الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٨٢
٢١
٢٢

فجعل الاربعة تتمتها بعد اليومين ـ على مشاكله العدة ـ لا يغني عن المناقضة بين الستة والزائدة ، فإن يوم الدخان يجعلها سبعة! أم يزيد يوما لتزيين السماء الدنيا بمصابيح فرجعت ثمانية!

أم إن الأربعة لا تمتّ بصلة لأيام الخلقة ، إذا فهي الفصول الأربعة لدور السنة حيث تقدر فيها أقواتها كل سنة (١)؟ وفي ذلك التوجيه العضال إهمال أمرين من الثلاثة المتقدمة على الأربعة : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها) بإشغال الثالث فقط ـ : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أنها متعلّق الظرف (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) دونهما ، فلا هما ضمن «يومين» كما الثالث إذ ليسا من أصل الخلق ولم يذكرا قبل يومين ، ولا ضمن الأربعة إذا اختصت بالثالثة ، ولماذا ذلك الإختصاص؟ وذكر أيام بعد أفعال متتالية يقتضي الشمول بطبيعة الحال!

ثم اللفظ الصحيح الصريح لهذا الإختصاص (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَجَعَلَ فِيها .. وَبارَكَ) بعدا عن أي التباس ، وكما نراه في تسبيع السماء : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ..) حيث خرج الوحي والتزيين عن يومي تسبيع السماء!.

__________________

(١) نور الثقلين ٤ : ٥٣٨ تفسير علي بن ابراهيم أخبرنا احمد بن إدريس عن احمد بن محمد عن ابن محبوب عن أبي جميلة عن ابان بن تغلب قال قال لي ابو عبد الله (عليه السلام) يا ابان ـ الى ان قال ـ : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) يعني في اربعة اوقات وهي التي يخرج الله عز وجل فيما أقوات العالم من البهائم والطير وحشرات الأرض وما في البر والبحر في الخلق من الثمار والنبات والشجر ، وما يكون فيه معاش الحيوان كله وهو الربيع والصيف والخريف والشتاء ...

أقول : انها رواية يتيمة في تفسير الأربعة بالفصول الأربعة ، فقد تطرح او تؤول بأنها ضمن المعني من الأربعة.

٢٣

أم إن الأربعة هي الأدوار التكاملية الأرضية بعد خلقها ، ذكرت هنا لأفعال ثلاثة ، وأجملت في تكملة السماء عن فعليها ، فلا هما ضمن اليومين لتسبيع السماء ، ولا ذكر لهما يوم؟

إن ذلك لحق تنطق به الآية نفسها ، ففيها خلق للأرض ، وفيها دون ذلك مما في الأرض ، والكل قبل تسبيع السماء : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢ : ٢٩) والأيام الستة في آياتها السبع تخص أصل الخلق دون ما فيه!.

وقد تعم (قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) الفصول الأربعة دلالة ضمنية تتحملها الآية وتؤيدها الرواية ، ف (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) تتعلق أصالة بالثلاثة تكملة للأرض ، وبالأخيرة ، الفصول الأربعة بعد التكملة.

إذا فالمذكورة من الأيام الستة لخلقهما ليست هنا إلّا الأربعة ، واليومان الآخران علهما لخلق الدخان ، أم يقتسمان بينه وبين خلق الأنجم في السماء الدنيا ، أمّاذا من محتملات علّنا نستعرضها.

فالنتيجة الحاسمة المجتثة لجذور المحتملات الدخيلات أن خلق الأرض كان قبل تسبيع السماء ، فهو ـ إذا ـ قبل الشمس بمرحلتين إذ خلقت مع سائر الأنجم في السماء الدنيا بعد تسبيعها.

ترى هذه هي الأرض خلقت في أصلها قبل الشمس دون انفصال عنها ، فما ترى في تكملتها الثلاث في أربعة أيام ، هل هي كما الأرض مدبرة لها بعد يوميها وقبل يومي السماء؟ وآيات النازعات تؤخر ماءها ومرعاها عن بناء السماء! هنا محكمات في تقديم ما في الأرض كما الأرض ، وأخر متشابهات

٢٤

ترجع إلى هذه المحكمات : ـ فآية البقرة تجمعهما في تقدّمهما على السبع السماوات : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ..)(٢٩) (١).

وآية فصّلت فصّلت ما في الأرض أن (جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ .. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ..).

وآيات النازعات هنا متشابهات في جهات محكمات في أخرى ، فإنها تصرح أن دحو الأرض فإخراج ماءها ومرعاها وإرساء جبالها ، هي كلها بعد بناء السماء ، دونما تصريحة ولا إشارة أن خلق الأرض بعد بناء السماء ، ثم تبقى الأفعال الثلاثة الأخرى المتشابهات بين فصلت والنازعات (٢).

فهل إنها كما الأرض قبل تسبيع السماء ، أم هي ـ فقط ـ بعده وخلقها نفسها قبله.

وهنا تشابه في بناء السماء هل هو تسبيعها؟ فالثلاثة إذا بعده ، أم بناء لها من دخانها قبل سبعها؟ و (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ .. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) قد لا تفسح مجالا لبناء ثان ، فإن القضاء سبعا مبدءه ـ فقط ـ الدخان ، لا شيء ثان! أم إنه بناء الدخان أولا ثم بناء ثان هو ، (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ)؟ والدخان ليس فيه ماء ينزل على الأرض ، مع العلم أن مياه الأرض كلها من السماء!

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٩٢ ح ١٢ تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال قال امير المؤمنين ان الله جل ذكره وتقدست أسماؤه خلق الأرض قبل السماء ثم استوى على العرش لتدبير الأمور.

(٢) في فصلت «وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ ... وفي النازعات «أَخْرَجَ مِنْها ماءَها» مهما اختلف الترتيب بين الثلاثة هنا وهناك.

٢٥

أم إن الثلاثة في النازعات متأخرة عن ثلاثة فصلت ، تأخر البارز عن الكامن ، فقد (جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) قبل بناء السماء (وَالْجِبالَ أَرْساها) بعدها ، ثم (وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) بنزول تراكيب الماء من دخان السماء ولمّا تصبح بالفعل بركات وأقوات ، إذ كانت مخبيّات ، ثم (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) بعد بطونها وكمونها ، إذا فالثلاثة هي قبل بناء السماء دخانا أم سبع سماوات ، كامنة في الأرض ، وهي بعد ذلك ظاهرة ، وكما (الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) وهي الحركة المعتدلة التي هيأتها لفعلية الحياة ، وقد كانت شموسا في حراكات غير معتدلة.

ولأن (قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) قد تعني ـ فيما عنت ـ أقوات الفصول الأربعة ، لذلك فمن هذه الثلاث ما هو متأخر عن تسبيع السماء ، كما منها المتقدم عليه ، ونحتمل أخيرا ـ بناء على وحدة الثلاثة في فصلت والنازعات ظهورا وكمونا ـ أن للسماء بنائين اثنين بعد دخانها ، بناء اوّل انتج (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) وهي تعديل لها وتحريك عن حرّ الى قرّ لحدّ إنزال الماء ، وبناء ثانيا هو تسبيعها ، فآيات النازعات تعني البناء الأول إذ لم يذكر ضمن أفعالها الثلاثة تسبيعها؟ وآية فصلت تعني البنائين مع بعض ، ودحو الأرض وإخراج ماءها ومرعاها وإرساء جبالها كان بين البنائين!.

إذا فلا تنازع بين آيات فصلت والنازعات إلا تشابهات ترجع إلى محكمات والله اعلم بما أنزل من محكمات ومتشابهات.

وأمّا نظرات العلماء في انفصال الأرض عن الشمس ، فإنها على كونها فرضيات لم تصل لحد القانون العلمي القاطع ، ليست لتعارض صراح الآيات أنها خلقت قبل الشمس بمرحلتين ، وقد أثبت العلم أخيرا استحالة

٢٦

الواقعية لهذه الفرضية لاختلاف جرمي الأرض والشمس شاسعا يحيل تولد إحداهما عن الأخرى (١).

__________________

(١) الفرضيات حول تشكيل المنظومة الشمسية كالتالية :

١ ـ فرضية التصادم ل : بوفون الفرنسي ١٧٤٩ م.

انه يذكر في كتاب له بين (٤٤) كتابا ألفها في التاريخ الطبيعي ويقول حول تشكل المنظومة الشمسية : «الأم الكبرى للعائلة الشمسية كانت تحمل أولادها لزمن مجهول ، ثم أخذت في ولادتها ، وكلّف كوكب من ذوات الأذناب لإيلادها فضربت بنفسها الشمس في سرعتها الهائلة فتقاطرت منها قطرات ، وهذه المواليد الحائرة أصبحت تدور حول أنفسها على أثر هذه الضربة الهائلة فأصبحت عائلة لأمها الشمس.

٢ ـ الفرضية الحلقوية او السحابية ل «كانت» الآلماني ٢٠ ـ ٣٠ بعد بوفون : أبطل كانت باستدلالات واستبعادات فرضية التصادم ومنها أن كوكبة صغيرة لا تقدر في صدامها مع الشمس أن تفصل عنها جذوات تصبح كرات ، فهذه الفرضية بعيدة في عالم الفرض ... وسائر الأدلة المذكورة في محالها ـ ثم يشرح فرضية الحلقوية بان الشمس كانت في البداية كتلة وسيعة من الغازات المعتدلة الشاغلة للمنظومة الحالية ، وكانت تحول حول نفسها بهدوء فانتقلت مقادير من حرارتها على أثر التشعشعات إلى الأجواء المحيطة بها فانتقصت بذلك حرارتها فانقبضت وتراكمت لحد كثير فزادت حركتها الدورانية فخلقت هذه السرعة زيادة في فرارها عن مركزها وعلى اثرها تسطّح قطبها وانقطعت منها حلقات سقطت على الصفحة الاستوائية ثم تكسرت هذه الحلقات وتراكمت وتحولت عن الحلقات الغازية الى كرات المنظومة الحالية.

٣ ـ فرضية «لا بلاس» الفرنسي ١٧٩٦ م :

لا بلاس يأخذ الفرضية الحلقوية بعين الإعتبار (في كتابه عرض الجهاز العالمي) وعرضها مرة ثانية بشرح أوسع ووجه أبدع ولكنه لم يكن لوقت ما يستدل له بادلة رياضية ـ : ثم ـ كلارك ماكس ول ـ بعد ستين سنة من هذه الفرضية ـ أخذ يجدد النظرية فيها بدقة ووصل الى النتيجة التالية :

أن تقبل هذه الفرضية يستلزم قبول تناقضات عدة ...

ولحد الآن أصبح الفرضيتان الحلقوية والتصادم مقبورين تلو بعض ، ومن ثم أخذ. جمبرلن ـ مولتون الامريكي ، وسرجس جنس الانجليزي يجددون حياة فرضية التصادم مرة أخرى ، ولأنها لم ـ

٢٧

هذا ـ وإلى رجعة تفصيلية بحثا دقيقا عن آية التقسيم :

كيف خلقت السماوات والأرض؟ ومم خلقتا؟ ومتى خلقتا؟ أسئلة تطرح نفسها وإليكم إجاباتها :

__________________

ـ تكن مثل الحلقوية تشتمل على تناقضات ، وفي هذه الرجعة وهي ترث الفرضية السحابية طرد عنها بعض الاستبعادات التي كانت عليها ، فالسيارة ذات الذنب هنا أصبحت ثابتة وجرمها كالشمس لكي تستطيع بصدامها مع الشمس على فصل قطرات منها.

ولكنها رغم هذه الرجعة لم تعد قابلة للقبول ، حيث الأصل المفروض فيها وفي زميلتها مظنة المشابهة بين عناصر الشمس وسيارات المنظومة ، فما ذا بعد إذا اختلفت العناصر هنا وهناك اختلافا شاسعا.

هنا «ويززيكر» الالماني في كتابه (سر الخلقة) يتبنى تشكل المنظومة على مبنى العناصر التي تشكل الشمس وسائر المنظومة قائلا : إن الفيزيا النجومية كشفت عن اختلاف العناصر بين الشمس وسائر المنظومة.

ثم «شترومكرن» بعد تأمل زائد حول كيفية هذه العناصر حصل على نتيجة : أن ٣٥% من جرم الشمس يتشكل من خالص الأوكسيجين ، ومن ثم تبين انه ٥٠% وقسم كبير منها هليوم.

ثم «شوارتس شيلد» استمر في تكامل هذا المبنى ، وعلى اثر التجزئة الدقيقة الطيفية من سطح الشمس أنتج أن الشمس تشتمل ـ فقط ـ على ١% من العنصر الارضي و ٩٩% منها مركب من نيدروجين بكثرة وهليوم بقلة.

هذا آخر ما انتجته التحقيقات حول عناصر الشمس وسائر المنظومة ، مما يحيل حسب العادة انفصال الأرض وسائر المنظومة من الشمس.

ومن لباب العجاب ان «ويز زيكر» وهو أول كاشف لاختلاف العناصر يرتجع إلى فرضيتي كانت ولا بلاس موجها ذلك الاستبعاد ان الحلقات المنفصلة عن الشمس علّها من ١% من جرمها المشابه لأجرامها ، حيث الشمس كانت مائة أضعاف حجمها الفعلي وعلى أثر الحركة الدورانية انفصلت عنها ـ فقط ـ العناصر ال ١% التي تشكل الأرض وسائر المنظومة.

هنا نعرف مدى بطلان هذه الفرضيات ، وصحة البيان القرآني الناصع ، أن لا صلة بين الأرض والشمس إلا في المادة الأم «الماء» وان الأرض متقدمة على الشمس في اصل تكونها ، وان كانت تستضيىء منها حال اعتدالها الحيوي الحالي.

٢٨

المادة الاولية لخلق الكون «ماء»؟!

آية يتيمة وحيدة في القرآن تتكفل بيانا مجملا لأم الكون اجمع : المادة الأولى التي خلقت منها السماوات والأرض وما بينهما : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١١ : ٧) وبيانها الفصل راجع إلى موضعه في «الفرقان».

«كان» هنا تضرب إلى أعماق الماضي البعيد لكينونة «الماء» قبل خلق الأرض والسماء ، فليس ـ إذا ـ هو الماء المتولد عنهما وفيهما حيث خلقهما «و» الحال أن (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ).

والعرش فيما يعنيه من معانيه هو السلطة والبناء ، وقد كانت سلطته التدبيرية قبل خلق الأرض والسماء على الماء إذ لم يكن دونه كائن ، وكان بنائه سائر الخلق على الماء إذ لم يخلقهما دون مادة سابقة.

وقد وردت في بعد هذا الماضي لكينونة الماء رواية ما أرواها واروعها عن الإمام امير المؤمنين (ع) تضرب إلى مليارات من سنينا والله اعلم (١)

__________________

(١) في تفسير البرهان ٢ : ٢٠٨ عن تفسير العياشي سئل امير المؤمنين (عليه السلام) عن مدة ما كان عرشه على الماء قبل ان يخلق الأرض والسماء فقال : تحسن ان تحسب؟ فقال ـ السائل ـ نعم فقال (عليه السلام) لو أن الأرض من المشرق الى المغرب ومن الأرض إلى السماء حب خردل ثم كلفت على ضعفك ان تحمله حبة حبة من المشرق الى المغرب حتى أفنيته لكان ربع عشر جزء من سبعين جزء من بقاء عرش ربنا على الماء قبل ان يخلق الأرض والسماء ثم قال : انما مثلث لك مثالا.

أقول هذا الزمن الهائل هو من زمن بقاء العرش مع الماء ، ومع النظر الى بطؤ الحركة العادية ، والسعة الهائلة بين المشرق والمغرب وعدد حبات الخردل ملأ الأرض والسماوات ، والزمن الذي يتطلب نقل كل من المشرق الى المغرب ، يفوق عمر المادة الاولية بليارات البليارات من السنين الضوئية ، ويا لعلم الامام حيث يحيط بهذا الزمن دون ان يلفظ بحدة إذ لا يحده القلم!

٢٩

وعن سائر العترة الطاهرة كلمة واحدة في متظافر الرواية «كان كل شيء ماء وكان عرشه على الماء فأمر الله الماء فاضطرم نارا ثم أمر النار فخمدت فارتفع من خمودها دخان فخلق السماوات من ذلك الدخان وخلق الأرض من الرماد» (١) مما تتأيد بالقرآن (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ..).

«الماء» هو الخلق الأول إذ لا خلق غيره ، المادة الأولى إذ لا مادة سواها «ولو كان أول ما خلق من خلقه ، الشيء من الشيء ، إذا لم يكن له انقطاع أبدا ، ولم يزل الله إذا ومعه شيء ليس هو يتقدمه ، ولكنه كان إذ لا شيء وخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه وهو الماء الذي خلق الأشياء منه ، فجعل نسب كل شيء إلى الماء ولم يجعل للماء نسبا يضاف إلى شيء» (٢).

إذا فليس هو ـ قطعا ـ مائنا (O ٢H) منسوبا الى أبوين ، ولا أي عنصر أو جزئي أو ذرة حتى الئيدروجين حيث النسب يشملها كلها فهي ـ إذا ـ المادة الأولى المعبّر عنها هنا بالماء لمناسبات شتى قدمناها في موضعها.

ذلك أن الماء على أثر تفجّره فوق الذرية اقتسمت إلى زبد الأرض ودخان السماء ، وهذه أولى الفتقات بعد رتقات للأرضين والسماوات : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ. وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) (٢١ : ٣٢).

__________________

(١) رواه الكليني في الكافي بسند عن محمد بن مسلم ، قال قال لي ابو جعفر (ع) ...

(٢) الكلين في روضة الكافي باسناده عن محمد بن عطية قال جاء رجل الى أبي جعفر (ع) من اهل الشام من علمائهم ـ الى ان قال ـ : وكان الخالق قبل المخلوق ولو كان ..

٣٠

فقد كان هنالك رتق أوّل إذ كانتا ماء (فَفَتَقْناهُما) في تلك التفجرة عن مادتها الأولى ، وفتق ثان اقتسام كل إلى طبقات سبع ، وثالث فتق السماء بالأمطار وفتق الأرض بالإنبات ، ورابع فتق السماء بالوحي وفتق أراضي القلوب بتقبل الوحي ، أماذا من فتق بعد رتق فصلناها في موضعها.

آية الدخان هنا تشير إلى ما خلّفه الفتق الاوّل (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) ثم الثاني (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) ورابع (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) وبينما الثالث يشار إليه في تكملة الأرض : (وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) إمطارا من السماء فإنباتا من الأرض.

وترى هذه السماوات نرى مادتها المرتوقة «دخان» وفتقها إلى سبعها هنا ، فأين المادة الأرضية وأين فتقها إلى سبعها؟ واين سبعها؟.

(خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) تشير إلى أصلها مادة كثيفة تناسبها كما السماء في دخانها ، ثم ومن (الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) (٦٥ : ١٢) تشير إلى انقسامها إلى سبعها ، ومن ثم (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً .. فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) تشير إلى موازاة انقسامها إلى سبعها مع تسبيع السماء «في يومين» متداخلين لهما لذلك التقسيم الجسيم! فسبع الأرض ومادتها في مراحلها الثلاث غامضة مرموزة دون سبع السماء بمادتها ، ونحن نسكت عما سكت الله عنه ، ونستلهم ما ألهمه رمزا كما هنا.

فلو لا تسبيع الأرض مع تسبيع السماء في يوميها فلما ذا خطاب التكوين لهما «ائتيا ..» ولماذا الجواب تقبّلا لتكوين (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)؟

٣١

ولأن الأرضين السبع هي في السماوات ، وعلّ كل واحدة منها في كل واحدة منها ، لذلك (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) و «هن» جمعا باعتبار الأول الى سبع وسبع ، فهنّ إذا اربع عشر طبقات.

هذان يومان من أصل الخلق يختصان بخلق السماء والأرض طباقا ، وقبلهما يومان لخلق الأرض الامّ إمّا ذا من أرض : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) وهل للسماء الأم (وَهِيَ دُخانٌ) من نصيب في الباقيين من الستة ، وهل ل (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) من نصيب فيهما؟ نعم بطبيعة الحال ، فإنهما ضمن خلق السماوات من طباقها وكراتها وقبلهما دخانها ، كما الأرض الأم وطباقها ، أمور خمسة حصلت في ستة أيام!.

فهل ـ بعد ـ يبقى نصيب لخلق المادة الأم «الماء»؟ كلّا ، لأنه ليس من خلق السماوات والأرض في شيء إذ لم تكن حينها لا سماء ولا أرضا ، ولا يعني خلقهما إلّا الزبد والدخان الحصيلين من التفجرة فوق الذرية في المادة الأم ، فلخلق الأرض يومان ، ولتسبيع الأرض والسماء يومان ، ثم الآخران يقتسمان بين دخان السماء وزينة السماء الدنيا.

أم وكما تداخل السبعان في يومي السماوات ، كذلك التداخل للأرض والدخان في يومي الأرض ، فيبقى أخيران لزينة السماء الدنيا!

ثم اليومان لخلق الأرض قد يتخللهما اليومان لتسبيع السماء والأرض ، فتتأخر الأفعال الثلاثة للأرض في أيامها الأربعة عن استقلال هذه الأرض ، مهما شملت هذه الثلاث سائر الأرضيين السبع!

وعلى أية حال هنا محكمات في ذلك التقسيم العضال ، يومان لخلق الأرض ، ويومان لتسبيع السماء ، ثم لا ندري كيف التقسيم في الآخرين.

٣٢

ومن ثم تداخل السبعين ليومي تسبيع السماء ، ولا ندري هل تداخل الأرض والدخان في يومي الأرض أم لكلّ نصيبه متفاصلا؟

ولأن خلق الأرض كما السماء يشمل مرحلتي الوحدة الأم والكثرة السبع ، ف (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) قد يعني يوما لخلق الأرض الأم ويوما لتسبيعها مع السماء ، فتصبح الأربعة ـ إذا ـ ثلاثة ، فثلاثة باقية لسائر الخلق!.

هنالك نصوص وظواهر هي بدرجاتها محكمات ، وهنا مبهمات مجملات متشابهات ، نؤمن بما تشابه منها ونعلن ما أحكم فيها نصا بنص وظاهرا بظاهر والله أعلم بما قال!

ثم لا بد لنا من تحقيق معمّق أنيق حول ذلك التقسيم في رجعة ثالثة إلى آيات التقسيم :

(خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ)؟

ترى أنها أرضنا هذه التي نسكنها؟ حيث الأرض في كافة إطلاقاتها في ساير القرآن تعنيها لا سواها.

لكنما الأرض كما السماء تعني جنسها الشامل للسبع إلّا لقرينة تخصها ، والخطابات القرآنية تعم كافة المكلفين فلا تخص أهل هذه الأرض ، ولو أنها هذه لا سواها فكيف اقتسمت مع السماء إلى سبع؟ أو ليس لسائر السبع نصيب من يومي الخلق وأربعة التكملة ، وقد شملتها الأيام الستة في خلق السماوات والأرض!.

أم إنها السبع حيث الإطلاق يشملها ، وآيات خلق السماوات والأرض تؤيدها؟ إلّا أن «قضاهن» الشامل لقضاء الأرض سبعا ، تعارض سبعها قبل تسبيعها!

٣٣

أم انها الأرض الأم خلقت في يومين ، ثم في «قضاهن» اقتسمت سبعا؟ وكيف تقتسم بعد كمالها الثلاثة في أربعة ايام؟ والظاهر من (خَلَقَ الْأَرْضَ) كل خلق جوهري لها فيشمل تسبيعها!

علّ الثلاث أوسطها أولاها ، أن خلقت سبعا «في يومين» واستكملت في أربعة ، ثم تمكنت في «قضاهن» اقتساما في السماوات السبع ، فالقضاء لدخان السماء تسبيعها ، وللأرضين السبع تمكينها عن جمعها إلى مكانات اخرى ، ولذلك ترى النص يخص (سَبْعَ سَماواتٍ) بذلك القضاء ، وتهمل عن سبع أرضين ، مع العلم أنها داخلة في القضاء ، والفارق أن قضاء السماء تقسيم لها إلى سبع ، وقضاء الأرضين تحويل لها إلى سماواتها.

وقد يساعد هذه الوسطى أدب اللفظ حيث يقدم الأفعال الثلاثة على تسبيع السماء ، وواقع المعنى ، إذ من البعيد جدا اقتسام الأرض سبعا بعد تكملتها ، وتساعدها الروايات المستعرضة لها (١).

__________________

(١) ومنها رواية الكافي عن الصادق (عليه السلام) «وفي يوم الأحد والاثنين خلق الأرضين» تفسير البرهان ٢ : ١٧٧ وفيه ٢ : ٢٠٧ عن تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام) مثله. ومنها ما في شرح النهج للخوئي ١ : ٣٩٣ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخلق من زبده الأرضين السبع ..» ومنها ما في دعاء عرفة عن الإمام الحسين (عليه السلام) تسبح لك السماوات السبع والأرضون ومن فيهن» وفي القرآن «الأرض» مكان «الأرضون» مما يدل على انها معنية من «الأرض» وقد يدل عليه أو يؤيده ما في الدر المنثور ٥ : ٢٦١ عن عكرمة ان اليهود قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، يوم الأحد قال : خلق الله فيه الأرض» وجاه الرواية المتظافرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن عترته (عليهم السلام) انها خلقت يوم الأحد والاثنين ، كما في نفس المصدر اخرج ابن جرير عن أبي بكر قال جاء اليهود الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا يا محمد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيام الستة فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين .. إذا فاليوم الثاني لتسبيع الأرض بعد خلقها.

٣٤

وهنا اليومان قد يقتسمان إلى خلق الأرض الأم ، واقتسامها إلى سبع ومن ثم الأربعة التكاملية للثلاثة ، ولو أنّ تقسّم الأرض إلى سبع كان في غير يوميها ، موازيا لسبع السماء أمّاذا؟ فالمحتملان التاليان في موردها :

١ ـ يوم للأرض الأمّ الحصيلة عن تفجرة الأم الاولى : «الماء» ويوم لتجميدها بعد ذوبانها وقد تؤيده (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً ..) (٦٧ : ١٥) حيث ذلت بعد شماس ، واعتدلت بعد ارتكاس ، فلشماسها يوم ولذلّها يوم.

٢ ـ أم إن يوما لحالتي شماسها وذلّها والآخر لدحوها (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) وعلى أثر دحوها وحراكها ، تصلّبت رواسيها شيئا فشيئا في أعماقها ف (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها .. وَالْجِبالَ أَرْساها ..) كبداية للأعمال الثلاثة في الأربعة التكاملية .. أماذا؟

ولكنما الأوفق للمحات الآيات وتصريحات الروايات وقضية الترتيب الطبيعي علّه ما قبلهما ، أن الثاني لتسبيع الأرض ، ثم الأربعة لتكامل السبع ، ومن تمكينها في مكاناتها بين السماوات السبع ، ثم إخراج ماءها الكامن فيها ومرعاها الباطن لها ، وإرساء جبالها في أعماقها بعد ما جعلت من فوقها ، وخالقها أعلم بما قال.

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ... فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ..)

هنا افعال ثلاثة في أربعة أيام ، فكيف التقسيم لثلاثة بين أربعة؟.

تعرّفنا من آية الذّلول حالتي الأرض في شماس وذلّ ، فقد كانت في اوّل أمرها شماسا : متحرقة مذابة وفي حراكات مضطربة كما الدابة الشّموس ، فحركتها الدورانية من ناحية ، ومساس سطحها الخارجي مع الهواء من أخرى (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) كبداية لخلق الجبال ولمّا ترسو الجبال في أعماقها ، وإنّما أمواج على سطح الأرض ، وكما يسأل

٣٥

الإمام امير المؤمنين (عليه السلام) ممّ خلقت الجبال؟ قال : من الأمواج» (١) وعلّه اليوم الأول من الأربعة لبداية خلق الجبال.

ثم وتّدها في أعماق الأرض لما أخذت الأرض تجمد من ظاهرها إلى أعماقها (وَالْجِبالَ أَرْساها) تعني التي جعلت فيها من فوقها وأرساها في متنها وعمقها ، فللجبال حالة أولى هي نصبها (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ).

(وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها).

وحالة أخرى بعدها هي إرساءها (وَالْجِبالَ أَرْساها) وتوتيدها (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧٨ : ٧) أن تميد بكم (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) (١٦ : ١٥) «وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الصم من صياخيدها فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها أو أن تسيخ بحملها» «ووتد بالصخور ميدان أرضه» وهذا من دحوها الذي خلّف إخراج ماءها ومرعاها بعد ما (وَالْجِبالَ أَرْساها)!

هذان يومان كما يقول القرآن لنصب الجبال وإرسائها ، وقد يصادقه نظرات المعرفة الأرضية أن اليوم الأول لبداية ظهور الجبال والثاني لإرساء الجبال في قطع أديمها والاول ٣٦٠ مليون سنة والثاني ١٣٥ مليون سنة.

فالملاحظ في الدور الأول ظهور «كالدونين وهرسى نين» وفي الثاني أغلب الجبال الفعلية ، والأصل هو المستفاد من القرآن ليومي جعل الجبال وإرسائها.

(وَبارَكَ فِيها).

مباركة الأرض هي تحصّل المياه فيها وتهيؤها لتبريك الأرض ببركاتها

__________________

(١) تفسير البرهان : ١٠ : ٣٢٧.

٣٦

وبذلّها بعد شماسها وقرّها بعد حرّها ، واعتدال حركاتها بعد اضطرابها ، وتقول النظرية معرفة الأرضية : إن هذا الدور لم يعد طائلا إلّا ٥٤ مليون سنة والأكثرية الساحقة من الماء والكلاء التي نعيشها الآن هي من ذلك الدور ، وهي أهم الأدوار الجغرافية العمارية لأرضنا ، لها أهميتها بين أدوارها.

(وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها).

علّها أخذ في تنظيم الفصول الأربعة ، ولأن الأقوات ليست إلّا لذويها فهو دور ظهور الحياة الحيوانية والإنسانية على وجه الأرض ، وتقول النظرية إن هذا اليوم الرابع يقدر ب ٠٠٠ ، ٣٠٠ سنة التي ظهر فيها الإنسان (١).

(سَواءً لِلسَّائِلِينَ).

يعني المحتاجين لأن كل محتاج سائل ، وفي العالم من خلق الله من لا يسأل ولا يقدر عليه من الحيوان كثير «فهم سائلون وإن لم يسألوا» (٢) فمن سائل يسأل بلسان القال ، ومنه من ليس له قال أم لا يسأل بقال فسؤاله ـ إذا ـ بلسان الحال ، ومن سائل يسأل قبل كونه سؤال الحاجة الذاتية للاستكمال ، فهنالك مثلث السؤال «فهم سائلون» بسائر السؤال «وان لم يسألوا» بلسان القال!

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٥ : ٣٠ ـ ٢٩) (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا

__________________

(١) وهذا على فرض صحته لا ينافي عمر هذا النسل المقدر بزهاء عشرة آلاف ، فان قبله انسأل إنسانية كما فصلنا في آية الخلافة في البقرة.

(٢) نور الثقلين ٤ : ٥٣٨ تفسير القمي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث طويل حول تفسير آية التقسيم.

٣٧

نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ..) (١٤ : ٣٤).

وترى البركات والأقوات السواء للسائلين هل هي قدر السؤال وحسبها؟ إنها قدر الحاجيات والمصلحيات دون إفراط فيها ولا تفريط ، فالنبات يأخذ من الماء والهواء ومن القرّ والحرّ قدر الحاجة ، والحيوان آخذ منها كما يحتاجه ، وعلى الإنسان أن يعدل فيما يأخذ دون أثرة ولا كبرياء ، اقتطاعا لأكثر مما يحتاجه مهما كان من سعيه ، فوا ويلاه إذا كان من مساعي الآخرين!.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ..).

ذلك استواءه الاستيلاء لخلق الدخان سبعا كما خلق الأرض في يومين (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢ : ٢٩).

هنا وهناك «استوى إلى» وبعد خلق السماوات الأرض «استوى على» والفارق بينهما أن الأولى استواء لخلقهما ، والثانية استواء لتدبير أمرهما : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٧ : ٥٤).

استوى إلى السماء لخلق لها ثان وهي دخان ، حالة ثانية للمادة الأم ، فنصيب السماء دخان ثائر ، ونصيب الأرض زبد مائر ، وليدان اثنان إثر التفجرة فوق الذرية للوالدة الكبرى «الماء».

ترى ما هي «الدخان» ولم يأت ذكرها إلّا هنا وفي «الدخان» : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ. يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ. رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) (١٠ ـ ١٢).

ليس الدخان ـ فقط ـ الصاعد عن محترق الحطب وأضرابه ، بل هو

٣٨

المستصحب للهيب أيّا كان : من لهيب الأحطاب والفحوم الحجرية ، إلى لهيب الفلزات المذابة على درجاتها الحرارية المختلفة ، وإلى لهيب الغازات الصاعدة عن التفجرات الذرية على درجاتها الحرارية ، إلى الئيدروجين وقد شكلت الكرة الشمسية منها في قسم كبير من جرمها ، ففي مركزها ٧٠ مليون درجة من الطاقة الحرارية ، وإلى ٣٨٠ مليون درجة كالتي في مركز الشعري وهي تبعد عنا ٥٠٠٠٠ ضعف الشمس ، وهنالك درجات فوقها لم يصل العلم إليها حتى الآن ، والتي وصلها ليست إلّا من وليدات الدخان الأم.

وهل هنالك بناء للسماء بين دخانها وطباقها كما بنيت الأرض أرضا ما ، ثم انقسمت إلى سبعها؟ علّه نعم ، فالتسوية سبعا تتحمل للسماء بناء أولا هو لها وحدها بتحويلها عن دخانها إلى حالة أخرى ، فيه (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) وثانيا هو تسبيعها ، فخلق الأرض وما فيها هو قبل تسبيع السماء كما تقول آية البقرة وفصّلت ، ودحو الأرض وإخراج ماءها ومرعاها هو بين بناء السماء وتسبيعها.

ف (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) لبناءها سماء وتسويتها سبعا وكما :

(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ ..).

وتراه قولا قوليا؟ وليست الأرض والسماء من أهل المقال ، ولا خيرة الأفعال «طوعا» وإذ لا تختار ف «كرها»! فهو ـ إذا ـ قوله الفعل تكوينيا كما في سائر تكوينه (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٦ : ٨٢) وتعبيره عن فعله بقوله إشارة إلى نفاذ أمره دونما نظرة للفاعل ولا من القابل ، وهي فيهما لكل فاعل غير الله (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) (٣ : ٨٣) (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ

٣٩

وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) (١٣ : ١٥) فهذه السجدة وذلك التسليم تعطفان إلى طواعية شاملة للكون أمام أمر التكوين في بداية الخلق ونهايته ، فقد «خلق السماوات موطدات بلا عمد قائمات بلا سند ، دعاهن فأجبن طائعات مذعنات غير متلكئات ولا مبطيات» (١) «ذلل للهابطين بأمره والصاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها وناداها بعد إذ هي دخان فالتحمت عرى أشراجها» (٢) فقد كان التحامها ـ وعلّه بناءها سماء قبل سبعها ـ كان ذلك بدعائها والأرض «ائتيا» (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) فكان في إتيانهما بناء لهما ثان بعد دخان السماء وزبد الأرض أماذا؟

وفي (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) إشارة إلى حتمية إرادته ، أن لو كانت لهما خيرة لامتنعتا ، فإتيانهما ـ إذا ـ واقع كرها ، «قالتا» بلسان الكينونة والحال وواقع المحكي المقال : (أَتَيْنا طائِعِينَ)! فعل العاقل اللبيب والسامع المجيب جريا على المراد ووقوفا عند الحدود والأقدار ، من غير معاناة طويلة ولا مشقة شديدة ، فكانت في ذلك جارية مجرى الطائع المميز إذا انقاد إلى ما أمر به ووقف عند ما وقف عنده!

«فقضاهن» هل السماء فحسب؟ والإتيان بعد الأمر لهما دونها فحسب! أم لهما؟ وهذه جمع وهما اثنان! .. إنه قضاءهما سبعا ، سبعا في سبع ، علّ كل أرض استكنت في سماء أماذا؟ وما ألطفه تعبيرا أن الأرض ما كن السماء كسائر الأنجم حيث يحول حولها الفضاء ، ليست على قرني الثور أو ظهر الحوت أماذا من أماكن اختلقتها أيدي الجهل والجعل! (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) دورين من الأدوار الستة لخلق السماوات والأرض ، وذلك قضاء تكوين ثان للأرض والسماء ، أيا

__________________

(١ ، ٢). نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام).

٤٠