تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٢

سواه من الكلام ، مدمجا في ذلك النعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بما في القرآن من كل مثل. وذكرت هنا ناحية من نواحي إعجازه ، وهي ما اشتمل عليه من أنواع الأمثال. وتقدم ذكر المثل عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) في سورة البقرة [٢٦]. ويجوز أن يراد بالمثل الحال أي من كل حال حسن من المعاني يجدر أن يمثل به ويشبه ما يزاد بيانه في نوعه.

فجملة (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) معطوفة على جملة (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) مشاركة لها في حكمها المتقدم بيانه زيادة في الامتنان والتعجيز.

وتأكيدها بلام القسم وحرف التحقيق لرد أفكار المشركين أنه من عند الله ، فمورد التأكيد هو فعل (صَرَّفْنا) الدال على أنه من عند الله.

والتصريف تقدم آنفا عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا) [الإسراء : ٤١].

وزيد في هذه الآية قيد (لِلنَّاسِ) دون الآية السابقة لأن هذه الآية واردة في مقام التحدي والإعجاز ، فكان الناس مقصودين به قصدا أصليا مؤمنهم وكافرهم بخلاف الآية المتقدمة فإنها في مقام توبيخ المشركين خاصة فكانوا معلومين كما تقدم.

ووجه تقديم أحد المتعلقين بفعل (صَرَّفْنا) على الآخر : أن ذكر الناس أهم في هذا المقام لأجل كون الكلام مسوقا لتحديهم والحجة عليهم ، وإن كان ذكر القرآن أهم بالأصالة إلا أن الاعتبارات الطارئة تقدّم في الكلام البليغ على الاعتبارات الأصلية ، أن الاعتبارات الأصلية لتقررها في النفوس تصير متعارفة فتكون الاعتبارات الطارئة أعز منالا. ومن هذا باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر. والأظهر كون التعريف في (النَّاسِ) للعموم كما يقتضيه قوله : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً).

وذكر في هذه الآية متعلق التصريف بقوله : (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) بخلاف الآية السابقة ، لأن ذكر ذلك أدخل في الإعجاز ، فإن كثرة أغراض الكلام أشد تعجيزا لمن يروم معارضته عن أن يأتي بمثله ، إذ قد يقدر بليغ من البلغاء على غرض من الأغراض ولا يقدر على غرض آخر ، فعجزهم عن معارضة سورة من القرآن مع كثرة أغراضه عجز بيّن من جهتين ، لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ولو في بعض الأغراض ، كما أشار إليه قوله تعالى في سورة البقرة [٢٣](فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) فإن (من) للتبعيض وتنوين (مثل) للتعظيم

١٦١

والتشريف ، أي من كل مثل شريف. والمراد : شرفه في المقصود من التمثيل.

و (من) في قوله : (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ). للتبعيض ، و (كل) تفيد العموم ، فالقرآن مشتمل على أبعاض من جميع أنواع المثل.

وحذف مفعول (فَأَبى) للقرينة ، أي أبى العمل به.

وفي قوله : (إِلَّا كُفُوراً) تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، أي تأكيد في صورة النقص ، لما فيه من الإطماع بأن إبايتهم غير مطردة ، ثم يأتي المستثنى مؤكدا لمعنى المستثنى منه ، إذ الكفور أخص من المفعول الذي حذف للقرينة. وهو استثناء مفرغ لما في فعل (فَأَبى) من معنى النفي الذي هو شرط الاستثناء المفرغ لأن المدار على معنى النفي ، مثل الاستثناء من الاستفهام المستعمل في النفي كقوله : (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣].

والكفور ـ بضم الكاف ـ المجحود ، أي جحدوا بما في القرآن من هدى وعاندوا.

[٩٠ ـ ٩٣] (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣))

عطف جملة (وَقالُوا) على جملة (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً)[الإسراء : ٨٩] ، أي كفروا بالقرآن وطالبوا بمعجزات أخرى.

وضمير الجمع عائد إلى أكثر الناس الذين أبوا إلا كفورا ، باعتبار صدور هذا القول بينهم وهم راضون به ومتمالئون عليه متى علموه ، فلا يلزم أن يكون كل واحد منهم قال هذا القول كله بل يكون بعضهم قائلا جميعه أو بعضهم قائلا بعضه.

ولما اشتمل قولهم على ضمائر الخطاب تعين أن بعضهم خاطب به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مباشرة إما في مقام واحد وإما في مقامات. وقد ذكر ابن إسحاق : أن عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف ، وناسا

١٦٢

معهم اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة وبعثوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم. فأسرع إليهم حرصا على هداهم ، فعاتبوه على تسفيه أحلامهم والطعن في دينهم. وعرضوا عليه ما يشاء من مال أو تسويد. وأجابهم بأنه رسول من الله إليهم لا يبتغي غير نصحهم ، فلما رأوا منه الثبات انتقلوا إلى طلب بعض ما حكاه الله عنهم في هذه الآية.

وروي أن الذي سأل ما حكي بقوله تعالى : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) إلى آخره ، هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي.

وحكى الله امتناعهم عن الإيمان بحرف (لن) لمفيد للتأييد لأنهم كذلك قالوه.

والمراد بالأرض : أرض مكة ، فالتعريف للعهد. ووجه تخصيصها أن أرضها قليلة المياه بعيدة عن الجنات.

والتفجير : مصدر فجر بالتشديد مبالغة في الفجر ، وهو الشق باتساع. ومنه سمي فجر الصباح فجرا لأن الضوء يشق الظلمة شقا طويلا عريضا ، فالتفجير أشد من مطلق الفجر وهو تشقيق شديد باعتبار اتساعه. ولذلك ناسب الينبوع هنا والنهر في قوله تعالى : (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) [الكهف : ٣٣] وقوله : (فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ).

وقرأه الجمهور ـ بضم التاء وتشديد الجيم ـ على أنه مضارع (فجر) المضاعف. وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم مخففة ـ على أنه مضارع فجر كنصر ، فلا التفات فيها للمبالغة لأن الينبوع يدل على المقصود أو يعبر عن مختلف أقوالهم الدالة على التصميم في الامتناع.

ومعنى (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) لن نصدقك أنك رسول الله إلينا.

والإيمان : التصديق. يقال : آمنه ، أي صدقه. وكثر أن يعدى إلى المفعول باللام ، قال تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [يوسف : ١٧] وقال : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [العنكبوت :٢٦]. وهذه اللام من قبيل ما سماه في «مغني اللبيب» لام التبيين. وغفل عن التمثيل لها بهذه الآية ونحوها ، فإن مجرور اللام بعد فعل (نُؤْمِنَ) مفعول لا التباس له بالفاعل وإنما تذكر اللام لزيادة البيان والتوكيد. وقد يقال : إنها لدفع التباس مفعول فعل «آمن» بمعنى صدق بمفعول فعل (آمن) إذا جعله أمينا. وتقدم قوله تعالى ؛ (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) في سورة يونس : [٨٣].

والينبوع : اسم للعين الكثيرة النبع التي لا ينضب ماؤها. وصيغة يفعول صيغة مبالغة

١٦٣

غير قياسية ، والينبوع مشتقة من مادة النبع ؛ غير أن الأسماء الواردة على هذه الصيغة مختلفة ، فبعضها ظاهر اشتقاقه كالينبوع والينبوت ، وبعضها خفي كاليعبوب للفرس الكثير الجري. وقيل : اشتق من العب المجازي. ومنه أسماء معربة جاء تعريبها على وزن يفعول مثل ؛ يكسوم اسم قائد حبشي ، ويرموك اسم نهر. وقد استقرى الحسن الصاغاني ما جاء من الكلمات في العربية على وزن يفعول في مختصر له مرتب على حروف المعجم. وقال السيوطي في «المزهر» : إن ابن دريد عقد له في «الجمهرة» بابا.

والجنة ، والنخيل ، والعنب ، والأنهار تقدمت في قوله : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) في سورة البقرة [٢٦٦].

وخصوا هذه الجنة بأن تكون له ، لأن شأن الجنة أن تكون خاصة لملك واحد معين ، فأروه أنهم لا يبتغون من هذا الاقتراح نفع أنفسهم ولكنهم يبتغون حصوله ولو كان لفائدة المقترح عليه. والمقترح هو تفجير الماء في الأرض القاحلة ، وإنما ذكروا وجود الجنة تمهيدا لتفجير أنهار خلالها فكأنهم قالوا : حتى تفجر لنا ينبوعا يسقي الناس كلهم ، أو تفجر أنهارا تسقي جنة واحدة تكون تلك الجنة وأنهارها لك. فنحن مقتنعون بحصول ذلك لا بغية الانتفاع منه. وهذا كقولهم : (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ).

وذكر المفعول المطلق بقوله : (تَفْجِيراً) للدلالة على التكثير لأن (تَفْجُرَ) قد كفى في الدلالة على المبالغة في الفجر ، فتعين أن يكون الإتيان بمفعوله المطلق للمبالغة في العدد ، كقوله تعالى : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء : ١٠٦] ، وهو المناسب لقوله : (خِلالَها) ، لأن الجنة تتخللها شعب النهر لسقي الأشجار. فجمع الأنهار باعتبار تشعب ماء النهر إلى شعب عديدة. ويدل لهذا المعنى إجماع القراء على قراءة (فَتُفَجِّرَ) هنا بالتشديد مع اختلافهم في الذي قبله. وهذا من لطائف معاني القراءات المروية عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي من أفانين إعجاز القرآن.

وقولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) انتقال من تحديه بخوارق فيها منافع لهم إلى تحديه بخوارق فيها مضرتهم ، يريدون بذلك التوسيع عليه ، أي فليأتهم بآية على ذلك ولو في مضرتهم. وهذا حكاية لقولهم كما قالوا. ولعلهم أرادوا به الإغراق في التعجيب من ذلك فجمعوا بين جعل الإسقاط لنفس السماء. وعززوا تعجيبهم بالجملة المعترضة وهي (كَما زَعَمْتَ) إنباء بأن ذلك لا يصدق به أحد. وعنوا به قوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [سبأ : ٩] وبقوله : (وَإِنْ

١٦٤

يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) [الطور : ٤٤] ، إذ هو تهديد لهم بأشراط الساعة وإشرافهم على الحساب. وجعلوا (من) في قوله تعالى : (كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [الطور : ٤٤] تبعيضية ، أي قطعة من الأجرام السماوية ، فلذلك أبوا تعدية فعل (تُسْقِطَ) إلى ذات السماء. واعلم أن هذا يقتضي أن تكون هاتان الآيتان أو إحداها نزلت قبل سورة الإسراء وليس ذلك بمستبعد.

و «الكسف» ـ بكسر الكاف وفتح السين ـ جمع كسفة ، وهي القطعة من الشيء مثل سدرة وسدر. وكذلك قرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر. وقرأه الباقون ـ بسكون السين ـ بمعنى المفعول ، أي المكسوف بمعنى المقطوع.

والزعم : القول المستبعد أو المحال.

والقبيل : الجماعة من جنس واحد. وهو منصوب على الحال من الملائكة ، أي هم قبيل خاص غير معروف ، كأنهم قالوا : أو تأتي بفريق من جنس الملائكة.

والزخرف : الذهب.

وإنما عدي (تَرْقى فِي السَّماءِ) بحرف (في) الظرفية للإشارة إلى أن الرقي تدرج في السماوات كمن يصعد في المرقاة والسلم.

ثم تفننوا في الاقتراح فسألوه إن رقى أن يرسل إليهم بكتاب ينزل من السماء يقرءونه ، فيه شهادة بأنه بلغ السماء. قيل : قائل ذلك عبد الله بن أبي أمية ، قال : حتى تأتينا بكتاب معه أربعة من الملائكة يشهدون لك.

ولعلهم إنما أرادوا أن ينزل عليهم من السماء كتابا كاملا دفعة واحدة ، فيكونوا قد ألحدوا بتنجيم القرآن ، توهما بأن تنجيمه لا يناسب كونه منزلا من عند الله لأن التنجيم عندهم يقتضي التأمل والتصنع في تأليفه ، ولذلك يكثر في القرآن بيان حكمة تنجيمه.

واللام في قوله : (لِرُقِيِّكَ) يجوز أن تكون لام التبيين. على أن «رقيك» مفعول (نُؤْمِنَ) مثل قوله : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) فيكون ادعاء الرقي منفيا عنه التصديق حتى ينزل عليهم كتاب. ويجوز أن تكون اللام لام العلة ومفعول (نُؤْمِنَ) محذوفا دل عليه قوله قبله: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ). والتقدير : لن نصدقك لأجل رقيك هي تنزل علينا كتابا. والمعنى : أنه لو رقى في السماء لكذبوا أعينهم حتى يرسل إليهم كتابا يرونه نازلا من السماء. وهذا تورك منهم وتهكم.

١٦٥

ولما كان اقتراحهم اقتراح ملاجّة وعناد أمره الله بأن يجيبهم بما يدل على التعجب من كلامهم بكلمة (سُبْحانَ رَبِّي) التي تستعمل في التعجب كما تقدم في طالع هذه السورة ، ثم بالاستفهام الإنكاري ، وصيغة الحصر المقتضية قصر نفسه على البشرية والرسالة قصرا إضافيا ، أي لست ربا متصرفا أخلق ما يطلب مني ، فكيف آتي بالله والملائكة وكيف أخلق في الأرض ما لم يخلق فيها.

وقرأ الجمهور (قُلْ) بصيغة فعل الأمر. وقرأه ابن كثير ، وابن عامر قال بألف بعد القاف بصيغة الماضي ـ على أنه حكاية لجواب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) على طريقة الالتفات.

[٩٤ ، ٩٥] (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥))

بعد أن عدّت أشكال عنادهم ومظاهر تكذيبهم أعقبت ببيان العلة الأصلية التي تبعث على الجحود في جميع الأمم وهي توهمهم استحالة أن يبعث الله للناس برسالة بشرا مثلهم. فذلك التوهم هو مثار ما يأتونه من المعاذير ، فالذين هذا أصل معتقدهم لا يرجى منهم أن يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية ، وما قصدهم من مختلف المقترحات إلا إرضاء أوهامهم بالتنصل من الدخول في الدين ، فلو أتاهم الرسول بما سألوه لانتقلوا فقالوا : إن ذلك سحر ، أو قلوبنا غلف ، أو نحو ذلك. ومع ما في هذا من بيان أصل كفرهم هو أيضا رد بالخصوص لقولهم : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢] ورد لقولهم : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) [الإسراء : ٩٣] إلى آخره.

وقوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) يقتضي بصريحه أنهم قالوا بألسنتهم وهو مع ذلك كناية عن اعتقادهم ما قالوه. ولذلك جعل قولهم ذلك مانعا من أن يؤمنوا لأن اعتقاد قائليه يمنع من إيمانهم بضده ونطقهم بما يعتقدونه يمنع من يسمعونهم من متبعي دينهم.

وإلقاء هذا الكلام بصيغة الحصر وأداة العموم جعله تذييلا لما مضى من حكاية تفننهم في أساليب التكذيب والتهكم.

فالظاهر حمل التعريف في (النَّاسَ) على الاستغراق. أي ما منع جميع الناس أن

١٦٦

يؤمنوا إلا ذلك التوهم الباطل لأن الله حكى مثل ذلك عن كل أمة كذبت رسولها فقال حكاية عن قوم نوح (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون : ٢٤]. وحكى مثله عن هود (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [المؤمنون : ٣٣ ـ ٣٤] ، وعن قوم صالح (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [سورة الشعراء : ١٥٤] ، وعن قوم شعيب (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا)[الشعراء : ١٨٦] ، وحكى عن قوم فرعون (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) [المؤمنون : ٤٧]. وقال في قوم محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) [ق : ٢].

وإذ شمل العموم كفار قريش أمر الرسول بأن يجيبهم عن هذه الشبهة بقوله : (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) الآية ، فاختص الله رسوله محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم باجتثاث هذه الشبهة من أصلها اختصاصا لم يلقنه من سبق من الرسل ، فإنهم تلقوا تلك الشبهة باستنصار الله تعالى على أقوامهم فقال عن نوح (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ١١٨].

وقال مثله عن هود وصالح ، وقال عن موسى وهارون ، (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) [المؤمنون : ٤٨] ، فقد ادخر الله لرسوله قواطع الأدلة على إبطال الشرك وشبه الضلالة بما يناسب كونه خاتم الرسل ، ولهذا قال في خطبة حجّة الوداع : «إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه ولكنه قد رضي أن يطاع فيما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم».

ومعنى قوله : (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ) إلخ : أن الله يرسل الرسول للقوم من نوعهم للتمكين من المخالطة لأن اتحاد النوع هو قوام تيسير المعاشرة ، قال تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] ، أي في صورة رجل ليمكن التخاطب بينه وبين الناس.

وجملة (يَمْشُونَ) وصف ل (مَلائِكَةٌ).

و (مُطْمَئِنِّينَ) حال. والمطمئن : الساكن. وأريد به هنا المتمكن غير المضطرب ، أي مشي قرار في الأرض ، أي لو كان في الأرض ملائكة قاطنون على الأرض غير نازلين برسالة للرسل لنزلنا عليهم ملكا.

١٦٧

ولما كان المشي والاطمئنان في الأرض من صفة الإنسان آل المعنى إلى : لو كنتم ملائكة لنزلنا عليكم من السماء ملكا فلما كنتم بشرا أرسلنا إليكم بشرا مثلكم.

ومجيء الهدى هو دعوة الرسل إلى الهدى.

(قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦))

بعد أن خص الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلقين الحجة القاطعة للضلالة أردف ذلك بتلقينه أيضا ما لقنه الرسل السابقين من تفويض الأمر إلى الله وتحكيمه في أعدائه ، فأمره ب (قُلْ كَفى بِاللهِ) تسلية له وتثبيتا لنفسه وتعهدا له بالفصل بينه وبينهم كما قال نوح وهود (رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) [المؤمنون : ٢٦] ، وغيرهما من الرسل قال قريبا من ذلك.

وفي هذا رد لمجموع مقترحاتهم المتقدمة على وجه الإجمال.

ومفعول (كَفى) محذوف ، تقديره : كفاني. والشهيد : الشاهد ، وهو المخبر بالأمر الواقع كما وقع.

وأريد بالشهيد هنا الشهيد للمحق على المبطل ، فهو كناية عن النصير والحاكم لأن الشهادة سبب الحكم ، والقرينة قوله : (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) لأن ظرف (بين) يناسب معنى الحكم. وهذا بمعنى قوله تعالى : (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)[الأعراف : ٨٧]وقوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) [الممتحنة : ٣].

والباء الداخلة على اسم الجلالة زائدة لتأكيد لصوق فعل (كَفى) بفاعله. وأصله : كفى الله شهيدا.

وجملة (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) تعليل للاكتفاء به تعالى ، والخبير : العليم. وأريد به العليم بالنوايا والحقائق ، والبصير : العليم بالذوات والمشاهدات من أحوالها. ، والمقصود من اتباعه به إحاطة العلم وشموله.

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧))

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) يجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ

١٦٨

الْهُدى) [الإسراء : ٩٤] جمعا بين المانع الظاهر المعتاد من الهدى وبين المانع الحقيقي وهو حرمان التوفيق من الله تعالى ، فمن أصرّ على الكفر مع وضوح الدليل لذوي العقول فذلك لأن الله تعالى لم يوفقه. وأسباب الحرمان غضب الله على من لا يلقي عقله لتلقي الحق ويتخذ هواه رائدا له في مواقف الجد.

ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الإسراء : ٩٦] ارتقاء في التسلية ، أي لا يحزنك عدم اهتدائهم فإن الله حرمهم الاهتداء لما أخذوا بالعناد قبل التدبر في حقيقة الرسالة.

والمراد بالهدى الهدى إلى الإيمان بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والتعريف في (الْمُهْتَدِ) تعريف العهد الذهني ، فالمعرف مساو للنكرة ، فكأنه قيل: فهو مهتد. وفائدة الإخبار عنه بأنه مهتد التوطئة إلى ذكر مقابله وهو (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ) ، كما يقال من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا فلان.

ويجوز أن تجعل التعريف في قوله : (الْمُهْتَدِ) تعريف الجنس فيفيد قصر الهداية على الذي هداه الله قصرا إضافيا ، أي دون من تريد أنت هداه وأضله الله. ولا يحتمل أن يكون المعنى على القصر الادعائي الذي هو بمعنى الكمال لأن الهدى المراد هنا هدي واحد وهو الهدي إلى الإيمان.

وحذفت ياء (الْمُهْتَدِ) في رسم المصحف لأنهم وقفوا عليها بدون ياء على لغة من يقف على الاسم المنقوص غير المنون بحذف الياء ، وهي لغة فصيحة غير جارية على القياس ولكنها أوثرت من جهة التخفيف لثقل صيغة اسم الفاعل مع ثقل حرف العلة في آخر الكلمة. ورسمت بدون ياء لأن شأن أواخر الكلم أن ترسم بمراعاة حال الوقف. وأما في حال النطق في الوصل فقرأها نافع وأبو عمرو بإثبات الياء في الوصل وهو الوجه ، ولذلك كتبوا الياء في مصاحفهم باللون الأحمر وجعلوها أدق من بقية الحروف المرسومة في المصحف تفرقة بينها وبين ما رسمه الصحابة كتّاب المصحف. والباقون حذفوا الياء في النطق في الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف. وذلك وإن كان نادرا في غير الشعر إلا أن الفصحاء يجرون الفواصل مجرى القوافي ، واعتبروا الفاصلة كل جملة ثم بها الكلام ، كما دل عليه تمثيل سيبويه في كتابه الفاصلة بقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) [الفجر : ٤] وقوله : (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) [الكهف : ٦٤]. وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) في سورة الرعد [٩].

١٦٩

والخطاب في (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن هذا الكلام مسوق لتسليته على عدم استجابتهم له ، فنفي وجدان الأولياء كناية عن نفي وجود الأولياء لهم لأنهم لو كانوا موجودين لوجدهم هو وعرفهم.

والأولياء : الأنصار ، أي لن تجد لهم أنصارا يخلصونهم من جزاء الضلال وهو العذاب. ويجوز أن يكون الأولياء بمعنى متولي شأنهم ، أي لن تجد لهم من يصلح حالهم فينقلهم من الضلال كقوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧].

وجمع الأولياء باعتبار مقابلة الجمع بالجمع ، أي لن تجد لكل واحد وليا ولا لجماعته وليا ، كما يقال : ركب القوم دوابهم.

و (مِنْ دُونِهِ) أي غيره.

(وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) ذكر المقصود من نفي الولي أو المآل له بذكر صورة عقابهم بقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) الآية.

والحشر : جمع الناس من مواضع متفرقة إلى مكان واحد. ولما كان ذلك يستدعي مشيهم عدي الحشر بحرف (على) لتضمينه معنى (يمشون. وقد فهم الناس ذلك من الآية فسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يمشون على وجوههم؟ فقال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم. والمقصود من ذلك الجمع بين التشويه والتعذيب لأن الوجه أرق تحملا لصلابة الأرض من الرجل.

وهذا جزاء مناسب للجرم ، لأنهم روّجوا الضلالة في صورة الحق ووسموا الحق بسمات الضلال فكان جزاؤهم أن حولت وجوههم أعضاء مشي عوضا عن الأرجل. ثم كانوا (عُمْياً وَبُكْماً) جزاء أقوالهم الباطلة على الرسول وعلى القرآن ، و (صُمًّا) جزاء امتناعهم من سماع الحق ، كما قال تعالى عنهم : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصّلت : ٥]. وقال عنهم : (قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) [طه :

١٧٠

١٢٥ ـ ١٢٦] ، وقال عنهم : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) [الإسراء : ٧٢] أي من كان أعمى عن الحق فهو في الحشر يكون محروما من متعة النظر. وهذه حالتهم عند الحشر.

والمأوى محل الأويّ ، أي النزول بالمأوى. أي المنزل والمقر.

وخبت النار خبوّا وخبوا. نقص لهيبها.

والسعير : لهب النار ، وهو مشتق من سعّر النار إذا هيج وقودها. وقد جرى الوصف فيه على التذكير تبعا لتذكير اللهب. والمعنى : زدناهم لهبا فيها.

وفي قوله : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) إشكال لأن نار جهنم لا تخبو. وقد قال تعالى : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) [البقرة : ٨٦]. فعن ابن عباس : أن الكفرة وقود للنار قال تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤] فإذا أحرقتهم النار زال اللهب الذي كان متصاعدا من أجسامهم فلا يلبثون أن يعادوا كما كانوا فيعود الالتهاب لهم.

فالخبوّ وازدياد الاشتعال بالنسبة إلى أجسادهم لا في أصل نار جهنم. ولهذه النكتة سلط فعل (زِدْناهُمْ) على ضمير المشركين للدلالة على أن ازدياد السعير كان فيهم ، فكأنه قيل : كلما خبت فيهم زدناهم سعيرا ، ولم يقل : زدناهم سعيرا.

وعندي : أن معنى الآية جار على طريق التهكّم وبادئ الإطماع المسفر عن خيبة ، لأنه جعل ازدياد السعير مقترنا بكل زمان من أزمنة الخبوّ ، كما تفيده كلمة (كلما) التي هي بمعنى كل زمان. وهذا في ظاهره إطماع بحصول خبو لورود لفظ الخبو في الظاهر ، ولكنه يؤول إلى يأس منه إذ يدل على دوام سعيرها في كل الأزمان ، لاقتران ازدياد سعيرها بكل أزمان خبوها. فهذا الكلام من قبيل التمليح ، وهو من قبيل قوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] ، وقول إياس القاضي للخصم الذي سأله : على من قضيت؟ فقال : على ابن أخت خالك.

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨))

استئناف بياني لأن العقاب الفظيع المحكي يثير في نفوس السامعين السؤال عن سبب تركب هذه الهيئة من تلك الصورة المفظعة ، فالجواب بأن ذلك بسبب الكفر بالآيات

١٧١

وإنكار المعاد.

فالإشارة إلى ما تقدم من قوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ)[الإسراء:٩٧]إلى آخر الآية بتأويل : المذكور.

والجزاء : العوض عن عمل.

والباء في (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا) للسببية.

والظاهر أن جملة (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً) إلخ. عطف على جملة (بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا). فذكر وجه اجتماع تلك العقوبات لهم ، وذكر سببان :

أحدهما : الكفر بالآيات ويندرج فيه صنوف من الجرائم تفصيلا وجمعا تناسبها العقوبة التي في قوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ)[الإسراء: ٩٧].

وثانيهما : إنكارهم البعث بقولهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) المناسب له أن يعاقبوا عقابا يناسب ما أنكروه من تجدد الحياة بعد المصير رفاتا ، فإن رفات الإحراق أشد اضمحلالا من رفات العظام في التراب.

والاستفهام في حكاية قولهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً) وقوله : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) إنكاري. وتقدم اختلاف القراء في إثبات الهمزتين في قوله : (أَإِذا) وفي إثباتها في قوله : (أَإِذا لَمَبْعُوثُونَ) في نظير هذه الآية من هذه السورة.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩))

جملة (أَوَلَمْ يَرَوْا) عطف على جملة (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ) [الإسراء : ٩٨] باعتبار ما تضمنته الجملة المعطوف عليها من الردع عن قولهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) [الإسراء : ٩٨]. فبعد زجرهم عن إنكارهم البعث بأسلوب التهديد عطف عليه إبطال اعتقادهم بطريق الاستدلال بقياس التمثيل في الإمكان ، وهو كاف في إقناعهم هنا لأنهم إنما أنكروا البعث باعتقاد استحالته كما أفصح عنه حكاية كلامهم بالاستفهام الإنكاري. وإحالتهم ذلك مستندة إلى أنهم صاروا عظاما ورفاتا ، أي بتعذر إعادة خلق أمثال تلك الأجزاء ، ولم يستدلوا بدليل آخر ، فكان تمثيل خلق أجسام من أجزاء بالية بخلق أشياء أعظم منها من

١٧٢

عدم أوغل في الفناء دليلا يقطع دعواهم.

والاستفهام في (أَوَلَمْ يَرَوْا) إنكاري مشوب بتعجيب من انتفاء علمهم ، لأنهم لما جرت عقائدهم على استبعاد البعث كانوا بحال من لم تظهر له دلائل قدرة الله تعالى ، فيؤول الكلام إلى إثبات أنهم علموا ذلك في نفس الأمر.

والرؤية مستعملة في الاعتقاد لأنها عديت إلى كون الله قادرا ، وذلك ليس من المبصرات. والمعنى : أو لم يعلموا أن الله قادر على أن يخلق مثلهم.

وضمير (مِثْلَهُمْ) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (يَرَوْا) وهو (النَّاسَ) في قوله:(وَما مَنَعَ النَّاسَ) [الإسراء : ٩٤] أي المشركين.

والمثل : المماثل ، أي قادر على أن يخلق ناسا أمثالهم ، لأن الكلام في إثبات إعادة أجسام المردود عليهم لا في أن الله قادر على أن يخلق خلقا آخر ، ويكون في الآية إيماء إلى أن البعث إعادة أجسام أخرى عن عدم ، فيخلق لكل ميت جسد جديد على مثال جسده الذي كان في الدنيا وتوضع فيه الروح التي كانت له.

ويجوز أن يكون لفظ «مثل» هنا كناية عن نفس ما أضيف إليه ، كقول العرب : مثلك لا يبخل ، وقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] على أحد تأويلين فيه ، أي على جعل الكاف الداخلة على لفظ «مثله» غير زائدة. والمعنى : قادر على أن يخلقهم ، أي أن يعيد خلقهم ، فإن ذلك ليس بأعجب من خلق السماوات والأرض.

ولعلمائنا طرق في إعادة الأجسام عند البعث فقيل : تكون الإعادة عن عدم ، وقيل تكون عن جمع ما تفرق من الأجسام. وقيل : ينبت من عجب ذنب كل شخص جسد جديد مماثل لجسده كما تنبت من النواة شجرة مماثلة للشجرة التي أثمرت ثمرة تلك النواة.

ووصف اسم الجلالة بالموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر ، وهو الإنكار عليهم ، لأن خلق السماوات والأرض أمر مشاهد معلوم ، وكونه من فعل الله لا ينازعون فيه.

وجملة (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) معطوفة على جملة (أَوَلَمْ يَرَوْا) لتأويلها بمعنى قد رأوا ذلك لو كان لهم عقول ، أي تحققوا أن الله قادر على إعادة الخلق وقد جعل لهم أجلا لا ريب فيه.

١٧٣

والأجل : الزمان المجعول غاية يبلغ إليها في حال من الأحوال. وشاع إطلاقه على امتداد الحياة ، وهو المدة المقدرة لكل حي بحسب ما أودع الله فيه من سلامة آلات الجسم ، وما علمه الله من العوارض التي تعرض له فتخرم بعض تلك السلامة أو تقويها.

والأجل هنا محتمل لإرادة الوقت الذي جعل لوقوع البعث في علم الله تعالى.

ووجه كون هذا الجعل لهم أنهم داخلون في ذلك الأجل لأنهم من جملة من يبعث حينئذ ، فتخصيصهم بالذكر لأنهم الذين أنكروا البعث ، والمعنى : وجعل لهم ولغيرهم أجلا.

ومعنى كون الأجل لا ريب فيه : أنه لا ينبغي فيه : ريب ، وأن ريب المرتابين فيه مكابرة أو إعراض عن النظر ، فهو من باب قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)[البقرة :٢].

ويجوز أن يكون الأجل أجل الحياة ، أي وجعل لحياتهم أجلا ، فيكون استدلالا ثانيا على البعث ، أي ألم يروا أنه جعل لهم أجلا لحياتهم ، فما أوجدهم وأحياهم وجعل لحياتهم أجلا إلا لأنه سيعيدهم إلى حياة أخرى ، وإلا لما أفناهم بعد أن أحياهم ، لأن الحكمة تقتضي أن ما يوجده الحكيم يحرص على بقائه وعدم فنائه ، فما كان هذا الفناء الذي لا ريب فيه إلا فناء عارضا لاستقبال وجود أعظم من هذا الوجود وأبقى.

وعلى هذا الوجه فوجه كون هذا الجعل لهم ظاهر لأن الآجال آجالهم. وكونه لا ريب فيه أيضا ظاهر لأنهم لا يرتابون في أن لحياتهم آجالا. وقد تضمن قوله : (لَهُمْ أَجَلاً) تعريضا بالمنة بنعمة الإمهال على كلا المعنيين وتعريضا بالتذكير بإفاضة الأرزاق عليهم في مدة الأجل لأن في ذكر خلق السماء والأرض تذكيرا بما تحتويه السماوات والأرض من الأرزاق وأسبابها.

وجملة (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) تفريع على الجملتين باعتبار ما تضمنتاه من الإنكار والتعجيب ، أي علموا أن الذي خلق السماوات والأرض قادر على إعادة الأجسام ومع علمهم أبوا إلا كفورا. فالتفريع من تمام الإنكار عليهم والتعجيب من حالهم.

واستثناء الكفور من الإباية تأكيد للشيء بما يشبه ضده.

والكفور : جحود النعمة ، وتقدم آنفا. واختير «الكفور» هنا تنبيها على أنهم كفروا بما يجب اعتقاده ، وكفروا نعمة المنعم عليهم فعبدوا غير المنعم.

١٧٤

(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠))

اعتراض ناشئ عن بعض مقترحاتهم التي توهموا عدم حصولها دليلا على انتفاء إرسال بشير ، فالكلام استئناف لتكملة رد شبهاتهم. وهذا رد لما تضمنه قولهم : (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله : (تَفْجِيراً) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩١] ، وقولهم : (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) [الإسراء : ٩٣] من تعذر حصول ذلك لعظيم قيمته.

ومعنى الرد : أن هذا ليس بعظيم في جانب خزائن رحمة الله لو شاء أن يظهره لكم.

وأدمج في هذا الرد بيان ما فيهم من البخل عن الإنفاق في سبيل الخير. وأدمج في ذلك أيضا تذكيرهم بأن الله أعطاهم من خزائن رحمته فكفروا نعمته وشكروا الأصنام التي لا نعمة لها. ويصلح لأن يكون هذا خطابا للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم كل على قدر نصيبه.

وشأن (لو) أن يليها الفعل ماضيا في الأكثر أو مضارعا في اعتبارات ، فهي مختصة بالدخول على الأفعال ، فإذا أوقعوا الاسم بعدها في الكلام وأخروا الفعل عنه فإنما يفعلون ذلك لقصد بليغ : إما لقصد التقوي والتأكيد للإشعار بأن ذكر الفعل بعد الأداة ثم ذكر فاعله ثم ذكر الفعل مرة ثانية تأكيد وتقوية ؛ مثل قوله : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ) [التوبة : ٦] وإما للانتقال من التقوي إلى الاختصاص ، بناء على أنه ما قدم الفاعل من مكانه إلا لمقصد طريق غير مطروق. وهذا الاعتبار هو الذي يتعين التخريج عليه في هذه الآية ونحوها من الكلام البليغ ، ومنه قول عمر لأبي عبيدة «لو غيرك قالها».

والمعنى : لو أنتم اختصصتم بملك خزائن رحمة الله دون الله لما أنفقتم على الفقراء شيئا. وذلك أشد في التقريع وفي الامتنان بتخييل أن إنعام غيره كالعدم.

وكلا الاعتبارين لا يناكد اختصاص (لو) بالأفعال للاكتفاء بوقوع الفعل في حيزها غير موال إياها وموالاته إياها أمر أغلبي ، ولكن لا يجوز أن يقال : لو أنت عالم لبذذت الأقران.

واختير الفعل المضارع لأن المقصود فرض أن يملكوا ذلك في المستقبل.

و (لَأَمْسَكْتُمْ) هنا منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول ، لأن المقصود : إذن لاتصفتم

١٧٥

بالإمساك ، أي البخل. يقال : فلان ممسك ، أي بخيل. ولا يراد أنه ممسك شيئا معينا.

وأكد جواب (لو) بزيادة حرف (إذن) فيه لتقوية معنى الجوابية ، ولأن في (إذن) معنى الجزاء كما تقدم آنفا عند قوله : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) كما تقولون (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢]. ومنه قول بشر بن عوانة :

أفاطم لو شهدت ببطن خبت

وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا

إذن لرأيت ليثا أمّ ليثا

هزبرا أغلبا لاقى هزبرا

وجملة (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) حالية أو اعتراضية في آخر الكلام ، وهي تفيد تذييلا لأنها عامة الحكم. فالواو فيها ليست عاطفة.

والقتور : الشديد البخل ، مشتق من القتر وهو التضييق في الإنفاق.

[١٠١ ، ١٠٢] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢))

بقي قولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء : ٩٢] غير مردود عليهم ، لأن له مخالفة لبقية ما اقترحوه بأنه اقتراح آية عذاب ورعب ، فهو من قبيل آيات موسى ـ عليه‌السلام ـ التسع. فكان ذكر ما آتاه الله موسى من الآيات وعدم إجداء ذلك في فرعون وقومه تنظيرا لما سأله المشركون.

والمقصود : أننا آتينا موسى ـ عليه‌السلام ـ تسع آيات بيّنات الدلالة على صدقه فلم يهتد فرعون وقومه وزعموا ذلك سحرا ، ففي ذلك مثل للمكابرين كلهم وما قريش إلا منهم. ففي هذا مثل للمعاندين وتسلية للرسول. والآيات التسع هي : بياض يده كلما أدخلها في جيبه وأخرجها ، وانقلاب العصا حية ، والطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع ، والدم ، والرجز وهو الدمل ، والقحط وهو السنون ونقص الثمرات ، وهي مذكورة في سورة الأعراف. وجمعها الفيروزآبادىّ في قوله :

عصا ، سنة ، بحر ، جراد ، وقمّل

يد ، ودم ، بعد الضفادع طوفان

فقد حصلت بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) الحجة على المشركين الذين يقترحون الآيات.

١٧٦

ثم لم يزل الاعتناء في هذه السورة بالمقارنة بين رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالة موسى ـ عليه‌السلام ـ إقامة للحجة على المشركين الذين كذبوا بالرسالة بعلة أن الذي جاءهم بشر ، وللحجة على أهل الكتاب الذين ظاهروا المشركين ولقنوهم شبه الإلحاد في الرسالة المحمدية ليصفو لهم جوّ العلم في بلاد العرب وهم ما كانوا يحسبون لما وراء ذلك حسابا.

فالمعنى : ولقد آتينا موسى تسع آيات على رسالته.

وهذا مثل التنظير بين إيتاء موسى الكتاب وإيتاء القرآن في قوله في أول السورة (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الإسراء : ٢] الآيات ، ثم قوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩].

فتكون هذه الجملة عطفا على جملة (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣] أو على جملة (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) الآية [الإسراء : ١٠٠].

ثم انتقل من ذلك بطريقة التفريع إلى التسجيل ببني إسرائيل استشهادا بهم على المشركين ، وإدماجا للتعريض بهم بأنهم ساووا المشركين في إنكار نبوءة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ومظاهرتهم المشركين بالدس وتلقين الشبه ، تذكيرا لهم بحال فرعون وقومه إذ قال له فرعون (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً).

والخطاب في قوله : (فَسْئَلْ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمراد : سؤال الاحتجاج بهم على المشركين لا سؤال الاسترشاد كما هو بين.

وقوله : (مَسْحُوراً) ظاهره أن معناه متأثرا بالسحر ، أي سحرك السحرة وأفسدوا عقلك فصرت تهرف بالكلام الباطل الدال على خلل العقل (مثل الميمون والمشئوم). وهذا قول قاله فرعون في مقام غير الذي قال له فيه (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) [الشعراء : ٣٥] ، والذي قال فيه (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) ، [الشعراء : ٣٤] فيكون إعراضا عن الاشتغال بالآيات وإقبالا على تطلع حال موسى فيما يقوله من غرائب الأقوال عندهم. ألا ترى إلى قوله تعالى حكاية عنه (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) [الشعراء : ٢٥]. وكل تلك أقوال صدرت من فرعون في مقامات محاوراته مع موسى ـ عليه‌السلام ـ فحكي في كل آية شيء منها.

١٧٧

و (إذا) ظرف متعلق ب (آتَيْنا). والضمير المنصوب في (جاءَهُمْ) عائد إلى بني إسرائيل. وأصل الكلام : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات إذ جاء بني إسرائيل ، فاسألهم.

وكان فرعون تعلق ظنه بحقيقة ما أظهر من الآيات فرجح عنده أنها سحر ، أو تعلق ظنه بحقيقة حال موسى فرجح عنده أنه أصابه سحر ، لأن الظن دون اليقين ، قال تعالى : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢]. وقد يستعمل الظن بمعنى العلم اليقين.

ومعنى (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أن فرعون لم يبق في نفسه شك في أن تلك الآيات لا تكون إلا بتسخير الله إذ لا يقدر عليها غير الله ، وأنه إنما قال : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) عنادا ومكابرة وكبرياء.

وأكد كلام موسى بلام القسم وحرف التحقيق تحقيقا لحصول علم فرعون بذلك. وإنما أيقن موسى بأن فرعون قد علم بذلك : إما بوحي من الله أعلمه به ، وإما برأي مصيب ، لأن حصول العلم عند قيام البرهان الضروري حصول عقلي طبيعي لا يتخلف عن عقل سليم.

وقرأ الكسائي وحده (لَقَدْ عَلِمْتَ) ـ بضم التاء ـ ، أي أن تلك الآيات ليست بسحر كما زعمت كناية على أنه واثق من نفسه السلامة من السحر.

والإشارة ب (هؤُلاءِ) إلى الآيات التسع جيء لها باسم إشارة العاقل ، وهو استعمال مشهور. ومنه قوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦] ، وقول جرير :

ذم المنازل بعد منزلة اللوى

والعيش بعد أولئك الأيام

والأكثر أن يشار ب (أولاء) إلى العاقل.

والبصائر : الحجج المفيدة للبصيرة ، أي العلم ، فكأنها نفس البصيرة.

وقد تقدم عند قوله تعالى : (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) في آخر سورة الأعراف[٢٠٣].

وعبر عن الله بطريق إضافة وصف الرب للسماوات والأرض تذكيرا بأن الذي خلق السماوات والأرض هو القادر على أن يخلق مثل هذه الخوارق.

والمثبور : الذي أصابه الثبور وهو الهلاك. وهذا نذارة وتهديد لفرعون بقرب هلاكه.

١٧٨

وإنما جعله موسى ظنا تأدبا مع الله تعالى ، أو لأنه علم ذلك باستقراء تام أفاده هلاك المعاندين للرسل ، ولكنه لم يدر لعل فرعون يقلع عن ذلك وكان عنده احتمالا ضعيفا ، فلذلك جعل توقع هلاك فرعون ظنا. ويجوز أن يكون الظن هنا مستعملا بمعنى اليقين كما تقدم آنفا.

وفي ذكر هذا من قصة موسى إتمام لتمثيل حال معاندي الرسالة المحمدية بحال من عائد رسالة موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وجاء في جواب موسى ـ عليه‌السلام ـ لفرعون بمثل ما شافهه فرعون به من قوله : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) مقارعة له وإظهارا لكونه لا يخافه وأنه يعامله معاملة المثل قال تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤].

[١٠٣ ، ١٠٤] (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤))

أكملت قصة المثل بما فيه تعريض بتمثيل الحالين إنذارا للمشركين بأن عاقبة مكرهم وكيدهم ومحاولاتهم صائرة إلى ما صار إليه مكر فرعون وكيده ، ففرع على تمثيل حالي الرسالتين وحالي المرسل إليهما ذكر عاقبة الحالة الممثل بها نذارة للممثلين بذلك المصير.

فقد أضمر المشركون إخراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين من مكة ، فمثلت إرادتهم بإرادة فرعون إخراج موسى وبني إسرائيل من مصر ، قال تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٦].

والاستفزاز : الاستخفاف ، وهو كناية عن الإبعاد. وتقدم عند قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) في هذه السورة [الإسراء : ٧٦].

والمراد بمن معه جنده الذين خرجوا معه يتبعون بني إسرائيل.

والأرض الأولى هي المعهودة وهي أرض مصر ، والأرض الثانية أرض الشام وهي المعهودة لبني إسرائيل بوعد الله إبراهيم إياها.

ووعد الآخرة ما وعد الله به الخلائق على ألسنة الرسل من البعث والحشر.

واللفيف : الجماعات المختلطون من أصناف شتى ، والمعنى : حكمنا بينهم في الدنيا

١٧٩

بغرق الكفرة وتمليك المؤمنين ، وسنحكم بينهم يوم القيامة.

ومعنى (جِئْنا بِكُمْ) أحضرناكم لدينا. والتقدير : جئنا بكم إلينا.

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥))

(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) عود إلى التنويه بشأن القرآن فهو متصل بقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [الإسراء : ٨٩]. فلما عطف عليه (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) [الإسراء : ٩٠] الآيات إلى هنا وسمحت مناسبة ذكر تكذيب فرعون موسى ـ عليه‌السلام ـ عاد الكلام إلى التنويه بالقرآن لتلك المناسبة.

وقد وصف القرآن بصفتين عظيمتين كل واحدة منهما تحتوي على ثناء عظيم وتنبيه للتدبر فيهما.

وقد ذكر فعل النزول مرتين ، وذكر له في كل مرة متعلق متماثل اللفظ لكنه مختلف المعنى ، فعلق إنزال الله إياه بأنه بالحق فكان معنى الحق الثابت الذي لا ريب فيه ولا كذب ، فهو كقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] وهو رد لتكذيب المشركين أن يكون القرآن وحيا من عند الله.

وعلق نزول القرآن ، أي بلوغه للناس بأنه بالحق فكان معنى الحق الثاني مقابل الباطل ، أي مشتملا على الحق الذي به قوام صلاح الناس وفوزهم في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] ، وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء : ١٠٥].

وضمائر الغيبة عائدة إلى القرآن المعروف من المقام.

والباء في الموضعين للمصاحبة لأنه مشتمل على الحق والهدي ، والمصاحبة تشبه الظرفية. ولو لا اختلاف معنى الباءين في الآية لكان قوله : (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) مجرد تأكيد لقوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) لأنه إذا أنزل بالحق نزل به ولا ينبغي المصير إليه ما لم يتعين.

وتقديم المجرور في الموضعين على عامله للقصر ردا على المنكرين الذين ادعوا أنه أساطير الأولين أو سحر مبين أو نحو ذلك.

١٨٠