وبتأخيرها يتبين أن قد تقرر في علم الله أنهم يعملون ما يدعوهم إليه نوح وأن آجالهم تطول ، وإذ لم يفعلوه فقد كشف للناس أن الله علم إنهم لا يفعلون ما دعاهم إليه نوح وأن الله قاطع آجالهم ، وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «اعملوا فكل ميسّر إلى ما خلق له» ، وقد استعصى فهم هذا على كثير من الناس فخلطوا بين ما هو مقرر في علم الله وما أظهره قدر الله في الخارج الوجودي.
وفي إقحام فعل (كُنْتُمْ) قبل (تَعْلَمُونَ) إيذان بأن علمهم بذلك المنتفي لوقوعه شرطا لحرف (لَوْ) محقق انتفاؤه كما بيناه في قوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) في سورة يونس [٢].
وجواب (لَوْ) محذوف دل عليه قوله : (لا يُؤَخَّرُ). والتقدير : لأيقنتم أنه لا يؤخر.
[٥ ـ ٦] (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦))
جرد فعل (قالَ) هنا ، من العاطف لأنه حكاية جواب نوح عن قول الله له (أَنْذِرْ قَوْمَكَ) [نوح : ١] عومل معاملة الجواب الذي يتلقى به الأمر على الفور على طريقة المحاورات التي تقدمت في قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠] ، تنبيها على مبادرة نوح بإبلاغ الرسالة إلى قومه وتمام حرصه في ذلك كما أفاده قوله : (لَيْلاً وَنَهاراً) وحصول يأسه منهم ، فجعل مراجعته ربه بعد مهلة مستفادة من قوله : (لَيْلاً وَنَهاراً) بمنزلة المراجعة في المقام الواحد بين المتحاورين. ولك أن تجعل جملة (قالَ رَبِ) إلخ مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع يترقب معرفة ما ذا أجاب قوم نوح دعوته فكان في هذه الجملة بيان ما يترقبه السامع مع زيادة مراجعة نوح ربه تعالى.
وهذا الخبر مستعمل في لازم معناه وهو الشكاية والتمهيد لطلب النصر عليهم لأن المخاطب به عالم بمدلول الخبر. وذلك ما سيفضي إليه بقوله : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآيات [نوح : ٢٦].
وفائدة حكاية ما ناجى به نوح ربه إظهار توكله على الله ، وانتصار الله له ، والإتيان على مهمات من العبرة بقصته ، بتلوين لحكاية أقواله وأقوال قومه وقول الله له. وتلك ثمان مقالات هي :
١ ـ (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) إلخ [نوح : ١].