الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٢

كان فإنه «قضاهن» لا «لهن» أو «إليهن» أو «عليهن» أم سائر القضاء التي تحمل سائر معاني القضاء!

أترى أحدها لتسبيع السماء والآخر لتزيين السماء الدنيا بمصابيح كما يروى (١) ولو كان لذلك التزيين نصيب منهما فصحيح التعبير إذا «فقضاهن .. وزينا. في يومين»! فنصيبه ـ إذا ـ من اليومين الباقين.

أم إنهما ـ فقط ـ لتسبيع السماء كما في رواية أخرى (٢) وهو الصحيح الفصيح من آيتهما فتصدّق روايته ويعرض عن الأخرى.

(وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها)

وذلك الوحي ـ أيا كان ـ يشمل الوحي في كل أرض كما في كل سماء كما (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ..) وهو الأمر الموحى في كلّ من السماوات السبع والأرضين السبع : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ..) (٣٢ : ٥) .. و (كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) تلمح باختصاص كلّ بوحي خاص ، اللهم إلّا وحي الشرعة الشاملة لكل عام وخاص!

أترى أن الأمر الموحى في كل أرض وسماء هو التكويني فقط؟ ولا يناسبه الوحي ، وإنما القضاء أماذا من صيغ التكوين! أم هو التشريعي؟ فلما ذا

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٦٠ في رواية ابن عباس الماضية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة ... أقول وقد سبق صدرها انها تصرح (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) تعني في تتمتها وهي ايضا خلاف ظاهر الآية فالرواية بمجموعها مطروحة لمخالفة الكتاب.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٥٣٩ ح ٧ في روضة الكافي عن الصادق (عليه السلام) في حديث تقسيم ايام الخلق : «وخلق السماوات يوم الأربعاء ويوم الخميس ..» وروى مثله القمي عن الرضا (عليه السلام).

٤١

(فِي كُلِّ سَماءٍ) دون «الى»! أم إنه يعنيهما ، والوحي «في» جامع للوحيين «ل» كما للأرض (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) رمز في التكوين بعد ما كونت أماذا من خلق يعبّر عنه ب «أوحى» ثم الثاني : الوحي «الي» كما إلى الأنبياء والملائكة أمّن ذا من مؤمن بارع ، وإلى حيوان صانع كما (أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)! فلكلّ سماء ولكلّ ارض أمر من الأمور : أشياء وأفعالا ، وامر من الأوامر شرعة ففعالا (١) ، وهما من الأمر المدبّر من السماء إلى الأرض والعارج إليه.

والأمر أيا كان يقابل الخلق (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فهو التدبير للخلق ماديا : وحيا لخلق ، أو معنويا : وحيا إلى خلق ، يجمعهما (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها)!

(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(١٢).

والسماء الدنيا هي أدنى السماوات السبع إلينا ، فهي الأولى بالنسبة لنا ، أم هي الدنيا بالنسبة للأرضيين السبع كلها في احتمال أنها كلها في السماء الاولى ، وعلّ الاولى اولى كما قد تقتضيها : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) و «مصابيح» هنا هي «الكواكب» في الصافات ، تشمل كافة الكرات الصابحة ، السابحة في خضم البحر الملتطم ، مرئية بعيون مجردة ومسلحة أماهيه؟ وهي تشمل شمسنا ، فهي متأخرة عن أرضنا وعن الأرضين كلها ، فليست هي والدة لها ، بل هي وليدة غازات في السماء الدنيا كما والأرض حيث ، انتهيا إلى الجدة الأولى «الماء»!

__________________

(١) حيث الأمر بين هذه المعاني الثلاث : الشيء ـ الفعل ـ مقابل النهي.

٤٢

وهذه الكرات مصابيح لمن يستصبحها ، وحفظا من كل شيطان مارد ، أماذا من حكم أجمل عنها (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

قد لا يريبنا شك أن لتزيين السماء الدنيا نصيبا من اليومين الباقيين ، كما ولد خان السماء نصيب منهما ، فهل هنا نصيب ثالث ل (أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها)؟ بطبيعة الحال نعم ، ولكنه أنى؟ وقد قضيت الستة ، ولكنه لا ، حيث الوحي «في» ليس من الخلق ، وإنما هو تدبير شرعة وتكوينا للخلق ، وهو بعد أصل الخلق ، فإنما الشركاء في الأيام الستة ، الأرض بتسبيعها والدخان بتسبيعها وتزيين السماء الدنيا.

فذلكة حول أيام الخلق

: أسماء أيام الأسبوع التي تتكرر في أحاديثنا لا تعني أنها بقدرها هي أيام الخلق ، بل هي صيغ فرعية عن الأيام العالمية أو الأرضية المختلفة مع بعض بالآفات المضاعفات ، خلافا للخرافات التي أقحمت في التوراة أنها أيامنا هذه بلياليها!.

٤٣

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ

٤٤

يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ)(٢٥)

٤٥

... إنها جولة في مصارع الغابرين عبرة للحاضرين بعد تلك الجولة العابرة في خلق السماوات والأرضيين ، مما تهز القلوب المقلوبة وتعز الصافية النقية (فَإِنْ أَعْرَضُوا) بعد ذلك العرض العريض للرحمة الكونية والشرعية الشاملة ، وتلكم البراهين الكاملة على التوحيد «أعرضوا» عن رب العالمين ، فلا دواء لدائهم العضال إلّا أشد الإنذار (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) تصعقكم (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) أفهذا هو بنفسه الإنذار؟ وصيغة الماضي تضربه إلى ماض! فأين كان ذلك الإنذار ـ إذا ـ ومتى؟ لا نجد في سائر القرآن إنذارا لهم سابقا كصاعقة عاد وثمود أم أية صاعقة ، فذلك ، ـ إذا ـ هو هو بنفسه ، تعبيرا بماض تأكيدا لمستقبل قاض! أم إنه إنذار ماض فيما استعرضت صاعقة عاد من آيات ، فإن قصص القرآن عما مضى بشارات وإنذارات لمن يستقبل ، ولا يعنى من قصّها على اللاحقين إلّا عبرة (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٢ : ١١١) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٧٩ : ٢٦).

ولأن الإنذار ليس إلّا بواقع يستقبل المنذرين أم في حال ، فلتكن لهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأين هي وأنى؟

لعاد وثمود والمصعقين من قبل ومن بعد ، قد تكون صاعقة في الأولى وأخرى في الأخرى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) (١٦) أم هي ـ فقط ـ في الأخرى كما هنا!

فلأن صاعقة الأخرى هي أخزى فقد أنذروا بمثل صاعقتهم وأخزى ، فإن عذاب الأخرى أشد وأنكى ، إذ تضم لهم إلى صاعقتهم ما استحقوها في الأولى ، فاولى لهم ثم اولى!

والصاعقة هي التي تصعق غشية أو إماتة من صواعق الرعد والبرق :

٤٦

(وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) (١٣ : ١٣) أم صاعقة ريح صرر قرّ صرّ : (رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ)(١٦) وهي عاتية : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٦٩ : ٧) ، أم صيحة خاصة كما في ثمود : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ .. أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (١١ : ٦٨) وقد جمعتهما «صاعقة» (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) (١٧) .. أم صيحة تحشرهم جميعا إماتة وإحياء : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ : ٦٨) أم صاعقة الجحيم ، فقد تشملهم صواعق العذاب إلّا التي في الدنيا لمن أنذرهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٨ : ٣٣).

(إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (١٤).

«هم» هنا عاد وثمود ، رجعا لجمعهم مهما كانوا اثنين ، فمن هم الرسل التي جاءتهم ولم يكن إلّا صالح وهود؟ وماذا تعني (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ)؟ ولا تجيء الرسل إلّا بين أيدي المرسل إليهم حضورا ، لا غيّبا في ماض او مستقبل! إنها آية عديمة النظير في مجيء الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ، إلّا التي لعاد في الأحقاف (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(٢١) (١) الرسل من بين أيديهم

__________________

(١) راجع الفرقان ٢٦ : ٥٣.

٤٧

هم المعاصرون لهم ، صالح وهود في أصل الدعوة ، ومن معهم من الرسل حيث وصلتهم دعوتهم المناصرة لتلك الدعوة ، وليست الرسل المستقبلية إذ لا صلة لهم بعاد وثمود حضورا ولا وصولا إذا هم غيّب! و «من خلفهم» هم الرسل الذين خلوا من قبل ، فقد جاءتهم دعوتهم في بعدي إنذار آبائهم فهم إذا منذرون ، ثم وصول دعوتهم من طرق اخرى ، فلا يعنى من مجيء الرسل إلّا مجيء الرسالة ، كما جاءت الرسالة الاسلامية ملأ العالمين من الجنة والناس أجمعين وإلى يوم الدين ، ولم يبق الرسل إلّا شذرا من السنين.

أم وفي وجه أوسع (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) تعم الحاضرين ومن يستقبل ، كما (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) تعم كافة الماضين ، تدليلا على أن الرسالة القائلة بتوحيد الله واحدة مهما كان الرسل عدّة ، فليس فاصل الزمان والعدّة والعدّة بالتي تفصل بين الرسالات ، فرسول واحد ـ بهذا الصدد ـ هو الرسل كلهم يحمل الرسالات كلها ، فتصديق واحد منهم تصديق لهم أجمع ولها كلها ، كما وتكذيب واحد تكذيب الآخرين ، لذلك نرى (كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) (٢٦ : ١٢٣) (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ)(١٤١) و (ذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ)(١٦١).

ووجه ثالث مجيء الرسل من كافة الجهات والجنبات ، حيث استغرقت الحجج كلها : حسية وفطرية وعقلية وكونية أماذا (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) تبلغ البالغين ، من ألقى منهم السمع وهو شهيد ، وقد تعني (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) مثلث الجهات والوجهات!

(جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ ..) ولكنهم اعرضوا كما أعرضتم «وقالوا» كما قلتم (لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) ف «لو» إحالة منهم اولى لإرسال الرسل ، و (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) إحالة ثانية أن يكون بشرا لو أنزل ، و «ربنا» دون

٤٨

«الله» أو (رَبِّ الْعالَمِينَ) إحالة ثالثة ، فإنه ـ وهو ربنا ـ لم يرسلنا ونحن بشر كالمرسلين البشر ، فهم ـ وهم ناكرون للرسالات الإلهية ـ يعتذرون في نكرانهم بثالوثهم ، وحجتهم داحضة عند ربهم لو كانوا يعقلون.

(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)(١٥).

وهل هناك استكبار بحق حتى يوصف هنا (بِغَيْرِ الْحَقِّ)؟ علّه كقتلهم النبيين بغير حق تأكيدا لبطلانه! أم ولأن استكبار المستضعف أمام المستكبر الظالم هو استكبار بحق ، أخذا لحق او دفاعا عن حق ، وقد يروى أن التكبر مع المتكبّر عبادة! ولكنه ليس استكبارا فإنه طلب الكبر لمن ليس بنفسه كبيرا أو لا يحق له الكبر ، ولا تجد في سائر القرآن استكبارا بحق فكلّه دونما استثناء بغير حق ، وقد تعنيهما (بِغَيْرِ الْحَقِّ) حيث الاستكبار الحق هنا ضمن المعني المتحرز عنه (بِغَيْرِ الْحَقِّ).

وفي تاريخ الاستكبارات الباطلة قوّات بعضها فوق بعض (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ... أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ ..) (٩ : ٧٠) فمنهم أولاء وهم كانوا أشد منكم قوة ، وثالث هم أشد من أولاء (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)؟ كأن لم يروا أشد منهم قوة ، فإذا لم يروا (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً)(١) او ليس الله بقادر على أن ينتقم منهم؟ (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) ـ :

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ

__________________

(١) فالواو هنا عطف على محذوف هو «ا لم يروا» والا لم يكن لها موقع أدبي ومثله كثير في القرآن.

٤٩

فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ)(١٦).

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ) هؤلاء الحماقى الطغاة السرسريين (رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ)(١) وكما السرسر هي بالغة الشر ، كذلك الصرصر هي بالغة الصر والقرّ ، والأيام النحسات هي سبع ليال وثمانية أيام حسوما مجتثة جذورهم (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٦٩ : ٨) .. أترى أن هناك أياما بين الأيام هي بنفسها نحسات وهي من قالة المنجمين؟ كلا! حيث النحوسة والسعادة في زمان او في مكان هما الناتجتان عما يحصل فيهما ، دون ذاتية لايّ منهما في نحوسة أم سعادة ، وهما ترجعان إلى عملية الإنسان ونويّته النحسة او السعيدة ، دونما قضاء فيهما وقدر لهما لا تمتّ بصلة لما يعمله الإنسان.

ذلك (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، وصرصرهم في الآخرة أخزى وأنكى (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) خزيا زائدا على الأولى في بعدية ، فإذا هم يظنون نصرة في الأولى ف (الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) بل ويخذلون ويرذلون! ألا «واتعظوا فيها بالذين قالوا (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا ، وأنزلوا فلا يدعون ضيفانا ، وجعل لهم من الصفيح أجنان ، ومن التراب أكفان ، ومن الرفات جيران» (٢).

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(١٧).

__________________

(١) راجع الفرقان ٣٩ : ٨٦ ، و ٣٧ : ٤٨٩ تجد تفصيلا زائدا لعذاب الصرصر في آيتي الحاقة والقمر وقد ذكرت عاد في القرآن ـ وهم عاد الاولى ـ ٣٤ مرة وثمود ٢٦ مرة ولم يذكر قوم طغاة كما ذكرا فإنهم اظلم واطغى.

(٢) نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام).

٥٠

هذه الهداية هي العامة بارائة طريق الهدى عن الردى ، فإذا استحبوا العمى على الهدى فهم إذا في ضلال قاصد بعناد زائد (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) وعلّه في بعدي القلب والقالب ، (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (٦٩ : ٦) وهي الصيحة : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (١١ : ٦٨) وبالرجفة الطاغية : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٧ : ٧٧) وثالوث الصيحة الرجفة الصاعقة هي من عذاب الهون (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

وقد تعني «فهديناهم» واقع الهدى بعد آية الناقة ، ثم ردّتهم بعد ردح قليل منها ، وترى إذا يستحب الإنسان عماه على هداه فهل هو مايز هداه عن عماه؟ أو على علم يستحب المكروه على المحبوب؟ وليس هكذا اي حيوان ، بل أية حشرة فضلا عن إنسان ، اللهم إلّا ذو جنّه فاقد عقله وتمييزه ، إذا فلما ذا صاعقة العذاب الهون ، للمجنون!

ولكن إذا كانت الفطرة الإنسانية وعقليتها مقياس الاستحباب فلا يستحب الإنسان إلّا هداه ، فالذي «(أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (١٨ : ٢٨) هذا يستحب هواه على هداه ، أم ليست هداه إلّا هواه (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) إذا (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) وهم يعرفون» (١) ولأن العمى هنا

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٤٢ ح ٢٢ في كتاب التوحيد باسناده الى حمزة بن الطيار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : عرّفناهم فاستحبوا ..

وفي اعتقادات الامامية للصدوق وقال الصادق (عليه السلام) في الآية : قال وجوب الطاعة وتحريم المعاصي وهم يعرفون.

٥١

تقابل الهدى فهي ظلام البصيرة ، والمتاه في الغواية ، والهدى بصيرة مختارة ، يتركون هذه إلى تلك باختيار دون جنّة ولا إجبار ، فان ذلك أخف على الإنسان ، وأشد ملائمة للطباع من تحمل مشاق النظر والتلجيج في غمار الفكر (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(١٨).

إيمان بقلب ثم اتقاء من جرّاءه بالقالب ، حيث الإيمان المجرد لا ينجي إلّا أن يظهر في الإنسان ككل من ظاهره وخافيه ، وعنده النجاة عن صاعقة العذاب الهون.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢٠).

هنا شهادة الأعضاء عدلا وحقا إلى جنب ما هناك وهنالك من شهادة الأرض بفضائها ، وشهادة النبيين والكرام الكاتبين ، وليكون عدو الله غارقا في يمّ الشهادات عينية وذهنية أماهيه من شهادات قاطعة قاصعة لا محيد عنها ولا محيص! وليراجع للتعرف الى كلّ لموضعه من الفرقان بطيات آياته المفسرات (١).

الحشر إلى النار هو الجمع إليها ، والإيزاع هو الإكفاف والإحباس ، أن

__________________

(١) فصلنا البحث حول شهادة الذات والأعضاء في سورة الإسراء والنور ، وفي شهادة الأرض والفضاء في الزلزال وفي الشهادة ككل في الجاثية ولقد استوفينا البحث حول الشهادة عند آياتها وبمناسباتها ، ويأتي حديث الامام الصادق (عليه السلام) حول أن هذه الشهادة بعد شهادة الملائكة وعرض أعمالهم وتكذيبهم للكل فيختم على أفواههم عند الآية : «وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا».

٥٢

يكفّوا عن التفرق ، ويحبس أوّلهم على آخرهم حتى لا يتفلتوا ، فقد يكون احتراما ك (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ ..) (٢٧ : ١٩) أو اختراما كما هنا وفي (يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٢٧ : ٨٣) فلا يفيد الحشر الجمع لحساب فعقاب أم شكر فثواب إلّا إيزاعا لجمع كيلا يتفرقوا ويهملوا على كثرتهم.

(.. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٢٠).

علّها شهادة أخيرة في موقف أخير (إِذا ما جاؤُها) وقد سبقتها شهادات منها وسواها ، أم هي تجمع شهادات الأعضاء كلها ، وعلى أية حال لماذا الانحصار في (سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) والانحسار عن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم؟ وهذه أقوى من تلك وأجلى والاستشهاد بها أشجى وأحجى!

هنا «جلودهم» ـ كإجمال بعد تفصيل مّا ـ تشمل هذه الثلاثة وسواها ، وعلّ اختصاص (سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ) لأهميتهما من جهات أخرى أبرزها أنهما رقيبان على الجوارح وعلى أنفسهما ، كما الفؤاد على الجوانح وعلى نفسه : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (١٧ : ٣٦) مسئولا لذواتها فيما افتعلت ، ومسئولا عنه لسائر الجوارح والجوانح فيما افتعلت وليست كذلك سائر الجوارح والجوانح.

فقد تسمع آيات او تبصر يستهزأ بهما فلا تمنع بجارح أم تغضب بجانح ، أم تسمعها وتبصرها فلا تعتبر بها ، فهنا السمع والبصر كل مسئول عنه ماذا فعلت وهما بريئان عما افتعلت من حرام او تركت من واجب! ..

أو تسمع ام تبصر محرما فلا تمنع أو تمتنع ، فشهادة مزدوجة منهما

٥٣

عليهما وعلى لسانك أمّاذا كان عليك أن تمنع بها! أم تسمع وتبصر ما لا محيد عن حرمته بمنع وسواه ، فشهادة منهما ـ فقط ـ عليها ، فيما اقترفا من حرام!

ولكنما الجوارح الأخرى من ألسنة وأيد وأرجل أمّاذا فلا رقابة لها على غيرها ، بل هي شاهدة ـ فقط ـ على أنفسها شهادة ذاتية ولا سواها ، فإنما هي كآلات مباشرة لما عصت ، لا تعدوها إلى سواها فيما افتعلت.

فللسمع والبصر والفؤاد اختصاصها من هذه الجهة ، وللألسنة والأيدي والأرجل أهميتها من أخرى ، وقد يجمعها كلها «جلودهم» فإنها جلود الأرواح : الأبدان ، فتشمل الجوارح كلها كما (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) فلا تعني ـ فقط ـ القشور حيث النضج والشهادة تعم الأعضاء.

إذا ف (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ) تعني مثلث الشهادة ومزدوجها ، ثم «وجلودهم» تعني شهادة واحدة. ولأن الشهادة على شيء تتطلب تحمّل الشهادة من قبل وإلّا فلا شهادة ، فلتكن الأعضاء متحملة لأصوات الأقوال وصور الأعمال حتى تلقي ما تحملت وتؤدّي ما حمّلت ، إذا فهي مسجّلات الأقوال وشاشات تحمل صور الأفعال ، وهكذا تشهد عليهم (سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أن يظهر على كلّ ما يناسبه من شهادة عينية هي الحجة القاطعة والبينة القاصعة القارعة على المكلفين ، حيث «صارت الأجساد شحبة بعد بضتها والعظام نخرة بعد قوتها ، والأرواح مرتهنة بثقل أعبائها ، موقنة بغيب أنباءها ، لا تستزاد من صالح عملها ، ولا تستعتب من شيء زللها» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام).

٥٤

وقيلة من قال إن «جلودهم» هي عوراتهم مردودة إلى قائلها ، والرواية (١) القائلة بها مأولة إلى بيان مصداق هو عار بين مصاديقها ، فتشهد العورة كسائر الجلود بما افتعلت أم وفعل غيرها.

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢١).

مفاجئة هائلة من مشهد الشهادة في معرض القيامة بموقفه العصيب وهم بحاجة ماسة إلى مناصرة من سواهم فإذا هم محجوجون بشهادة الجوارح ، وإنها بحق جوارح تجرح قلوبهم وتفتّت أكبادهم ولات حين مناص ، ولا منفذ لخلاص! يا ويلاه! فكل شهادة كانت بحسبان إلّا شهادة الإنسان على نفسه ، بجارحه وجانحه ، ويا للفجأة المحيرة بسلطان الله الخفي يغلبهم على أبعاضهم فتلبّي وتستجيب.

وكيف يقاولون جلودهم وليست بقائلة إلّا ألسنتهم ، وهي السائلة القائلة : (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا)؟ لأنهم شاهدوها تشهد ، ولم تسبق لهم منها سابقة الشهادة ، وهذه خارقة للعادة ، فليسألوها (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) مما يدل على أن شهادتها لم تكن باختيار منهم أو علم ، ولا يصدر من الأعضاء فعل إلّا عن إختيار منهم وعلم! (٢).

(قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ـ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ـ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٤٤ ـ القمي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث فرض الايمان على الجوارح : يعني بالجلود الفروج والأفخاذ.

ورواه مثله في الفقيه عن امير المؤمنين (عليه السلام) : يعني بالجلود الفروج. أقول ومما يدل على انه تفسير بمصداق ما في الدر المنثور ٥ : ٣٦٢ ـ اخرج عبد الرزاق واحمد والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن معاوية بن حيدة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث وان اوّل ما يعرب عن ـ

٥٥

جواب مثلث عن (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) فيه بيان الحكمة والسبب والمبرر لتلك الشهادة العجيبة :

١ ـ (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) وماذا تعني «كلّ شيء» ولا نسمع شيئا ينطق إلا أنفسنا كعادة ، وإلا أعضاءنا هنا كخارقة العادة ونحن نتساءلها (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا)؟.

أترى «كل شيء» هنا هم سائر الشهداء من الأرض بفضائها والملائكة والأنبياء ، وقد شهدوا من قبل شهادتها ولمّا تشهد الأعضاء ، إذا ف «كل شيء» تعرّفوا إلى شهادتها قبل هذا الموقف ، وهي مخصوصة بالأشياء الشاهدة لا كل شيء ، الأشياء التي عشناها في حياة التكليف ، وما كنا نظنّ أن أعضاءنا سوف تشهد علينا ، ولكن الله الذي أنطق هؤلاء الشهداء خلاف العادة ، هو الذي أنطقنا ونحن أقرب الشهداء فأحق بالشهادة وأحرى.

وشهادات الأعضاء كما سائر الشهداء هي شهادات عينية وحتى اللسان إذ تبرز منه الكلمات التي تكلمها (١) فالأعضاء ـ إذا ـ هي مسجّلات

__________________

ـ أحدكم فخذه وكفه وتلا (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) ، أقول لا تناسب الآية مستندا ل «فخذه وكفه» الا ان يعمها «جلودكم» والفخذ كناية عن العورة.

(١) تفسير البرهان ٤ : ١٠٨ ح ٢ علي بن ابراهيم انها نزلت في قوم تعرض عليهم اعمالهم فينكرونها فيقولون ما علمنا شيئا منها فتشهد عليهم الملائكة الذين كتبوا عليهم أعمالهم قال قال الصادق (عليه السلام) فيقولون لله يا رب هؤلاء ملائكتك يشهدون لك ثم يحلفون بالله ما فعلوا من ذلك شيئا وهو قول الله (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) هم .. فعند ذلك يختم الله على ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهد السمع بما سمع مما حرم الله ويشهد البصر بما نظر إلى ما حرم الله وتشهد اليدان بما أخذتا وتشهد الرجلان بما سعتا فيما حرم الله ويشهد الفرج بما ارتكب مما حرم الله ثم أنطق ـ

٥٦

الأصوات والصور ، شاشات من صنع الله تبرز كل ما حصل منها في حياة التكليف : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ..). فليست الأعضاء لتنطق كلها قولا ، وإنما كما يناسبها من عينية الشهادات ، تلقي ما تلقّت دونما زيادة أو نقيصة ، اللهم إلّا قولها : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ..) فإنه خارقة أخرى تنطق بالأولى ولكي يعرف المجرمون ما جهلوه من خافية الأعضاء والأشياء (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) ف «أنطقنا» تلقّ ثان إجابة عن «لم شهدتم» إفصاحا عن تلقّ أوّل (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها)!

وإذا كانت شهاداتهم كلها نطقا لفظيا فما هي بشهادات ، وإنما كلمات خلقت فيها ، ليست حجة على أصحابها فقد ينكرونها ، ولكنما الشهادات العينية ليست لترد على شاهديها فلا تكذب ردا عليها كما نرى (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) دون : ان شهادتكم كاذبة علينا.

إنهم يلمسون واقع الشهادة وصدقها ، ويحتارون كيف الأعضاء تشهد على أصحابها.

إذا ف «أنطقنا» تنظير لشهادتها بشهادة كل شيء خارقة تلو خارقة ، ولا تملك الجلود أن تتمنّع عن هذه الشهادة ، فإن الله هو الذي أنطقها وأنطق كلّ شيء.

٢ ـ (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وهذه ثاني مرة ، خلقكم بهذه الأعضاء المسجّلة للأصوات ، الشاشة للصور وأنتم جاهلون ـ :

٣ ـ (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ولا بد للمخلوق اوّل مرة الراجع إلى خالقه ثاني مرة ، أن تبرز شهداءه يوم الحساب الرجعة ، شهداء من نفسه بعد سائر

__________________

ـ الله ألسنتهم فيقولون (لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا .. وَلا جُلُودُكُمْ) الجلود الفروج.

٥٧

الشهداء ، ولكي لا يخلد بخلده نكران ما افتعل ، ويذكر ما فعل بعد نسيان ، فواقع (أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) يبرز تنطّق الأعضاء ، و (خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يفرضه كحكمة عالية ، إذا فالجواب هو مشهد الواقع وشهادة الحكمة ولات حين مناص!

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ)(٢٢).

هنالك تمّت الشهادات وتم الجواب ، وهنا الله يعقّب تكملة الجواب (وَما كُنْتُمْ ..).

وكما الاستتار عن التسجيل حين الأقوال والأعمال غير ما كن ولا ممكن حيث المسجّل المستنسخ لها هو الله : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩) وأنتم لا تعلمون ، كذلك بأحرى (ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) هنا (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ) ما تلقتها من أعمال ، إذ (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ)!

وقد كان ما كان من ظنهم هذا أنهم يخفون عن الله كثيرا من خافية أقوالهم وأعمالهم ونياتهم ، فنزلت الآية تنديدا بظنّتهم ، علاجا لعلتهم ، تنبيها نبيها عن غفوتهم ولمّا يموتوا ويحشروا على وجوههم إلى جهنم (١) :

__________________

(١) الدر المنثور ٥ : ٣٦٢ ـ اخرج سعيد بن منصور واحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود قال : كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان او ثقفي وقرشيان كثير لحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم أترون ان الله يسمع كلامنا هذا فقال الآخر إذا رفعنا أصواتنا سمعه وإذا لم نرفعه لم يسمع فقال الآخر ان سمع منه شيئا سمعه كله قال فذكرت ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ ..).

٥٨

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ..) (١٤ : ٤٠) (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ..) (٦ : ٢٨) (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٣ : ٥٤) (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) (٧ : ٢٥) (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً) (١٠ : ٦١).

وقد يشير «المضي» في «ما كنتم» إلى أن الاستتار المنفي يشمل حين تلقي الشهادة يوم الدنيا ، كما يشمل حين إلقاءها يوم الأخرى ، وكما يلمح به نزول الآية عند ظنّتهم هذه مهما كانت الشهادة الأولى شهود نفس العمل ، والثانية شهادة عليه ، فموقف «على» هنا يسجل نفي الاستتار هناك (١).

بل الأصل في «ما كنتم» هو الاستتار في الأولى ، أن لو تحقق كان استتارا في الأخرى ، ولكن (ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) هناك ، فكيف تستترون هنا وهي شهادات ملتقاة ولا بد أن تلقى!

ما كان يخطر ببالكم أنها سوف تكون وبالكم (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) فخدعكم ذلك الظن القاحل الأثيم وقادكم في مآلكم إلى الجحيم :

(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣).

الرديء هو الهلاك ، فالإرداء : الإهلاك ، وقد أرادهم هالكين ذلك الظن

__________________

(١) ففي الاول يقال شهده وفي الثاني شهد عليه ولا يصح الجمع ب «شهده» الا «شهد عليه» حتى يشمل الشهادة عليه.

٥٩

الرديء ، فالذي يظن أن الله لا يعلم كثيرا مما يعمل ، والقليل الباقي يخفّف أو يعفى عنه ، ذلك الأحمق الشّرس ليس ليتقي بأس الله يوم بأسه ، فيردّى في جحيم العصيان فيصبح يوم القيامة من الخاسرين.

إن سوء الظن بالله يردي الظانّ حسب دركات السوء ، كما حسن الظن ينجي حسب درجاته ، ولكنه ليس فوضى جزاف أن كل ظان بالله يكون عند ظنه ، فلو ظن كافر بالله حسنا من غفران ورضوان فهو من أهل الغفران! او ظن مؤمن بالله سوء من عدم الغفران يصبح من أصحاب النيران! كلّا.

وإنما حسن الظن فيما يحسن به الظن ، وسوء الظن فيما يسوء في ميزان الله لا سواه ف (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) (٤٨ : ٦) ونائرة الظن السوء (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ ..) (٣ : ١٥٤).

وأما أن يظن بالله أنه يعاقب المسيئين عدلا ، فهو ظن الخير العدل ، وخلافه ظن السوء ، كما ظن الذين كفروا أن الله لا يعلم كثيرا مما يعملون ، فأرداهم فأصبحوا من الخاسرين.

أو أن يظن بالله أنه لا يعفو عن المؤمنين ، فهو ظن السوء مهما كان من المؤمنين ، وما يروى «أن الله عند ظن عبده إن خيرا فخير وإن شرا فشر» (١) و «ليس عبد يظن بالله عز وجل خيرا إلا كان عند ظنه به» (٢) ليس بذلك

__________________

(١) المجمع عن الصادق (عليه السلام) ينبغي للمؤمن ان يخاف الله خوفا كأنه يشرف على النار ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة ان الله تعالى يقول (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ ..) ثم قال : إن الله ...

(٢)نور الثقلين ٤ : ٥٤٤ ح ٢٩ ـ القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن ـ

٦٠