الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٢

الفوضى التي يزعمها الفوضويون ، حتى أن لو ظن كافر خير الجنة دخلها ، أو ظن مؤمن شر النار وردها ، فإنما المعني من هذه وتلك وجوب حسن الظن بالله في ميزان الله ، دون ما أهمتهم أنفسهم فيظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية! ف «لا يموتن أحدكم إلّا وهو يحسن الظن بالله فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله عز وجل قال الله عز وجل : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(١).

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ)(٢٤).

وويلاه ، ويا للسخرية المرهفة ، حيث الصبر الآن صبر على النار

__________________

ـ بن الحجاج قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) حديث يرويه الناس فيمن يؤمر به آخر الناس الى النار فقال لي : اما انه ليس كما يقولون قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان آخر عبد يؤمر به الى النار ، فإذا امر به التفت فيقول الجبار جل جلاله ردوه فيردونه فيقول له : لم التفت اليّ؟ فيقول يا رب لم يكن ظني بك هذا فيقول وما كان ظنك بي فيقول كان ظني بك ان تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنتك قال فيقول الجبار يا ملائكتي لا وعزتي وجلالي وآلائي وعلوي وارتفاع مكاني ، ما ظن بي عبدي هذا ساعة من خير قط ولو ظن بي ساعة من خير ما ودعته بالنار أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنة ثم قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس من عبد يظن بالله عز وجل خيرا الا كان عند ظنه به وذلك قوله عز وجل (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أقول : هذا الحديث مطروح من جهات عدة أو مؤول فان مجرد حسن الظن ولو في غير محله فضلا عن كونه كذبا وفي الآخرة ، هذا لو أوجب دخول الجنة لم يبق احد للنار فان مجال الكذب واسع لكل اصحاب النار!.

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٦٢ ـ اخرج احمد والطبراني وعبد بن حميد ومسلم وابو داود وابن ماجة وابن حبان وابن مردويه عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

٦١

(فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) وليس الصبر الذي يعقبه الفرج حتى يبدّل مرّه حلوا لآجل الفرج ، وإنما هو النار المثوى القرار ولات حين فرار! ليس لهم إلّا الصبر على النار فإنه مثواهم المأوى ومستقرهم في الأخرى بما قدموها ، وان يستعتبوا ـ طلب العتبى والرضا ـ فما هم بمرضيين ، والإعتاب هو استصلاح الجلد بإعادته في الدّباغ ، وهؤلاء لم يبق لهم مجال الاستصلاح حيث تردّوا بكاملهم إلى الفساد فلا مثوى لهم إلّا النار (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) (٥٢ : ١٦).

ومعنى ثان للعتبى هو العتاب الشديد ، فإن طلبوا عتباهم فلا يعتبون ، كناية عن غاية ترذّلهم لحد لا يخاطبون حتى خطاب العتاب (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) (٣٠ : ٥٧) وقد جرت العادة أن الذي يطلب العتاب يطلبه كذريعة لما يرجوه من الصفح والرضا تغاضيا عن الأسباب ، فاليوم يغلق باب العتاب متابا وعتابا.

فالاعتباء يعني كلا السلب والإيجاب ، العتبى وإزالة العتاب ، كما الإطاقة هي سلب الطاقة ، فان يستعتبوا طلب سلب العتاب بعتبى الاستصلاح فما هم بمعتبين ، وإن يستعتبوا إيجاب العتاب التنديد فما هم بمعتبين! (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) جزع الصراخ أم طلب الإصلاح ، أم طلب العتاب ، فقد سدل الستار وأغلقت الأبواب وتمت كلمة ربك بتمام العذاب!

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ)(٢٥).

ولأنهم عشوا عن ذكر الرحمن فعاشوا عشو الشيطان (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ

٦٢

ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٤٣ : ٣٦) لذلك (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ..) (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) (١٩ : ٨٣).

فالتقييض هو الإرسال ، فكما الله يرسل للمؤمنين مؤيدين لاكتمال الإيمان ثوابا وفاقا ، كذلك يرسل للكافرين مؤيدين عقابا وفاقا ، أم ليس التقييض ـ فقط ـ الإرسال وإلّا جيء بصيغته الشهيرة «أرسلنا» كما في آيته الأخرى ، بل هو الإرسال التبديل ، أن بدلناهم عن الهداة التّقاة بغاة طغاة ، إذ بدلوا نعمة الله كفرا و (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) فلما بدّلوا دعوة الهدى إلى الردى (قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) ليواصلوا في الردى (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ، (فَزَيَّنُوا لَهُمْ) ثانيا بزيادة ، ما تزين لهم أنفسهم بما ظلموا وتعاموا وعشوا (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من شهواتهم الحاضرة ودنياهم المستقبلة ويوم القيامة (وَما خَلْفَهُمْ) ما خلفوها وجعلوها سنة أم فعلة عابرة غابرة ، ومن سنن الغابرين أمثالهم ، فعند ذلك تمادوا في العصيان وتعاموا في الطغيان.

ومن تزيين دنياهم بين أيديهم وخلفهم أنهم يصورونها بمكائد وأكاذيب صورة المطلوب والغاية القصوى من الحياة : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا ..) ومن تزيين عقباهم الأولى تشجيعهم على جبران ما فات منها ، عرضا للمستقبل أعرض مما مضى ، ومن تزيين عقباهم الأخرى ، تزيين نكرانها ، أم وعلى قبولها لمن ليس لينكرها ، تزيين حسابها هينا لا يعتد به ، أم غفرانا للمجرمين قضية الرحمة الواسعة الفوضى جزاف ، أم و (أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) أماذا من تحريف للآخرة وحسابها ، وتجديف فيها وتجريف لها يخرجها عما يحمل على التقوى ويذر على الطغوى فهذه هي المهلكة العظمى والمصيبة الكبرى والمنحدر الذي ينتهي الى كل بوار (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) وهم من «الأخسرين (أَعْمالاً الَّذِينَ

٦٣

ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) و (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).

لذلك (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) كلمة العذاب (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٨ : ٨٥).

(فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِهِمْ) فإن أصحاب الجنة يتواردون ردف بعض تلوا ، لا دفعة واحدة (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قضية اشتراك التكليف فاشتراكا في عقاب أو ثواب (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ

٦٤

تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ

٦٥

يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٩)

٦٦

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)(٢٦).

علّها من قيلة القرناء المقيّض لهم ، يزينون لهم كفرهم بمزيد هو اللغو في القرآن ، بعد أن كانوا به كافرين ، ولكي يغلبوا على دعوة القرآن ودعايته الجذابة الجلابة ، كيلا يقعوا ـ هم ـ او من سواهم ـ على حد زعمهم : في فخ القرآن ، ولا يصطادوا بصيده.

فالذين يكفرون بالقرآن يقتسمون إلى ثالوث النكران! ١ ـ نكرانا في أوّل مرة وقد يؤول إلى إيمان على ضوء سماع له أو استماعه وتسمّعه ، ٢ ـ ونكرانا عريقا بما سوّلت لهم أنفسهم وسول لهم الشيطان ثم يبعدون عنه فلا له ولا عليه ، ٣ ـ ومن ثم نكرانا يعني غلبهم على القرآن بمحاولات كلغو فيه أماذا من دوائر السوء ، يتربصونها بدعوة القرآن وليس إلّا عليهم (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فلا «تغلبون» ولا عوان بين ذلك ، بل «تغلبون»! (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) لقرنائهم الكافرين ولمّا يصلوا ما وصلوا من عمقهم في كفرهم وحمقهم ، قالوا كلمتين اثنتين لهما تأثيرهما ردف بعض :! (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) فإنه يسحركم فيحملكم دونما اختيار إلى الإيمان ، علما منهم أنه يأخذ بازمة القلوب فيحركها إلى المطلوب.

ولماذا (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) والسمع متعد بنفسه ، والقرآن كتاب واحد لا يحتاج في شخصه وتشخيصه إلى اشارة التعريف؟

القرآن ـ في وجه عام ـ يشمل كل مقروّ وحيا وسواه (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) (٣٤ : ٣١) فالذي بين يديه قرآن غير هذا وحيا (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ ..). (١٠ : ١٥) «غير هذا» وحيا يختلف عنه «أو بدله» من عند نفسك تحويرا عن وحيه (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ

٦٧

أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(١٥).

فهذا القرآن بين قرائين الوحي وسواها هو الذي لا تسمعوا له.

وأما «لهذا» دون الى هذا؟ فلأن سماع القرآن قد يعني الهزء به واللغو فيه والرد عليه ، وأما السماع له فهو سماع خاص لصالح الهدف الذي يرام ، تدبرا فيه وتفكرا يحويه ، فالسماع له ممنوع ، وسماعه بين ممنوح وممنوع ، ومن الممنوح المفروض (وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) كلمة ثانية للذين كفروا.

فهنالك غلب بحجة تدحض حجة القرآن ولسنا عليها بقادرين ، فتحوّلا إلى لغو فيه كيلا يسمعه السامعون ، فكما أنتم لا تسمعون له ، اختلقوا جو اللّااستماع له (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) حجته بعدم بلوغها للناس ، ثم افتراءات عليه أنه سحر أو شعر أماذا من مبعّد عنه وهنالك الغلبة التامة.

وإنها كلمة مضللة وقالة قاحلة جاهلة من الكبراء القرناء المقيّض لهم ، يغرون بها الجماهير بعد ما عجزوا عن مغالبته بحجة «لا تسمعوا .. والغوا» سلب ثم إيجاب يتضمنان اجتثاث حجة القرآن ، مفاصلة بينهما وبين الإنس والجان وسائر المكلفين.

وإنها مهاترة ومكابرة عجزا عن المواجهة بالحجة ، والمقارعة ، عند الطغاة المستكبرين على الإيمان ، توسلا بكل الوسائل ، وتربصا بكل الدوائر (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)!

«هيهات هيهات لما يوعدون»! واللغو هو ما لا يعتد به من فعال او مقال ، ومن قيله صوت العصافير في مقياسنا إذ لا نفهمه ، ولكنه ليس لغوا بينها فانه محادثة وذكر لا نفهمها ، فاللاغي منا ـ على فهمه ـ هو ألغى من العصافير على حيونتها.

٦٨

ولغو الفعل والكلام قد يكون لإجماله كأن كان مفردا دون جملة ، كمفردات الكلام ، ولذلك سميت لغة ، وقد يكون في جملته إجمالا لأنه لغة خلاف ما نعرفها من لغة كلغو العصافير أماذا من لغات حيوانية أم انسانية لا نعرفها ، وثالثة هو لغو بقول مطلق ، لا يعني أيّ معنى صالح في أية لغة ، ثم هو يلحد في لغة صالحة كاللغو في القرآن.

فمن اللغو في القرآن تحريفه بزيادة او نقصان ، فتجريفه الى منجرفات الكتب التي بين يديه ، الى شفا جرف هار منهار ، ولكنهم عن بكرة أبيهم حاولوا ولم يفعلوا ولن ... حيث القرآن في ضمان دائب من الرحمان الرحيم.

ومنه نقضة بنقصة لغويا أو معنويا ام أي خلاف للحق او اختلاف (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٤ : ٨٢).

ومن اللغو فيه إلهاء الناس عن السماع له بقصص خرافية أماهيه ، ملهية عن سماع القرآن لمّا يقرء ، واللغو بالهرج والصياح والنياح ، وبالرجزات والسجعات ، وقد فعلوا كل ذلك وافتعلوا ولكنها ذهبت كالتي قبلها إدراج الرياح ، وغلب القرآن وغلب هنالك المبطلون! ... ثم لا جواب عن تهددهم هذا إلّا بما يلقون ـ جزاء ما يلغون ـ يوم القيامة ، حيث الجواب هنا تبابهم عما كانوا يهوون :

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢٧) قد يعني ذوق العذاب أولا وجاه وقبل الجزاء ، أسوء الذي كانوا يعملون ، ذوقه في الدنيا قليلا ، ثم في البرزخ وسطا ، ومن ثم الجزاء الأوفى يوم الجزاء ، وسرعان ما شهدنا حنقهم يوم الدنيا أن رجعوا عن

٦٩

لغوهم في هذا القرآن خاسرين مهانين ، ومن ثم البرزخ والقيامة الكبرى فإن فيها نفس الجزاء بعد ذوقه.

و (الَّذِينَ كَفَرُوا) تعم الكبراء الأتباع ، و (أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) هو اللغو في القرآن وأضرابه من بالغ الكفر والتكذيب بآيات الله ، والجزاء هنا هو الأسوء نفسه ، إذ ليس جزاء بأسوء ، مما يتهدّدهم أن لغوهم في القرآن يبرز يوم القيامة بملكوته جزاء ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهي من الآيات القائلة أن الجزاء هو العمل والعمل هو الجزاء ، فليس هنالك انتقام وانتصار ، بل هو ظهور ما كان خفيا (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).

(ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)(٢٨).

«ذلك» البعيد المدى (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) وهو «النار» (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) قدر ما أخلدوا إلى عداء الله «جزاء» وفاقا بما كانوا يكسبون.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)(٢٩).

(الَّذِينَ كَفَرُوا) هنا هم التابعون و (الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) هم القرناء المتبوعون ، يطلب الأولون ربهم أن يريهم الآخرين ليذلوهم ويسفلوهم.

وهل (الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) هما شخصان اثنان ، إبليس الجن وقابيل الإنس (١)؟ وليس قابيل مضلا لكلّ الكافرين مهما كان بادئ

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٦٣ ـ اخرج عبد الرزاق والفرياني وسعيد بن منصور وعبد بن حميد ـ

٧٠

الإضلال من الإنس ، فهنالك في تاريخ الإنسان من هو أشر منه وأطغى! وليس المضل من الجن هو شخص إبليس مهما كان يرأس المضلين! إذا فهما النموذجان الأولان للإضلال ومن ثم الآخرون في كل زمان ومكان ، و «اللذان» تثنية الجمع لا المفرد.

وإنه تطلّب بخنق عنيف تحرّقا على الانتقام ، أترى إنهم المجابون في طلبتهم هذه؟ علّه نعم لأن المضلّل هو أسفل من المضلّل وقد ظلمه فليكن تحت قدمه ، وقد يجاوبه اللّاجواب! .. وعلّه لا إذ لا إجابة لدعاء الكافر وهو في النار (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١٣ : ١٤)! وليس كل مضلّل أسفل من مضلّله ولا أظلم منه وأطغى! : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) (٧ : ٣٨) وعلّهم حيث أضلوا غيرهم كما ضلوا بغيرهم فهم ومضللوهم في الضعف سواء!

وقد يكون الانظلام أظلم من الظلم! ثم الله هو الذي يجعل الأسفل من الأسفلين والسافل من السافلين عدلا وجزاء وفاقا ، أفيطلب بعدله يوم عدله؟! وفي جعلهما تحت أقدامهم حظوة ونعيم للتابعين وليست النار دار النعيم!

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ

__________________

ـ وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وابن عساكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه انه سئل عن قوله (رَبَّنا أَرِنَا ..) قال : هو ابن آدم الذي قتل أخاه وإبليس.

٧١

الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)(٣٢) (١).

آية الاستقامة في فصّلت فصّلت ثانيتها المجملة في الأحقاف ، ثم ليست سواهما في سائر القرآن إلّا (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٨١ : ٦) (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٤٢ : ١٥) (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) (٤١ : ٦).

في الأحقاف تبشر بسلب الخوف والحزن وإثبات الجنة (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣) وهنا يحمل الملائكة تنزلا عليهم هذه البشارة بولاية لهم دائبة في الدنيا والآخرة ، وما ألذّها بشارة وحيا من الله ثم إلهاما يحمله ملائكة الله!

وترى ما هي الحاجة إلى بشارة الملائكة وولايتهم بعد الله في الدنيا والآخرة؟ علّها لتكملة المقابلة بينهم وبين الكافرين ، فأولاء لهم قرناء من الشياطين وهم أوليائهم بعد الشيطان الأول ، وهؤلاء لهم قرناء من الملائكة يبشرونهم وهم أولياء لهم بعد الله وبأمره في الدنيا والآخرة ، تشريفا لهم وليس بحساب الحاجة.

«.. وقد قلتم ربنا الله فاستقيموا على كتابه وعلى منهاج أمره وعلى الطريقة الصالحة من عبادته ، ثم لا تمرقوا منها ، ولا تبتد عوافيها ، ولا تخالفوا عنها ، فإن أهل المروق منقطع بهم يوم القيامة» (٢) و «قد قالها

__________________

(١) فصلنا بحث الاستقامة في الفرقان ٢٦ : ٢٥ ـ ٢٧ فراجع ولا نعيده هنا.

(٢) في نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام) واني متكلم بعدة الله وحجته قال الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ...) وقد قلتم ..

٧٢

ناس من الناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فهو ممن استقام عليها» (١) ومادة الاستقامة تختصر بل وتحتصر في «فرائض الله» (٢) أصلية كولاية الله والرسول وخلفائه (عليهم السلام) (٣) وحقيقة المعاد ، وفرعية كسائر الفروع المفروضة على العباد.

فالاستقامة في قول (رَبُّنَا اللهُ) هي استقامة في العمق بكافة متطلباتها ، واستقامة في طول الحياة وعرضها في معارضها كلها ، استقامة على الطريقة الصالحة إليه علما وإيمانا وعملا صالحا ، والاستقامة عليها شعورا في الضمير وسلوكا في الحياة وصبرا على تكاليفها ، والأشلاء والدماء في سبيلها ، والحرمانات وترك الشهوات والنفسيات في جادتها بصورة قاطعة جادّة.

أترى المستقيمين ـ كلهم ـ تتنزل عليهم الملائكة ببشراهم؟ فمن رأى منهم الملائكة وسمعهم؟! اللهم إلّا من حذى حذو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم ونحى نحوه ، وهم الأئمة الاثنى عشر (عليهم

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٢٦٣ ـ اخرج الترمذي والنسائي والبزاز وابو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عدي وابن مردوية قال قرأ علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال : قد قالها ..

(٢) الدر المنثور ٥ : ٢٦٣ ـ اخرج ابن مردوية من طريق الثوري عن بعض أصحابه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال : على فرائض الله.

(٣) نور الثقلين ٤ : ٥٤٧ ح ٤٣ في تفسير اهل البيت (عليهم السلام) عن أبي بصير قال قلت لابي جعفر (عليه السلام) قول الله (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال : هي والله ما أنتم عليه.

٧٣

السلام) إذ كانوا يرونهم ويسمعونهم (١) ، ولكنما الآية تعم المستقيمين كلهم ، أو أن بشرى الملائكة بوجه عام هي عند موتهم ، مهما بشروا الخصوص منهم قبل موتهم؟ (٢) والظاهر من «تتنزل ..» هو تنزلهم عليهم منذ استقاموا

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٤٥ ح ٣٦ في بصائر الدرجات بسند قال دخل حمران بن أعين على أبي جعفر (عليه السلام) فقال له جعلت فداك يبلغنا ان الملائكة تنزل عليكم؟ قال : اي والله لتنزل علينا فتطأ فرشنا اما تقرأ كتاب الله تبارك وتعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ..)؟ وفي ح ٤٤ عن الخرائج والجرائح باسناده الى أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية فقال : اما والله لربما وسدناهم الوسائد في منزلنا ، قيل له : الملائكة تظهر لكم؟ فقال : هم الطف بصبياننا منا بهم وضرب بيده الى سور في البيت فقال : والله لطالما اتكئت عليها الملائكة وربما التقطنا من زغبها.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٥٤٧ ح ٤٥ القمي في الآية (ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال : على ولاية امير المؤمنين (عليه السلام) (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) قال : عند الموت (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قال : كنا نحرسكم من الشياطين (وَفِي الْآخِرَةِ) اي : عند الموت .. وفي تفسير الامام الحسن العسكري (عليه السلام) عند قوله تعالى (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) من البقرة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة ولا يتيقن الوصول الى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له وذلك ان ملك الموت يرد على المؤمن وهو في شدة علته وعظيم ضيق صدره بما يخلفه من أمواله وبما هو عليه من اضطراب أحواله من معامليه وعياله قد بقيت في نفسه حسراتها واقتطع دون أمانيه فلم ينلها فيقول له ملك الموت مالك تجرع غصصك؟ قال : لاضطراب احوالي واقتطاعك لي دون آمالي ، فيقول له ملك الموت وهل يحزن عاقل من فقد درهم زائف واعتياض الف الف ضعف الدنيا؟ فيقول : لا ـ فيقول ملك الموت فانظر فوقك فينظر فيرى درجات الجنان وقصورها التي يقصر دونها الاماني فيقول ملك الموت : تلك منازلك ونعمك وأموالك وأهلك وعيالك ومن كان من أهلك هاهنا وذريتك صالحا فهم هنالك معك أفترضى بهم بدلا مما هاهنا فيقول بلى والله ثم يقول انظر فينظر فيرى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليا (عليه السلام) والطيبين من آلهما في أعلى عليين فيقول او تراهم هؤلاء ـ

٧٤

ليطمئنوهم على استقامتهم فيزدادوا قوامة على قوامة ، ثم (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) لا تفيدهم بشارة إلّا أن تكون قولة في الحياة الدنيا كما (وَفِي الْآخِرَةِ) لتكون زادهم في مسيرهم الشاق الطويل ، فلا يخافوا مستقبلهم الأخرى ، ولا يحزنوا على ما فاتهم في الأولى! أم إن بشارة الملائكة درجات بمختلف التنزلات كما استقامة المؤمنين درجات ، فقد يرونهم ويسمعونهم كالرعيل الأعلى وهم الأئمة الهداة ، أو يسمعونهم ولا يرونهم كمن حذى حذوهم من المخلصين ، أو يلهمون دون سماع ورؤية كالمؤمنين المتوسطين ، فمهما كان تنزلهم عند موتهم برؤية وسماع ، فلكلّ في حياته منزل من الملائكة حسب قابلياته ، فليس مثل ابن عباس ـ على مكانته ـ ممن يتنزل عليهم الملائكة نزولهم على العترة الطاهرة (١) مهما شملته البشارة الملائكية بين من استقاموا ، وما أظنه تشمله وقد تنحى عن نصرة الإمام المعصوم سيد الشهداء عليه آلاف التحية والثناء.

__________________

ـ ساداتك وأئمتك هم هناك جلاسك وأناسك أفما ترضى بهم بدلا من تفارق هنا؟ فيقول. بلى وربي فذلك ما قال الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) فما إمامكم من الأحوال فقد كفيتموها ولا تحزنوا على ما تخلفونه من الذراري والعيال فهذا الذي شاهدتموه في الجنان بدل منهم وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون وهذه منازلكم وهؤلاء ساداتكم اناسكم وجلاسكم».

(١) المصدر ٥٤٦ ح ٣٨ اصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال : بينا أبي جالس وعنده نفر إذ استضحك حتى اغرورقت عيناه دموعا ثم قال : هل تدرون ما اضحكني؟ قال : فقالوا : لا ـ قال : زعم ابن عباس انه من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فقلت له : هل رأيت الملائكة يا بن عباس تخبرك بولايتها لك في الدنيا والآخرة من الأمن من الخوف والحزن؟ قال فقال : ان الله تبارك وتعالى يقول (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وقد دخل في هذا جميع الامة فاستضحكت ثم قلت : صدقت يا بن عباس ... أقول : لعل تصديقه (عليه السلام) قول ابن عباس تصديق لاصل دخوله في الآية دون رؤية الملائكة وسماعهم التي هي الدرجة العليا من تنزلهم.

٧٥

ومهما كان أجلى المصاديق لمتنزل الملائكة مكانا هم الأئمة وزمانا هو الموت ، ولكنه لا يمنع شموله كل المستقيمين منذ استقاموا حتى الموت ويوم النشور ، أياما ثلاثة يعيشونها بهذه البشارة المشرفة ، وفي الحق (رَبُّنَا اللهُ) إذا قيل بحق يحمل كلما يتوجب على العبد تجاه الله ، إذ تشمل التربيات الإلهية كلها دونما استثناء ، ولا يمكن الاستقامة في (رَبُّنَا اللهُ) اللائقة لهذه البشارة إلّا أن تعني «قالوا» قولا نابعا عن علم ، نابغا بإيمان ، فالقولة الخالية عنها خاوية لا تحمل الاستقامة فيها إلّا خواء على خواء!

ثم الاستقامة تحمل بعد قوامة العلم والإيمان استدامة العمل الصالح الذي يتبعهما ، فالقول (رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) يتبنى مثلث العلم والإيمان والعمل الصالح بمراتبها.

وهذه البشارة تحمل كلا السلب والإيجاب جزاء من ربك عطاء حسابا عن (رَبُّنَا اللهُ) فإنها (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) سلبا بسلب وإيجابا بإيجاب.

فسلبها (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) خوفا عما يأتي وحزنا على ما أتى ، وإيجابها (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ..)! (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) هي زادهم من بدئهم إلى معادهم (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٣٨) (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ١١٢) (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣ : ١٧)!

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ..).

الولاية هنا المحبة والنصرة المساندة عل ضوء ولاية الله ، فللملائكة تأثيرات جلية وخفية في الأرواح البشرية المستقيمة على (رَبُّنَا اللهُ) بإلهامات ومكاشفات في مختلف المقامات والمكانات حسب القابليات والدرجات ،

٧٦

وكما للشياطين القرناء للكافرين إلهامات لأوليائهم حسب الدركات ظلمات بعضها فوق بعض.

هذه الولاية الملائكية وتلك الشيطانية في الحياة الدنيا سوف تبقى في الآخرة أظهر وأقوى ، حيث التعلقات الحائلة هناك زائلة ، فالولاية في بروزها وتأثيرها تظل دون غطاء ووطاء نائلة.

(.. فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ)(٣١).

لكم فيها ما تشتهون ولكم ما تطلبون ، جمعا بين ما تسرون من طلباتكم وما تعلنون.

(نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)(٣٢) فكما قدمتم لله في حياتكم الدنيا مرضات الرب كلها ، كذلك الغفور الرحيم يجيب إلى طلباتكم كما تشتهون وتدعون في الحياة الأخرى.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(٣٣).

علّ الواو قبل «عمل وقال» للحال فتعني حال أنه عمل صالحا وقال إنني من المسلمين ، فمن أحسن قولا منه؟ ف (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) هم القائلون (إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ولمّا «استقاموا» فهم ممن (عَمِلَ صالِحاً) فلما استكملوا في تبنّي حق الإسلام لأنفسهم ، من ثمّ لهم وعليهم أن يكونوا (مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) فهو الأحسن قولا ممن سواه ، ولا أحسن منه قولا فيمن سواه.

ووجه آخر أن الواوين للعطف ، ف (عَمِلَ صالِحاً) في سبيل الدعوة إلى الله وكما أصلح به نفسه (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الحقيقيين جهارا دون

٧٧

تقية ولا ستار ، فإسلامه جاهر قولا وعملا فدعوة إلى الله ، وهذه هي الدعوة الحقة التي ما لها من فواق.

والمعنيان علّهما معنيّان ويقتضيهما أدب اللفظ وعلو المعنى ، فهناك عمل صالح وإنني من المسلمين قبل الدعوة وهما من شروط الدعوة ، ثم عمل صالح وقول في طريق الدعوة وهما زاد الدعوة في سبيلها الشاق الطويل ، وقد زوّد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من غيره من الدعاة إلى الله وأحسن ، بقول وعمل صالح قبل الدعوة ومنذ ترعرع ، ومع الدعوة حتى لاقى ربه ، فمن أحسن قولا منه.

إن كلمة الحق حينئذ أحسن كلمة تقال ، لكنها مع العمل الصالح الذي يصدقها ويصعدها ، ومع الاستسلام الذي تتوارى معه الذات والذاتيات والإنيات وجب الظهور وكل شيء ، فتصبح الدعوة خالصة لله ، ليس فيها للداعية شأن إلّا الدعوة.

والنهوض بتلك الدعوة البارعة في مواجهات التواءات النفوس البشرية واستكباراتها ، إنه أمر عظيم ، وأعظم منه الداعية الذي لا يهدف في دعوته إلّا الله ، تناسيا لنفسه ورغباته وكل شيء إلّا الله.

إنه يعارض السيآت ليزيلها ، ولا تستوي الحسنات ولا السيآت ، فقد يقتضي صالح الدعوة أن يدفع بالتي هي أحسن السيئة دون مجابهة بمثل كما يفعلها غير الصالحين :

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٣٤) (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) (٢٣ : ٩٦).

ترى ما هو موقع «ولا» بين الحسنة والسيئة؟ فهل إنها مزيدة لتأكيد

٧٨

النفي حيث الإستواء لا يكتفي بمفرد ، ولها نظائر (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) (٣٥ : ١٩) (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٣٥ : ٢٢).

أم انها للنفي ، نفيا لاستواء جنس الحسنة بأفرادها وجنس السيئة بأفرادها؟ فهو بأحرى نفيا للاستواء بين قبيل الحسنة والسيئة! ولو أن تأكيد النفي يبرر الزيادة في «لا» فلما ذا لم تزد فيما هو أولى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) (٥٩ : ٣٠) (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ)(٥ : ١٠٠) ولا سيما أن (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) كمثال واقعة بين الممثل أو مثال أولى (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) وهو أحرى بتأكيد النفي ، وعلّ الإستواء المنفي في (ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) ايضا هو بين الأحياء أنفسهم ، وبين الأموات ، ثم النفي بين الأحياء والأموات ، وبين الحسنة والسيئة هو نفي الاستواء بينهما بطريق أولى.

أم إنها لتأكيد النفي بين الحسنة والسيئة وللنفي بين مصاديق الحسنة ومصاديق السيئة؟

قولة الزيادة زيادة من القول ، والنفي ثابت إذ تقتضيه «لا» والجمع أولى فإنه أجمع وأحلى! فإذ لا تستوي الحسنة في أفرادها ، ولا السيئة في أفرادها ، فلا ينحصر دفع السيئة بسيئة أخرى ، فقد تكون سيئة تدفع بحسنة ف (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) وقد تكون سيئته لا تدفع إلّا بسيئة فلا مجال إذا لدفعها بحسنة ، فالمعاند المكذب بآيات الله ، الذي لا يرجى هداه ، ولا تصد هواه ، لا تدفع سيئته بحسنة ، بل (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٢ : ٤١).

فالعفو في موضع الإصلاح دفع للسيئة بالحسنة ودرء لها (وَيَدْرَؤُنَ

٧٩

بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) (١٣ : ٢٢ و ٢٨ : ٥٤) والعفو فيما لا يصلح بل ويفسد هو سيئة بدل كونها حسنة ، ف (لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ) في مواردها ، وكذلك السيئة التي تدفع بحسنة ، والتي تدرء بأية حسنة «لا تستوي السيئة» كذلك في مواردها ، ف (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) لا تعم مواردها ، لاختلاف السيآت ، (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) لا تعم لاختلاف الحسنات ، والسيئة التي تدفع بحسنة خير من حسنة لا تدفع سيئة بل وتزيدها ، فلأنه (لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) ف (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ما أمكن الدفع ، وإلّا ف (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)!

ثم الدفع بالتي هي أحسن ليس إلّا عن موضع القدرة ، فلئن أحس العدو موضع الضعف اخترم ولم يحترم ، ونفس الدفع يلمح إلى شريطة القدرة ، حيث العاجز لا يدفع ، لا بالتي هي أسوء ولا الأحسن ، فإنه ضعيف على أية حال ، (ادْفَعْ ... فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

هنالك دفع للسيئة وهو واقع بالتي هي أحسن وإن بقي العدو على عداءه كامنا ، وليس «انه ولي حميم» إنما (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) يندفع عن ظاهر عداءه وإيذاءه كولي حميم ، وقد يدفعه إلى مرحلة (وَلِيٌّ حَمِيمٌ) فالإصلاح درجات كما الإفساد دركات ، إذا دفعت بالأحسن ، بالفعل ينقلب الهياج والغضب إلى وداعة وسكينة ، والتّبجح إلى حياء ولينة ، وأنت ما دفعت إلّا بكلمة طيبة ، ونبرة هادئة ، وبسمة حانية أمّاهيه من التي هي أحسن حسب ما يقتضيه علاج الواقعة ، طريقة مثلي وحكمة عليا تدفع واقعة السوء بها ، وقليل هؤلاء الأعداء الذين يظلون على عدائهم وجاه تلكم الواجهة الوجيهة والخلق العظيم ، اللهم إلا عداء عريقا عميقا ممن لا يرجى ولايته وحمته على أية حال ، والهدف الرئيسي من التي هي أحسن دفع السيئة ، وإن بقيت العداء في باطنها ، ثم إزالة العداء ، ثم اجتلاب الحمة ، وأما إذا دفعت

٨٠