الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٢

وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٣٠ : ٣٧) (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٤ : ٣٦) و (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) :

فمحاولة التسوية التامة وإزالة الطبقية المالية أم ماذا ، إضافة إلى أنها خلاف العدل حيث الاستعدادات فالمساعي فالاستحقاقات ليست على سواء ، إنها خلاف الإرادة والحكمة الإلهية فلا تكون!.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣).

هذه الآية توحّد الدين الحق وتخمّس الشرائع إليه ، وفي الحق إنها تحقق حقائق عدة عديمة النظير أو قليلته في الذكر الحكيم.

منها أن دين الله واحد والشرائع إليه خمس ، وقد توحيه (.. لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ)(١)(شِرْعَةً وَمِنْهاجاً. وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥ : ٤٨)(٢) وقد يعبر عن الدين بالأمر حيث الدين

__________________

(١) «منكم» هنا كافة المكلفين طوال تاريخ الرسالات لا الأمة الإسلامية إذ ليست لها إلا شرعة واحدة هي الإسلام.

(٢) ان الدنيا دار بلاء وابتلاء والدين ابتلاء ، واختلاف الشرعة ابتلاء ، وعلى المسلم لله في هذا البين ان يستسلم لشرعة الله دون ان يثّاقل الى ما تعوّد عليه من شرعة عنصرية أو إقليمية أم ماذا! «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» وهي شرعة الله الجديدة بعد التي مضت ، استبقوا في الحصول عليها تسابقا في تصديقها دون تباطئ ، كما وهي داخل الشرعة ان تتسابقوا في تعلم خيراتها والتأدب بها والتخلق والتطبيق ونشرها ، «إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ

١٤١

هو الطاعة وهي ائتمار الأمر : (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٤٥ : ١٨) كما وفيما يهدد ويندّد بالمشركين يربط أيّة شرعة من الدين بإذن الله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ ..) (٤٢ : ٢١). وفي آية الشرعة تشريف لهؤلاء الخمسة من الرسل الذين دارت عليهم الرحى وكما في آية الميثاق : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) (٣٣ : ٨) وهؤلاء هم أولوا العزم من الرسل : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) ٤٦ : ٣٥) (١).

وقد سبقت إلى هذه الوحدة الجذرية الإشارة في مطلع السورة : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إذ كانت إيحاء إجماليا إلى وحدة المصدر والصادر ووحدة المنهج والناهج والاتجاه في الدين كل الدين ، وهنا يفصل ما أجمله من قبل.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى ..) توحي فيما توحي أن هذه الشرائع الخمس مثل بعض مصدرا ، وكذلك صادرا ، في الجذور وكثير من الفروع ، فالشرعة الإسلامية هي شرعة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى مهما اختلفت في ظواهر طقوس أم ماذا؟. حقيقة الأصل الواحد والنشأة

__________________

ـ جَمِيعاً» فالله واحد ودينه واحد والرسالة لهذا الدين الواحد واحدة وأنتم امة واحدة مهما اختلفت الشرائع الى هذا الدين الواحد.

(١) راجع ج ٢٦ من الفرقان ص ٧٣ تفسير آية اولي العزم.

١٤٢

الضاربة في أعماق الزمان وأصوله ، فكلّ من حملة الشرائع الخمس امتداد رسالي لما سلفه ، وكما أن الكل لهم شرائع من دين واحد ، إذا ففيم يتقاتل ويتضارب أتباع كل شرعة مع الأخرى أو ومع شركائها في نفس الشرعة ، ولماذا لا يتضامّ الجميع ليقفوا تحت الراية الواحدة التي تحملها رسالة واحدة إلى إله واحد ، وأخيرا لماذا لا يجتمع الكل تحت الراية المحمدية التي تشمل الدين كله والشرائع كلها؟ وهي هي الراية التي قدم لها ولرفعها الأربعة الأوّلون؟!.

فهنالك دين وأمر واحد ، وهنا وهناك شرعة وشرعة إلى خمس من الدين الأمر ، فلأن الله واحد فدينه وأمره واحد ورسالته كذلك واحدة والمكلفون كذلك أمة واحدة لهذه الرسالة الواحدة مهما اختلفت قشور وصور من شرعة وجاه شرعة : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (٢٣ : ٥٧).

إن الشرعة هي الطريقة الواضحة البينة حيث توصل متشرعها إلى غايته القصوى وهي دين الله وأمره ، أمره والائتمار به ، وكما الدين هو لله ومن الله كذلك المشرع الشرعة إليه هو الله ، وكما اختلاف العبادات أم ماذا صوريا في شرعة واحدة ينحو منحى هذه الشرعة ، كذلك الاختلاف بين شرعة وأخرى لا ينحو إلّا منحى دين واحد هو الأمّ للشرائع كلها ، فمهما اختلفت الصور ضرورة أو ابتلاء فالجذور واحدة هي الطاعة لأمر الله.

وترى من هم المخاطبون في (شَرَعَ لَكُمْ) أهم الحاضرون زمن الوحي؟ وهم شرذمة قليلة من المكلفين طوال الزمن! وليست الشرعة منهم

١٤٣

إلى سواهم! فإنما هي للعالمين ، إذا ف «كم» هم أم القرى ومن حولها دون اختصاص بالحاضرين ، وإنما الخطاب صادر من مصدر رب العالمين ، فوارد ـ كقضية حقيقية ـ مورد العالمين أجمعين ، ضاربا إلى اعماق الزمان والمكان أيا كان منذ بزوغه إلى يوم الدين.

ثم ولماذا «شرع» المفرد الغائب ـ لله ـ و «لكم» الحاضر للعالمين؟ علّه لان وحي الشرع غائب عن العالمين ، وأما العالمون فعليهم الحضور علميا وعقائديا وأخلاقيا وتطبيقيا للوحي الشرع ، فهو غائب الصدور وحاضر الورود ، ثم ولأن في خطابهم دون الآخرين تشريفا للأمة المحمدية على الأمم بما أن شرعتهم برسولهم أشرف من سواها وسواه.

وإذ توحي غيبة الفعل «شرع» بغياب الوحي ، فهل توحي (وَصَّى بِهِ نُوحاً) أن وحي الشرعة إلى نوح كان وحيا غائبا عنه؟ فكيف إذا هو نبي!.

إن الغيبة هنا غير الغيبة هناك ، ففي (شَرَعَ لَكُمْ) غيبة الوحي حقيقة إذ لم يوح القرآن إلى العالمين دونما وسيط ، وأما في (ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) فوحي حاضر إلى قلب نوح (عليه السلام) ولكنه لبساطته أمام سائر الوحي إلى الاربعة الآخرين ، وعلوّه لهم دونه ، كأنه من غائب الوحي ، كما وأن سائر الوحي وجاه الوحي إلى محمد كأنه ليس وحيا ، وإنما هو وصية حال أن الكل وحي حيث الكل أنبياء عظام عليهم دارت الرحى.

هنا نستوحي من مثلث التعبير : «ما وصى ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا» درجات ثلاث لوحي الشرعة إلى اولى العزم الخمسة ، فأوسطها أعلاها وأولاها أدناها (١) وآخرها أوسطها.

__________________

(١) تمتاز صيغة التعبير عن الوحي الى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على نوح بميزات ـ

١٤٤

في سائر القرآن حيث يذكر الوحي إلى أصحابه الخصوص إنما يؤتى بصيغة الوحي حيث المقصود أصله دون درجاته بالقياس إلى بعض : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (٤ : ١٦٣) حيث جمع بين سائر الوحي إلى سائر المرسلين لأن المقام مقام استعراض أصل الوحي إلى أصحابه لا التفاضل فيه.

وأما آية الشرعة حيث تبين الشرائع الخمس إلى أولي العزم الخمسة فهي تستعرض في إشارات مراتب الوحي ، فتعبّر عن وحي القرآن بالوحي ، ثم عن سائر الوحي إلى الأربعة الآخرين بالوصية.

فالوصية هي التقدم إلى الغير بما يعمل مقترنا بوعظ ، وهي لم تستعمل في سائر القرآن في الوحي اللهم إلّا بدائيا كما أوحي إلى المسيح في المهد صبيا : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (١٩ : ٣١) حيث المسيح لم يكن حينذاك نبيا وإنما نبئ بهذا ذودا عن أمه الطاهرة وبشارة

__________________

ـ اربع :

١ ـ «الذي» بدلا عن «ما» دلالة على ضخامة الوحي على محمد دونه على نوح.

٢ ـ حضور الوحي في «إليك» وغيابه في «وصي».

٣ ـ جمعه في «أوحينا» وإفراده في «وصى».

٤ ـ لفظة الوحي في «أوحينا» والوصية في «وصى».

كما تمتاز صيغة الوحي على الثلاثة الآخرين عن نوح بالجمع والحضور في «أوحينا» وان كان حضور «نا» أوفى من حضور «إليك» فيمتاز إذا وحي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على الثلاثة ب «الذي» «أوحينا» «إليك» حضوران في أوحينا إليك إضافة إلى الوحي والذي.

١٤٥

بنبوته الآتية ، إذا فهذه الوصية كانت وحيا قبل الرسالة ، وعلّها كما أوحي إلى أم موسى أم ماذا؟.

هذا! ثم اللهم إلّا آيتنا هذه حيث قارنت بين الوحي على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وهو في أعلى القمم ـ وبين الوحي إلى سائر أولي العزم من الرسل ، فعبرت عن الأول بالوحي (الَّذِي أَوْحَيْنا) وعن الثاني بالوصية «وصى ـ وصينا» إيحاء بمدى البون بين الوحين ، وكما عبر عن الوحي على أولهم «نوح» (عليه السلام) بالمفرد الغائب وعن الآخرين بالجمع الحاضر إيحاء بالبون بين هذين أيضا كما بينهما وبين الأول.

(شَرَعَ لَكُمْ .. أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) إنه ما شرع هذه الخمس حتى تتشجروا متفرقين ، وإنما (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) بكل شرعة في دورها (وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ف (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً .. لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ..) (٥ : ٤٨) فلكل شرعة دور يجب على المكلفين كافة إتّباع الشرعة الحاضرة ، لا متابعة الغابرة تعّودا عليها أو تعصبا عنصريا أم ماذا؟ فإن إقامة الدين في كل دور هي إقامة طاعة الله في أمره الحاضر ، في شرعته الحاضرة ، فالتصلّب على الغابرة عصيان للأمر وتضييع للدين.

فالتفرق في الدين : إلى هود ونصارى ومسلمين راحة للمشركين ، حيث يروننا أمثالهم في تفرق الدين ، متضادين متفرقين أيادي سبا كما هم ، و (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) من وحدة الدين!

وترى المخاطبون في (أَقِيمُوا الدِّينَ) هم المسلمون؟ وهم مسلمون لا يتفرقون! ام هم عامة المكلفين؟ فإقامتهم للدين أن يقيموه في شرعته ، أن يتبع الكل في كل دور شرعته الواحدة ، فالترسب على شرعة سابقة نكرانا للّاحقة تضييع للدين الأمر والطاعة ، فإنهما الآن في الشرعة الحاضرة دون

١٤٦

الغابرة ف (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (٣ : ١٩) وقضية التسليم لأمر الله وطاعته السليمة هي الاجتماع على شرعة حاضرة للدين دون اختلاف.

فليس إقامة الدين في إقامة أصوله ، والفروع متشجرة ، حيث الدين يعم الأصول والفروع ، فعلى المكلفين عامة أن يقيموا الدين كله في الشرعة الحاضرة : أن يتضامّ الجميع تحت راية واحدة : نوح ثم ابراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد صلوات الله عليهم أجمعين ، ولا يتفرقوا في الدين ، حيث التفرق في الشرائع تفرق في الدين الطاعة الى المعصية.

(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) يا محمد! من وحدة الدين ودينك الموحد بين صفوف المكلفين ، سواء أكانوا مشركين وثنيين أم كتابيين متحزبين : (.. وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٠ : ٣٢).

كبر على المشركين الأولين أن ينزل عليك القرآن ولا ينزل على رجل من القريتين عظيم! كبر عليهم ان ينتهي سلطان الشرك المفرّق الى سلطان الإسلام الموحّد! : «أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب» (٨٨ : ٥).

كبر عليهم القول : إن آباءهم ماتوا على ضلالة الجاهلية فأخذتهم العزة بالإثم!

ثم كبر على المشركين الآخرين ، على المتعصبين المتعنتين من أهل الكتاب ، أن ينزل هذا الدين على رجل إسماعيلي ، لا إسرائيلي ، فتضمحل السلطات الإسرائيلية العنصرية ، والسلطات المسيحية القومية أم ماذا.

ولكن رغم أولاء وهؤلاء وأضرابهم (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي

١٤٧

إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) وقد اجتبى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) واصطفاه لهذه الرسالة السامية ، وليفتح الطريق الأخيرة والشرعة الأبدية الى الدين المتين ، ويهدي به الله من ينيب.

(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)(١٤).

(وَما تَفَرَّقُوا) في الدين : ابراهيمين ـ هودا ـ نصارى أم ماذا ـ رغم وحدة الدين : الأمر والطاعة (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بوحي الكتاب أن كل شرعة بعد أخرى هي شرعة من ذلك الدين ، تتفق مع بعض في جذور واحدة ، والشارع لا يرتضي في كل دور من الخمس إلّا شرعة واحدة.

فما تفرق الذين أوتوا شرعة من الدين إلّا بغيا بينهم ، اللهم إلا القاصرين الأتباع منهم: (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٩٨ : ٤) (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٦ : ١٥٩).

إن التفرق في الدين شرك وتمزّق من سنة المشركين ، والواجب الجماهيري لعامة المكلفين إقامة الوجه للدين فطرة وشرعة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٠ : ٣٢).

إن دين الفطرة ودين الوحى الشرعة متجاوبان في تلائم تامّ ، فالتحزب في شرعة الدين تخلّف عن دين الفطرة ودين الله : دين

١٤٨

التكوين ودين التدوين المكتوبين بقلم الربوبية الصادقة ، إذا فهو في الحق شرك برب العالمين!.

وإذا كان التفرق في شرائع الدين شركا رغم تفرقها في قسم من طقوسها ، فليكن التفرق في شرعة واحدة ، تشجرا في مذهبيات وتشاجرا فيها رغم وحدة الشرعة ، ليكن هذا التفرق إلحادا إذا كان بغيا : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا. (١٠٣). وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣ : ١٠٥).

فهنالك تفرق عن دين الله شركا أو إلحادا في الله ، ثم تفرق في دين الله تحزبا في شرعة وشرعة هودا أو نصارى أم ماذا ، ثم تفرق في شرعة الله كما تفرقوا في كل شرعة ، فاليهود إلى فرق والنصارى إلى فرق والمسلمون إلى فرق ، وكل هذه التفرقات محكومة في ميزان الله.

إن للدين حملة أولين ومتحملين آخرين ، وفي الأكثرية الساحقة يختلف تفرق الآخرين عن الأولين ، فالحملة الأولون ـ في الأكثر ـ لا يختلفون ويتخلفون إلا بغيا بينهم : ظلما قاصدا بالنسبة لبعض في شرعة ، أو لآخرين في شرعة أخرى ، حسدا بينهم وظلما للحقيقة ولأنفسهم ، حيث تفرقوا أيادي سبا تحت تأثيرات الأهواء والشهوات.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣ : ٣٦)(لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بما تفرقوا ، أن يهلكهم بعذاب الاستئصال ، وفيما أهلك قرونا ليس لمجرد الاختلاف ، وإنما للتطرف في الترف والتخلّف عن شرعة الله لحدّ لا يتحمله المجتمع.

هم أولاء حملة أوّلون عليهم ما عليهم ولهم ما لهم ، ولكنما المتحملون الآخرون (الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)!

١٤٩

أولئك اختلفوا على علم ويقين بغيا بينهم ، ثم الذين ورثوا الكتاب اختلفوا على شك مريب ، ولا يصدق هذا الفرق بين الأولين والوارثين إلّا في كتابات الوحي قبل القرآن ، حيث حرفها الأولون على علم ، فتفرق فيها الوارثون على شك مريب ، وهو المسنود إلى ما يعتبر كحجة (١).

فالتفرق الحاصل عن شك مريب أهون ضلالا من التفرق عن شك غير مريب أو عن علم ، وإن اشتركت في ضلال ، ولكن اين ضلال من ضلال! ثم التفرق الحاصل قصورا دون تقصير لا عن علم ولا شك كما يحصل عند المجتهدين إذا كان عن اجتهاد صحيح يتبنى الكتاب أصلا والسنة فرعا ، هذا التفرق ليس محظورا ولا يفرّق حيث الكل يستنبطون أحكام الله من كتاب الله وسنة رسول الله ، (صلى الله عليه وآله وسلم) للمصيب أجران وللمخطئ اجر واحد ، فلا عليهم ولا لهم أن يتباغضوا ، وانما عليهم التشاور لكي ينقصوا من الخلافات ثم يرجع من سواهم إلى الأكثر بعد التشاور ، كمرجعية واحدة هي الأكثرية بين المتشاورين.

وآية التفرق إنما تندّد بالتفرق بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، ثم الذين ورثوهم فهم في شك مريب ، وأما العلماء الربانيون المسلمون فهم لا يجتهدون على شك مريب ولا تخلفا عن علم بغيا بينهم ، وإن كان بين من يجتهد مقصّرون حيث لا يستندون كما يجب إلى كتاب الله ، وفيما تعودوا على ترك الكتاب اعتمادا على الأقوال والروايات فأصبحوا قاصرين في الرجوع الى كتاب الله فهم أيضا مقصرون في قصورهم تشملهم على أقل

__________________

(١). الشك المريب ما يجعل الإنسان في ريب بما فيه من مشكك في ظاهر الحجة كآيات توراتية او انجيلية دخيلة او محرفة يحسبها وارث الكتاب من الوحي ، والشك غير المريب ما لا يستند الى حجة مشككة ، كشك المتجادل العارف بالحق مثل الأولين.

١٥٠

تقدير (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) إذا لم تشملهم ـ ولا سمح الله ـ (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)!

وإن العقيدة هي الصخرة الصمّاء الصلبة التي يقف عليها صاحبها ، فلا مأخذ لها إلّا قاطع البرهان دون شك مريب أو غير مريب ، ولا يزعزعها أقاويل الأولين أم من ذا من القائلين.

المسلمون الذين يعيشون الوحي الأخير : القرآن العظيم ، أولئك هم دوما من الحملة الأولين ، إذ لا تحرّف في القرآن ولا في حرف او نقطة او اعراب ام ماذا ، فقد جاءهم علم خالص وحجة بينة كافية شافية لا تدع لهم مجالا لشك مريب أم غير مريب ، ولا لأي تفرق فيما الحجة من الكتاب قاطعة لا ريب فيها ، ولو أنهم تبنّوا القرآن كأصل أصيل لزال الكثير من خلافاتهم ولكن! ...

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(١٥).

آية يتيمة عديمة النظير تأمر صاحب هذه الرسالة السامية إلى الدعوة والاستقامة كما امر ، وإلى عشرة كاملة من مناهي وأوامر هامة تتبناها الرسالة الإسلامية كأصول الدعوة : ١ ـ دعوة ٢ ـ واستقامة ٣ ـ وتركا فيها لأهوائهم ٤ ـ (وَقُلْ آمَنْتُ) ٥ ـ «و (أُمِرْتَ ..) ٦ ـ (اللهُ رَبُّنا ..) ٧ ـ (لَنا أَعْمالُنا ..) ٨ ـ (لا حُجَّةَ بَيْنَنا ..) ٩ ـ (اللهُ يَجْمَعُ ..) ١٠ ـ (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)!

وقد تشبهها آية أخرى في أصل الاستقامة إضافة إلى من تاب معه

١٥١

وتركا للبعض من هذه العشرة قضية الشركة كما أضيفت أمور أخرى لنفس القضية :

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١١ : ١١٥).

«فلذلك» : لأجل ذلك التفلك العارم بين الأمم ، والتحزبات المفرقة في شرعة وشرعة ، وكذلك في نفس كلّ شرعة رغم أن الله واحد والدين واحد والشرعة واحدة كما الرسالة ، لذلك «فادع» إلى وحدة الدين والشرعة ، وشرعتك هي الدين كله ، وهي كل شرعة من الدين قبلك ، وإنها شرعة القرآن (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١ : ٤٢) «فلذلك» يا قائد القيادة الجديدة الحازمة الحاسمة المديدة .. «فادع» إلى هذه الوحدة العريقة الرفيقة الضاربة إلى أعماق الزمن» «واستقم» في هذه الدعوة الوطيدة دون لفتة الى الأهواء المصطرعة حولك وحول دعوتك الموحدة إعلانا بجديد الايمان بقديم الدين المتين الذي شرعه الله للنبيين أجمعين.

ولأنك النبيون أجمع حيث تجمع كافة النبوات ، وأن هذه أمتهم امة واحدة ، فالمكلفون أجمع أمتك أمة واحدة (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ).

هنالك دعوة تجمع دعوات الرسالات كلها ، فاستقامة في هذه الدعوة تجمع الاستقامات كلها ، كما أن نبوتك تجمع النبوات كلها ، وشرعتك هي الدين كلّه ، وهي الشرائع كلّها!.

١٥٢

(فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) إذ هي تهري إلى هوّاة الخلافات والتحزبات المذهبية ، إلى شفا جرف الهلكات (فَلِذلِكَ فَادْعُ) : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٦ : ١٢٥) (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) (٢٢ : ٦٧) (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨ : ٨٧).

هنا يمنع شرعته عن كيان الشرك أن يقول : أنا على شرعتي وأنتم على شرائعكم إبقاء على التحزبات المذهبية ـ لا! وإنما هذه الدعوة دعوة إلى توحيد الأمم أن يتضامّوا تحت راية واحدة.

١ ـ ٢ (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ) اطلب القوامة : لزوم المنهاج القائم دون عوج وعرج ، طلبا من ربك أن يقيمك كما أمر ، ومن الأمم أن يستقيموا كما أمر ، دون مواربة ولا مسايرة ولا أنصاف حلول ، ومن استقامتك (أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠ : ١٠٥) (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) (٣٠ : ٤٣) ف (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٨١ : ٢٨) حيث الاستقامة في هذه الدعوة والداعية والمدعوة ، إنها كيانها وقوامها ، دون أن يحرفها حارف أو يجرفها جارف (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) :

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٤٦ : ١٣) (.. تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي

١٥٣

الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ. وَمَنْ (١) أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٤١ : ٣٣).

لقد أمرت الأمم قبلئذ (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) فلم يأتمروا إلّا قليلا ، ثم الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمر أخيرا أن يحقق هذا الأمر (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) ومن ثم (وَمَنْ تابَ مَعَكَ) فقد حمّل هو ومن معه تحقيق هذه الرسالة الموحّدة وقد حقق كما حمّل في دعوته الصارمة ، وعلى الذين معه حمل هذه الرسالة حتى يحققوها كما وسوف تتحقق في الدولة المباركة المهدوية عليه آلاف التحية والسلام.

ولقد كانت هذه الرسالة الجمة الهامة حملا عليه ثقيلا لحد «قال : شمروا فما رؤي ضاحكا» (١) وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «شيبتني هود وأخواتها» والشورى كبيرة أخواتها حيث تخصه آيتها بالاستقامة إذ قيل له (صلى الله عليه وآله وسلم) : لم ذلك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! فقال : لأن فيها (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ)(٢) ولم يذكر ومن تاب معك وإنما (كَما أُمِرْتَ) فهي في الشورى أعلى منها في هود ، ولن تطيق الأمة الإسلامية تحقيق الاستقامة التي امر بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلّا على حدها ، لأنها الخروج من كافة المعهودات ، والقيام بين يدي الحق على حقيقة الصدق المطلق لتحقيق كافة الرسالات ولبّها في العالمين.

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٣٥١ ـ اخرج ابن أبي حاتم وابو الشيخ عن الحسن (رضي الله عليه) في قوله تعالى (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) قال. شمّروا .. أقول : فإذا هو شمر بعد نزول هذه الآية المشتركة بينه وبين من معه فما كانت إذا حالته لمّا نزلت آية الاستقامة الخاصة به (صلى الله عليه وآله وسلم)!.

(٢) تفسير روح البيان للحقي ج ٨ ص ٢٩٩.

١٥٤

الدخول في أمر الله ـ لا سيما إذا كانت الرسالة العليا ـ هو طبعا صعب ، ولكنما الاستقامة فيه أصعب فإنه التمكن في المأمور به لحد يصبح المأمور راسخا فيما امر به غير محتمل الزوال ولا الخمول ، وحتى يصبح هو هو الأمر والاستقامة في الأمر كما أمر ، وقد روي «ما نزلت آية كانت أشق على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الآية» (١) حيث تحمل إثباتات ونفيا : ٣ ـ (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) وإنما هوى واحدة هي هدى الله : (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (٦ : ٥٦) (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٢ : ١٢٠) (.. إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٢ : ١٤٥) (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) (٢٣ : ١٧١).

٤ ـ (وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) دون فرق في هذا الإيمان وإنما في التطبيق ، حيث الكتاب الأخير يحتل دور التطبيق فلا يبقى بما أنزل قبله إلّا إيمان وتصديق ، ردا لإيمان العالمين كلهم إلى أصل واحد ، وردا على المفرقين بين الله ورسله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٤ : ١٥٣).

فالرسول يؤمن هكذا إيمان ، ويأمر الأمم أن يؤمنوا هكذا إيمان : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ..) (٢ : ٢٨٥) (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما

__________________

(١) تفسير بيان السعادة ج ٢ ص ٣٤٢.

١٥٥

أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (٢ : ١٢٨).

٥ ـ (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) «لأعدل» تعني كلا العدل والعدل ، فقد أمرت لاجعلكم عدل بعض في هذه الدعوة الموحدة ، كأسنان مشط على سواء ، دونما ترجيح لجماعة على آخرين ، وكذلك أن اعدل بينكم بحكم عدل.

ف «بينكم» حيث توحي إلى بينونات في هذه الأمم ، يؤمر الرسول أن يدعو عدلا ويحكم عدلا لكي يزيل هذه البينونات فيجعلهم امة واحدة ، فيا لها من دعوة عادلة عاقلة لا تتبنى عنصرية أو قومية أو طائفية أو إقليمية أم ماذا ، اللهم إلّا (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) (٢ : ١٣٨).

إنها تسوية بين كتب الله إيمانا ، وتسوية بين عباد الله دعوة إلى هذا الإيمان.

٦ ـ (اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) لا أرباب متفرقون لكي نتفرق هنا وهناك وإنما هي إعلام عام بربوبية واحدة فعبودية واحدة ، فنحن كلنا كعبيد سواء في هذه الربوبية الواحدة : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٣ : ٦٤) .. وبعد إعلان الربوبية الواحدة تعلن فردية التبعة :

٧ ـ (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لا ينفعنا صالح أعمالكم ولا

١٥٦

يضرنا طالح أعمالكم ، وكما لا تنفعكم أو تضركم أعمالنا ، فليست هذه الدعوة الموحدة لنا تجارة أو لكم خسارة ، وإنما (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٢٨ : ٥٥).

إنها ليست دعوة استثمارية لصالح هذه الشرعة الأخيرة أو رسولها والمتشرعين لها ، وإنما هي بسط الرحمة الإلهية و (ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) (٣٦ : ١١٣) ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (٦ : ٥٢).

٨ ـ (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) وترى وما هي الحجة المنفية في هذا البين؟ وهذه كلها حجج إلهية على هؤلاء الانعزاليين!

أقول : إنها قد تعني بعد هذه الحجج الموحّدة للدين ، التي سلفت ، حيث أزالت البينونات ، فلم تبق حجة لازمة لإزالة البين إلّا بيّنت ف (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) .. أم وتعني حجة ـ بعد ذلك ـ تبيّن وتفرق .. فبأية حجة نتفرق أيادي سبا إلى مسلمين وهود ونصارى ، فقد استجيبت الحجة الموحدة لمن استسلم لله وأسلم وجهه لله ، فلم تبق ـ إذا ـ حجة إلّا داحضة : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ ..) ف (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) تنفي الحجة الحقة ، سواء المثبتة لهذه الوحدة وقد تمت ، أو المفرقة فليست اللهم إلّا داحضة! أم ولا حجة بيننا وبينكم تثبت رجاحة شرعة على شرعة حيث الكل شرائع الله من دين واحد لله ، أم ولا خصوم بيننا وبينكم ، ولماذا نتخاصم والوحدة لائحة ، اللهم إلّا أن يخاصم داعي الوحدة الدينية دعاة التفرقة.

٩ ـ (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) وبينكم إله واحد يجمعنا بجمع واحد في صعيد واحد بحساب واحد ، (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ

١٥٧

الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (٣٤ : ٢٦) (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (٤٥ : ٢٦) (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) (٦٤ : ٩) وكما «الله ـ هناك ـ يجمع بيننا وبينكم» إنه ربنا جميعا ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ). إنه يجمع بيننا وبينكم ليوم الجمع التغابن كما جمع بيننا وبينكم هنا ليوم الفرق والتعاون ، جمعا في دينه وشرعته ، وسوف يفتح بيننا فيما كنا فيه مختلفين وهو الفتاح العليم.

١٠ ـ (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) إليه وحده لا شريك له ، لا إلى ارباب متفرقين ، ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) شرعة واحدة ـ سير واحدة ـ إله واحد ومصير واحد ففيم إذا نتباغض ونتعارض؟

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)(١٦).

الحجة هي الدليل القاصد لإثبات أمر أو إبطاله ، والمحاجة هي تبادل الحجة وتضاربها ، فقد تكون حقا بالتي هي أحسن عن علم وحلم ، أو تكون باطلا فيما ليس لهم به علم : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) (٣ : ٦٦).

والمحاجة في الله قد تكون في كونه أو توحيده وكيانه ، أو وحيه وشرعته : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) (٢ : ١٣٩) (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (٣ : ٢٠).

هنا توحي (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) أن المحاجة كانت في شرعة الله الأخيرة ، واعتبرت الاستجابة الصادقة له حجة قاطعة لا مرد لها ولا حاجة

١٥٨

معها إلى حجة أخرى ، لا مثبتة حيث ثبتت بالاستجابة ، ولا نافية فإنها عند ربهم داحضة.

وترى أن استجابة جماعة لشرعة هي برهان أنها إلهية؟ فلتكن كل شرعة حقة وإلهية! أم لهذه الاستجابة شروط ومقومات ، فما هي مقوماتها حيث كانت في الشرعة الأخيرة فلا محاجة ـ إذا ـ إلّا وهي داحضة؟!.

ولأن الدحض هو الزلق ، فالحجة الداحضة هي الزالقة ، الضعيفة غير الثابتة ولا متماسكة ، الواطئ الذي تضعف قدمه فيزلق عن مستوى الأرض ولا يستمر على الوطء ، وداحضة بمعنى مدحوضة بنفسها أنها تدحض نفسها بنفسها لضعف سنادها ووهاء عمادها ، فهي هي المبطلة لنفسها من غير مبطل غيرها ، لظهور أعلام الكذب فيها وقيام شواهد التهافت عليها ، وإنما اطلق تعالى اسم الحجة عليها وهي شبهة واهية لاعتقاد المدلي بها أنها حجة ، وتسميته لها بذلك في حال النزاع والمناقلة حيث يوردها موردها مورد الحجة ، ويسلكها طريقها ويقيمها مقامها.

حجج داحضة :

من حجج اليهود والنصارى أن التوراة أو الإنجيل متفق عليه بينهم وبين الذين أسلموا ، والقرآن مختلف فيه ، فليأت المسلمون لوحي القرآن ببرهان دوننا حيث الاستجابة للتوراة والإنجيل تجمعنا دون القرآن.

فيقال لهم : إن هذه الحجة داحضة : باطلة زائلة في ميزان الحق لا تستحق إلفات نظر ، نسألهم أولا ما هي ماهية الاتفاق بيننا وبينكم في الكتابين؟ ألأننا كلنا نؤمن بآله واحد ، فاستجابتكم لكتاب سابق من الله بآيات صدقه وبينات رسوله تحملنا على تصديقه ، فعليكم كذلك تصديق القرآن لاستجابتنا له بآيات كمثلها أو هي أحرى وأهدى سبيلا ، إذا فحجتهم داحضة!

١٥٩

أم لأن القرآن المستجاب لنا ببينات صدقه القاطعة يحملنا على تصديق الكتابين دون حجة أخرى ، حيث الحجة المصدقة لهما ليست فيهما ، فإنها منفصلة عنها وهي معجزات موسى وعيسى حيث تحمل من شاهدها بتصديق كتابيهما ، إذا فاستجابة حجة القرآن هي التي تحملنا على تصديق الكتابين فكيف تنقلب حجة علينا تتطلب حجة أخرى بعد المتفق عليها ولا حجة لنا إلّا هيه ، إذا فحجتهم داحضة.

ثم القرآن لا يحملنا إلّا على تصديق الكتابين المبشرين به وبنبيّه : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً .. فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٧ : ١٥٨) ، (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢ : ١٤٦) (.. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦ : ١٢)!.

إذا فلا نشارككم في تصديق الكتابين دون شروط ، إنما نصدق الذي بشّر بنبينا وبكتابه ، إذا فحجتهم داحضة (١).

ثم الذي يستندون إليه في استجابتهم لتورات او إنجيل ليس إلّا معجزات من الرسولين شهدها من حضرها دونهم ، وإنما استجابوهم دون حجة حاضرة ، وإنما لحسن الظن بأسلافهم ، والكتابان محرفان لا حجة فيهما وحتى قبل التحرّف إذ لا معجزة فيهما ، فهذه إذا استجابة فاشلة ، ولكنما المسلمون يستجيبون دعوة القرآن لأنه معجزة بنفسه وهو أوضح

__________________

(١) وفي حوار بين الإمام الرضا (عليه السلام) وجاثليق عظيم النصارى ....».

١٦٠