الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٢

وجوانح ، فلا حاجة إلى إرائتها ، وآيات أخرى غامضة يريها الله بما يبين في كتاباته وألسنة أنبيائه أم إلهامات غيبية ، وهي حالة حالية وماضية على أية حال ، فما هي الثالثة التي «سنريهم»؟ وتبين الحق في القرآن لزام كل مكلف على أية حال ، وإلّا لم تكن حجته بالغة على كل حال!

ضمير الغاب في «أنه» هو الله العزيز وكتابه العزيز ، و «آياتنا» تعم التدوينية القرآنية والتكوينية الكونية ، ولأن «في أنفسهم» تعم دواخل نفوسهم ، وإياهم فيما بينهم ، ف «في الآفاق» تعم خوارج نفوسهم ، والخارج عما بينهم ، ف «نفوسهم» تخص الدواخل ، «وأنفسهم» تعمها وما بينهم.

صحيح أن بصر العين وبصيرة العقل والفطرة كافية لتبنّي أصل الإيمان بالله وكتابه ، ثم الإرائه الإلهية تزيد إيمانا على إيمان : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) وهدى على هدى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) إلا أن لكل مستقبل من الزمن إشراقة تبيّن وإرائة فوق إرائة ، هي من عوامل تبيّن الحق في زاوية ثالثة للذين اهتدوا ، ومن الأسباب القاطعة القاصعة لتبيّنه للذين جحدوا بها ، كالأخبار المستقبلة ، فوقوعها كما أخبر عنها إراءة مستقبلة ، وكالتقدمات العقلية والعلمية الناصعة التي ترى عيانا ما لم يكن يرى من ذي قبل إلّا بعين البصيرة ف «إن للقرآن آيات متشابهات يفسرها الزمن».

فالتقدمات العقلية والعلمية هي من الآيات الأنفسية الأولى ، فآفاقيتها هي الكشوف العلمية التي تكشف ـ دوما ـ النقاب عن وجه كتاب التكوين حيث تجاوب كتاب التدوين.

والانتصارات الإسلامية هي من الأنفسية الثانية كفتح مكة وغلب الروم الكتابيين على المشركين : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ

١٠١

بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ) وقد حصل ، أماذا من غلبات وانتصارات وسواها من ملاحم أخبر عنها القرآن (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(١).

والانهزامات لغير المسلمين هي من الآفاقية الثانية لهم ، وقد يجمعها خير جمع وأفضله: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ..) (٢٤ : ٥٥) حيث يعز أولياءه ويذل أعداءه ، آفاق فائقة للذين آمنوا ، بائقة للذين كفروا.

فالمسلمون وسواهم من الناظرين إلى القرآن يعيشون دوما آيات الله تدوينا وتكوينا في الآفاق وفي أنفسهم ، حيث يريهم الله إياها ، فهما يبيّنان لنا الحق في الله ، والحق في كتاب الله في مثلث التبيين ـ أم لأقل تقدير ـ في زاوية أولى ، ومن ثم ثانية لتبين الحق أمام الطالبين ، وإذ لم يكف (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٥٥ ح ٧٣ في كتاب الاحتجاج روى عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن الحسن بن علي (عليه السلام) قال : ان يهوديا من يهود الشام وأحبارهم قال لعلي (عليه السلام) فان هذا موسى بن عمران قد أرسله الله الى فرعون وأراه الآية الكبرى قال له علي (عليه السلام) : لقد كان كذلك ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسله الله الى فراعنة شتى مثل أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة وأبي البختري والنضر بن الحرث وأبي بن خلف ومنبه ونبيه ابني الحجاج والى الخمسة المستهزئين الوليد بن المغيرة المخزومي والعامر بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحارث ابن الطلاطلة فأراهم الآيات في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق.

(٢) الواو هنا عطف على مثل ما ذكر حيث يصلح لان يكفي بربك ارائة لآياته في الآفاق وفي أنفسهم.

١٠٢

إن شهادته على كل شيء كما في آيات عدة كهذه (١) هي حضوره علميا وقيوميا وتلقيا لأعمال وحالات ، وحضوره تربويا ، فربوبيته ناصعة في كل شيء و «على» هنا تشهد أن شهادته تعالى عالية محيطة هي لزام ذوات الأشياء كيفما كانت وأنّى وأين ، منذ خلقت وحتى القيامة والفناء لما يفنى!

و «ربك» حيث تعني التربية الإلهية القمة ف (عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) هي في قمة الشهادة المحيطة علوا فيها علميا وقيوميا وتلقيا وتدليلا له عليه ، وهذه الشهادة المربعة دائبة طول الزمان وعرض المكان لكل إنس وجان.

و «العبودية جوهرة كنهها الربوبية فما فقد من العبودية وجد في الربوبية وما خفي في الربوبية أصيب في العبودية قال الله (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) : أي موجود في غيبتك وحضرتك» (٢).

ومن تبين الحق في الله وفي القرآن وفي كل حق ما يريه من آيته العظمى وحجته الكبرى الحجة القائم المهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (٣).

__________________

(١) (وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ٥ : ١١٧ (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ٢٢ : ١٧ «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» ٣٤ : ٤٧ (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ٥٨ : ٦ و ٨٥ : ٩ «إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً» ٤ : ٤١ و ٣٣ : ٥٥ ـ وبالنسبة للأعمال : (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) ٣ : ٩٨ (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) ١٠ : ٤٦.

(٢) مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام).

(٣) نور الثقلين ٤) : ٥٥٥ ح ٧٤ في روضة الكافي عن الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : خسف ومسخ وقذف قال قلت «متحاربتين لهم»؟ قال : دع ذا ذاك قيام القائم وفيه عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) ـ

١٠٣

وهكذا يتجاوبان ويتناظران كتاب التدوين القرآن وكتاب التكوين أيا كان على طول الخط منذ نزل القرآن حتى القيامة الكبرى ، تجاوبا في رؤية وإرائة (آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)؟

«ألا» حذارهم حذار (إِنَّهُمْ) غارقون (فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) هنا ويوم يقود الأشهاد «ألا» تنبها وحضورا (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) كما هو على كل شيء شهيد ، إحاطة في مربع الشهادة ، وشهادة في مربع الإحاطة لا مفلت عنه ، ولا مناص عن لقائه!

أترى بعد ذلك كله أن «هم» في سنريهم تخص الحاضرين؟ كلا إنه يعمهم والذين يلحقون بهم من خلفهم وإلى يوم الدين ، يعيشون إرائة الآيات الآفاقية والأنفسية تدوينية وتكوينية! ومن المستقبل المعني في «سنريهم» عند الموت وعند النشور ، لمن عمي عن آيات الله رغم رؤيتها وإرائتها ، فلا أحد إلّا وقد يرى آيات الله في الآفاق والأنفس (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)!.

__________________

ـ قال سألته عن هذه الآية قال : نريهم في أنفسهم المسخ ونريهم في الآفاق انتقاض الآفاق عليهم فيرون قدرة الله عز وجل في أنفسهم وفي الآفاق قلت له (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)؟ قال : خروج القائم هو الحق عند الله عز وجل تراه الخلق لا بد منه.

١٠٤

سورة الشورى مكيّة

وآياتها ثلاث وخمسون

١٠٥
١٠٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ

١٠٧

يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٨)

هنالك حواميم سبع تترى تلو بعض ، ثالثتها هذه ، وتزيد على الست الأخرى «عسق» وكلها مكية ، تتلو حواميمها ذكر الكتاب إنزالا وتنزيلا بيّنا ومبينا ، إلّا هذه ، حيث تذكر مطلق الوحي او الوحي المطلق إلى هذا الرسول والذين خلوا ، كما ويعقبه دون فصل كتاب التكوين إيحاء بتجاوب الكتابين ، وتلائمهما ، كما هما مع الحواميم.

ترى وما هو السر في تتابع الحواميم السبع المكية واختصاص ثالثتها ب «عسق» (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ)! ومهما يكن من شيء فلتعن «عسق» هنا زائدا عما عنت (حم) في الست الأخرى ، وعلّ من الزائد ما يوحيه (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) أو «وعلم كل شيء في «عسق» (١) ف

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٥٧ في تفسير علي بن ابراهيم «حم. عسق» هو حروف من اسماء الله الأعظم المقطوع يؤلفه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) فيكون الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ، حدثنا احمد بن علي واحمد بن إدريس قالا حدثنا محمد بن احمد العلوي عن العمركي عن محمد بن جمهور قال : حدثنا سليمان ابن سماعة عن عبد الله ابن القاسم عن يحيى بن ميسرة الخثعمي عن أبي جعفر (عليها السلام) قال : سمعته يقول : حم عسق عدد سني القائم صلوات الله ـ

١٠٨

(كَذلِكَ يُوحِي) إجمال عن الوحي كله ، أم ماذا؟ ، والحروف المقطعة في كل سورة إذا كانت عدة تجمع ك «المر ـ كهيعص» وكيف فصلت هنا (حم) عن (عسق) اللهم لا علم لنا إلّا ما علمتنا!.

أو ترى أن (كَذلِكَ) : الوحي البعيد البعيد في مكانته ومحتده ، إشارة إلى ما بعدها من الشورى أو القرآن كله؟ كما في (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)؟ ولكن الإشارة إلى ما مضى أحرى منها إلى ما يأتي! وما أوحي إلى الذين من قبله ليس كمثل الشورى أو القرآن كله اللهم إلّا في أصل

__________________

ـ عليه وقاف جبل محيط بالدنيا من زمردة خضراء فخضرة السماء من ذلك الجبل وعلم كل شيء في «عسق» ، وفي تفسير البرهان ٤ : ١١٥ باسناده عن ابن عباس قال : حم اسم من اسماء الله عز وجل وعسق علم على تفسير كل جماعة ونفاق كل فرقة ، وفيه في معاني الاخبار باسناده الى سفيان بن سعيد الثوري عن الصادق (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه : واما حم عسق فمعناه الحكيم المثبت العالم السميع القادر القوي. وفي تفسير البرهان ٤ : ١١٥ باسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : حم : حتم وعين : عذاب ، وسين : سنون كسني يوسف ، وقاف : قذف ومسخ يكون في آخر الزمان منه بالسفياني وأصحابه وناس من كلب ثلاثون ألف يخرجون معه وذلك حين يخرج القائم (عليه السلام) بمكة وهو مهدي هذه الأمة.

أقول : ليس لنا ان نتأكد بشيء من هذه المعاني المروية في روايات آحاد ، كيف ولا نصدق تفسيرا للكتاب المفصل الا ما وافقه او ثبت وروده قطعيا عن اهل بيت القرآن ، فبأن نحتاط في تفسير صفوة القرآن أحرى وأوجب ، ورواياته آحاد ومتضاربة ، فلا نصدق الا ما يصرح أو يلوح به القرآن أو ثبت وروده عن اهله الخصوص المعصومين (عليهم السلام).

وقد نصدق طرفا من «علم كل شيء في (عسق) اعتبارا بالآيات التي تليها ولا سيما (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ان (حم عسق) يرمز الى الوحي كله ، ما نزل من قبل وفي هذا ، اللهم لا علم لنا الا ما علمتنا.

ثم (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ..) لعلها توحي بتفطر ما توحيه (حم عسق) كما في دولة المهدي (عليه السلام).

١٠٩

الوحي دون شاكلته ومراتبه ومادته ، حيث القرآن يفوق سائر الوحي في هذا المثلث.

أو أن «كذلك» تشير إلى (حم. عسق) في وحيها الخاص بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن النبأ الذي تحمّله أوحي إلى الذين من قبله كما أوحي إليه.

أو أن «كذلك» تعني أمثال هذه الحروف المقطعة التي هي رموز تخص أصحاب الوحي ـ لا خصوص حم. عسق ـ؟ ولا نرى في سائر كتابات الوحي هكذا وحي مقطّع! إلّا أن يعني أصله الموحى إليهم دون كتبه في كتاباتهم.

أو أنه إشارة إلى أصل الوحي في بعد يعم سائر الوحي لسائر المرسل إليهم دون خصوص المرسلين ، لا الوحي الثنائي الذي هو وحي في وحي (حم. عسق)؟

أو أنه يعم الجميع. ف «كذلك» الذي يوحي إليك ربك في الشورى وسائر القرآن يوحي إلى الذين من قبلك ، وحي كسائر الوحي في السنة الرسالية كأصل مهما اختلفت مراتبه كيفية ومادة أم ماذا؟ : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) (٤ : ١٦٣) فالدين الوحي واحد في الكيان مهما اختلفت الشرايع إليه شكليا وفي علو الكيان ، لحد قد يعتبر سائر الوحي الأصيل إلى سائر أولي العزم من الرسل وجاه الوحي القمة المحمدي وصية : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ..) (٤٣ : ١٣) وكثيرة هذه الآيات التي تبرز مشاركة غير مشاكسة بين مدارج الوحي ، اللهم إلّا بميّزة الكمال القمة في خاتمة الوحي.

و «كذلك» مثل (حم. عسق) من الوحي الخاص المنحصر في

١١٠

أصحاب الوحي : المنحسر عن سواهم (يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) مهما لم تثبت هذه الرموز في كتاباتهم وثبتت في القرآن.

فالوحي منه ذو بعد واحد كالمجرد عن الألفاظ مثل ما أوحي من محكم القرآن على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة القدر ، أو ذو بعدين ثانيهما بعد الألفاظ المفصلة كالقرآن المفصل ، أو ذو أبعاد ثلاثة ثالثتها الحروف التلغرافية المقطعة ، فإنها مثلث الوحي : أصل المعنى ـ أصل اللفظ ـ ورمز اللفظ ، و «كذلك» ككلّ أو كبعض (يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

وكما أن الآية توحي بعامة الوحي إلى عامة أصحاب الوحي بمختلف مدارجه ، فقد تعلّله الأسماء الخمسة الحسنى التي تليها : «وهو ١ ـ (الْعَزِيزُ ٢ ـ الْحَكِيمُ.) ٣ ـ (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ٤ ـ (وَهُوَ الْعَلِيُّ ٥ ـ الْعَظِيمُ) فهذه الخماسية المجيدة تعلل موجهة الوحي الرسالي إلى عامة المرسلين.

فبعزته يوحي إذ لا صادّ يصدّه (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) (١٢ : ٢١) والوحي من مظاهر العزة الإلهية حيث يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، والعزة الملكية بارزة في عزة وحيه إلى أعزة من خلقه ليعزز حكمه عليهم.

وبحكمته لم يوح إلى عامة المكلفين ، حيث القلوب أوعية وخيرها أوعاها ، فلا وحي إلّا إلى أوعاها ، ثم بحكمته أوحى إلى كل قلب أوعى قدر وعيه وحاجة الموحى لهم ، المرسل إليهم أم ماذا؟

ولأن (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) اختصاص للملكية والمالكية الحقة الحقيقية العامة للكون كله ، فهو هو الموحي لتدبيره كله تشريعا كما هنا وتكوينا كما (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ..) (٤١ : ١٢)

١١١

وكل سماء تشمل فيما تشمل كل أرض من السبع ، والأمر الموحى في الكل يعم التدبير تكوينا وتشريعا.

ولأنه «العلي» في عزته وحكمته وملكيته ومالكيته ، فلا ينال من دونه إلّا ما منحهم ، فهم لا يملكون وحيا إلّا ما أوحي (كَذلِكَ يُوحِي ..).

ولأنه «العظيم» فيها وفي علّوه فليعل وليعظم وحيه ، وليعز وليحكم وحيه ، وليملك ويسيطر وحيه على الموحى إليهم والموحى لهم.

هنالك تتقرر وحدة الوحي في أصله ، ووحدة مصدر الوحي ، فالموحي هو الله العزيز الحكيم الملك العلي العظيم ، ووحدة الموحى إليهم على مدار الزمن (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ ..) الوحي المثلث الوحدوي ، قصة بعيدة المدى ، قريبة الهدى ، ضاربة في أعماق الزمن وأطواءه ، متشابكة الحلقات وليست متشاكسة ، في مناهج ثابتة الأصول مهما اختلفت الفروع.

فالله واحد ، والرسالة واحدة ، والأمة واحدة : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ. وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٢٣ : ٥٣).

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥).

إن لتفطر السماوات من فوقهن موقع في القيامة الكبرى بما يفطرها الله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ ..) (٨٢ : ٢) حيث العلي العظيم يقضي بذلك التفطّر ، ومن قبلها ومنذ خلقت موقع للتفطر «تكاد» كما هنا ، وحين خلقها موقع حيث فطرت من المادة الأمّ :

١١٢

(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٦ : ١٤) (... فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) (٤ : ١٢).

وتفطّر السماوات حيث تكاد هو بين الواقعين : تعميرا وتدميرا ، ثم وهو بين العلوّ والعظمة الإلهية : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) وبين الاتخاذ من دونه وليا : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) كما (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً. وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) (١٩ : ٩٤).

والفطر هو الشق ، شقا إلى الخلق كما شق السماوات والأرض من المادة الأم.

والمادة الأم شقّها لا من شيء إلّا ارادته ، أو شقا إلى الخراب (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فهناك فطر الإيجاد والتعمير ، وهنا فطر الإعدام والتدمير ، ويختص الأخير بالانفطار التفطر (١) كما الاول بالفطر (٢) حيث الأولان تقبّل لفعل الفطر التدمير ، والأخير هو هو الفطر للإيجاد أو التعمير.

ثم و (تَكادُ السَّماواتُ) هنا قد تعني اقتراب الساعة فيما تعنيه من الحالة الكائنة بين فطرها وتفطرها ، وإن كانت لا تعني إلّا الثانية في آيتها الثانية ، وكيف لا تكاد تتفطر من فوقهن! والعظمة الإلهية من ناحية ، واتخاذ أولياء من دونه من أخرى ، تقتضي أن تتفطر قبل قيامتها ، لولا أن (الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) و (إِنَّ اللهَ هُوَ

__________________

(١) كما «السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» (٧٣ : ١٨)

(٢) ك «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ١٢ : ١٠١ و ١٤ : ١٠ و ٣٥ : ١ و ٣٩ : ٤٦ و ٤٢ : ١١.

١١٣

الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.) (١٦ : ٦١) (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) ..) (٣٥ : ٤٥).

وكما للعظمة الإلهية ـ وأن دعوا للرحمن ولدا ومن دونه اولياء ـ موقعها في (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) كذلك للوحي الإلهي المعلّل بخماسية الأسماء الحسنى وأخراها «العظيم» أن يفطر القلوب ويقلبها غيرها ، ف (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٩ : ٢١) فيا لقلوبنا من قساوة لا تتخشع وتتصدع من خشية الله!.

ولماذا هنا (يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) وفي مريم «يتفطرن» دون فوقهن؟ علّه لان تفطرها في مريم (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) وهنا إضافة إليها ، العظمة الإلهية من فوقهن ، وعظمة الوحي تكوينا وتشريعا من فوقهن (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (٤١ : ١٢) ، شاملا لسماء الدنيا حين تشمل أرضنا ، حيث الوحي قول ثقيل أيا كان وأيان : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) (٧٣ : ٥) فهاتان الفوقيتان مع (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) تسبّب أن (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ..)!

ثم (مِنْ فَوْقِهِنَّ) كما تعني فوقية العظمة والوحي الإلهي ، تعني كذلك نفس الفوقية السماوية أنها تتساقط بأجواءها وأجرامها.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ)(٦).

إن ولاية التشريع والتكوين المستفادة من هذه الآيات الخمس وأشباهها في سائر القرآن ، هي خاصة بالله كسائر الولايات الإلهية ، ولا تعدوه إلى سواه ، فإنها ولاية ذاتية هي لزام ألوهيته وربوبيته ، ثم ولا يولي رسله

١١٤

وأولياءه إلّا ولاية بلاغ الشرع ، والأولوية في المرجعية الروحية السياسية ، كما يحددها سبحانه ويتخذهم أولياء لخلقه ، فلا ولاية ذاتية أيا كان لمن سواه ، ولا غيرها إلّا بجعله.

فمن يتخذ من دون الله أولياء : ولاية إلهية من دون الله ، أم جعلية من دون إذن الله (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) على هؤلاء المتخذين فكرتهم وفعلتهم الخاطئة وسوف يحاسبهم عليها ، وعلى الأولياء الزور الطواغيت حيث ادعوها أو قبلوها ، وعلى الأولياء الأوثان وهؤلاء ، فالله حفيظ عليهم بولاية التكوين والتقدير ، فكيف يتخذون من دون الله أولياء؟ (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ) ؤلاء هؤلاء) (بِوَكِيلٍ) : أن تمنع الطالب والمطلوب من فعلته وحالته وكالة تكوينية ، وإنما لك رسالة بلاغيّة عذرا أو نذرا.

فهنا (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) إنذار واحتجاج ما أخصرهما وأجملهما ، فالحفاظة الإلهية على من اتخذوا من دونه أولياء حفاظة أنفسية حيث هم في حفظ الله وإن يشاء يذرهم دون حفظ فيتهدرون ، وحفاظة على أعمالهم السيئة حيث تشهد عليهم يوم يقوم الأشهاد. وهذا إنذار لأولاهم وأخراهم ، ثم هو حفيظ على المتخذين من دونه أولياء ، لولا حفظه لهم لم يظلوا في كونهم وكيانهم فكيف يتخذون أولياء ذاتيا من دون الله أندادا ، أم جعليا في سائر الولايات إلّا التكوينية والتشريعية ، فالحفيظ عليهم كما يحفظ كونهم كذلك يحفظ كيانهم ، فولاياتهم غير الإلهية ليست إلّا بإذن الله فكيف يتخذون من دون لله أولياء؟ وإذا كانوا طواغيت جمع عليهم الإنذار والإحتجاج.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)(٧).

«وكذلك» البين المبين من آيات كما هنا وفي سائر القرآن (أَوْحَيْنا

١١٥

إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) يعرب بفصيح آياته وبليغها لأعلى القمم عن أعلى القيم التي تقوّم وتقيم المكلفين على صراط مستقيم ، واضحا لا تعقيد فيه ولا ريب يعتريه (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) :

ترى ما هي أم القرى ومن هم من حولها؟

أم القرى هي مكة المكرمة (١) وهل إن من حولها هي القرى العربية من شبه الجزيرة ، حيث الحول هو القرب الدائر مدار الأصل؟ أم وسائر القرى العربية من الجزيرة وسواها المتصلة بها ، المجاورة لها؟ وعربية القرآن بمعنى اللغة تشمل العرب عامة من حول أم القرى أم البعيدة المنفصلة عنها! أم ان حولها تشمل كل القرى في هذه المعمورة؟ وكيف تشمل غير العربية منها ووحي القرآن عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها لا يحمل إنذار غير العربي ، وإن حمل وشمل فلا اختصاص لإنذاره بقرى هذه المعمورة!

أم لا ذا ولا ذاك ولا .. فعربية القرآن لا تعني خصوص اللغة حتى تختص بأصحابها ، وإنما تعني وضوحها بين اللغات وعلى حدّ تعبير باقر العلوم في تفسير (عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) : يبين الألسن ولا تبينه الألسن ـ حيث يعرب دون تعقيد وقصور عن أعمق المعاني وأعضلها : (علم الله النازل إلى المكلفين أجمعين) بأوضح بيان وأجمله.

هنا لسان عربي مبين ، وهناك لغة (وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٦ : ١٠٣)

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٢٦ : ١٩٥) (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً

__________________

(١) الدر المنثور ٣ : ٢٩ ـ اخرج ابن مردوية قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ام القرى مكة. أقول وتمر عليك أحاديث بهذا المعنى تحت الأرقام ١ ـ ٢ و ٤ ـ في الصفحة الآتية.

١١٦

لُدًّا) (١٩ : ٩٧) (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٤ : ٥٨) فاللسان هو لغة البيان ، واللغة أعم من البيان واللّابيان : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٤ : ٤) ولسان قومه ، غير لغة قومه ، وإنما ما يعرب عن الحق دون أي خفاء ، لحد يفهمه كل مكلف حيث التعبير عربي مبين واضح لا تعقيد فيه.

ولأن اللغة العربية أعرب اللغات وأوضحها ، لذلك سميت عربية ، ثم الله أنزل هذا القرآن بأفصحها وأبلغها كما يفهمه كل متفهم ليكون الإنذار والتبشير به شاملا لا تبقي حجة ولا تذر.

فكما القرآن حكم عربي لا يختص بالعرب : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا ..) (١٣ : ٣٧) : حكما واضحا لا تعقيد فيه تفهما تعقلا وتوافقا للعقل والفطرة والحياة ككل ، ثم وتطبيقا على الطول التاريخي والعرض الجغرافي ..

كذلك هو قرآن عربي لعلكم تعقلون وتعلمون : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٢ : ٢) (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٤١ : ٣) (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٣٩ : ٢٨) حيث لا عوج فيه تعبيرا وإعرابا عن الحق ، ولا معنويا ولا في أية ناحية من نواحي البلاغ.

كما وأن الإعراب إظهار الحالة الأدبية للكلمة ، والأعراب هم أهل البدو الظاهرون المتكشفون حيث لا تظلهم إلا السماء أم ماذا؟ غير البنيان في المدن ـ ف (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) (٩ : ٩٧) لا تعني من يتكلم بهذه اللغة ، وإنما من يعيش في البوادي ، حيث البعد عن مراكز التمدن الإسلامي يجعلهم بعيدين عن الإسلام فهم أشد كفرا ونفاقا وأجدر

١١٧

ألّا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله.

ثم «القرى» هي كافة المجتمعات من سائر المكلفين من الجنة والناس أجمعين أم من ذا؟ في كافة المدن الأرضية (١) والسماوية دون استثناء ، وأمها هي مكة المكرمة زادها الله شرفا.

ان الكعبة المشرفة هي اوّل بيت وضع للناس : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٣ : ٩٦)(٢) والله تعالى بك الأرض ومكّها من مكة ، حيث حركها من حيث هي كنقطة أولى

__________________

(١). في تفسير البرهان ٤ : ١١٥ القمي قال قال : ام القرى مكة لأنها اوّل بقعة خلقها الله من الأرض لقوله : ان أوّل بيت وضع للناس ..

أقول : ان امية الرسول من جهات عدة منها انه من ام القرى ، ومنها انه لم يقرأ ولم يكتب قبل النبوة ، وان كان أقرأ القراء واكتب الكتاب بعدها (ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) والروايات التي تكذب النسبة الاخيرة انما تعني بعد النبوة لا قبلها كما في تفسير البرهان ١ : ٥٤١ باسناده عن علي بن حسان عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : قلت له ان الناس يزعمون ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكتب ولا يقرأ؟ فقال : كذبوا لعنهم الله أنّى يكون ذلك وقد قال الله عز وجل : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ... فكيف يعلمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن ان يقرأ ويكتب؟ قال : قلت فلم سمي الامي! قال : نسب الى مكة وذلك قوله : لتنذر ام القرى ومن حولها ـ فأم القرى مكة فقيل : امي لذلك.

(٢)

نور الثقلين ٤ : ٥٥٧ عن تفسير علي بن ابراهيم القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عز وجل (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) ـ مكة ـ (وَمَنْ حَوْلَها) : سائر الأرض! أقول : وهذا بيان لأوسط المصاديق ل (مَنْ حَوْلَها)كما فسرت باقر بها الطائف في رواية أخرى رواها العياشي عن علي بن أسباط قال : قلت لأبي جعفر (عليهما السلام) لم سمي النبي الأمي؟ قال : نسب الى مكة وذلك من قول الله : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها). ـ وام القرى مكة (وَمَنْ حَوْلَها) الطائف (تفسير البرهان ٤ : ٥٤٠) وفي الدر المنثور ٣ : ٢٩ ـ اخرج جماعة عن ابن عباس في تفسير(مَنْ حَوْلَها) قال : يعني ما ـ

١١٨

لحراكها (١) : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٧٩ : ٣١) (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) (٩١: ٦) (٢).

ثم الأرض هي ايضا امّ لسائر الكرات لسبقها في خلقها عليها بمرحلتين : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤١ : ١٢).

فمكة المكرمة من الناحية التكوينية هي أم القرى ، ثم وكذلك من الناحية التشريعية حيث الشرعة الإسلامية هي أم الشرائع وتلك أطفالها المتطفلة عنها وإن كانت قبلها ، فهي هي المركز الرئيسي للرسالات الإلهية أولا وأخيرا ، وهي الركيزة القويمة المتينة الدائبة للرسالة الإسلامية طول الزمان وعرض المكان ، ومن أمية الرسول أنه من ام القرى (٣) وأن رسالته أمّ الرسالات كلّها ولكل القرى.

__________________

ـ حولها من القرى الى المشرق والمغرب.

(١) في عيون الاخبار والإرشاد للديلمي ان شاميا سأل عليا (عليه السلام) عن مكة المكرمة لم سميت مكة؟ فقال (عليه السلام) : لأن الله مكّ الأرض من تحتها اي دحاها. وفي رواية اخرى عنه (عليه السلام): فلما خلق الله الأرض دحاها من تحت الكعبة ثم بسطها علي الماء.

(٢) القمي عن الباقر (عليه السلام) قال : ام القرى مكة ، سميت ام القرى لأنها اوّل بقعة خلقها الله عز وجل من الأرض لقوله عز وجل : ان أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا ...

(٣) في تفسير البرهان ٤ : ١١٥ محمد بن الحسن الصفار عن احمد بن محمد عن البرقي عن جعفر بن محمد الصيرفي قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) قلت له : لم سمي النبي الأمي ـ الى ان قال : وانما سمي الامي لأنه من اهل مكة ومكة ـ

١١٩

ولان «القرى» جمع محلّى بلام الاستغراق ، فهي تستغرق القرى المكلفة بهذه الشريعة العالمية في كافة أنحاء العالم بأرضه وسماءه ، (وَمَنْ حَوْلَها) لا تعني الحول القريب ، وإنما الحول من حيث التبعية الشرعية ، وهذا يتبع في حده ما تقرره الشريعة من حدود ، ف «القرى» بجمعيتها الاستغراقية من ناحية ، والحول بكونه حول الأمّ من ناحية أخرى تدلان على هذه السعة العالمية في (مَنْ حَوْلَها).

ومن المعروف والطبيعي أن من حول العاصمة في كل منطقة هم أتباع العاصمة وإن بعدوا عنها ، والأولاد هم حول الأم أيا كانوا ، فلا تعني الحول هنا وهناك المكان القريب من الأم والعاصمة ، وإنما التبعية للأصل مهما كان المكان قريبا أو بعيدا ، والرسالات الإلهية في القرى ليست إلّا في أمها : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) (٢٨ : ٥٩)

فأم القرى هي العاصمة الوحيدة للرسالة الإسلامية العالمية ـ : رسالة إلى الناس كافة: (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً.) (٣٤ : ٢٨) (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) (٧ : ١٥٨) وليس الناس فحسب بل والجنّة أيضا : حيث تذكر مع الإنس أم وحدها في نطاق الرسالات الإلهية في عشرات من الآيات (١) ثم ولا الجنة والناس فحسب بل والعالمين أجمعين :

__________________

ـ من أمهات القرى وذلك قول الله في كتابه : لتنذر ام القرى ومن حولها ، وفيه عن القمي قال قال : أم القرى مكة سميت.

(١). ونماذج من هذه الآيات البينات كالتالية : «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ..» (٦ : ١٣٠) «وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ..» (٧ : ١٧٩) «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ..» (١٧ : ٨٨) «وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ ـ

١٢٠