تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٢

ويندرج تحت هذا أنواع كثيرة. منها خلة من خلال الجاهلية ، وهي الطعن في أنساب الناس ، فكانوا يرمون النساء برجال ليسوا بأزواجهن ، ويليطون بعض الأولاد بغير آبائهم بهتانا ، أو سوء ظن إذا رأوا بعدا في الشبه بين الابن وأبيه أو رأوا شبهه برجل آخر من الحي أو رأوا لونا مخالفا للون الأب أو الأم ، تخرصا وجهلا بأسباب التشكل ، فإن النسل ينزع في الشبه وفي اللون إلى أصول من سلسلة الآباء أو الأمهات الأدنين أو الأبعدين ، وجهلا بالشبه الناشئ عن الوحم. وقد جاء أعرابي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن امرأتي ولدت ولدا أسود (يريد أن ينتفي منه) فقال له النبي : «هل لك من إبل؟ قال : نعم. قال : ما ألوانهن؟ قال : ورق. قال : وهل فيها من جمل أسود؟ قال : نعم. قال : فمن أين ذلك؟ قال : لعله عرق نزعه. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلعل ابنك نزعه عرق» ، ونهاه عن الانتفاء منه. فهذا كان شائعا في مجتمعات الجاهلية فنهى الله المسلمين عن ذلك.

ومنها القذف بالزنى وغيره من المساوي بدون مشاهدة ، وربما رموا الجيرة من الرجال والنساء بذلك. وكذلك كان عملهم إذا غاب زوج المرأة لم يلبثوا أن يلصقوا بها تهمة ببعض جيرتها ، وكذلك يصنعون إذا تزوج منهم شيخ مسنّ امرأة شابة أو نصفا فولدت له ألصقوا الولد ببعض الجيرة. ولذلك لمّا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما «سلوني» أكثر الحاضرون أن يسأل الرجل فيقول : من أبي؟ فيقول : أبوك فلان. وكان العرب في الجاهلية يطعنون في نسب أسامة بن زيد من أبيه زيد بن حارثة لأن أسامة كان أسود اللون وكان زيد أبوه أبيض أزهر ، وقد أثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أسامة بن زيد بن حارثة. فهذا خلق باطل كان متفشيا في الجاهلية نهى الله المسلمين عن سوء أثره.

ومنها تجنب الكذب. قال قتادة : لا تقف : لا تقل : رأيت وأنت لم تر ، ولا سمعت وأنت لم تسمع ، وعلمت وأنت لم تعلم.

ومنها شهادة الزور وشملها هذا النهي ، وبذلك فسر محمد بن الحنفية وجماعة.

وما يشهد لإرادة جميع هذه المعاني تعليل النهي بجملة (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً). فموقع الجملة موقع تعليل ، أي أنك أيها الإنسان تسأل عما تسنده إلى سمعك وبصرك وعقلك بأن مراجع القفو المنهي عنه إلى نسبة لسمع أو بصر أو عقل في المسموعات والمبصرات والمعتقدات.

وهذا أدب خلقي عظيم ، وهو أيضا إصلاح عقلي جليل يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية بحيث لا يختلط عندها المعلوم والمظنون والموهوم. ثم هو أيضا إصلاح

٨١

اجتماعي جليل يجنب الأمة من الوقوع والإيقاع في الأضرار والمهالك من جراء الاستناد إلى أدلة موهومة.

وقد صيغت جملة (كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) على هذا النظم بتقديم (كل) الدالة على الإحاطة من أول الأمر. وأتي باسم الإشارة دون الضمير بأن يقال : كلها كان عنه مسئولا ، لما في الإشارة من زيادة التمييز. وأقحم فعل (كان) لدلالته على رسوخ الخبر كما تقدم غير مرة.

و (عَنْهُ) جار ومجرور في موضع النائب عن الفاعل لاسم المفعول ، كقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧]. وقدم عليه للاهتمام ، وللرعي على الفاصلة. والتقدير : كان مسئولا عنه ، كما تقول : كان مسئولا زيد. ولا ضير في تقديم المجرور الذي هو في رتبة نائب الفاعل وإن كان تقديم نائب الفاعل ممنوعا لتوسع العرب في الظروف والمجرورات ، ولأن تقديم نائب الفاعل الصريح يصيّره مبتدأ ولا يصلح أن يكون المجرور مبتدأ فاندفع مانع التقديم.

والمعنى : كلّ السمع والبصر والفؤاد كان مسئولا عن نفسه ، ومحقوقا بأن يبين مستند صاحبه من حسه.

والسؤال : كناية عن المؤاخذة بالتقصير وتجاوز الحق ، كقول كعب :

وقيل إنك منسوب ومسئول

أي مؤاخذ بما اقترفت من هجو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين. وهو في الآية كناية بمرتبة أخرى عن مؤاخذة صاحب السمع والبصر والفؤاد بكذبه على حواسه. وليس هو بمجاز عقلي لمنافاة اعتباره هنا تأكيد الإسناد ب (إن) وب (كل) وملاحظة اسم الإشارة و (كان). وهذا المعنى كقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النّور : ٢٤] أي يسأل السمع : هل سمعت؟ فيقول : لم أسمع ، فيؤاخذ صاحبه بأن أسند إليه ما لم يبلّغه إياه وهكذا.

والاسم الإشارة بقوله : (أُولئِكَ) يعود إلى السمع والبصر والفؤاد وهو من استعمال اسم الإشارة الغالب استعماله للعامل في غير العاقل تنزيلا لتلك الحواس منزلة العقلاء لأنها جديرة بذلك إذ هي طريق العقل والعقل نفسه. على أن استعمال (أولئك) لغير العقلاء استعمال مشهور قيل هو استعمال حقيقي أو لأن هذا المجاز غلب حتى ساوى

٨٢

الحقيقة ، قال تعالى : (ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الإسراء : ١٠٢] وقال :

ذم المنازل بعد منزلة اللوى

والعيش بعد أولئك الأيام

وفيه تجريد الإسناد (مَسْؤُلاً) إلى تلك الأشياء بأن المقصود سؤال أصحابها ، وهو من نكت بلاغة القرآن.

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧))

نهي عن خصلة من خصال الجاهلية ، وهي خصلة الكبرياء ، وكان أهل الجاهلية يتعمدونها. وهذه الوصية الخامسة عشرة.

والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب ، وليس خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لا يناسب ما بعده.

والمرح ـ بفتح الميم وفتح الراء ـ : شدة ازدهاء المرء وفرحه بحاله في عظمة الرزق. و (مَرَحاً) مصدر وقع حالا من ضمير (تَمْشِ). ومجيء المصدر حالا كمجيئه صفة يرد منه المبالغة في الاتصاف. وتأويله باسم الفاعل ، أي لا تمش مارحا ، أي مشية المارح ، وهي المشية الدالة على كبرياء الماشي بتمايل وتبختر. ويجوز أن يكون (مَرَحاً) مفعولا مطلقا مبينا لفعل (تَمْشِ) لأن للمشي أنواعا ، منها : ما يدلّ على أن صاحبه ذو مرح. فإسناد المرح إلى المشي مجاز عقلي. والمشي مرحا أن يكون في المشي شدة وطء على الأرض وتطاول في بدن الماشي.

وجملة (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) استئناف ناشئ عن النهي بتوجيه خطاب ثان في هذا المعنى على سبيل التهكم ، أي أنك أيها الماشي مرحا لا تخرق بمشيك أديم الأرض ، ولا تبلغ بتطاولك في مشيك طول الجبال ، فما ذا يغريك بهذه المشية.

والخرق : قطع الشيء والفصل بين الأديم ، فخرق الأرض تمزيق قشر التراب. والكلام مستعمل في التغليظ بتنزيل الماشي الواطئ الأرض بشدة منزلة من يبتغي خرق وجه الأرض وتنزيله في تطاوله في مشيه إلى أعلى منزلة من يريد أن يبلغ طول الجبال.

والمقصود من التهكم التشنيع بهذا الفعل. فدل ذلك على أن المنهي عنه حرام لأنه فساد في خلق صاحبه وسوء في نيته وإهانة للناس بإظهار الشفوف عليهم وإرهابهم بقوته.

٨٣

وعن عمر بن الخطاب : أنه رأى غلاما يتبختر في مشيته فقال له : «إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله» يعني لأنها يرهب بها العدو إظهارا للقوة على أعداء الدين في الجهاد.

وإظهار اسم (الأرض) في قوله : (لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) دون إضمار ليكون هذا الكلام مستقلا عن غيره جاريا مجرى المثل.

(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨))

تذييل للجمل المتقدمة ابتداء من قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] باعتبار ما اشتملت عليه من التحذيرات والنواهي. فكل جملة فيها أمر هي مقتضية نهيا عن ضده ، وكل جملة فيها نهي هي مقتضية شيئا منهيا عنه ، فقوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) يقتضي عبادة مذمومة منهيا عنها ، وقوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] يقتضي إساءة منهيا عنها ، وعلى هذا القياس.

وقرأ الجمهور سيئة ـ بفتح الهمزة بعد المثناة التحتية وبهاء تأنيث في آخره ، وهي ضد الحسنة.

فالذي وصف بالسيئة وبأنه مكروه لا يكون إلا منهيا عنه أو مأمورا بضده إذ لا يكون المأمور به مكروها للآمر به ، وبهذا يظهر للسامع معان اسم الإشارة في قوله : (كُلُّ ذلِكَ).

وإنما اعتبر ما في المذكورات من معاني النهي لأن الأهم هو الإقلاع عما يقتضيه جميعها من المفاسد بالصراحة أو بالالتزام ، لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح في الاعتبار وإن كانا متلازمين في مثل هذا.

وقوله : (عِنْدَ رَبِّكَ) متعلق ب (مَكْرُوهاً) أي هو مذموم عند الله. وتقديم هذا الظرف على متعلقه للاهتمام بالظرف إذ هو مضاف لاسم الجلالة ، فزيادة (عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) لتشنيع الحالة ، أي مكروها فعله من فاعله. وفيه تعريض بأن فاعله مكروه عند الله.

وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف (كانَ سَيِّئُهُ) ـ بضم الهمزة وبهاء ضمير في آخره ـ. والضمير عائد إلى (كُلُّ ذلِكَ) ، و (كُلُّ ذلِكَ) هو نفس السيئ فإضافة (سيئ) إلى ضميره إضافة بيانية تفيد قوة صفة السيئ حتى كأنه شيئان يضاف

٨٤

أحدهما إلى الآخر. وهذه نكتة الإضافة البيانية كلما وقعت ، أي كان ما نهى عنه من ذلك مكروها عند الله.

وينبغي أن يكون (مَكْرُوهاً) خبرا ثانيا ل (كان) لأنه المناسب للقراءتين.

(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))

(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ)

عدل عن مخاطبة الأمة بضمائر جمع المخاطبين وضمائر المخاطب غير المعين إلى خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّا إلى ما سبق في أول هذه الآيات من قوله : (وَقَضى رَبُّكَ) إلخ [الإسراء : ٢٣]. وهو تذييل معترض بين جمل النهي. والإشارة إلى جميع ما ذكر من الأوامر والنواهي صراحة من قوله : (وَقَضى رَبُّكَ) [الإسراء : ٢٣].

وفي هذا التذييل تنبيه على أنّ ما اشتملت عليه الآيات السبع عشرة هو من الحكمة ، تحريضا على اتباع ما فيها وأنه خير كثير. وفيه امتنان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله أوحى إليه ، فذلك وجه قوله : (مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ) تنبيها على أن مثل ذلك لا يصل إليه الأميون لو لا الوحي من الله ، وأنه علمه ما لم يكن يعلم وأمره أن يعلمه الناس.

والحكمة : معرفة الحقائق على ما هي عليه دون غلط ولا اشتباه ، وتطلق على الكلام الدال عليها. وتقدم في قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦٩].

(وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً)

عطف على جمل النهي المتقدمة ، وهذا تأكيد لمضمون جملة (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] ، أعيد لقصد الاهتمام بأمر التوحيد بتكرير مضمونه وبما رتب عليه من الوعيد بأن يجازى بالخلود في النار مهانا.

والخطاب لغير معين على طريقة المنهيات قبله ، وبقرينة قوله عقبه : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) الآية [الإسراء : ٤٠].

والإلقاء : رمي الجسم من أعلى إلى أسفل ، وهو يؤذن بالإهانة.

والملوم : الذي ينكر عليه ما فعله.

٨٥

والمدحور : المطرود ، أي المطرود من جانب الله ، أي مغضوب عليه ومبعد من رحمته في الآخرة.

و «تلقى» منصوب في جواب النهي بفاء السببية والتسبب على المنهي عنه ، أي فيتسبب على جعلك مع الله إلها آخر إلقاؤك في جهنم.

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠))

تفريع على مقدر يدل على تقديره المفرع عليه. والتقدير : أفضلكم الله فأعطاكم البنين وجعل لنفسه البنات. ومناسبته لما قبله أن نسبة البنات إلى الله ادعاء آلهة تنتسب إلى الله بالنبوة ، إذ عبد فريق من العرب الملائكة كما عبدوا الأصنام ، واعتلوا لعبادتهم بأن الملائكة بنات الله تعالى كما حكى عنهم في قوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) إلى قوله : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ)[الزخرف : ١٩ ـ ٢٠].

فلما نهوا عن أن يجعلوا مع الله إلها آخر خصص بالتحذير عبادة الملائكة لئلا يتوهموا أن عبادة الملائكة ليست كعبادة الأصنام لأن الملائكة بنات الله ليتوهموا أن الله يرضى بأن يعبدوا أبناءه.

وقد جاء إبطال عبادة الملائكة بإبطال أصلها في معتقدهم ، وهو أنهم بنات الله ، فإذا تبيّن بطلان ذلك علموا أن جعلهم الملائكة آلهة يساوي جعلهم الأصنام آلهة.

فجملة (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) إلى آخرها متفرعة على جملة (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الإسراء : ٣٩] تفريعا على النهي كما بيناه باعتبار أن المنهي عنه مشتمل عمومه على هذا النوع الخاص الجدير بتخصيصه بالإنكار وهو شبيه ببدل البعض. فالفاء للتفريع وحقها أن تقع في أول جملتها ولكن أخرها أن للاستفهام الصدر في أسلوب الكلام العربي. وهذا هو الوجه الحسن في موقع حروف العطف مع همزة الاستفهام.

وبعض الأئمة يجعل الاستفهام في مثل هذا استفهاما على المعطوف والعاطف. والاستفهام إنكار وتهكم.

والإصفاء : جعل الشيء صفوا ، أي خالصا ، وتعدية أصفى إلى ضمير المخاطبين على طريقة الحذف والإيصال ، وأصله : أفأصفى لكم. وقوله : (بِالْبَنِينَ) الباء فيه إما

٨٦

مزيدة لتوكيد لصوق فعل (أصفى) بمفعوله. وأصله : أفأصفى لكم ربكم البنين ، كقوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] ؛ أو ضمّن أصفى معنى آثر فتكون الباء للتعدية دالة على معنى الاختصاص بمجرورها ، فصار (أصفى) مع متعلقة بمنزلة فعلين ، أي قصر البنين عليكم دونه ، أي جعل لكم البنين خالصة لا يساويكم هو بأمثالهم ، وجعل لنفسه الإناث التي تكرهونها. وفساد ذلك ظاهر بأدنى نظر فإذا تبين فساده على هذا الوضع فقد تبين انتفاء وقوعه إذ هو غير لائق بجلال الله تعالى. وقد تقدم هذا عند قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) في سورة النحل [٥٧]. وقوله : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) في [النساء : ١١٧].

وجملة (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) تقرير لمعنى الإنكار وبيان له ، أي تقولون : اتخذ الله الملائكة بنات. وأكد فعل «تقولون» بمصدره تأكيدا لمعنى الإنكار. وجعله مجرد قول لأنه لا يعدو أن يكون كلاما صدر عن غير روية ، لأنه لو تأمله قائله أدنى تأمل لوجده غير داخل تحت قضايا المقبول عقلا.

والعظيم : القوي. والمراد هنا أنه عظيم في الفساد والبطلان بقرينة سياق الإنكار. ولا أبلغ في تقبيح قولهم من وصفه بالعظيم ، لأنه قول مدخول من جوانبه لاقتضائه إيثار الله بأدون صنفي البنوة مع تخويلهم الصنف الأشرف. ثم ما يقتضيه ذلك من نسبته خصائص الأجسام لله تعالى من تركيب وتولد واحتياج إلى الأبناء للإعانة وليخلفوا الأصل بعد زواله ، فأي فساد أعظم من هذا.

وفي قوله : (اتَّخَذَ) إيماء إلى فساد آخر ، وهو أنهم يقولون : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦]. والاتخاذ يقتضي أنه خلقه ليتخذه ، وذلك ينافي التولد فكيف يلتئم ذلك مع قوله : الملائكة بنات الله من سروات الجن ، وكيف يخلق الشيء ثم يكون ابنا له فذلك في البطلان ضغث على إبّالة.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١))

لما ذكر فظاعة قولهم بأن الملائكة بنات الله أعقب ذلك بأن في القرآن هديا كافيا ، ولكنهم يزدادون نفورا من تدبره.

فجملة (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ) معترضة مقترنة بواو الاعتراض.

والضمير عائد إلى الذين عبدوا الملائكة وزعموهم بنات الله.

٨٧

والتصريف : أصله تعدد الصرف ، وهو النقل من جهة إلى أخرى. ومنه تصريف الرياح ، وهو هنا كناية عن التبيين بمختلف البيان ومتنوعه. وتقدم في قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) في سورة الأنعام [٤٦].

وحذف مفعول (صَرَّفْنا) لأن الفعل نزل منزلة اللازم فلم يقدر له مفعول ، أي ، بينا البيان ، أي ليذّكّروا ببيانه. ويذّكّروا : أصله يتذكروا ، فأدغم التاء في الذال لتقارب مخرجيهما ، وقد تقدم في أول سورة يونس ، وهو من الذكر المضموم الذال الذي هو ضد النسيان.

وضمير (لِيَذَّكَّرُوا) عائد إلى معلوم من المقام دل عليه قوله : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) [الإسراء : ٤٠] أي ليذكر الذين خوطبوا بالتوبيخ في قوله : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ) [الإسراء : ٤٠] ، فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة ، أو من خطاب المشركين إلى خطاب المؤمنين.

وقوله : (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) تعجب من حالهم.

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف (لِيَذَّكَّرُوا) بسكون الذال وضم الكاف مخففة مضارع ذكر الذي مصدره الذّكر ـ بضم الذال ـ.

وجملة (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) في موضع الحال ، وهو حال مقصود منه التعجيب من حال ضلالتهم. إذ كانوا يزدادون نفورا من كلام فصّل وبين لتذكيرهم. وشأن التفصيل أن يفيد الطمأنينة للمقصود. والنفور : هروب الوحشي والدابة بجزع وخشية من الأذى. واستعير هنا لإعراضهم تنزيلا لهم منزلة الدواب والأنعام.

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢))

عود إلى إبطال تعدد الآلهة زيادة في استئصال عقائد المشركين من عروقها ، فالجملة استئناف ابتدائي بعد جملة (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) [الإسراء : ٣٩]. والمخاطب بالأمر بالقول هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لدمغهم بالحجة المقنعة بفساد قولهم. وللاهتمام بها افتتحت ب (قُلْ) تخصيصا لهذا بالتبليغ وإن كان جميع القرآن مأمورا بتبليغه.

وجملة كما يقولون معترضة للتنبيه على أن تعدد الآلهة لا تحقق له وإنما هو

٨٨

مجرد قول عار عن المطابقة لما في نفس الأمر.

وابتغاء السبيل : طلب طريق الوصول إلى الشيء ، أي توخيه والاجتهاد لإصابته ، وهو هنا مجاز في توخي وسيلة الشيء. وقد جاء في حديث موسى والخضر ـ عليهما‌السلام ـ أن موسى سأل السبيل إلى لقيا الخضر.

و (إذن) دالة على الجواب والجزاء فهي مؤكدة لمعنى الجواب الذي تدل عليه اللام المقترنة بجواب (لو) الامتناعية الدالة على امتناع حصول جوابها لأجل امتناع وقوع شرطها ، وزائدة بأنها تفيد أن الجواب جزاء عن الكلام المجاب. فالمقصود الاستدلال على انتفاء إلهية الأصنام والملائكة الذين جعلوهم آلهة.

وهذا الاستدلال يحتمل معنيين مآلهما واحد :

والمعنى الأول : أن يكون المراد بالسبيل سبيل السعي إلى الغلبة والقهر ، أي لطلبوا مغالبة ذي العرش وهو الله تعالى. وهذا كقوله تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١]. ووجه الملازمة التي بني عليها الدليل أن من شأن أهل السلطان في العرف والعادة أن يتطلبوا توسعة سلطانهم ويسعى بعضهم إلى بعض بالغزو ويتألّبوا على السلطان الأعظم ليسلبوه ملكه أو بعضه ، وقديما ما ثارت الأمراء والسلاطين على ملك الملوك وسلبوه ملكه فلو كان مع الله آلهة لسلكوا عادة أمثالهم.

وتمام الدليل محذوف للإيجاز يدل عليه ما يستلزمه ابتغاء السبيل على هذا المعنى من التدافع والتغالب اللازمين عرفا لحالة طلب سبيل النزول بالقرية أو الحي لقصد الغزو. وذلك المفضي إلى اختلال العالم لاشتغال مدبريه بالمقاتلة والمدافعة على نحو ما يوجد في ميثلوجيا اليونان من تغالب الأرباب وكيد بعضهم لبعض ، فيكون هذا في معنى قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]. وهو الدليل المسمى ببرهان التمانع في علم أصول الدين ، فالسبيل على هذا المعنى مجاز عن التمكن والظفر بالمطلوب. والابتغاء على هذا ابتغاء عن عداوة وكراهة.

وقوله : كما تقولون على هذا الوجه تنبيه على خطئهم ، وهو من استعمال الموصول في التنبيه على الخطأ.

والمعنى الثاني : أن يكون المراد بالسبيل سبيل الوصول إلى ذي العرش ، وهو الله

٨٩

تعالى ، وصول الخضوع والاستعطاف والتقرب ، أي لطلبوا ما يوصلهم إلى مرضاته كقوله : (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) [الإسراء : ٥٧].

ووجه الاستدلال أنكم جعلتموهم آلهة وقلتم ما نعبدهم إلا ليكونوا شفعاءنا عند الله ، فلو كانوا آلهة كما وصفتم إلهيتهم لكانوا لا غنى لهم عن الخضوع إلى الله ، وذلك كاف لكم بفساد قولكم ، إذ الإلهية تقتضي عدم الاحتياج فكان مآل قولكم إنهم عباد لله مكرمون عنده ، وهذا كاف في تفطنكم لفساد القول بإلهيتهم.

والابتغاء على هذا ابتغاء محبة ورغبة ، كقوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [المزمّل : ١٩]. وقريب من معناه قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦] ، فالسبيل على هذا المعنى مجاز عن التوسل إليه والسعي إلى مرضاته.

وقوله : كما تقولون على هذا المعنى تقييد للكون في قوله : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) أي لو كان معه آلهة حال كونهم كما تقولون ، أي كما تصفون إلهيتهم من قولكم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨].

واستحضار الذات العلية بوصف (ذِي الْعَرْشِ) دون اسمه العلم لما تتضمنه الإضافة إلى العرش من الشأن الجليل الذي هو مثار حسد الآلهة إياه وطمعهم في انتزاع ملكه على المعنى الأول ، أو الذي هو مطمع الآلهة الابتغاء من سعة ما عنده على المعنى الثاني.

وقرأ الجمهور كما تقولون بتاء الخطاب على الغالب في حكاية القول المأمور بتبليغه أن يحكى كما يقول المبلغ حين إبلاغه. وقرأه ابن كثير وحفص ـ بياء الغيبة ـ على الوجه الآخر في حكاية القول المأمور بإبلاغه للغير أن يحكى بالمعنى. لأن في حال خطاب الآمر المأمور بالتبليغ يكون المبلغ له غائبا وإنما يصير مخاطبا عند التبليغ فإذا لوحظ حاله هذا عبر عنه بطريق الغيبة كما قرئ قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) [آل عمران : ١٢] ـ بالتاء وبالياء ـ أو على أن قوله : (كَما يَقُولُونَ) اعتراض بين شرط (لو) وجوابه.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣))

إنشاء تنزيه لله تعالى عما ادعوه من وجود شركاء له في الإلهية.

٩٠

وهذا من المقول اعتراض بين أجزاء المقول ، وهو مستأنف لأنه نتيجة لبطلان قولهم :إن مع الله آلهة ، بما نهضت به الحجة عليهم من قوله : (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً). وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله تعالى : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) في سورة الأنعام [١٠٠].

والمراد بما يقولون ما يقولونه مما ذكر آنفا كقوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ).

و (عُلُوًّا) مفعول مطلق عامله (تَعالى). جيء به على غير قياس فعله للدلالة على أن التعالي هو الاتصاف بالعلو بحق لا بمجرد الادعاء كقول سعدة أم الكميت بن معروف :

تعاليت فوق الحق عن آل فقعس

ولم تخش فيهم ردة اليوم أو غد

وقوله سبحانه : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) [المؤمنون : ٢٤] ، أي يدعي الفضل ولا فضل له. وهو منصوب على المفعولية المطلقة المبينة للنوع.

والمراد بالكبير الكامل في نوعه. وأصل الكبير صفة مشبهة : الموصوف بالكبر. والكبر: ضخامة جسم الشيء في متناول الناس ، أي تعالى أكمل علو لا يشوبه شيء من جنس ما نسبوه إليه ، لأن المنافاة بين استحقاق ذاته وبين نسبة الشريك له والصاحبة والولد بلغت في قوة الظهور إلى حيث لا تحتاج إلى زيادة لأن وجوب الوجود والبقاء ينافي آثار الاحتياج والعجز.

وقرأ الجمهور (عَمَّا يَقُولُونَ) بياء الغيبة. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بتاء الخطاب ـ على أنه التفات ، أو هو من جملة المقول من قوله : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) [الإسراء : ٤٢] على هذه القراءة.

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))

جملة يسبح له إلخ. حال من الضمير في (سُبْحانَهُ) أي نسبحه في حال أنه يسبح (لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ) إلخ ، أي يسبح له العوالم وما فيها وتنزيهه عن النقائص.

واللام في قوله : (لَهُ) لام تعدية (يُسَبِّحُ) المضمن معنى يشهد بتنزيهه ، أو هي اللام المسماة لام التبيين كالتي في قوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] وفي قولهم: حمدت الله لك.

٩١

ولما أسند التسبيح إلى كثير من الأشياء التي لا تنطق دل على أنه مستعمل في الدلالة على التنزيه بدلالة الحال ، وهو معنى قوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) حيث أعرضوا عن النظر فيها فلم يهتدوا إلى ما يحف بها من الدلالة على تنزيهه عن كل ما نسبوه من الأحوال المنافية للإلهية.

والخطاب في (لا تَفْقَهُونَ) يجوز أن يكون للمشركين جريا على أسلوب الخطاب السابق في قوله : (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) [الإسراء : ٤٠] وقوله : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) كما تقولون [الإسراء : ٤٢] لأن الذين لم يفقهوا دلالة الموجودات على تنزيه الله تعالى هم الذين لم يثبتوا له التنزيه عن النقائص التي شهدت الموجودات ـ حيثما توجه إليها النظر ـ بتنزيهه عنها فلم يحرم من الاهتداء إلى شهادتها إلا الذين لم يقلعوا عن اعتقاد أضدادها. فأما المسلمون فقد اهتدوا إلى ذلك التسبيح بما أرشدهم إليه القرآن من النظر في الموجودات وإن تفاوتت مقادير الاهتداء على تفاوت القرائح والفهوم.

ويجوز أن يكون لجميع الناس باعتبار انتفاء تمام العلم بذلك التسبيح.

وقد مثل الإمام فخر الدين ذلك فقال : إنك إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثير من الأجزاء التي لا تتجزأ (أي جواهر فردة) ، وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله ، ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ صفات مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة ، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة هو من الجائزات فلا يجعل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم ، فكل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله تعالى ، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم وأحوال تلك الصفات غير معلومة ، فلهذا المعنى قال تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

ولعل إيثار فعل (لا تَفْقَهُونَ) دون أن يقول : لا تعلمون ، للإشارة إلى أن المنفي علم دقيق فيؤيد ما نحاه فخر الدين.

وقرأ الجمهور (يُسَبِّحُ) ـ بياء الغائب ـ وقرأه أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف ـ بتاء جماعة المؤنث ـ والوجهان جائزان في جموع غير العاقل وغير حقيقي التأنيث.

وجملة (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) استئناف يفيد التعريض بأن مقالتهم تقتضي تعجيل

٩٢

العقاب لهم في الدنيا لو لا أن الله عاملهم بالحلم والإمهال. وفي ذلك تعريض بالحث على الإقلاع عن مقالتهم ليغفر الله لهم.

وزيادة (كان) للدلالة على أن الحلم والغفران صفتان له محققتان.

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥))

عطف جملة على جملة وقصة على قصة ، فإنه لما نوّه بالقرآن في قوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩] ، ثم أعقب بما اقتضاه السياق من الإشارة إلى ما جاء به القرآن من أصول العقيدة وجوامع الأعمال وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر عاد هنا إلى التنبيه على عدم انتفاع المشركين بهدي القرآن لمناسبة الإخبار عن عدم فقههم دلالة الكائنات على تنزيه الله تعالى عن النقائص ، وتنبيها للمشركين على وجوب إقلاعهم عن بعثتهم وعنادهم ، وتأمينا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكرهم به وإضمارهم إضراره ، وقد كانت قراءته القرآن تغيظهم وتثير في نفوسهم الانتقام.

وحقيقة الحجاب : الساتر الذي يحجب البصر عن رؤية ما وراءه. وهو هنا مستعار للصرفة التي يصرف الله بها أعداء النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عن الإضرار به للإعراض الذي يعرضون به عن استماع القرآن وفهمه. وجعل الله الحجاب المذكور إيجاد ذلك الصارف في نفوسهم بحيث يهمون ولا يفعلون ، وذلك من خور الإرادة والعزيمة بحيث يخطر الخاطر في نفوسهم ثم لا يصممون ، وتخطر معاني القرآن في أسماعهم ثم لا يتفهمون. وذلك خلق يسري إلى النفوس تدريجيا تغرسه في النفوس بادئ الأمر شهوة الإعراض وكراهية المسموع منه ثم لا يلبث أن يصير ملكة في النفس لا تقدر على خلعه ولا تغييره.

وإطلاق الحجاب على ما يصلح للمعنيين إما للحمل على حقيقة اللفظ ، وإما للحمل على ما له نظير في القرآن. وقد جاء في الآية الأخرى (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥].

ولما كان إنكارهم البعث هو الأصل الذي استبعدوا به دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى زعموا أنه يقول محالا إذ يخبر بإعادة الخلق بعد الموت (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ :

٩٣

٧ ـ ٨] استحضروا في هذا الكلام بطريق الموصولة لما في الصلة من الإيماء إلى علة جعل ذلك الحجاب بينه وبينهم فلذلك قال : (وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ).

ووصف الحجاب بالمستور مبالغة في حقيقة جنسه ، أي حجابا بالغا الغاية في حجب ما يحجبه هو حتى كأنه مستور بساتر آخر ، فذلك في قوة أن يقال : جعلنا حجابا فوق حجاب. ونظيره قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٢٢].

أو أريد أنه حجاب من غير جنس الحجب المعروفة فهو حجاب لا تراه الأعين ولكنها ترى آثار أمثاله. وقد ثبت في أخبار كثيرة أن نفرا هموا الإضرار بالنبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم فما منهم إلا وقد حدث له ما حال بينه وبين همه وكفى الله نبيئه شرهم ، قال تعالى : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧] وهي معروفة في أخبار السيرة.

وفي الجمع بين (حِجاباً) و (مَسْتُوراً) من البديع الطباق.

(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦))

(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً)

عطف جعل على جعل.

والتصريح بإعادة فعل الجعل يؤذن بأن هذا جعل آخر فيرجّح أن يكون جعل الحجاب المستور جعل الصرفة عن الإضرار ، ويكون هذا جعل عدم التدبر في القرآن خلقة في نفوسهم. والقول في نظم هذه الآية ومعانيها تقدم في نظيرها في سورة الأنعام.

(وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً)

لما كان الإخبار عنهم قبل هذا يقتضي أنهم لا يفقهون معاني القرآن تبع ذلك بأنهم يعرضون عن فهم ما فيه خير لهم ، فإذا سمعوا ما يبطل إلهية أصنامهم فهموا ذلك فولوا على أدبارهم نفورا ، أي زادهم ذلك الفهم ضلالا كما حرمهم عدم الفهم هديا ، فحالهم متناقض. فهم لا يسمعون ما يحق أن يسمع ، ويسمعون ما يهوون أن يسمعوه ليزدادوا به كفرا.

ومعنى «ذكرت ربك وحده» ظاهره أنك ذكرته مقتصرا على ذكره ولم تذكر آلهتهم لأن

٩٤

(وَحْدَهُ) حال من (رَبَّكَ) الذي هو مفعول (ذَكَرْتَ). ومعنى الحال الدلالة على وجود الوصف في الخارج ونفس الأمر ، أي كان ذكرك له ، وهو موصوف بأنه وحده في وجود الذكر ، فيكون تولي المشركين على أدبارهم حينئذ من أجل الغضب من السكوت عن آلهتهم وعدم الاكتراث بها بناء على أنهم يعلمون أنه ما سكت عن ذكر آلهتهم إلا لعدم الاعتراف بها. ولو لا هذا التقدير لما كان لتوليهم على إدبارهم سبب ، لأن ذكر شيء لا يدل على إنكار غيره فإنهم قد يذكرون العزى أو اللات مثلا ولا يذكرون غيرها من الأصنام لا يظن أن الذاكر للعزى منكر مناة ، وفي هذا المعنى قوله تعالى : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [الزمر : ٤٥].

ويحتمل أن المعنى : إذا ذكرت ربك بتوحيده بالإلهية وهو المناسب لنفورهم وتوليهم ، لأنهم إنما ينكرون انفراد الله تعالى بالإلهية ، فتكون دلالة (وَحْدَهُ) على هذا المعنى بمعونة المقام وفعل (ذَكَرْتَ).

ولعل الحال الجائية من معمول أفعال القول والذكر ونحوهما تحتمل أن يكون وجودها في الخارج ، وأن يكون في القول واللسان ، فيكون معنى «ذكرت ربك وحده» أنه موحد في ذكرك وكلامك ، أي ذكرته موصوفا بالوحدانية.

وتخصيص الذكر بالكون في القرآن لمناسبته الكلام على أحوال المشركين في استماع القرآن ، أو لأن القرآن مقصود منه التعليم والدعوة إلى الدين ، فخلو آياته عن ذكر آلهتهم مع ذكر اسم الله يفهم منه التعريض بأنها ليست بآلهة فمن ثم يغضبون كلما ورد ذكر الله ولم تذكر آلهتهم ، فكونه في القرآن هو القرينة على أنه أراد إنكار آلهتهم.

وقوله : (وَحْدَهُ) تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) في [الأعراف : ٧٠].

والتولية : الرجوع من حيث أتى. و (عَلى أَدْبارِهِمْ) تقدم القول فيه في قوله تعالى : (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) في سورة العقود [المائدة : ٢١].

و (نُفُوراً) يجوز أن يكون جمع نافر مثل سجود وشهود. ووزن فعول يطرد في جمع فاعل فيكون اسم الفاعل على صيغة المصدر فيكون نفورا على هذا منصوبا على الحال من ضمير (وَلَّوْا) ، ويجوز جعله مصدرا منصوبا على المفعولية لأجله ، أي ولوا بسبب نفورهم من القرآن.

٩٥

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧))

كان المشركون يحيطون بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد الحرام إذا قرأ القرآن يستمعون لما يقوله ليتلقفوا ما في القرآن مما ينكرونه ، مثل توحيد الله ، وإثبات البعث بعد الموت ، فيعجب بعضهم بعضا من ذلك ، فكان الإخبار عنهم بأنهم جعلت في قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر وأنهم يولون على أدبارهم نفورا إذا ذكر الله وحده ، ويثير في نفس السامع سؤالا عن سبب تجمعهم لاستماع قراءة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فكانت هذه الآية جوابا عن ذلك السؤال. فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا.

وافتتاح الجملة بضمير الجلالة لإظهار العناية بمضمونها. والمعنى : أنّ الله يعلم علما حقا داعي استماعهم ، فإن كثرت الظنون فيه فلا يعلم أحد ذلك السبب.

«وأعلم» اسم تفضيل مستعمل في معنى قوة العلم وتفصيله. وليس المراد أن الله أشد علما من غيره إذ لا يقتضيه المقام.

والباء في قوله : (بِما يَسْتَمِعُونَ) لتعدية اسم التفضيل إلى متعلقه لأنّه قاصر عن التعدية إلى المفعول. واسم التفضيل المشتق من العلم ومن الجهل يعدى بالباء وفي سوى ذينك يعدى باللام. يقال : هو أعطى للدراهم.

والباء في (يَسْتَمِعُونَ بِهِ) للملابسة. والضمير المجرور بالباء عائد إلى (ما) الموصولة ، أي نحن أعلم بالشيء الذي يلابسهم حين يستمعون إليك ، وهي ظرف مستقر في موضع الحال. والتقدير : متلبسين به.

وبيان إبهام (ما) حاصل بقوله : (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى).

و (إذ) ظرف ل (يَسْتَمِعُونَ بِهِ).

والنجوى : اسم مصدر المناجاة ، وهي المحادثة سرا. وتقدم في قوله : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) في سورة النساء [١١٤].

وأخبر عنهم بالمصدر للمبالغة في كثرة تناجيهم عند استماع القرآن تشاغلا عنه.

و (إِذْ هُمْ نَجْوى) عطف على (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) ، أي نحن أعلم بالّذي يستمعونه ، ونحن أعلم بنجواهم.

٩٦

و (إِذْ يَقُولُ) بدل من (إِذْ هُمْ نَجْوى) بدل بعض من كل ، لأن نجواهم غير منحصرة في هذا القول. وإنما خص هذا القول بالذكر لأنه أشدّ غرابة من بقية آفاكهم للبون الواضح بين حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين حال المسحور.

ووقع إظهار في مقام الإضمار في (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ) دون : إذ يقولون ، للدلالة على أن باعث قولهم ذلك هو الظلم ، أي الشرك فإن الشرك ظلم ، أي ولو لا شركهم لما مثل عاقل حالة النبي الكاملة بحالة المسحور. ويجوز أن يراد الظلم أيضا الاعتداء ، أي الاعتداء على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذبا.

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨))

جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ونظائرها كثيرة في القرآن.

والتعبير بفعل النظر إشارة إلى أنه بلغ من الوضوح أن يكون منظورا.

والاستفهام ب (كيف) للتعجيب من حالة تمثيلهم للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالمسحور ونحوه.

وأصل (ضرب) وضع الشيء وتثبيته يقال : ضرب خيمة ، ويطلق على صوغ الشيء على حجم مخصوص ، يقال : ضرب دنانير ، وهو هنا مستعار للإبراز والبيان تشبيها للشيء المبرز المبين بالشيء المثبت. وتقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) في [البقرة : ٢٦].

واللام في (لَكَ) للتعليل والأجل ، أي ضربوا الأمثال لأجلك ، أي لأجل تمثيلك ، أي مثلوك. يقال : ضربت لك مثلا بكذا. وأصله مثلتك بكذا ، أي أجد كذا مثلا لك ، قال تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النحل : ٧٤] وقال : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) [يس : ١٣] أي اجعلهم مثلا لحالهم.

وجمع (الْأَمْثالَ) هنا ، وإن كان المحكي عنهم أنهم مثلوه بالمسحور ، وهو مثل واحد ، لأن المقصود التعجيب من هذا المثل ومن غيره فيما يصدر عنهم من قولهم : هو شاعر ، هو كاهن ، هو مجنون ، هو ساحر ، هو مسحور. وسميت أمثالا باعتبار حالهم لأنهم تحيروا فيما يصفونه به للناس لئلا يعتقدوه نبيئا ، فجعلوا يتطلبون أشبه الأحوال بحاله في

خيالهم فيلحقونه به ، كمن يدرج فردا غريبا في أشبه الأجناس به ، كمن يقول في

٩٧

الزرافة : إنها من الأفراس أو من الإبل أو من البقر.

وفرع ضلالهم على ضرب أمثالهم لأن ما ضربوه من الأمثال كله باطل وضلال وقوة في الكفر. فالمراد تفريع ضلالهم الخاص ببطلان تلك الأمثال ، أي فظهر ضلالهم في ذلك كقوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) [القمر : ٩].

ويجوز أن يراد بالضلال هنا أصل معناه ، وهو الحيرة في الطريق وعدم الاهتداء ، أي ضربوا لك أشباها كثيرة لأنهم تحيروا فيما يعتذرون به عن شأنك العظيم.

وتفريع (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) على (فَضَلُّوا) تفريع لتوغلهم في الحيرة على ضلالهم في ضرب تلك الأمثال.

والسبيل : الطريق ، واستطاعته استطاعة الظفر به ، فيجوز أن يراد بالسبيل سبيل الهدى على الوجه الأول في تفسير الضلال ، ويجوز أن يكون تمثيلا لحال ضلالهم بحال الذي وقف في فيفاء لا يدري من أية جهة يسلك إلى المقصود ، على الوجه الثاني في تفسير الضلال.

والمعنى على هذا : أنهم تحيروا كيف يصفون حالك للناس لتوقعهم أن الناس يكذبونهم ، فلذلك جعلوا ينتقلون في وصفه من صفة إلى صفة لاستشعارهم أن ما يصفونه به باطل لا يطابقه الواقع.

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩))

يجوز أن يكون جملة (وَقالُوا) معطوفة على جملة (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) كما تقولون [الإسراء : ٤٢] باعتبار ما تشتمل عليه من قوله : كما تقولون لقصد استئصال ضلالة أخرى من ضلالاتهم بالحجّة الدامغة ، بعد استئصال الّتي قبلها بالحجة القاطعة بقوله (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) كما تقولون الآية وما بينهما بمنزلة الاعتراض.

ويجوز أن تكون عطفا على جملة (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) [الإسراء : ٤٧] التي مضمونها مظروف للنجوى ، فيكون هذا القول مما تناجوا به بينهم ، ثم يجهرون بإعلانه ويعدونه حجتهم على التكذيب.

والاستفهام إنكاري.

وتقديم الظرف من قوله : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً) للاهتمام به لأن مضمونه هو دليل

٩٨

الاستحالة في ظنهم ، فالإنكار متسلط على جملة (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ). وقوة إنكار ذلك مقيد بحالة الكون عظاما ورفاتا ، وأصل تركيب الجملة : أإنا لمبعوثون إذا كنا عظاما ورفاتا.

وليس المقصود من الظرف التقييد ، لأن الكون عظاما ورفاتا ثابت لكل من يموت فيبعث.

والبعث : الإرسال. وأطلق هنا على إحياء الموتى ، لأن الميت يشبه الماكث في عدم مبارحة مكانه.

والعظام : جمع عظم ، وهو ما منه تركيب الجسد للإنسان والدواب. ومعنى (كُنَّا عِظاماً) أنهم عظام لا لحم عليها.

والرفات : الأشياء المرفوتة ، أي المفتتة. يقال : رفت الشيء إذا كسره كسرا دقيقة. ووزن فعال يدل على مفعول أفعال التجزئة مثل الدقاق والحطام والجذاذ والفتات.

و (خَلْقاً جَدِيداً) حال من ضمير «مبعوثون». وذكر الحال لتصوير استحالة البعث بعد الفناء لأن البعث هو الإحياء ، فإحياء العظام والرفات محال عندهم ، وكونهم خلقا جديدا أدخل في الاستحالة.

والخلق : مصدر بمعنى المفعول ، ولكونه مصدرا لم يتبع موصوفه في الجمع.

[٥٠ ـ ٥٢] (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢))

جواب عن قولهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) [الإسراء: ٤٩]. أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجيبهم بذلك.

وقرينة ذلك مقابلة فعل (كُنَّا) [الإسراء : ٤٩] في مقالهم بقوله : (كُونُوا) ، ومقابلة (عِظاماً وَرُفاتاً) في مقالهم بقوله : (حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) إلخ ، مقابلة أجسام واهية بأجسام صلبة. ومعنى الجواب أن وهن الجسم مساو لصلابته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى على تكييفه كيف يشاء.

٩٩

لهذا كانت جملة (قُلْ كُونُوا حِجارَةً) إلخ غير معطوفة ، جريا على طريقة المحاورات التي بينتها عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

وإن كان قوله : (قُلْ) ليس مبدأ محاورة بل المحاورة بالمقول الذي بعده ؛ ولكن الأمر بالجواب أعطي حكم الجواب فلذلك فصلت جملة (قُلْ).

واعلم أن ارتباط رد مقالتهم بقوله : (كُونُوا حِجارَةً) إلخ غامض ، لأنهم إنما استبعدوا أو أحالوا إرجاع الحياة إلى أجسام تفرّقت أجزاؤها وانخرم هيكلها ، ولم يعللوا الإحالة بأنها صارت أجساما ضعيفة ، فيرد عليهم بأنها لو كانت من أقوى الأجسام لأعيدت لها الحياة.

فبنا أن نبين وجه الارتباط بين الرد على مقالتهم وبين مقالتهم المردودة ، وفي ذلك ثلاثة وجوه :

أحدها : أن تكون صيغة الأمر في قوله : (كُونُوا) مستعملة في معنى التسوية ، ويكون دليلا على جواب محذوف تقديره : إنكم مبعوثون سواء كنتم عظاما ورفاتا أو كنتم حجارة أو حديدا ، تنبيها على أن قدرة الله تعالى لا يتعاصى عليها شيء. وذلك إدماج يجعل الجملة في معنى التذييل.

الوجه الثاني : أن تكون صيغة الأمر في قوله : (كُونُوا) مستعملة في الفرض ، أي لو فرض أن يكون الأجساد من الأجسام الصلبة وقيل لكم : إنكم مبعوثون بعد الموت لأحلتم ذلك واستبعدتم إعادة الحياة فيها. وعلى كلا الوجهين يكون قوله : (مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) نهاية الكلام ، ويكون قوله : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) مفرعا على جملة (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا) [الإسراء : ٤٩] إلخ تفريعا على الاستئناف. وتكون الفاء للاستئناف وهي بمعنى الواو على خلاف في مجيئها للاستئناف ، والكلام انتقال لحكاية تكذيب آخر من تكذيباتهم.

الوجه الثالث : أن يكون قوله : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً) كلاما مستأنفا ليس جوابا على قولهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) [الإسراء : ٤٩] إلخ وتكون صيغة الأمر مستعملة في التسوية. وفي هذا الوجه يكون قوله : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) متصلا بقوله : (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) إلخ ، ومفرعا على كلام محذوف يدل عليه قوله : (كُونُوا حِجارَةً) ،

١٠٠