الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٢

سيئة بسيئة أم زاد يزداد عدوك هياجا ، فيخلع حياءه نهائيا إذ يتفلت زمامه فأخذته العزة بالإثم.

إن تلك السماحة مع القدرة على انحصارها في حالات الإصلاح وهي في الأغلبية الساحقة شخصية ، إنها بحاجة إلى تصبرّ ومعرفة وعطوفة ودراية زائدة وتلقية إلهية : ـ (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(٣٥).

صبر من الله وحظ عظيم من الله هما جناحان لذلك الدفع العظيم : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) (٢٨ : ٨٠) ومن أعظمهم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٢٧ : ٦) ولقد لقّاه الله والمحمديين من آله الطاهرين الصبر العظيم والحظ العظيم ، فكانوا يواجهون الأعداء بكل حنان ما أمكن ومن ثم غضب الحليم.

هنا (حَظٍّ عَظِيمٍ) في تنكير التعظيم بعد (الَّذِينَ صَبَرُوا) توحي بعظمة ذات أبعاد : صبر وحظ ذي بعدين من العظمة ، وما أعظمه العظيم في ميزان الله ، وما أكرمه من يلقّاه من عند الله ، وفي الحق هم القلة القليلة من سابقين وأصحاب اليمين : (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً).

ومن أعظم الحظ العظيم الخلق العظيم (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) وقد يتبناه علم عظيم ومعرفة واسعة وسماحة فاسحة وتصبر عظيم.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣٦)

٨١

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) (١٧ : ٥٣) والنزغ هو الدخول في أمر لإفساده ، فإذا قلت التي هي أحسن دفعا للسيئة بالحسنى لم يكن هناك مدخل لشيطان ليجعل السوء سوائى أم يبقي على سوء ، (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) حين يفلت منك فالت ، وهكذا يكون دور الشيطان أن يدخل في الأمور لإفسادها ، فهنالك (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من نزغه (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) استعاذتك وندائك (الْعَلِيمُ) حاجتك واستدعاءك.

الغضب قد ينزغ فلا يتصبّر صاحبه على إساءة ، أماذا من نزغات في مختلف الحالات مهما كنت صبورا حليما إلّا من عصمه الله ، فإذا نزغك نزغ (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وصيغة الاستعاذة هنا «أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (٣٧).

(لا تَسْجُدُوا ..) نهي مؤكد انحصارا للمسجود له في الله وانحسارا عما سواه ، سواء أكان المسجود له هو الشمس والقمر كما هنا ، والخطاب موجه الى الساجدين لهما ، ام سواهما من أصنام وطواغيت أم أولياء وملائكة كرام ، ولأن السجود لغير الله تسوية له بالله وهو ضلال مبين ، و (الَّذِي خَلَقَهُنَّ) إشارة إلى سبب المنع وسعة الممنوع بدليل الجمع «خلقهن» الشمس والقمر وسواهما من خليقته.

ثم و (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) تعليق على عبادتهن ، فالعابد لله ليس ليعبد خلق الله ، ولا سيما (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ ..) ترمي إلى التوحيد ، والسجود لغير الله ينافي التوحيد.

وكضابطة توحيدية كلّ تسوية لغير الله بالله إشراك بالله ، في معرفة

٨٢

وعقيدة ، ام فعلة وقولة ، أم أية حالة على أية حال ، مهما اختلفت دركات ذلك الإشراك.

والسجدة هي صورة عبادة ، فان كانت لغير الله بنية العبادة وسيرتها فمن أسفل دركات الإشراك بالله ، وإن كانت صورة دون سيرة وهي أحيانية وإنما احتراما للمسجود له ، فمن أدنى دركاته ، وإن كانت مستمرة فعوان بين ذلك ، وذلك الثالوث على اختلاف دركاته مشترك في الشرك! (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ)(٣٨).

ليس الكون قاحلا عمن يسبحون له وله يسجدون ، (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) عن عبادته وسجوده ، إلى سجود الشمس والقمر وهما آيتان من آياته ، إلحادا فيها بافراط (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) عندية القرب مكانة تربوية لا مكانا ، من ملائكة وإنس وجان ، سابقين أو مقربين ، فإنهم عند ربك ، لا «الله» فليس عند ذاته أحد ، ولا (رَبِّ الْعالَمِينَ) حيث الربوبية العامة ليست بذلك الزلفى ، بل (عِنْدَ رَبِّكَ) بتلك الربوبية القمة التي أنت فيها بأعلى قمة (يُسَبِّحُونَ لَهُ) لا سواه (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) في كل وقت لحدّ أصبحت ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم وخطراتهم تسبيحا لله (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) : لا يملّون من هذه الكثرة الكثيرة ، وإنما يسأمون لو يغفلون.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٩).

(وَمِنْ آياتِهِ) قدرته على إحياء الموتى مسرح الأرض الخاشعة الخامدة القاحلة حيث تحيى بإنزال الماء فتربو وتهتز ، فمن ذا الذي يربيها ويهزّها بعد خشوعها إلّا الله (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) وبأحرى (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

٨٣

فإذا كان إحياء الأرض لانتفاع الأحياء فضلا من ربك عطاء حسابا ، فإن في إحياء إنسان الأرض لانتفاعه بما قدم ، وجزاءه بما ظلم أم ظلم ، إن في ذلك لعدلا بعد فضل ، فواقع الحياة المكرورة المتتابعة للأرض الخاشعة يوقّع بأحرى واقع الواقعة ، (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ ، خافِضَةٌ رافِعَةٌ)!

وكما الله ينزّل على خاشعة الأرض نازلة من ماء السماء إحياء لها للأحياء ، كذلك الله ينزل على خاشعة الأبدان نازلة الأرواح من سماء الرأفة والعدالة وهو أحق وأحرى.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا

٨٤

لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ

٨٥

لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)(٥٤)

٨٦

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٤٠).

اللّحد حفرة مائلة عن الوسط ، فالإلحاد هو الإمالة عن الوسط الحق إلى حفرة إفراط أو تفريط ، و «آياتنا» تعم التكوينية كسائر الآيات الدالات على الله بما فيها آيات النبوات وحملتها ، والتدوينية كسائر كتابات الوحي بما فيها القرآن ، فالإلحاد في تكوينية الآيات السائرة هو إمالتها عن كونها آيات كأنها لا تدل على الله تفريطا فيها ، ام إشراكها بالله كأنها له أنداد إفراطا في شأنها ، وفي التكوينية الخاصة كما الإفراط في أسماء الله تحويرا لها وتحريفا عن معانيها المعنية ، أم اختلاقا لأسماء لم يسم بها نفسه (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٧ : ١٨) والتفريط في (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٦ : ١٠٣) والإفراط فيه أنه منه دون الله! وفي كيان الرسل وآياتهم المعجزات إفراطا كما في عيسى وعزير من بعضهم وتفريطا كما في سائر المرسلين من آخرين ، وقد يكون إفراط الإلحاد في آيات الله من حصائل التفريط فيها وكثير ما هو ، فمن أبصر إلى آيات الله مستقلات دون اعتبار بها تفريطا فيها ، فقد أفرط فيها أن يجعلها أندادا لله تعالى ، ومن أبصر بها بصرته لمعرفة هي أسمى فلا تفريط إذا ولا إفراط ، فإنهما من حصائل الإبصار إليها دون الإبصار بها وكما يروى عن الإمام علي (عليهم السلام) في شأن الدنيا ، «من أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته».

ثم الإلحاد في كتابات الوحي منه لفظي كالتحريف بزيادة هي الإفراط أم نقيصة هي التفريط ، وقد فعلوهما في التوراة والإنجيل ، ولم يستثن عن الإلحاد فيه هكذا إلّا القرآن كما تستثنيه الآية التالية ، ومنه معنوي يعمه حيث التحريفات المعنوية في القرآن سائرة في كل زمان ومكان.

٨٧

هنا (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) تهديد لهم أوّل أنه عليهم رقيب عتيد ، بجزاءهم (يُلْقى فِي النَّارِ) ثم تهديد ثان نهيا شديدا بصيغة الأمر (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فقد بدء التهديد ملفوفا ـ يخيف (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) فهم مكشوفون لعلم الله ، مأخوذون بما يلحدون في الله مهما غالطوا والتووا وحسبوا أنهم مفلتون من يد الله كما قد يتفلتون من حساب الناس!

وثم صراح التهديد (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ ..) وفي النهاية لفتة أخرى علها أقوى منها (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ ..)! أتراهم يغلبون آيات الله في هذه الإلحادات ولكيلا تبقى حجة بالغة على الناس؟ كلّا! مهما فعلوا ما افتعلوا ، فإن الله يحافظ على آيته الأخيرة الخالدة «القرآن» تداوما لحجة الله البالغة على الناس وتدليلا على ما فعلوه في الزبر :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)(٤٢).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) الأخير ، كل الذكر وهو القرآن العظيم ، كفرا في مختلف دركات الإلحاد في آياته (لَمَّا جاءَهُمْ) وقد خيل إليهم أنه كسائر الذكر ، فبإمكانهم كل تحريف فيه وتجديف ، (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) غالب على كل إلحاد فيه أيا كان (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) من أي مبطل (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) لأنه (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)!

أترى ما هو الخبر عن هذا المبتدء؟ علّه محذوف مستفاد من (يُلْقى فِي النَّارِ) للذين يلحدون في آياتنا حيث الإلحاد في القرآن هو من أبرز مصاديقه وأحقها إلقاء في النار ، ف (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) إلحادا فيه (يُلْقى فِي النَّارِ) فإنهم كفروا به حال (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ..).

٨٨

ذكر عزيز ، هو تنزيل من حكيم حميد ، كيف يغلب بمن يريد فيه إلحادا ، فلو تطرّق إليه التحريف بزيادة أو نقصان لقضي على الذكر في تاريخ الرسالات ، ولكان ذكر الله مغلوبا لا ينتصر له ، ولم يكن الله حكيما في تنزيله ولا حميدا ، فإن في الحفاظ على الذكر الأخير حفاظا على سائر الذكر ، وفي تحريفه ـ وقد حرف قبله سائر الذكر ـ تحريف لشرعة الله ككلّ ، وقضاء على حجة الله البالغة بأسرها.

إن في صيانة القرآن عن التحريف صيانة لسائر كتب السماء ، وحجة بالغة دامغة على المتمسكين بها على تحرّفها عن جهات أشراعها ، ودافع لهم إلى التفتيش عن شرعة غير محرفة يلجئون إليها (١).

انه «الذكر» الذي يحمل معه كل ذكر في كتابات السماء ، فبحفظه تحفظ وبضياعه تضاع (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٥ : ٩) تأكيدات تسع لا مثيل لها في سائر الذكر ولا ايّ من حقايق الدين الحق بأصوله وفروعه ، ولأنه ضمان له بأصوله وفروعه.

(وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) تاكيدان لعزة الكتاب كما الله منزّله عزيز ، عزيز من عزيز يغلب ولا يغلب! إنه عزيز في لفظه ومعناه ، عزيز في حكمه ومغزاه ، عزيز في مبتدءه ومنتهاه ، لا يذل ولا يغلب مهما تربصوا له الدوائر ، عزة في مثلث الزمان بطوله وعرض المكان ، (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) مهما هاجمه المبطلون (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) وهي كل كتابات الوحي فضلا عن سواها ، وكل رجالات الوحي فضلا عن سواهم ، بل هي مصدقة له كما هم ، وهو مصدق لما بين يديه ، وهذا تعبير دائب في سائر القرآن عما نزل

__________________

(١) راجع كتابنا «المقارنات العلمية والكتابية بين الكتب السماوية».

٨٩

قبله من كتاب بما بين يديه (١) وعلّه لأنه ينظر إليها نظرة تصديق ، إذ ليس بدعا من الكتب ، كما أن رسوله ما كان بدعا من الرسل! (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (٥ : ٤٨) إذا فالأصل في (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) ما نزل قبله.

ومما بين يديه ما كان حال نزوله من كتب وأشخاص ، فهو يشمل الماضي والحال ، ف «من خلفه» إذا يخص الاستقبال ، فهو في صيانة إلهية في مثلث الزمان عن أية دائرة سوء من الإنس والجان.

أترى لماذا (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) دون «المبطل» والآتي إياه إبطالا له وإعطالا مبطل له وليس فقط الباطل؟

لأن المبطل ، المحاول لإبطاله ، قد أتاه ويأتيه على أية حال ، ولكنه لم يسطع ولن أن يبطل ، ف (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) مهما أتاه المبطل او يأتيه ، إبطالا لمعجزته بما يفوقه أو يوازيه ، أو فصما لحجته بما يناوئه ويعاديه ، أو تحريفا وتجديفا بنقيصة عنه او زيادة فيه ، أمّاذا من باطل في ألفاظه ومعانيه ، في تأليفه وتركيبه ، فلا تعلق به الشبهة من طريق المشاكلة ، ولا الحقيقة من جهة المناقضة ، فهو الحق الخالص الواجب الذي لا يشوبه شائب ولا يلحقه طالب ، فلا يأتيه الباطل مهما أتاه المبطلون! فالشيطان

__________________

(١) كما في ٢ : ٩٧ ـ ٣ : ٣ ـ ٥ : ٤٨ ـ ٦ : ٩٢ ـ ١٠ : ٣٧ ـ ١٢ : ١١١ ـ ٣٤ : ٣١ ـ ٣٥ : ٣١ ـ ٤٦ : ٣٠ وفي نور الثقلين ٤ : ٥٥٣ ح ٦٧ ـ القمي وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ ..) يعني القرآن : لا يأتيه الباطل من بين يديه قال لا يأتيه الباطل من قبل التوراة والإنجيل والزبور ولا من خلفه اي لا يأتيه من بعده كتاب يبطله ، وفيه عن المجمع روى عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) في معنى الآية ليس في اخباره عما مضى باطل ولا في اخباره عما يكون في المستقبل باطل بل اخباره كلها موافقة لمخبراتها.

٩٠

والإنسان لا يقدران على أن ينقصا منه حقا أو ينتقضاه ، ولا يزيدا فيه باطلا ويفتعلاه.

فأي كتاب في مثلث الزمان وأي إنس أو جان وأي تقدم في علم في مستقبل الزمان ، ليس ليبطل حجته أو ينقضها او ينقصها ، والكتابان في كل زمان تدوينا وتكوينا يجاوبانه ويؤيدان ، لأنه الإمام وسواه المأموم ، وهو العزيز وسواه تعزيز له أم لا يوازيه ، لأنه الذكر العزيز (.. تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) والمتدبر في القرآن يلمس منه هذه الحقيقة الخالصة ، من نصه وظاهره وإشارته ، يجدها في كل بساطة ويسر حقا ناصعا فطريا يخاطب أعماق الفطرة ويطبعها ويؤثر فيها عجيب التأثير.

أترى هذا (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) من خلفه»؟ فما هو إتيان الباطل من بين يديه وليس المبطل إلّا في حال او استقبال؟ من إتيانه الباطل مما بين يديه تفوّقه على القرآن في لفظه أو معناه أو مغزاه وليس ، ومنه إخباره بكذبه كما القرآن يكذب كل ما يأتيه معه أو من بعده لأنه خاتمة الوحي ، ولا مبطل له في كتابات السماء فضلا عن سواها ، بل تصدقه (١) كما يصدقها ، تصادقا فائقا كالتصادق فيمن جاء بها.

فالقرآن في صيانة ذاتية وخارج الذات من كافة الجهات والجنبات ، حق ناصع ناصح ، خالص لائح ، فهو المرجع الوحيد في كل شارد ووارد ، لا ينوبه نائب ولا يشوبه شائب ، (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً).

__________________

(١) راجع كتابنا. «رسول الإسلام في الكتب السماوية» تجد فيه نصوصا من تصديق الكتب السماوية للقرآن ونبيه.

٩١

كتاب الله العزيز هو المخرج عند الهرج والمرج لا سواه (١) ومثل القرآن ومثل الناس كمثل الأرض والغيث بينما الأرض ميتة هامدة ثم لا يزال ترسل الأودية حتى تبذر وتنبت ويتم شأنها ويخرج الله ما فيها من زينتها ومعايش الناس ، وكذلك فعل الله بهذا القرآن والناس» (٢) و «إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أحب إليه من شيء خرج منه» (٣) «وإنه المهيمن على الكتب كلها وإنه حق من فاتحته إلى خاتمته ..» (٤).

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٦٦ ـ اخرج ابن مردوية عن علي رضي الله عنه قال قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) او سئل ما المخرج منها فقال كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

(٢) الدر المنثور ٥ : ٣٦٦ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن سعد لا احسبه إلا أسنده ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : مثل القرآن ..

(٣) المصدر ـ اخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن عقبة بن عامر ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هذه الآية فقال : .. وفيه اخرج البيهقي عن أبي ذر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .. بشيء أفضل .. وفيه اخرج عن عطية بن قيس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ما تكلم العباد بكلام أحب الى الله من كلامه وما أناب العباد الى الله بكلام أحب اليه من كلامه بالذكر قال بالقرآن.

(٤) عيون اخبار الرضا في باب ما كتبه الرضا (عليه السلام) للمأمون في محض الإسلام وشرايع الدين وفيه : والتصديق بكتابه الصادق العزيز الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) وانه المهيمن .. نؤمن بمحكمه ومتشابهه وخاصة وعامة ووعده ووعيده وناسخه ومنسوخه وقصصه واخباره لا يقدر أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله.

وفيه بسنده عن محمد بن موسى الرازي قال حدثني أبي قال ذكر الرضا (عليه السلام) يوما القرآن فعظم الحجة فيه والآية المعجزة في نظمه قال : هو حبل الله المتين وعروته الوثقى وطريقته المثلى المؤدي الى الجنة والمنجى من النار لا يخلق على الازمنة ولا يغث على ـ

٩٢

(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ)(٤٣).

قيلات على الرسالات وحملتها طول التاريخ الرسالي هي كلها ويلات متناسقة مع بعض ومتشابكة ، وشريطات مكرورة تدار من حماقى الطغيان والجهالات على أصحاب الرسالات ، كلما كانت الرسالة أقوى ، ودعايتها أعرض وأنبى ، كانت القيلات عليها أوسع وأشجى ، ولأن هذه الرسالة السامية تجمع الرسالات كلها وزيادة ، فالقيلات عليها تجمع تلكم القيلات كلها (ما يُقالُ لَكَ) يا حامل الرسالة الأخيرة (إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) وقد قيل عليهم كل قيل ، فلتصبّر نفسك على كل قيل (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) مهما كان مرساهم «ولتصنع على على عيني» ف «بأعيننا» تجمع جماع الرقابات حفاظا على رسالتك ، لأنها محطة القيلات.

(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) يغفر قيلات عليك سترا لها وسدا عليها فلا يأتيها الباطل بما يبطلون ، وكما (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) كذلك ليغفر لك كل باطل يأتيك من بين يديك ومن خلفك ، إذ لا يسطع على إبطال حجتك ، وإغراقك في لجتك.

ثم هو (لَذُو مَغْفِرَةٍ) لمن تاب معك أو يتوب (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) لمن يصر في إبطال أمرك.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ

__________________

ـ الألسنة لأنه لم يجعل لزمان دون زمان بل جعل دليل البرهان والحجة على كل انسان (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

٩٣

عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(٤٤).

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ، كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ، لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٢٦ : ٢٠١).

آيتان في سائر القرآن تفصحان عن النخوة العربية وجاه وحي القرآن أن لو كان أعجميا لزادوا في النكران ، مما يدل على مدى شقوتهم وتصلّبهم في قوميتهم لحد يجعلونها أصلا وحتى لصرح الإيمان ، فأولئك ينادون من مكان بعيد ، لتباعدهم عن طريق الرشد ، وإعراضهم عند دعاء الحق ، كأنهم من شدة التوائهم والذهاب بأسماعهم والانصراف بقلوبهم ينادون من مكان بعيد ، فالنداء غير مسمع لهم ولا واصل إليهم ، ولو سمعوه لضلّ عنهم فهمه للصد المنفرج بينهم وبينه ، إذ فصلت قوميتهم بينهم وبين سماع الحق والخضوع لديه ، وحتى حين نزّل عليهم القرآن عربيا فضلا عن جعله أعجميا إذ قالوا (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)! فما هم بصاغين الله لا عربيا ولا أعجميا.

والأعجمي من العجمة خلاف الإبانة ، والإعجام هو الإبهام ، والأعجم من في لسانه عجمة عربيا كان أم سواه ، ومنه قيل للبهيمة عجماء ، ولصلاة النهار عجماء ، إذ لا يجهر فيها بالقراءة ، وسميت الحروف المفردة معجمة لأنها لا تدل على ما تدل عليه الحروف الموصولة.

فالأعجمي بصورة عامة هو اللغة التي لا تفهمها ، من بهيمة فهي أعجمية ، أم فارسية أما ذا من لغات لست تفهمها ، أم وعربية لا تعرفها ، فكل لغة بالنسبة لمن لا يعرفها أعجمية ، فاللغات كلها أعجمية لغير أصحابها ، عربية لأصحابها ، وكما يعبر التوراة عن القرآن العربي بين العبرانيين أنه بلغة لكناء أعجمية كالنص التالي :

٩٤

إت مي يوره دعاه وإت مي يابين شموعاه غكمولي محالاب عتيمي مشادايم (٩) كي صولا صاو صولا صاو قولا قاو قولا قاو زعير شام زعير شام (١٠) كي بلعجي شافاه وبلاشون أحرت يدبر ال هاعام هذه (١١).

لمن ترى يعلّم العلم ولمن يفقّه في الخطاب أللمفطومين عن اللبن المفصولين عن الثدي (٩) لأنه أمر على أمر أمر على أمر فرض على فرض ثم فرض على فرض هنا قليل وهناك قليل (١٠) لأنه بلهجة لكناء بشفاه أعجمية وبلسان غير لسانهم يكلم هذا الشعب» (١)

والأعجمي على ضربين ، ضرب أوّل ما فيه عجمة نسبية ككل لغة لا تعرفها ، وضرب آخر ما فيه إبهام وإجمال وهو لغتك إما بلكنة في لسان ناطقها ، أم غرابة في نظمها ونسجها كالقائل «ما لكم تكأكأتم كتكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني».

وكأنهم تطلّبوا إليه أن ينزل لهم قرآنا أعجميا (٢) في اي بعد من العجمة ، كسائر تطلباتهم الجاهلة الهراء فجاء الجواب : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ..)

هنا لهم اعتراضان اثنان (لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) ١ (لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) حيث أجملت فلا نفهمها كما يجب ، والتفصيل هو الإفصاح عن المعنى كما هو الآن في القرآن ، فخلافه أعجمي أيا كان ولا سيما إذا كان بغير لغة القرآن ، ولكنه (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)!

__________________

(١) راجع كتابنا (رسول الإسلام في الكتب السماوية) تجد فيه تفصيل هذه البشارة بشأن القرآن ، وهذا النص نقلناه عن كتاب اشعياء النبي حسب الأصل العبراني.

(٢) الدر المنثور ٥ : ٣٦٧ ـ اخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير قال قالت قريش لولا انزل هذا القرآن أعجميا وعربيا فانزل الله (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ) آياته : اعجمي وعربي وانزل الله تعالى بعد هذه الآية بكل لسان حجارة من سجيل.

٩٥

٢ (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) والأعجمي هو الكتاب لو جعل أعجميا ، والعربي هم العرب ، يستنكرون ويتناكرون أن يجعل كتاب شرعتهم بغير لغتهم لا لشيء إلّا لأنهم عرب ، يتأنفون غيرهم وغير لغتهم ، ويتأنقون لأنفسهم ولغتهم ، فبالإمكان أن تترجم كل لغة بلغتهم لو كان القرآن بغير لغتهم ، وكما سائر المكلفين المرسل إليهم بشرعة القرآن ، يستعجمون لغة القرآن فإنها غير لغتهم ولكنهم لا يتأنفون ، فهم بين من يتعلم لغة القرآن ، أو يتعلم من عارفها فيتفهم بذلك القرآن ، وكما ترى الرعيل الأعلى من الأدباء العرب هم من غير العرب.

إن كتابا كالقرآن ، الموجه إلى العالمين كافة ، لا بد أن ينزل بلغة من اللغات عربية كانت أم أعجمية ، ولكنما العرب هم الذين يتنكرون لو جعل قرآنا أعجميا.

لذلك ترى الجواب ألّا منعة هنا إلّا اللّاإيمان ، حيث الإيمان يجد سبيله إلى شرعة القرآن بأية لغة كان : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أيا كان لغتهم (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) وإن كان بلغتهم (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) كما قالوا (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)!

(أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) نداء يوم الدنيا إذ فصل بينهم وبين هدي القرآن كفرهم البعيد ، فكأنهم (يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وهم قريبون إلى المنادي وقريبون إلى لغة النداء ، ولكن بعّدهم العداء فهم بعاد عن النداء! ومن ثم (يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يوم الأخرى ، حيث المنادي الملائكي لا يقربهم ، فيناديهم من بعد ترذيلا لمكانتهم ، والمنادي الإلهي يناديهم من بعيد كمنادى رذيل لا يعبأ به.

وقد تكون حكمة نزول القرآن باللغة العربية أنها أفضل اللغات

٩٦

وأعربها ، وأنهم مبتدء الدعوة فلتكن بلغتهم ، وأنهم قوم لّد ليسوا يتقبلوا قرآنا بغير لغتهم ولا يقلبوا إليه!

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)(٤٥).

(كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) تربية لهم على ضوء تربيتك ، فإنها الميزان لكل العالمين ، أتراها هي (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٧ : ٢٧)؟ ونحن نرى عذابات الاستئصال تترى في المكذبين بآيات الله طيلة التاريخ الرسالي ، فلما ذا قضي عليهم دون قوم موسى!

هنا (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) والاستئصال قاض عليهم ، فإنما القضاء بينهم إزالة للاختلاف بخارقة مارقة تجلي لهم الحق عيانا بعد بيان ، وتلجئهم إلى الإيمان بعد شك قاصد مريب ، ولكنما الدار دار ابتلاء وامتحان ، وليست دار فصل وحسبان ، إذا يذرهم واختلافهم في خوضهم يلعبون ، وفي غيهم يترددون.

ثم الشك منه مريب وهو أشره ومنه لا يريب ، فهم يظهرون شكهم بمظهر المريب ، ثم وليس العمل الصالح لصالح الرب ، إلّا لأنفس المربوبين يوم الدنيا ويوم الدين (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أن يسيّر على غير الصالح ثم يحاسب عليه ، ظلما ذا بعدين يجعل من ربك ظلاما للعبيد!

صحيح أن من أساء تعديا على من سواه فقد أساء على من سواه ، ولكن المحور الرئيسي في ردة فعله ليس إلا المسيء نفسه ، وكما العمل الصالح على سواء.

فالإساءة والإصلاح غير المتعديين هما لزام المسيء والمصلح دون سواهما ، والمتعدي منهما فيه ضعف لهما إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، فصاحبه هو

٩٧

الأصيل في فعله وافتعاله ، ثم الله لا نصيب له من خيره أو شره ، ف (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ).

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ)(٤٧)

علم الساعة مردود إليه ، محفوظ لديه ، لا يعدوه إلى سواه حتى رسل الله ، فإذا سئلوا عنه ردوا علمه إليه ، وليس فقط علم الساعة ، بل (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ) من أوعيتها الأكمام ، (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) نباتية أم حيوانية أم انسانية أماهيه (وَلا تَضَعُ) حملها (إِلَّا بِعِلْمِهِ).

هنا «من ثمرات» و «من أثنى» تستغرق الكل من كل دونما استثناء ، أنها بحيطة علمية إلهية ولا تسامى ، مهما علم العالمون شيئا ضئيلا من هذه وتلك.

وذلك توحيد لربوبية العلم والقدرة (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) إذ تقطعت الأسباب وحارت دونه الألباب (أَيْنَ شُرَكائِي)؟ الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ، (قالُوا آذَنَّاكَ) إعلاما وإعلانا (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) لا هنا فأنت أنت الله الواحد القهار ، ولا يوم الدنيا مهما خبطنا وأخطئنا.

وهنا (مِنَّا مِنْ) ضاربة إلى عمق بعيد من سلبية الاستغراق ، فلا أحد منا يشهد أن لك شركاء! وهنالك :

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ)(٤٨).

فهنالك ظهور الحقايق ، فليضل الشركاء المختلقون ، فذواتهم هناك موجودة ، وصفاتهم مفقودة ، وذلك ضلالهم والضلال عنهم ، أم وذواتهم

٩٨

مخبوة لترذّلها ، اللهم إلّا الأولياء الذين اتّخذوا لله شركاء.

ولماذا هنالك «ظنوا» واحتمال المحيص لهم ساقط بما يرون من عذاب الله؟ علّهم لنكرانهم الشهداء من ناحية ، ولمسة المسرحة الرحيمية لله من أخرى ، قد يخلد بخلدهم أن لهم «من محيص» ف (ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ).

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ)(٤٩).

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) ولا يملّ (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أن يدعوه طلبا في حال وفعال وقال ، أو يدعى له ، فدعاء الخير يعم دعاءه الخير بنفسه أم دعاء غيره له بالخير ، وسواء عنده أن يدعو ربه أم سواه ، بل قد يفضل عليه سواه ، ولمّا ييأس عن سواه يدعوه مخلصا ولكي يحصل على مناه.

فكل ما يراه خيرا يكدح في طلبه كدحا بكل صنوف الدعاء ، ولكنه (إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) كأن لم يكن هناك خير ، ففي لمسة من شر ينسى كل خير قبله كأن لم يعطه من ذي قبل.

مجرد مس الشر يقنطه عن كل خير مأمول ، وهو رسم دقيق واقع صادق للنفس البشرية لاغترارها الكادح بالسراء ، وجزعها بمس الضراء.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)(٥٠).

وما أحمقه في قولته الخواء «هذا لي» نكرانا أنه لله ومن الله ، دونما استحقاق له من رحمة الله ، فإن كانت لك فلما ذا سلبت عنك فأنت يؤس قنوط ، ثم الدنيا ليست دار جزاء يجزى فيها أهل الحق برحمة ، فحتى لو كنت منهم ف «هذا لي» غلطة ثم (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ثانية (وَلَئِنْ

٩٩

رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) ثالثة ، فهل أنت بثالوثك المنحوس تستحق رحمة ربك ، والمؤمنون لا يستحقون؟

وهنا في «ربي» اختصاص لربوبيته تعالى بنفسه كأنه ليس ربأ لسواه ، وفي «إن لي للحسنى» تاكيدان اثنان أن له حسنى الحياة ، ولماذا هذه الإشراكة بالله ، ونكرانه يوم لقاء الله ، إذا فالموحدون المؤمنون هنالك يحرمون ، وهؤلاء الغباوى يكرمون؟ (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)!.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)(٥١).

وهذه حالته الغفلانة الرديئة إلّا من هداه الله.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)(٥٢).

فهلا يكون ذلك احتمالا يستحق الاحتياط ، فما ذا أخذتم لأنفسكم من وسائل الاحتياط ، فإن لم يكن القرآن من عند الله فنحن وإياكم شرع سواء ، لا يضرنا ما صمنا وصلينا ، ولا ينفعكم متعة الحياة الدنيا.

وأما إن كان من عند الله كما تدل عليه دلائله (ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) فمن أضل منكم حيث عشتم في شقاق بعيد.

وذلك دليل عند فقدان الدليل ، أم تعنّت خانق أمام الدليل ، لا ينكره حتى المجانين ، فالأخذ بالحائطة طريقة العقلاء ، حيث الاحتياط طريق النجاة ، كلما كان المحتاط له أهم فالاحتياط له أتم وأعظم.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)(٥٤).

هنالك آيات ترى بعين الفطرة والعقل والحس أمّاذا من جوارح

١٠٠