رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٨

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٨

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-110-9
الصفحات: ٤٨٦

١
٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

٥
٦

( كتاب الجهاد )

فعال ، وهو في اللغة : إما من الجَهد بالفتح وهو التعب والمشقة ، أو منه بالضم وهو الوسع والطاقة.

وشرعاً : بذل الوسع بالنفس والمال في محاربة المشركين أو الباغين ، على الوجه المخصوص.

وقيل : إنه بذلهما في إعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعار الإيمان. وأُريد بالأول إدخال جهاد المشركين وبالثاني جهاد الباغين (١).

ويرد عليه قتال الكفار للأمر بالمعروف ، فإنه إعلاء كلمة الإسلام ، إلاّ أن يراد به الإقرار بالشهادة.

وقد يطلق على جهاد من يدهم على المسلمين من الكفار بحيث يخافون استيلاءهم على بلادهم وأخذ ( مالهم ) (٢) أو ما أشبهه وإن قلّ.

__________________

(١) المسالك ١ : ١٤٨.

(٢) في « ك‍ » : مال.

٧

وجهادِ من يريد قتل نفس محترمة أو أخذ مال أو سبي حريم.

ومنه جهاد الأسير بين المشركين دافعاً عن نفسه ، وربما أُطلق على هذا القسم الدفاع لا الجهاد.

والبحث هنا عن الأول والثاني ، وذكر الثالث استطراداً ، وذكر الرابع في كتاب الحدود.

وهو من أعظم أركان الإسلام ، بالكتاب والسنة والإجماع.

قال الله عزّ وجلّ ( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (١).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فوق كل برّ (٢) برّ حتى يقتل الرجل في سبيل الله فليس فوقه برّ » (٣).

وعن الفاخر : إنّ الملائكة تصلّي على المتقلّد (٤) بسيفه في سبيل الله حتى يضعه ، ومن صدع رأسه في سبيل الله غفر الله له ما كان قبل ذلك من الذنب (٥).

( والنظر ) في كتاب يقع ( في أُمور ثلاثة : )

__________________

(١) التوبة : ١١١.

(٢) في « ك‍ » و « ق » : ذي برّ كما في الوسائل.

(٣) التهذيب ٦ : ١٢٢ / ٢٠٩ ، الخصال : ٩ / ٣١ ، الوسائل ١٥ : ١٦ أبواب جهاد العدو وما يناسبه ب ١ ح ٢١.

(٤) في « ق » : المقلد.

(٥) نقله عنه في الدروس ٢ : ٢٩.

٨

( الأول : في )

بيان ( من يجب عليه ) الجهاد.

( وهو ) بالمعنى الأول ( فرض ) كفائي ( على كل من استكمل شروطاً سبعة ) بمعنى وجوبه على الجميع إلى (١) أن يقوم به منهم من فيه الكفاية ، فيسقط عن الباقين سقوطاً مراعى باستمرار القائم به إلى أن يحصل الفرض المطلوب شرعاً.

وقد يتعين بأمر الإمام لأحد على الخصوص وإن قام من فيه كفاية.

وتختلف بحسب الحاجة بسبب كثرة المسلمين وقلّتهم وضعفهم وقوتهم.

ولا يجب عيناً بلا خلاف إلاّ من ابن المسيب ، كما في الغنية وكنز العرفان والمنتهى (٢).

وفي الأولين الاستدلال عليه بالإجماع ، وقوله تعالى ( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى ) (٣) الآية.

وزاد الثاني قوله : ولانتفاء المسبب عند انتفاء السبب.

وذكر فيهما في تقريب الاستدلال بالآية بما يرجع حاصله إلى أنه‌

__________________

(١) في « ك‍ » : إلاّ.

(٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨٤ ، كنز العرفان ١ : ٣٤١ ، المنتهى ٢ : ٨٩٨.

(٣) النساء : ٩٥.

٩

تعالى فاضل بين المجاهدين والقاعدين غير اولي الضرر ووعد كلاًّ منهم الحسنى ، ولو لا أن وجوبه على الكفاية لما وعد القاعدين عنه الحسنى والمثوبة ، ولما كان لهم فضيلة.

وحجة المخالف غير واضحة عدا ما استدل به الثاني : من قوله ( عليه‌السلام ) : « من مات ولم يغزو ، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق » (١) قال : وليس بدالّ على مطلوبهم (٢). وهو كذلك.

وأشار إلى الشروط بقوله : ( البلوغ ، والعقل ، والحرية ، والذكورة ، وألاّ يكون هِمّاً ) أي شيخاً كبيراً عاجزاً ( ولا مقعداً ) إذا عرج بالغ حدّ الإقعاد ( ولا أعمى ولا مريضاً ) أيضاً ( يعجز ) معه ( عنه ) أي عن الجهاد.

فهذه شروط ثمانية ، إن جعلنا المنفي بـ « لا » كلا منها شرطاً على حدة ، وإلاّ فخمسة بجعل الخامس السلامة عن الأُمور المذكورة ، وعلى التقديرين فليس الشروط سبعة كما ذكره.

وكان عليه أن يذكر السلامة من الفقر الموجب للعجز عن نفقته أو نفقة عياله أو طريقه أو ثمن سلاحه وبالجملة ما يحتاج إليه في جهاده أيضاً ؛ إذ لا خلاف في اشتراطها ، كما لا خلاف في اشتراط البواقي أعلمه (٣) وبه صرّح في الغنية في الجميع (٤) ، وفي المنتهى في البلوغ والذكورة (٥) ، بل‌

__________________

(١) سنن أبي داود ٣ : ١٠.

(٢) انظر كنز العرفان ١ : ٣٤٢.

(٣) ليس في « ق ».

(٤) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨٣.

(٥) المنتهى ٢ : ٨٩٩.

١٠

صرّح فيهما وفي الثاني والثالث والعمى بالإجماع (١) ، وظاهره انعقاده في البواقي أيضاً حيث لم ينقل خلافاً فيها أيضاً ؛ وهو الحجة.

مضافاً إلى الأُصول ، وعدم عموم في أدلة الجهاد يعتدّ به يشمل فاقدي الشروط كلاًّ أو بعضاً ، عدا العبد فإنه داخل في العموم فيجب عليه ، كما ربما يعزى إلى الإسكافي حيث لم يذكر الحرية في الشروط (٢) ، بل زاد فروى مرسلاً : أنّ رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ليبايعه فقال : يا أمير المؤمنين ، أبسط يدك أُبايعك على أن أدعو لك بلساني ، وأنصحك بقلبي ، وأُجاهد معك بيدي ، فقال عليه‌السلام : « حرّ أنت أم عبد؟ » فقال : عبد ، فصفق عليه‌السلام يده فبايعه (٣).

ولذا جعل في المختلف اشتراط الحرية مشهوراً لا إجماعاً (٤).

لكنه اختار اشتراطها مستدلاً عليه في المنتهى بالإجماع ؛ وبأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبايع الحرّ على الإسلام والجهاد ، والعبد على الإسلام دون الجهاد ؛ وبأنه عبادة يتعلق بها قطع مسافة ، فلا يجب على العبد كالحج (٥).

وفي الكتاب (٦) بقوله ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ) (٧) مجيباً عن الرواية بحملها على الجهاد معه على تقدير الحرية أو إذن المولى أو عموم الحاجة.

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٨٩٩.

(٢) المختلف ٤ : ٣٩٤.

(٣) المختلف ٤ : ٣٩٤ ، الوسائل ١٥ : ٢٣ أبواب جهاد العدو ب ٤ ح ٣.

(٤) المختلف ٤ : ٣٩٤.

(٥) المنتهى ٢ : ٨٩٩.

(٦) أي المختلف ٤ : ٣٩٤.

(٧) التوبة : ٩١.

١١

ولا بأس بالجواب عن الرواية ؛ فإنّها مع ضعف سندها غير صريحة في الجهاد معه في غير الصور المزبورة ، بل غايتها إفادة الجهاد معه في الجملة ، ونحن نقول به.

ولا بالاستدلال بالآية إن جعل مناط الدلالة قوله ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ ) فإنّه بعمومه شامل لكل من فاقدي الشروط حتى الحرية ، فإنّ المملوك ضعيف عاجز ، لأنه لا يقدر على شي‌ء كما في نصّ الكتاب (١).

ويشكل إن جعل المناط قوله سبحانه ( وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ ) (٢) كما صرّح به في المختلف (٣) وتبعه المقداد في الكنز ، قال : والعبد لا يملك شيئاً عندنا فلم يحصل في حقه الشرط (٤).

وفيه نظر ؛ فإنّ عدم الملكية لا يستلزم عدم الوجدان ، فقد يجد بالبذل له وليس بمالك فلا يدخل في الآية ، ويجب عليه الجهاد بعموم الأدلة.

ولذا إنّ الأصحاب جعلوا الحرية شرطاً آخر غير اشتراط السلامة من الفقر (٥) ، ولو صحّ ما ذكراه من التلازم لأغنى اشتراط السلامة من الفقر عن اشتراط الحرية.

مع أنه موقوف على القول بعدم مالكية العبد كما هو الأشهر ، وأمّا على القول بالمالكية كما هو رأي جماعة مطلقاً أو في الجملة (٦) فلا‌

__________________

(١) ليست في « ك‍ ».

(٢) النحل : ٧٥.

(٣) المختلف ٤ : ٣٩٤.

(٤) كنز العرفان ١ : ٣٥٢.

(٥) كالشيخ في المبسوط ٢ : ٤ ، والمحقق في الشرائع ١ : ٣٠٧ ، والشهيد الثاني في الروضة البهية ٢ : ٣٨٢.

(٦) منهم : الشيخ في النهاية : ٥٤٣ ، والمحقق في الشرائع ٢ : ٥٨.

١٢

تلازم ، مع أنهم اشترطوا الحرية أيضاً.

فإذاً العمدة على اشتراطها الإجماع المنقول المؤيد بعدم ظهور خلاف يعتدّ به حتى من الإسكافي ؛ لعدم تصريحه بالمخالفة.

مضافاً إلى الآية المتقدمة بالتقريب الذي عرفته ، وفيها الدلالة على اعتبار سائر الشروط أيضاً كما سبق إليه الإشارة ؛ مضافاً إلى الأخبار النبوية المروية في المنتهى في كل من البلوغ والذكورة والحرية (١).

فلا يجب على الصبي مطلقاً ، ولا المجنون كذلك ، ولا العبد بأنواعه حتى من انعتق بعضه ، ولا الكبير العاجز عن الجهاد ، ولا المريض كذلك ، ويجب على القادر منهما ، ولا الأعمى وإن وجد قائداً ، وكذا الأعرج المقعد ، دون من يمكنه الركوب والمشي ، فإنّه يجب عليه الجهاد وإن تعذر عليه شدّة [ العدو (٢) ] ، كما في المنتهى قال : لتمكنه منه (٣).

أقول : مع عدم انصراف إطلاق الآية يرفع الحرج عنه إلى مثله.

ويتحقق العمى بذهاب البصر من العينين معاً ، فيجب على الأعور والأعشى وغيرهما.

( وإنّما يجب الجهاد ) بالمعنى الأول على من استجمع الشروط المزبورة ( مع وجود الإمام العادل ) وهو المعصوم عليه‌السلام ( أو من نصبه لذلك ) أي النائب الخاص وهو المنصوب للجهاد أو لما هو أعم ، أما العام كالفقيه فلا يجوز له ولا معه حال الغيبة ، بلا خلاف أعلمه ، كما في ظاهر‌

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٨٩٩.

(٢) في النسخ : العذر ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) المنتهى ٢ : ٨٩٩.

١٣

المنتهى وصريح الغنية (١) ، إلاّ من أحمد كما في الأول (٢) ، وظاهرهما الإجماع.

والنصوص به من طرقنا مستفيضة بل متواترة. منها : « إن القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير » (٣) ومنها : « لا غزو إلاّ مع إمام عادل » (٤).

وفي جملة أُخرى : « الجهاد واجب مع إمام عادل » (٥).

( و ) لا يكفي وجود الإمام ، بل لا بدّ من ( دعائه إليه ).

وعلى هذا الشرط ( فلا يجوز ) الجهاد ( مع الجائر إلاّ أن يَدْهَم المسلمين من ) أي عدوّ ( يخشى منه على بيضة الإسلام ) أي أصله ومجتمعه ، فيجب حينئذ بغير إذن الإمام ونائبه.

( أو يكون بين قوم ) مشركين ( ويغشاهم عدو فـ ) يجاهد حينئذ و ( يقصد الدفع ) عن الإسلام و ( عن نفسه في الحالين لا معاونة الجائر ) كما في الصحيح وغيره (٦) ، فيأثم ويضمن لو قصد معاونته بلا إشكال. وهل يأثم ويضمن لو جاهد بغير قصد؟ قيل : نعم (٧). وهو أحوط إن لم نقل بأنه أظهر.

__________________

(١) المنتهى ٢ : ٨٩٩ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨٣.

(٢) المنتهى ٢ : ٨٩٩.

(٣) الكافي ٥ : ٢٣ / ٣ ، التهذيب ٦ : ١٣٤ / ٢٢٦ ، الوسائل ١٥ : ٤٥ أبواب جهاد العدو ب ١٢ ح ١.

(٤) الكافي ٥ : ٢٠ / ١ ، التهذيب ٦ : ١٣٥ / ٢٢٨ ، الوسائل ١٥ : ٤٣ أبواب جهاد العدو ب ١٠ ح ٢.

(٥) الخصال : ٦٠٧ ، تحف العقول : ٣١٣ ، الوسائل ١٥ : ٤٩ أبواب جهاد العدو ب ١٢ ح ٩ ، ١٠.

(٦) الوسائل ١٥ : ٢٩ أبواب جهاد العدو ب ٦.

(٧) المسالك ١ : ١٤٨.

١٤

وهل يشترط في العدو الزاحم كونه كافراً ؛ كما عن الشيخ (١) ، أم لا ، كما عن الأكثر (٢)؟ قولان.

ولا يخفى أن هذا الاستثناء منقطع ؛ إذ الجهاد الذي يعتبر فيه إذن الإمام وسائر الشروط إنما هو الجهاد بالمعنى الأوّل دون غيره اتفاقاً ، والجهاد المذكور بعد الاستثناء غيره.

ولذا قال في الشرائع بعده : ولا يكون جهاداً (٣). وأشار به إلى أن حكم الشهيد من عدم تغسيله وتكفينه لا يلحق المقتول هنا ، وكذا حكم الجهاد من تحريم الفرار وقسمة الغنيمة. نعم هو بمنزلة الشهيد في الأجر ، وإطلاق الأخبار بكونه شهيداً (٤) ينزل عليه.

( ومن عجز ) عن الجهاد ( بنفسه وقدر على الاستنابة ) لغيره ممن لا يجب عليه كالفقير ( وجبت ) عليه الاستنابة ( وعليه القيام بما يحتاج إليه النائب ).

وفاقاً للشيخ والقاضي والحلّي (٥) ، وعليه الفاضل المقداد في كنز العرفان (٦) ، والمحقق الثاني مستدلاً عليه بقوله تعالى ( وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) (٧) وأن الميسور لا يسقط بالمعسور (٨). قال : وقوله سبحانه ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ ) إلى قوله ( وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما

__________________

(١) انظر المبسوط ٢ : ٨.

(٢) حكاه عنهم في المسالك ١ : ١٤٨.

(٣) الشرائع ١ : ٣٠٧.

(٤) انظر الوسائل ١٥ : ١٢٠ ، ١٢١ أبواب جهاد العدو ب ٤٦ الأحاديث ٥ ، ٨ ، ٩ ، ١٠.

(٥) الشيخ في النهاية : ٢٨٩ ، القاضي في المهذب ١ : ٢٩٨ ، الحلي في السرائر ٢ : ٣.

(٦) كنز العرفان ١ : ٣٥٢.

(٧) التوبة : ٤١.

(٨) عوالي اللئلئ ٤ : ٥٨ / ٢٠٥.

١٥

يُنْفِقُونَ حَرَجٌ ) (١) محمول على نفي الحرج عن جهاده بنفسه ، لكثرة الأوامر الدالة على الوجوب (٢).

خلافاً للفاضلين في الشرائع والمنتهى والمختلف ، والشهيد الثاني (٣) والمفلح الصيمري ، فيستحب.

ولعلّه الأظهر ؛ للأصل ، وفقد المخصص له عدا ما مرّ ، وما في الكنز من قوله تعالى ( وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (٤) قال : ذمّهم على عدم إنفاقهم أموالهم مع القدرة عليها ، وليس ذلك مع الجهاد بالنفس وإلاّ لكان إنفاقه على نفسه ، فيكون لا معه ، وهو المطلوب (٥).

وفيهما نظر ؛ فإنّ تقييد نفي الحرج بما مرّ ليس بأولى من تقييد الأمر بالجهاد بالمال بما إذا جاهد بالنفس.

وكذا يمكن تخصيص عموم الميسور بغير محل البحث ، لآية نفي الحرج ، كما يمكن العكس ، فاختياره ليس بأولى من اختيار مقابله ، وكثرة الأوامر غير موجبة للترجيح في نحو محل البحث مما التعارض فيه بين القطعيين.

وبالجملة : التعارض بين الدليلين من الطرفين تعارض الظاهرين ، يمكن صرف كل إلى الآخر ، وحيث لا مرجح كما في محل البحث وجب الرجوع إلى مقتضى الأصل وهو عدم الوجوب.

__________________

(١) التوبة : ٩١.

(٢) جامع المقاصد ٣ : ٣٧٢.

(٣) الشرائع ١ : ٣٠٨ ، المنتهى ٢ : ٩٠١ ، المختلف : ٣٢٤ ، الشهيد الثاني في المسالك ١ : ١٤٩.

(٤) التوبة : ٨١.

(٥) كنز العرفان ١ : ٣٥٢.

١٦

وآية الذم على ترك الإنفاق ليست نصاً في صورة العجز عن الجهاد بالنفس بل ولا ظاهرة فيها ، إلاّ على تقدير كون الإنفاق على نفسه مع جهاده بنفسه ليس من الجهاد بالمال في سبيل الله تعالى. ولا ريب في ضعفه ؛ إذ الإنفاق في سبيل الله تعالى أعمّ منه على نفسه وعلى غيره قطعاً لغةً وعرفاً.

هذا مع أنّ الجهاد بالمال أعمّ من الاستنابة ؛ إذ يدخل فيه أيضاً إعانة المجاهدين في الخيل والسلاح والظهر والزاد وسدّ الثغر ، كما حكي القول بوجوبها في المختلف عن الحلبي (١) ، ولكن لم يقولا به.

ثم إنّ هذا إذا لم يحتج إلى الاستنابة بأن يعجز القائمون بدونها ، وإلاّ فتجب قولاً واحداً.

( ولو استناب مع القدرة ) على الجهاد ووجوبه عليه ( جاز أيضاً ) عندنا بغير خلاف ظاهر ، وعزاه في المنتهى إلى علمائنا (٢) مؤذناً بدعوى الإجماع عليه ، مستدلاًّ عليه بالنبوي : « من جهّز غازياً كان له مثل أجره » (٣) والمرتضوي : عن الإجعال للغزو ، فقال : « لا بأس به أن يغزو الرجل عن الرجل ويأخذ منه الجُعل » (٤).

وفيهما لولا الإجماع نظر ؛ لضعف سندهما ودلالتهما ، لأنّ غاية الأخير نفي البأس عن أخذ الجُعل للنائب ، وهو غير جواز الاستنابة للقادر.

وغاية الأوّل إفادة الثواب على تجهيز الغازي ، وهو غير ما نحن فيه.

وربما يستدل عليه أيضاً بأن الغرض من الواجب الكفائي المقتضي لسقوطه عمّن زاد عمّن فيه الكفاية لحصول من فيه الكفاية ، تحصيله على‌

__________________

(١) المختلف : ٣٢٤.

(٢) المنتهى ٢ : ٩٠٠.

(٣) كنز العمال ٤ : ٣٢١ / ١٠٧١٠ ، مسند أحمد ٤ : ١١٥.

(٤) التهذيب ٦ : ١٧٣ / ٣٣٨ ، قرب الإسناد : ١٣٢ / ٤٦٤ ، الوسائل ١٥ : ٣٣ أبواب جهاد العدو ب ٨ ح ١.

١٧

المكلف بالواجب بنفسه أو بغيره (١). ولا بأس به.

( والمرابطة إرصاد لحفظ الثغر ) والمراد به الموضع الذي يكون بأطراف بلاد الإسلام للإعلام بأحوال المشركين على تقدير هجومهم على بلاد الإسلام.

وكلّ موضع يخاف منه يقال له ثغر لغة ( وهي مستحبة ) مطلقاً ( ولو كان الإمام مفقوداً ) أي غائباً ، لكن تستحب مع حضور الإمام مؤكداً ومع غيبته غير مؤكّد ، كما في السرائر (٢) ، والمنتهى ، قال : ( لأنها لا تتضمّن جهاداً ، بل حفظاً وإعلاماً ) فكانت مشروعة حال الغيبة إلى أن قال ـ : فإن رابط حال ظهور الإمام بإذنه وسوّغ له القتال جاز له ذلك ، وإن كان مستتراً أو لم يسوّغ له المقاتلة لم يجز له القتال ابتداءً ، بل يحفظ الكفار من الدخول إلى بلاد الإسلام ، ويُعلم المسلمين بأحوالهم ، وإرادة دخولهم إليهم إن أرادوا ذلك ولم يبدأهم بالقتال ، فإن قاتلوه جاز له قتالهم ، ويقصد بذلك الدفع عن نفسه وعن الإسلام ، ولا يقصد به الجهاد (٣). انتهى.

والأصل في ذلك الصحيح : جعلت فداك إنّ رجلاً من مواليك بلغه أنّ رجلاً يعطي سيفاً وفرساً في سبيل الله ، فأتاه فأخذهما منه ، ثم لقيه أصحابه وأخبروه أن السبيل مع هؤلاء لا يجوز وأمروه بردّهما ، قال : « فليفعل » قال : قد طلب الرجل فلم يجده وقيل له : قد شخص الرجل ، قال : « فليرابطه ولا يقاتل » قلت : مثل قزوين وعسقلان والديلم وما أشبه هذه الثغور؟ قال : « نعم » قال : فإن جاء العدو إلى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟

__________________

(١) المسالك ١ : ١٤٩.

(٢) السرائر ٢ : ٤.

(٣) المنتهى ٢ : ٩٠٢.

١٨

قال : « يقاتل عن بيضة الإسلام » قال : يجاهد؟ قال : « لا إلاّ أن يخاف على ذراري المسلمين ، أرأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ لهم أن يمنعوهم » قال : « يرابط ولا يقاتل ، فإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل ، فيكون قتاله لنفسه لا للسلطان ؛ لأنّ في دروس الإسلام دروس ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١).

وهو صريح في جواز المرابطة في زمان عدم بسط يد الإمام والغيبة ، لتضمنه الأمر بها حينئذ وأقلّه الجواز وإن لم نقل الاستحباب. وحيث ثبت الجواز ثبت الاستحباب ؛ لفتوى أكثر الأصحاب ، بناءً على التسامح في أدلّة السنن حيث لا يحتمل فيها ضرر كما هنا على ما فرضناه.

ولا ينافيه الأمر بردّ المال في صدره بناءً على أنّ الظاهر أنّ الباذل له من هؤلاء كما صرّح به في خبر آخر (٢) ، ومراده في سبيل الله الجهاد الجائز عندهم مع حُكّامهم ، فلذا أُمر بالردّ ، لعدم جواز الجهاد معهم عندنا ، والمال لمّا كان مشروطاً به لم يبح إلاّ به ، ولمّا لم يجز وجب الرد ، ولمّا فرض السائل عدم إمكان الرد إباحة له عليه‌السلام بشرط الرباط بدله ، فإنّه أقرب إلى مقصود الباذل من صرفه في سائر وجوه البرّ.

فما يعزى إلى الشيخ والقاضي من عدم استحباب المرابطة زمن الغيبة (٣) ، لا وجه له ، مع أنهما أفتيا بمضمون الرواية ، فلعلّهما أرادا منها ما ذكرنا في معناها ، وإن زادا فذكرا لفظ المرابطة ، بحملها على المرابطة الغير‌

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢١ / ٢ ، التهذيب ٦ : ١٢٥ / ٢١٩ ، الوسائل ١٥ : ٢٩ أبواب جهاد العدو ب ٦ ح ٢.

(٢) قرب الإسناد : ٣٤٥ / ١٢٥٣ ، الوسائل ١٥ : ٣٢ أبواب جهاد العدو ب ٧ ح ٢.

(٣) كما في المنتهى ٢ : ٩٠٣ ، وهو في النهاية : ٢٩٠ ، والمهذب ١ : ٣٠٣.

١٩

المشروعة التي تتضمن القتال والجهاد مع هؤلاء الفجرة ، كما هو الغالب في زمن الغيبة.

ومن هنا يظهر وجه تفاوت استحبابها في زمن الحضور والغيبة ، بالتأكّد في الأول ؛ لعدم الخلاف فيه حينئذ فتوى ورواية. دون الثاني ؛ لوجوده فيه أو احتماله فتوى ، بل وروايةً ، مع أن عبارة السرائر (١) صريحة في عدم جزمه بالاستحباب بل ظاهر مساق عبارته العدم.

ومن هنا يظهر ما في حكم جملة منهم بتأكد الاستحباب في الحالين (٢).

( ولو عجز ) عن المرابطة بنفسه ( جاز أن يربط فرسه ) أو غلامه ( هناك ) أي في الثغر لينتفع به المرابطون ، وحاز بذلك الثواب ، لإعانته على البرّ. وهو في معنى الإباحة لهما على هذا.

وظاهر العبارة هنا ، وفي السرائر والتحرير والمنتهى اشتراط العجز عنها (٣) ، ومقتضى الدليل العموم ، كما في اللمعة (٤) وشرحها. وهو الأقوى.

( ولو نذر المرابطة وجبت مع وجود الإمام عليه‌السلام) اتّفاقاً.

( وكذا مع فقده ) عندنا كما في السرائر (٥) مؤذناً بدعوى الإجماع عليه ، لأنها طاعة كما مضى ، وقد نذرها فيجب عليه الوفاء ، لعموم الأدلّة بلزوم الوفاء بالنذر كتاباً وسنةً.

__________________

(١) السرائر ٢ : ٥.

(٢) كالفاضل المقداد في التنقيح الرائع ١ : ٥٧٢ ، والشهيدين في اللمعة ( الروضة البهية ٢ ) : ٣٨٥.

(٣) السرائر ٢ : ٥ ، التحرير ١ : ١٣٤ ، المنتهى ٢ : ٩٠٣.

(٤) اللمعة ( الروضة البهية ٢ ) : ٣٨٦.

(٥) السرائر ٢ : ٤.

٢٠