كان في الحج فمحل الهدي يوم النحر ، فإذا كان يوم النحر فليقصر من رأسه ولا يجب عليه الحلق حتى يقضي المناسك ، وإن‌

__________________

(١) نقله عنه في المختلف : ٣١٧.

(٢) المقنع : ٧٦.

(٣) المقنع : ٧٦.

(٤) راجع ص : ٣٣٣٣ الرقم (٤).

٢٤١

كان في عمرة فلينظر مقدار دخول أصحابه مكة والساعة التي يعدهم فيها ، فإذا كانت تلك الساعة قصّر وأحلّ ؛ وإن كان مرض في الطريق بعد ما يخرج فأراد الرجوع رجع إلى أهله ونحر بدنة أو أقام مكانه حتى يبرأ إذا كان في عمرة ، وإذا برئ فعليه العمرة واجبة ، وإن كان عليه الحج رجع أو أقام ففاته الحج فإن عليه الحج من قابل ، فإنّ الحسين بن علي عليه‌السلام خرج معتمراً » إلى آخر ما مرّ في الصحيح الأول.

كذا في الكافي ، وإن كان في التهذيب مكان « بعد ما يخرج » : « بعد ما أحرم » (١) والسياق يؤيد الأول وإن ظنّ عكسه كما قيل (٢) قيل : وحينئذ فالسقيا هي البئر التي كان النبي عليه‌السلام يستعذب ماءها فيستقى له منها ، واسم أرضها الفلجان ، لا السقيا التي يقال بينها وبين المدينة يومان.

وللجعفي فيذبح مكانه مطلقاً ما لم يكن ساق (٣) ، وهو خلاف ما فعله الحسين عليه‌السلام على ما تشهد به الصحيحة الثانية إن كان أحرم.

نعم له الصحيح : في المحصور ولم يسق الهدي ، قال : « ينسك ويرجع » (٤).

إلاّ أنّ في بلوغه قوة المعارضة لأدلة الأكثر نظراً سيّما مع عدم صراحته في الذبح محل الحصر ، واحتماله الحمل على ما يوافق الأكثر وإن بعد.

وكيف كان ، فلا ريب أن ما اختاروه أولى وأحوط إن لم نقل بكونه‌

__________________

(١) لا يخفى أن النسخة الموجودة من الكافي بأيدينا مطابق لما في التهذيب ، ففي كليهما : « بعد ما أحرم ».

(٢) انظر منتقى الجمان ٣ : ٤٤٨.

(٣) كما نقله عنه في الدروس ١ : ٤٧٧.

(٤) الكافي ٤ : ٣٧٠ / ٥ ، الوسائل ١٣ : ١٨٧ أبواب الإحصار والصد ب ٧ ح ٢.

٢٤٢

أقوى وأظهر.

وقال الشهيد : وربما قيل بجواز النحر مكانه إذا أضرّ به التأخير ، وهو في موضع المنع ؛ لجواز التعجيل مع البعث (١). يعني تعجيل الإحلال قبل بلوغ الهدي محلّه فإنما فيه مخالفة واحدة لأصل الشرع ، وهو الحلق قبل بلوغه محلّه مع ما مرّ من جواز ذلك في منى ، بخلاف ما إذا نحره مكانه ففيه مع ذلك مخالفة بأنه لم يبلغ الهدي محلّه أصلاً. انتهى.

وإذا بلغ ميعاد بلوغ الهدي محلّه ( فهناك ) أي في ذلك الوقت الذي واعد أصحابه للذبح أو النحر في المكان المعيّن كما مرّ في الصحيح الأخير والموثق ( يقصّر ) كما في الأول والخبر المتقدم في الصد (٢).

( ويحلّ ) من كل شي‌ء أحرم منه ( إلاّ من النساء ) بالنص (٣) والإجماع على كل من المستثنى منه والمستثنى.

قيل : ومن العامة من لا يرى الإحلال إلاّ بأن يأتي بالأفعال ، وإن فاته الحج تحلّل بالعمرة ، ومنهم من يرى الإحلال من النساء أيضاً (٤).

وفي الدروس : ولو أُحصر في عمرة التمتع فالظاهر حلّ النساء له ؛ إذ لا طواف لأجل النساء فيها (٥).

قيل : وهو حسن (٦) ؛ للصحيح : عن محرم انكسرت ساقه أيّ شي‌ء يكون حاله ، وأيّ شي‌ء عليه؟ قال : « هو حلال من كل شي‌ء » قلت : من‌

__________________

(١) الدروس ١ : ٤٧٧.

(٢) راجع ص ٣٣٢١.

(٣) انظر الوسائل ١٣ : ١٧٧ أبواب الإحصار والصد ب ١.

(٤) كشف اللثام ١ : ٣٨٩.

(٥) الدروس ١ : ٤٧٦.

(٦) كشف اللثام ١ : ٣٨٩.

٢٤٣

النساء والثياب والطيب؟ فقال : « نعم من جميع ما يحرم على المحرم » الحديث (١).

وفيه نظر ؛ إذ ليس فيه تصريح بالعمرة المتمتع بها ، بل هو مطلق شامل للعمرة المفردة والحج بأقسامه ، ولا قائل به حينئذ ، وإخراج ما عدا العمرة المتمتع بها بالإجماع وإن أمكن جمعاً ، إلاّ أن الجمع غير منحصر فيه.

فيحتمل الحمل على التقية ، لكون جواز الإحلال مطلقاً حتى من النساء مذهب بعض العامة كما عرفته ، ويؤيده كون الإمام عليه‌السلام المروي عنه الرواية ممن كانت التقية في زمانه في غاية الشدة. أو على ما إذا استنيب وطيف عنه ، كما ذكره بعض المحدّثين (٢).

ومع ذلك فهو معارض بالصحيح المجمع عليه ، الوارد في قضية الحسين عليه‌السلام ، وفيه بعد نقلها : فقلت : أرأيت حين برئ من وجعه حلّ له النساء؟ قال : « لا تحلّ له النساء حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة » فقلت : فما بال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين رجع إلى المدينة حلّ له النساء ولم يطف بالبيت؟ فقال : « ليس هذا مثل هذا ، النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مصدوداً والحسين عليه‌السلام كان محصوراً » (٣).

وهو كما ترى أيضاً مطلق ليس فيه تقييد بما عدا عمرة التمتع فيشملها أيضاً ، كما صرّح به جماعة ، ومنهم المحقق الثاني وشيخنا الشهيد‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٦٩ / ٢ ، التهذيب ٥ : ٤٦٤ / ١٦٢٢ ، الوسائل ١٣ : ١٧٩ أبواب الإحصار والصد ب ١ ح ٤.

(٢) الوسائل ١٣ : ١٨٠.

(٣) الكافي ٤ : ٣٦٩ / ٣ ، التهذيب ٥ : ٤٢١ / ١٤٦٥ ، الوسائل ١٣ : ١٧٨ أبواب الإحصار والصد ب ١ ح ٣.

٢٤٤

الثاني (١) ، معترضين به على ما في الدروس بعد نقله وميلهما إليه أوّلاً ، فاستدركاه بإطلاقه ، وهو في محلّه.

ويعضده استصحاب بقاء الإحرام بالإضافة إلى النساء على حاله إلى أن يتحقق المخرج عنه ، وليس إلاّ ما مرّ ، وضعفه قد ظهر.

وكذا التعليل في الدروس بقوله : إذ لا طواف لأجل النساء فيها (٢). فإنه إنما يتمّ لو علّق الإحلال منهم على طوافهن ، وليس ، إذ ليس فيما وصل إلينا من الروايات تعرّض لذكر طواف النساء ، وإنما المستفاد من الصحيح المتقدم توقف حلّهن على الطواف والسعي ، وهو متناول للحج بأقسامه والعمرتين.

ونحوه الرضوي ، لكن فيه : « لا يقرب النساء حتى يحجّ من قابل » (٣).

لكن ربما يقال : إن سياق الصحيح لعلّه يشعر باختصاص مورده بغير العمرة المتمتع بها ، كما لا يخفى ، فلا إطلاق فيه لها ، إلاّ أن هذا غير كاف في إخراجها ؛ إذ غايته نفي الإطلاق ، وحينئذ فينبغي الرجوع فيما لم يشمله إلى مقتضى الأُصول ، وهو هنا البقاء على الإحرام بالإضافة إليهن حتى يثبت المحلّل ، وليس إلاّ الطواف ، لانعقاد الإجماع على الإحلال به منهنّ دون غيره.

وبالجملة : فالأظهر مساواة العمرة المتمتع مع غيرها في أنه لا يحل بالحصر من النساء ( حتى يحجّ في القابل إن كان ) أي الحج المحصَر عنه‌

__________________

(١) جامع المقاصد ٣ : ٢٩٦ ، المسالك ١ : ١٣١.

(٢) الدروس ١ : ٤٧٦.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٢٢٩ ، المستدرك ٩ : ٣٠٩ أبواب الإحصار والصد ب ١ ح ٣.

٢٤٥

( واجباً ) مستقراً في ذمته ( أو يطاف عنه للنساء إن كان ندباً ) لما مضى.

لكن الصحيح والرضوي لا يفيدان هذا التفصيل وإن كان مشهوراً حتى عزاه في المنتهى إلى علمائنا (١) ، مؤذناً بدعوى الإجماع عليه ، بل إطلاقهما يشمل الندب أيضاً ، فلا يتحلل فيه أيضاً عن النساء إلاّ بأن يطوف بالبيت.

لكن الإجماع المنقول ، المعتضد بالشهرة العظيمة ، بل عدم ظهور مخالف معتدّ به في المسألة ، وبأن الحج المندوب لا يجب

العود لاستدراكه ، والبقاء على تحريم النساء ضرر عظيم ، فالاكتفاء في الحلّ بالاستنابة لعلّه كاف ، لا سيّما مع ضعف دلالة نحو هذا الحديث ، لوروده لبيان حكم آخر ، كما لا يخفى على من تدبّره.

وظاهر المتن في الواجب إطلاق توقف حلّهن على قضائه في القابل ولو مع العجز عنه ، وعدم كفاية الاستنابة مطلقاً ، كما هو مقتضى الأصل ، ونحوه الصحيح المتقدم ، وحكي عن ظاهر النهاية والمبسوط والمهذّب والوسيلة والمراسم والإصباح والفاضلين في جملة من كتبهما (٢) ، لكن لم يحك عنهم التعميم إلى صورة العجز ، بل في القواعد التصريح بالاكتفاء بالطواف عنه لهنّ إذا عجز (٣) ، ونسب في الدروس إلى القبل (٤) ، ولعلّ دليله الحرج أو لزم العمل بإطلاق ما مرّ من الصحيح ، فيخصّ بعموم ما دلّ على نفيه في الدين.

وإنما لزم الاستنابة اقتصاراً في مخالفة الإطلاق على قدر ما يندفع به‌

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٨٥٠.

(٢) النهاية : ٢٨١ ، المبسوط ١ : ٣٣٥ ، المهذب ١ : ٢٧٠ ، الوسيلة : ١٩٣ ، المراسم : ١١٨ ؛ وانظر الشرائع ١ : ٢٨٢ ، والتبصرة : ٧٨ ، والتحرير ١ : ١٢٣.

(٣) القواعد ١ : ٩٣.

(٤) الدروس ١ : ٤٧٦.

٢٤٦

الضرورة ، مضافاً إلى عدم قائل بالإحلال مع العجز من غير استنابة ، هذا.

وعن الخلاف والغنية والتحرير (١) : لا يحللن للمحصور حتى يطوف لهنّ في القابل ، أو يطاف عنه ، من غير تفصيل بين الواجب وغيره.

وعن الجامع : إذا استناب المريض لطواف النساء وفعل النائب حلّت له النساء (٢). ولم يقيد بالقابل.

قيل : وكذا في السرائر : أنهن لا يحللن له حتى يحجّ في القابل ، أو يأمر من يطوف عنه للنساء. وهذا أظهر في الاعتبار ، والأول أحوط.

وفي الكافي : لا يحللن له حتى يحجّ أو يحجّ عنه. ويجوز أن يريد أن يطاف عنه (٣). انتهى.

وفيما ذكره من أظهرية ما ذكره من الأقوال للاعتبار محل إشكال ، بل غاية الاعتبار ما مرّ من التفصيل بين الاختيار فقضاؤه المناسك بنفسه من قابل ، والاضطرار فجواز الاستنابة ، لا جوازها على الإطلاق.

واعلم أن ما نقل عن الخلاف ومن بعده من عدم التفصيل بين الواجب وغيره يدافع دعوى الإجماع الظاهرة من المنتهى على التفصيل بينهما بما في العبارة ، مضافاً إلى عدم صراحة لفظه فيها ، فيتوجه حينئذ القول بإطلاق الصحيح وتاليه في الحكم باتحاد الواجب والندب في عدم جواز الاستنابة ولزوم الطواف والسعي من قابل.

لكن الظاهر عدم قائل به ؛ فإنّ الأصحاب ما بين مفصِّل بين الواجب وغيره بما مرّ ، وفيه جواز الاستنابة في الندب ؛ ومطلِقٍ لجوازها فيه وفي‌

__________________

(١) الخلاف ٢ : ٤٢٨ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨٣ ، التحرير ١ : ١٢٣.

(٢) الجامع للشرائع : ٢٢٣.

(٣) كشف اللثام ١ : ٣٨٩.

٢٤٧

الفرض ، كما مرّ عن الخلاف وغيره ؛ وقائلٍ بالتحلل في الندب من غير توقف على شي‌ء حتى الاستنابة ، كما عن المفيد وغيره (١) ، ولهما المرسل في المقنعة : « المحصور بالمرض إن كان ساق هدياً أقام على إحرامه ( حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) ثم يحلّ ، ولا يقرب النساء حتى يقضي المناسك من قابل ، هذا إذا كان حجة الإسلام ، فأما حجة التطوع فإنه ينحر هديه وقد أحلّ ممّا أحرم عنه ، فإن شاء حجّ من قابل وإن شاء لا يجب عليه الحج » الخبر (٢).

فالقول في الندب بمساواته مع الواجب في عدم الإحلال من النساء إلاّ بأداء المناسك خلاف ما اتّفقت عليه الأقوال ، والمتّجه منها بحسب الاحتياط الواجب في نحو المقام بحكم الاستصحاب هو قول المشهور.

وقول المفيد مع ضعف سنده ، واحتمال كون محل البحث من المرسل من عبارته نادر ، كقول الخلاف ومن بعده من جواز الاستنابة في الواجب مطلقاً ، فإنه نادر أيضاً ، مع عدم صراحة عبارتهم في التخيير ، لاحتمالها التنويع ، ويكون الشق الأول من فرديه في الواجب ، دون الثاني ، لاختصاصه بالندب ، ولا بُعد فيه ، ومع ذلك فلا مستند له حتى يخرج به عن مقتضى وإطلاق نحو الصحيح المتقدم ، المعتضد جميع ذلك بالشهرة والإجماع المنقول الظاهر من المنتهى (٣) ، كما مضى.

( ولو بان أن هديه لم يذبح ) سواء بعثه أو بعث ثمنه ( لم يبطل تحلّله ) بمعنى عدم ترتب ضرر عليه من كفارة وغيرها بارتكاب ما يلزم‌

__________________

(١) المفيد في المقنعة : ٤٤٦ ؛ وانظر المراسم : ١١٨.

(٢) المقنعة : ٤٤٦ ، الوسائل ١٣ : ١٨٠ أبواب الإحصار والصد ب ١ ح ٦.

(٣) المنتهى ٢ : ٨٥١.

٢٤٨

المحرم اجتنابه ، ( و ) لكن يبعثه لـ ( يذبح ) له ( في القابل ) بلا خلاف في شي‌ء من ذلك ولا إشكال.

للصحيح : « فإن ردّوا الدراهم عليه ولم يجدوا هدياً ينحرونه وقد أحلّ لم يكن عليه شي‌ء ، ولكن يبعث من قابل ويمسك أيضاً » (١).

وللموثق : إن ردّوا عليه دراهمه ولم يذبحوا عنه وقد أحلّ فأتى النساء؟ قال : « فليعد وليس عليه شي‌ء ، وليمسك الآن عن النساء إذا بعث » (٢).

وفي آخر : « وإن اختلفوا في الميعاد فلا يضره إن شاء الله تعالى » (٣).

( وهل ) يجب أن ( يمسك عمّا يجب على المحرم الإمساك عنه ) إلى يوم الوعد ، كما هو ظاهر الأمر في الخبرين ، والمشهور كما في المسالك والروضة وغيرهما (٤).

( الوجه ) عند الماتن والفاضل في المختلف والمقداد في شرح الكتاب وغيرهما من المتأخرين وفاقاً للسرائر (٥) أنه ( لا ) يجب ؛ للأصل ، لأنه ليس بمحرم ولا في الحرم ، فلا وجه لوجوب الإمساك عنه وإن ورد به الخبران ، إمّا لكونهما من الآحاد ، فلا يقوّيان حجة عند الحلّي لتخصيص‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٦٩ / ٣ ، التهذيب ٥ : ٤٢١ / ١٤٦٥ ، الوسائل ١٣ : ١٨١ أبواب الإحصار والصد ب ٢ ح ١.

(٢) الكافي ٤ : ٣٧١ / ٩ ، الوسائل ١٣ : ١٨٠ أبواب الإحصار والصد ب ١ ح ٥.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٢٣ / ١٤٧٠ ، المقنع : ٧٧ ، الوسائل ١٣ : ١٨٢ أبواب الإحصار والصد ب ٢ ح ٢.

(٤) المسالك ١ : ١٣١ ، الروضة ٢ : ٣٧٠ ؛ وانظر الحدائق ١٦ : ٥٠.

(٥) المختلف : ٣١٧ ، التنقيح الرائع ١ : ٥٢٩ ، السرائر ١ : ٦٣٩ ؛ وانظر المفاتيح ١ : ٣٨٦.

٢٤٩

الأصل ، أو لعدم صراحتهما ، لاحتمالهما الحمل على الاستحباب ، كما نزلهما عليه من عداه.

والأول لعلّه أظهر ؛ لما مرّ من الخبرين ، بناءً على المختار من حجية أخبار الآحاد ، وأولوية تخصيص الأصل من حمل الأمر على الاستحباب ، لصراحته في الوجوب بالإضافة إلى الأصل.

هذا على تقدير تسليم جريان الأصل هنا ، كما هو ظاهر أكثر الأصحاب ، وإلاّ فالظاهر أن الأصل بالعكس ، وذلك لأن مفاد الآية أنه يشترط في التحلل بلوغ الهدي محلّه في نفس الأمر ، فلو تحلّل ولم يبلغ كان باطلاً ، ولا يستفاد من الخبرين المتقدمين وغيرهما سوى أنه لو تحلّل يوم الوعد ولم يبلغ لم يكن عليه ضرر ، والظاهر أن المراد به الإثم والكفارة ، ولا ريب فيه ، لوقوع التحلل بإذن الشرع ، فلا معنى لأن يتعقبه ضرر ، وانتفاء الضرر لا يستلزم حصول التحلل في أصل الشرع ولو مع الانكشاف ؛ ولعلّ هذا هو الوجه في الأمر في الخبرين بالإمساك.

ولازم هذا التحقيق كون هذا لرجل محرماً وإن اعتقد لجهله بالحال كونه محلاًّ ، وبهذا يتوجه المنع إلى قوله في تصحيح الأصل بأنه ليس بمحرم ، فإنه في حيّز المنع ، إذ لا دليل عليه لا من نصّ ولا من إجماع ، لوقوع الخلاف ، وتصريح بعض المتأخرين بكونه محرماً ، وأنّ وقت الإمساك إنّما هو حين الانكشاف (١) ، كما هو مقتضى هذا التحقيق ، ولم يصرّح من القائلين بوجوب الإمساك بخلافه ؛ لسكوتهم عن بيان وقت الإمساك واحتمال إرادتهم به ما ذكرناه كالأخبار.

__________________

(١) مجمع الفائدة ٧ : ٤١٨.

٢٥٠

ودعوى جماعة عدم الخلاف في صحة الإحلال أو عدم بطلانه (١) غير ظاهرة في إرادتهم عدم البطلان في نفس الأمر وأنه مُحلّ الآن وواقعاً ؛ لقوة احتمال إرادتهم ما ذكرناه في تفسير المتن ، ولا ريب أن عدم البطلان بذلك المعنى ممّا لا خلاف فيه ولا شبهة تعتريه كما قدّمناه.

لا يقال : إن قوله عليه‌السلام في الموثق الأخير : « وإن اختلفوا في الميعاد فلا يضره » ينفي الضرر على العموم من غير تقييد بوجوب الإمساك ، ولا ريب أن وجوبه ضرر.

لأنا نقول : الظاهر أن المراد أن الخلف لا يوجب عليه فيما فعله ممّا يجتنبه المحرم ، لا أنه لا يجب عليه الإمساك ، فإنّ وجوب الإمساك لم ينشأ من خلف الوعد وإنما نشأ من الإحرام السابق ، نعم لما كان في مكمن الخفاء فبتبيّن الخلف تبيّن البقاء ، فوجوب الإمساك إنما نشأ منه لا من الخلف ، إذ لا وجه لتوهم إيجابه بنفسه الإمساك والضرر من جهته حتى يدفع بنفي الوجوب الذي هو ضرر من جهته.

ولو سلّم عموم الضرر المنفي له ، نقول : إنه مخصَّص بالأمر السابق ، وهو أولى من حمله على الاستحباب.

نعم يمكن أن يقال : إن ظاهر الموثق الأول الأول كون وقت الإمساك حين البعث لا حين الانكشاف ، فلو بعثه بعدَ حينٍ لم يجب عليه الإمساك قبل البعث ولو بعد الانكشاف ، وهذا ظاهر في تحقق الإحلال في الواقع ، وأن الأمر بالإمساك ليس للإحرام السابق ، وهذا المفهوم معتبر في الأصل مع اعتضاده هنا بالأصل وظاهر الأكثر.

__________________

(١) منهم : صاحب المدارك ٨ : ٣٠٦ ، والسبزواري في الذخيرة : ٧٠٣ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ١ : ٣٨٩.

٢٥١

وكيف كان : فالأظهر وجوب الإمساك ، والأحوط وقوعه حين الانكشاف وإن احتمل قوياً الاكتفاء به حين البعث.

( ولو أُحصر ) أو صدّ الحاج أو المعتمر ( فبعث به ) أي بهديه ( ثم زال العارض ) من المرض أو العدو ( التحق ) بأصحابه في العمرة مطلقاً ، وفي الحج إذا لم يفت بلا خلاف ، لزوال العذر ، وانحصار جهة الإحلال في الإتيان بالمناسك ، وللصحيح : « إذا أُحصر بعث بهديه ، فإذا أفاق ووجد من نفسه خفة فليمض إن ظن أنه يدرك الناس ، فإن قدم مكة قبل أن ينحر الهدي فليقم على إحرامه حتى يفرغ من جميع المناسك وينحر هديه ولا شي‌ء عليه ، وإن قدم مكة وقد نحر هديه فإن عليه الحج من قابل أو العمرة » قلت : فإن مات وهو محرم قبل أن ينتهي إلى مكة؟

قال : « يحج عنه إن كانت حجة الإسلام ويعتمر إنما هو شي‌ء عليه » (١).

ونحوه غيره في المصدود (٢).

وحيث التحق ( فإن ) كان حاجّاً و ( أدرك الموفقين ) على وجه يجزئ ( صحّ حجّه ) إجماعاً.

( وإن فاتاه ) معاً أو أحدهما مع عدم إجزاء الآخر ( تحلّل بعمرة ).

( ويقضي الحج إن كان واجباً ، وإلاّ ) يقضي ( ندباً ).

بلا خلاف ولا إشكال إلاّ في إطلاق وجوب التحلل بعمرة وعمومه لما إذا تبيّن وقوع الذبح عنه وعدمه ، فقد احتمل الشهيدان وغيرهما (٣) في‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٧٠ / ٤ ، التهذيب ٥ : ٤٢٢ / ١٤٦٦ ، الوسائل ١٣ : ١٨٣ أبواب الإحصار والصد ب ٣ ح ١.

(٢) الكافي ٤ : ٣٧١ / ٨ ، التهذيب ٥ : ٤٦٥ / ١٦٢٣ ، الوسائل ١٣ : ١٨٣ أبواب الإحصار والصد ب ٣ ح ٢.

(٣) الشهيد الأول في الدروس ١ : ٤٧٨ ، الشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٣١ ؛ وانظر المدارك ٨ : ٣٠٧.

٢٥٢

الأول العدم ، لحصول التحلل به.

ومرجع الإشكال إلى تعارض عموم أدلة وجوب التحلل بالعمرة لمن فاته الحج ، وأدلّة حصول التحلل ببلوغ الهدي محلّه. ولكن ظاهر الأصحاب حتى الشهيدين ترجيح الأول ، ولا ريب أنه أحوط إن لم لم نقل بأنه أظهر ؛ للأصل ، وعدم وضوح عموم فيما دلّ على التحلل ببلوغ الهدي محلّه بحيث يشمل محل الفرض ، إذ غايته الإطلاق المنصرف بحكم التبادر الى غيره ، هذا.

وربما يستدل له بالصحيح المتقدم قريباً ، بناءً على أن في بعض النسخ بعد قوله : « فإن عليه الحج من قابل » بدل قوله « أو العمرة » بأو « والعمرة » بالواو ، وأن الظاهر أن المراد بهذه العمرة المأمور بها مع الحج إنما هو عمرة التحلل.

وفيه نظر ، مضافاً إلى اختلاف النسخ ، مع عدم دليل على تعيّن الأخيرة ، ولعلّه لذا لم يستدل به الأكثر مع أنه بمرأى منهم ومنظر.

هذا حكم الحاجّ إذا تحلّل.

( و ) أما ( المعتمر ) إذا تحلّل فـ ( يقضي عمرته عند زوال المانع ) من الأمرين مطلقاً ولو في الشهر الذي اعتمر فيه أوّلاً فتحلّل منها.

( وقيل : ) إنما يقضيها ( في الشهر الداخل ) والقائل الشيخ وغيره (١) ، بل الأكثر كما في عبائر جمع (٢).

وظاهر الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم أن الخلاف هنا كالخلاف في أصل المسألة في الزمان الذي يجب كونه بين العمرتين.

__________________

(١) الشيخ في النهاية : ٢٨٢ ، والقاضي في المهذب ١ : ٢٧١.

(٢) منهم ابن فهد الحلّي في المهذب ٢ : ٢٣٢.

٢٥٣

وفيه نظر ؛ لعدم تحقق العمرة ، لتحلّله منها ، فلا يعتبر في جواز الثانية تخلّل الزمان المعتمر بين العمرتين ، إلاّ أن يقال باعتبار مضي الزمان بين الإحرامين ، ولكن لا دليل عليه.

ولعلّه لذا أطلق الماتن هنا وجوب قضائها عند زوال المانع ، مع أنه اشترط في بحث العمرة مضي الشهر بين العمرتين.

وعكس الحلّي فوافق الشيخ هنا (١) ، والمرتضى ثمة (٢) ، ولذا تعجّب منه بعض الأصحاب (٣) ، وهو في محلّه ، ومنه يظهر ما في البناء بحسب القول أيضاً (٤).

ثم إنه انما يجب قضاء العمرة مع استقرار وجوبها قبل ذلك كالحج ، وإلاّ فيستحب ، كما هو واضح.

واعلم أن مقتضى إطلاق ما مرّ من الصحاح وغيرها بقضاء الحج الذي تحلّل منه بالهدي قضاؤه بما شاء ، حتى لو كان قارناً وتحلّل جاز له أن يقضي تمتعاً مثلاً ، كما عليه الحلّي مطلقاً كما في نقل (٥) ، أو على تفصيل المتن كما في آخر (٦).

( وقيل : لو أُحصر القارن حج في القابل قارناً ) أيضاً وجوباً مطلقاً ؛ للصحيحين (٧) وغيرهما (٨) في القارن إذا أُحصر وتحلّل هل يتمتع من‌

__________________

(١) السرائر ١ : ٦٤٠.

(٢) السرائر ١ : ٥٤٠.

(٣) التنقيح الرائع ١ : ٥٢٩.

(٤) أي : كما ظهر فساده بحسب الدليل. ( منه رحمه‌الله ).

(٥) نقله عنه في كشف اللثام ١ : ٣٨٩ ؛ وانظر السرائر ١ : ٦٤١.

(٦) انظر المدارك ٨ : ٣٠٨.

(٧) التهذيب ٥ : ٤٢٣ / ١٤٦٨ ، الوسائل ١٣ : ١٨٤ أبواب الإحصار والصد ب ٤ ح ١.

(٨) الكافي ٤ : ٣٧١ / ٧ ، الوسائل ١٣ : ١٨٥ أبواب الإحصار والصد ب ٤ ح ٢.

٢٥٤

قابل؟ قال : « لا ولكن يدخل في مثل ما خرج منه ».

والقائل : الشيخ وابن حمزة (١) ، بل الأكثر كما في كلام جماعة (٢) ، بل المشهور كما قيل (٣) ، أخذاً بظاهر الأمر فإنه حقيقة في الوجوب ، والإطلاق ، لعدم إشعار في الأخبار بورودها في الواجب ، وهو خيرة الماتن في الشرائع (٤).

ولكنه رجع عنه هنا فقال : ( وهو ) أي اعتبار المماثلة في المقضي والأمر به في الأخبار محمول ( على الأفضل ) والاستحباب ( إلاّ أن يكون القرآن ) الذي خرج منه ( متعيناً ) في حقه ( بوجه ) من الوجوه كالنذر وشبهه ، وتبعه الفاضل في جملة من كتبه (٥) ، وكثير من المتأخرين (٦).

ولا شبهة ولا إشكال في صورة التعيّن ولزوم اعتبار المماثلة فيها ؛ لتوافق الأُصول والنصوص فيها ، بل والفتاوي أيضاً ، إذ لم ينقل القول بعدم اعتبار المماثلة وجواز القضاء بما شاء مطلقاً إلاّ من الحلّي ، وهو مع ندرته محمول إطلاق كلامه المحكي على غير المتعين ، لغاية بُعد صدور مثل هذا الإطلاق مع مخالفته للأُصول الشرعية من مثله ، ولعلّه لهذا نزّله كثير على ما في المتن من التفصيل.

ويشكل الحكم في الصورة الأُخرى ؛ لمخالفته إطلاق النصوص‌

__________________

(١) الشيخ في النهاية : ٢٨٣ ، ابن حمزة في الوسيلة : ١٩٣.

(٢) منهم الشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٣٢ ، وصاحب المدارك ٨ : ٣٠٨.

(٣) الحدائق ١٦ : ٥٨.

(٤) الشرائع ١ : ٢٨٢.

(٥) كالمنتهى ٢ : ٨٥١ ، والمختلف : ٣١٨.

(٦) منهم : المحقق الثاني في جامع المقاصد ٣ : ٣٠٠ ، وصاحب المدارك ٨ : ٣٠٨ ، وصاحب الحدائق ١٦ : ٥٨.

٢٥٥

المتقدمة ، المعتضدة بالشهرة المحكية في كلام جماعة ، السليمة عما يصلح للمعارضة سوى الإطلاق المتقدم إليه الإشارة ، ولا ريب أن هذه النصوص أظهر دلالةً منه ، فلينزّل عليها.

ولا دليل لصرفها عن ظاهرها بالحمل على الاستحباب أو التقييد بالصورة الأُولى ، عدا ما في المنتهى من أن الحج إذا لم يكن قضاؤه واجباً فعدم وجوب الكيفية أولى (١).

وغايته نفي الوجوب النفسي ، وهو لا يلزم نفي الوجوب الشرطي التقييدي ، بمعنى أنه لا يجب عليه القضاء ، ولكن إن قضى فليقضه مماثلاً ، وهذا الوجوب أقرب إلى الحقيقة من الاستحباب والتقييد السابقين ، فتأمل.

وكيف كان فالقول المزبور إن لم نقل بكونه أظهر فلا ريب أنه أحوط ؛ تحصيلاً للبراءة اليقينية ، وخروجاً عن الشبهة.

ثم إن مفروض المتن وأكثر الجماعة ، بل نصوص المسألة أيضاً هو خصوص من حج قارناً ، دون غيره ، إلاّ أن بعض الأصحاب عمّم وجعل فرض المسألة بين القوم أعم (٢) ، فإن تمّ الإجماع على ذلك ، وإلاّ فينبغي القطع بالرجوع إلى تفصيل المتن في غير القارن ، لسلامة الأُصول فيه عن المعارض ، بناءً على اختصاص مورد النصوص والفتاوي الموجبة للتماثل بالقارن ، ولا موجب للتعدية كما هو الفرض ، وذلك واضح بحمد الله سبحانه.

( و ) اعلم أنه ( روي ) في الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة ( استحباب بعث هدي ) من أيّ أُفق من الآفاق كان‌

__________________

(١) المنتهى ١ : ٨٥١.

(٢) انظر كشف اللثام ١ : ٣٨٩.

٢٥٦

( والمواعدة ) مع المبعوث معه ( لإشعاره وتقليده ، واجتناب ما يجتنبه المحرم وقت المواعدة حتى يبلغ الهدي محلّه و ) أنه ( لا يلبّي ) أظهرها دلالةً على ذلك الصحيح : « إنّ علياً عليه‌السلام وابن عباس كانا يبعثان هديهما من المدينة ثم يتجرّدان ، [ و ] إن بعثا بهما من أُفق من الآفاق واعدا أصحابهما بتقليدهما وإشعارهما يوماً معلوماً ، ثم يمسكان يومئذ إلى يوم النحر عن كل ما يمسك عنه المحرم ، ويجتنبان كلّ ما يجتنب المحرم ، إلاّ أنه لا يلبّي إلاّ من كان حاجّاً أو معتمراً » (١).

وقريب منه آخر : عن الرجل يرسل بالهدي تطوعاً ، قال : « يواعد أصحابه يوماً يقلّدون فيه ، فإذا كان تلك الساعة من ذلك اليوم اجتنب ما يجتنبه المحرم ، فإذا كان يوم النحر أجزأ عنه ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث صدّه المشركون يوم الحديبية نحر بدنة ورجع إلى المدينة » (٢).

لكنه كباقي الأخبار يحتمل الاختصاص بالمصدود والمحصور ، لمكان التعليل فيه وإن بَعُد بالإضافة إلى قوله في الصدر : تطوعاً ، لقبوله التنزيل على ما يوافق التعليل ويلائمه من الاختصاص بالمصدود ، ولا كلام في الحكم فيه ولا في المحصور.

لكن ظاهر متأخري الأصحاب الاتفاق على عمومها للمسألة ، بل اختصاصها بها ، حيث استدلوا بها للحكم فيها ، مدّعين اشتهارها بين الأصحاب ، رادّين بذلك على الحلّي حيث أنكر الحكم في المسألة بعد أن‌

__________________

(١) التهذيب ٥ : ٤٢٤ / ١٤٧٣ ، الوسائل ١٣ : ١٩١ أبواب الإحصار والصد ب ٩ ح ٣.

(٢) الفقيه ٢ : ٣٠٦ / ١٥١٧ ، التهذيب ٥ : ٤٢٤ / ١٤٧٢ ، الوسائل ١٣ : ١٩١ أبواب الإحصار والصد ب ٩ ح ٥.

٢٥٧

نقله عن الشيخ في النهاية ، قائلاً بأنها أخبار آحاد لا يلتفت إليها ولا يعرج عليها ، وهذه أُمور شرعية يحتاج مثبتها ومدّعيها إلى أدلة شرعية ، ولا دلالة من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، فأصحابنا لا يوردون هذا في كتبهم ، ولا يودعونه في تصانيفهم ، وإنما أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي في كتابه النهاية إيراداً ، لا اعتقاداً ، لأن الكتاب المذكور كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر ، كثيراً ما يورد فيه أشياء غير معمول عليها ، والأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعية (١).

وأول من ردّه الفاضل في المختلف ، فقال بعد نقل هذه الأخبار : وهذه الأخبار ظاهرة مشهورة صحيحة السند عمل بها أكثر العلماء ، فكيف يجعل ذلك شاذاً من غير دليل ، وهل هذا إلاّ جهل منه بمواقع الأدلة ومدارك أحكام الشرع (٢).

وتبعه في ذلك جماعة من المتأخرين (٣) ، معربين عن الأكثر بأنهم الكليني والصدوق والقاضي والشيخ في المبسوط. وهو حسن ، إلاّ أن تعداد الكليني والصدوق منهم مبني على ظهور الأخبار عدا الصحيح الأول عندهما في محل البحث ، وهو محلّ نظر ، ولم يرويا الصحيح الأول الذي هو ظاهر فيه ، وروايتهما للأخبار غير معلوم فهمهما منها ما يتعلق بالبحث ، فلعلّهما فهما منها ما يختص ببحث الصدّ والحصر كما مرّ.

ووافقنا على التأمل في دلالة ما عدا الأول على الحكم في محل‌

__________________

(١) السرائر ١ : ٦٤٢.

(٢) المختلف : ٣١٩.

(٣) منهم : الشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٣٢ ، وصاحب المدارك ٨ : ٣١٠ ، وصاحب الحدائق ١٦ : ٦٢.

٢٥٨

البحث بعض فضلاء المتأخرين ، فقال بعد نقل القول بكون الاجتناب عما يجتنبه المحرم على الوجوب ، كما هو ظاهر الشيخ والقاضي ، للأمر به في الخبر المتقدم ، مع التصريح بتحريمه عليه كما يحرم على المحرم في الصحيح الآخر وقريب منه في السند ما لفظه : وربما ينازع فيه ؛ لعدم وضوح العموم في الروايتين بالنسبة إلى التطوع (١). انتهى.

وهو حسن ، إلا أنه يكفي في الوجوب تضمن الصحيح الأول الذي هو نصّ في محل البحث اجتناب عليّ عليه‌السلام ما يجتنبه المحرم ، وهو وإن لم يفد بنفسه الوجوب بالنسبة إلينا ، بناءً على عدم وجوب التأسي من أصله ، إلاّ أن بعد انضمام الأصل من توقيفية العبادة ولزوم الاقتصار فيها على ما ورد به الشريعة يقتضي ذلك ، لأن المعهود والمأثور في الصحيحة من فعل عليّ عليه‌السلام هذه العبادة إنما هو على الكيفية المزبورة المتضمنة لاجتنابه فيها ما يجتنبه المحرم بالكلية.

لكن مفاد هذا التحقيق الوجوب الشرطي ، بمعنى أن هذه العبادة لا تؤدّى إلاّ بالكيفية المزبورة ، لا الشرعي الذي يترتب عليه الكفارة.

ومن هنا يظهر وجه النظر فيما يحكى عن ظاهر الشيخ والقاضي في لزوم الكفارة لو فعل ما يحرم على المحرم (٢) ، وتبعهما الفاضلان هنا وفي الشرائع والقواعد (٣).

( لكن ) قالا : ( يكفّر لو أتى بما يكفّر له المحرم استحباباً ) ولا بأس بقولهما.

__________________

(١) الذخيرة : ٧٠٤.

(٢) الشيخ في النهاية : ٢٨٣ ، القاضي في المهذب ١ : ٢٧١.

(٣) الشرائع ١ : ٢٨٢ ، القواعد ١ : ٩٣.

٢٥٩

لا لما قيل من الصحيح (١) : إن أبا مراد بعث بدنة وأمر الذي بعثها معه أن يقلّد ويشعر في يوم كذا وكذا ، فقلت له : إنه لا ينبغي لك أن تلبس الثياب ، فبعثني إلى أبي عبد الله عليه‌السلام وهو بالحيرة ، فقلت له : إن أبا مراد فعل كذا وكذا وأنه لا يستطيع أن يدع الثياب لمكان أبي جعفر فقال : « مره فليلبس الثياب ولينحر بقرة يوم النحر عن لبسه الثياب » (٢).

فإنّ غاية ما يستفاد منه على تقدير وروده في محل البحث أن من لبس ثيابه للتقية كفّر ببقرة ، وهو مختص باللبس ومتضمن للتكفير فيه ببقرة ، ولا يقولون به ، كما صرّح به جماعة (٣) ، ومع ذلك فحمله على الاستحباب لا وجه له.

بل للتسامح في أدلة السنن ، والخروج عن شبهة خلاف من أوجبها.

ثم إن مورد العبارة وأكثر الفتاوي وأخبار المسألة إنما هو استحباب بعث الهدي ، لا ثمنه.

خلافاً لشيخنا الشهيد الثاني ، فساوى بينهما في ذلك (٤) ؛ للمرسل : « ما يمنع أحدكم أن يحج كل سنة » فقيل له : لا يبلغ ذلك أموالنا ، فقال : « أما يقدر أحدكم إذا خرج أخوه أن يبعث معه بثمن أُضحيّته ويأمره أن يطوف عنه أُسبوعاً بالبيت ويذبح عنه ، فإذا كان يوم عرفة لبس ثيابه وتهيّأ‌

__________________

(١) كشف اللثام ١ : ٣٩٠.

(٢) الكافي ٤ : ٥٤٠ / ٤ بتفاوت يسير ، التهذيب ٥ : ٤٢٥ / ١٤٧٤ ، الوسائل ١٣ : ١٩٢ أبواب الإحصار والصد ب ١٠ ح ١.

(٣) منهم : صاحب المدارك ٨ : ٣١١ ، والمجلسي في ملاذ الأخيار ٨ : ٤٣٧ ؛ وانظر الذخيرة : ٧٠٤ ، وكشف اللثام ١ : ٣٩٠.

(٤) المسالك ١ : ١٣٢.

٢٦٠