تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٢

أصل عداوة الشيطان الناشئة عن الحسد من تفضيله عليه ـ إما لأن هذا الكلام قاله بعد أن أغوى آدم وأخرج من الجنة فقد شفى غليله منه وبقيت العداوة مسترسلة في ذرية آدم ، قال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) [فاطر : ٦].

والاحتناك : وضع الراكب اللجام في حنك الفرس ليركبه ويسيّره ، فهو هنا تمثيل لجلب ذرية آدم إلى مراده من الإفساد والإغواء بتسيير الفرس على حب ما يريد راكبه.

[٦٣ ، ٦٤] (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤))

جواب من الله تعالى عن سؤال إبليس التأخير إلى يوم القيامة ، ولذلك فصلت جملة (قالَ) على طريقة المحاورات التي ذكرناها عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها) [البقرة: ٣٠].

والذهاب ليس مرادا به الانصراف بل هو مستعمل في الاستمرار على العمل ، أي امض لشأنك الذي نويته. وصيغة الأمر مستعملة في التسوية وهو كقول النبهاني من شعراء الحماسة :

فإن كنت سيدنا سدتنا

وإن كنت للخال فاذهب فخل

وقوله : (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) تفريع على التسوية والزجر كقوله تعالى : (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) [طه : ٩٧].

والجزاء : مصدر جزاء على عمل ، أي أعطاه عن عمله عوضا. وهو هنا بمعنى اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.

والموفور : اسم مفعول من وفره إذا كثّره.

وأعيد (جَزاءً) للتأكيد ، اهتماما وفصاحة ، كقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف : ٢] ، ولأنه أحسن في جريان وصف الموفور على موصوف متصل به دون فصل. وأصل الكلام : فإن جهنم جزاؤكم موفورا. فانتصاب (جَزاءً) على الحال الموطئة ، و (مَوْفُوراً) صفة له ، وهو الحال في المعنى ، أي جزاء غير منقوص.

والاستفزاز : طلب الفزّ ، وهو الخفة والانزعاج وترك التثاقل. والسين والتاء فيه

١٢١

للجعل الناشئ عن شدة الطلب والحث الذي هو أصل معنى السين والتاء ، أي استخفهم وأزعجهم.

والصوت : يطلق على الكلام كثيرا ، لأن الكلام صوت من الفم. واستعير هنا لإلقاء الوسوسة في نفوس الناس. ويجوز أن يكون مستعملا هنا تمثيلا لحالة إبليس بحال قائد الجيش فيكون متصلا بقوله : (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ) كما سيأتي.

والإجلاب : جمع الجيش وسوقه ، مشتق من الجلبة بفتحتين ، وهي الصياح ، لأن قائد الجيش إذا أراد جمع الجيش نادى فيهم للنفير أو للغارة والهجوم.

والخيل : اسم جمع الفرس. والمراد به عند ذكر ما يدل على الجيش الفرسان. ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. «يا خيل الله اركبي». وهو تمثيل لحال صرف قوته ومقدرته على الإضلال بحال قائد الجيش يجمع فرسانه ورجالته ...

ولما كان قائد الجيش ينادي في الجيش عند الأمر بالغارة جاز أن يكون قوله : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) من جملة هذا التمثيل.

والرّجل : اسم جمع الرجال كصحب. وقد كانت جيوش العرب مؤلفة من رجالة يقاتلون بالسيوف ومن كتائب فرسان يقاتلون بنضح النبال ، فإذا التحموا اجتلدوا بالسيوف جميعا. قال أنيف بن زبان النّبهاني :

وتحت نحور الخيل حرشف رجلة

تتاح لحبات القلوب نبالها

ثم قال :

فلما التقينا بيّن السيف بيننا

لسائلة عنا حفيّ سؤالها

والمعنى : أجمع لمن اتبعك من ذرية آدم وسائل الفتنة والوسوسة لإضلالهم. فجعلت وسائل الوسوسة بتزيين المفاسد وتفظيع المصالح كاختلاف أصناف الجيش ، فهذا تمثيل حال الشيطان وحال متبعيه من ذرية آدم بحال من يغزو قوما بجيش عظيم من فرسان ورجالة.

وقرأ حفص عن عاصم (وَرَجِلِكَ) ـ بكسر الجيم ـ ، وهو لغة في رجل مضموم الجيم ، وهو الواحد من الرجال. والمراد الجنس. والمعنى : بخيلك ورجالك ، أي الفرسان والمشاة.

١٢٢

والباء في (بِخَيْلِكَ) إما لتأكيد لصوق الفعل لمفعوله فهي لمجرد التأكيد. ومجرورها مفعول في المعنى لفعل (أَجْلِبْ) مثل (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] ؛ وإما لتضمين فعل (أَجْلِبْ) معنى اغزهم فيكون الفعل مضمنا معنى الفعل اللازم وتكون الباء للمصاحبة.

والمشاركة في الأموال : أن يكون للشيطان نصيب في أموالهم وهي أنعامهم وزروعهم إذ سول لهم أن يجعلوا نصيبا في النتاج والحرث للأصنام. وهي من مصارف الشيطان لأن الشيطان هو المسول للناس باتخاذها ، قال تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) [الأنعام : ١٣٦].

وأما مشاركة الأولاد فهي أن يكون للشيطان نصيب في أحوال أولادهم مثل تسويله لهم أن يئدوا أولادهم وأن يستولدوهم من الزنى ، وأن يسمّوهم بعبدة الأصنام ، كقولهم : عبد العزى ، وعبد اللات ، وزيد مناة ، ويكون انتسابه إلى ذلك الصنم.

ومعنى (عِدْهُمْ) أعطهم المواعيد بحصول ما يرغبونه كما يسول لهم بأنهم إن جعلوا أولادهم للأصنام سلم الآباء من الثكل والأولاد من الأمراض ، ويسول لهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله في الدنيا وتضمن لهم النصر على الأعداء ، كما قال أبو سفيان يوم أحد «اعل هبل». ومنه وعدهم بأنهم لا يخشون عذابا بعد الموت لإنكار البعث ، ووعد العصاة بحصول اللذات المطلوبة من المعاصي مثل الزنى والسرقة والخمر والمقامرة.

وحذف مفعول (وَعِدْهُمْ) للتعميم في الموعود به. والمقام دال على أن المقصود أن يعدهم بما يرغبون لأن العدة هي التزام إعطاء المرغوب. وسماه وعدا لأنه يوهمهم حصوله فيما يستقبل فلا يزالون ينتظرونه كشأن الكذاب أن يحتزر عن الإخبار بالعاجل لقرب افتضاحه فيجعل مواعيده كلها للمستقبل.

ولذلك اعترض بجملة (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً).

والغرور : إظهار الشيء المكروه في صورة المحبوب الحسن. وتقدم عند قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) في سورة آل عمران [١٩٦] ، وقوله : (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) في سورة الأنعام [١١٢]. والمعنى : أن ما سوله لهم الشيطان في حصول المرغوب إما باطل لا يقع ، مثل ما يسوله للناس من العقائد الفاسدة وكونه غرورا لأنه إظهار لما يقع في صورة الواقع فهو تلبيس ؛ وإما حاصل لكنه مكروه غير محمود

١٢٣

بالعاقبة ، مثل ما يسوله للناس من قضاء دواعي الغضب والشهوة ومحبة العاجل دون تفكير في الآجل ، وكل ذلك لا يخلو عن مقارنة الأمر المكروه أو كونه آئلا إليه بالإضرار. وقد بسط هذا الغزالي في كتاب الغرور من كتاب «إحياء علوم الدين».

وإظهار اسم الشيطان في قوله : (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ) دون أن يؤتى بضميره المستتر لأن هذا الاعتراض جملة مستقلة فلو كان فيها ضمير عائد إلى ما في جملة أخرى لكان في النثر شبه عيب التضمين في الشعر ، ولأن هذه الجملة جارية مجرى المثل فلا يحسن اشتمالها على ضمير ليس من أجزائها.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))

وجملة (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) من تمام الكلام المحكي ب (قالَ اذْهَبْ) [الإسراء : ٦٣]. وهي جملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله : (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) [الإسراء : ٦٣] وقوله : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ) [الإسراء : ٦٤] ، فإن مفهوم (فَمَنْ تَبِعَكَ) و (مَنِ اسْتَطَعْتَ) [الإسراء : ٦٤] ذريّة من قبيل مفهوم الصفة فيفيد أن فريقا من درية آدم لا يتبع إبليس فلا يحتنكه. وهذا المفهوم يفيد أن الله قد عصم أو حفظ هذا الفريق من الشيطان ، وذلك يثير سؤالا في خاطر إبليس ليعلم الحائل بينه وبين ذلك الفريق بعد أن علم في نفسه علما إجماليا أن فريقا لا يحتنكه لقوله : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢]. فوقعت الإشارة إلى تعيين هذا الفريق بالوصف وبالسبب.

فأما الوصف ففي قوله : (عِبادِي) المفيد أنهم تمحضوا لعبودية الله تعالى كما تدل عليه الإضافة ، فعلم أن من عبدوا الأصنام والجن وأعرضوا عن عبودية الله تعالى ليسوا من أولئك.

وأما السبب ففي قوله : (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) المفيد أنهم توكلوا على الله واستعاذوا به من الشيطان ، فكان خير وكيل لهم إذ حاطهم من الشيطان وحفظهم منه.

وفي هذا التوكل مراتب من الانفلات عن احتناك الشيطان ، وهي مراتب المؤمنين من الأخذ بطاعة الله كما هو الحق عند أهل السنّة.

فالسلطان المنفي في قوله : (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) هو الحكم المستمر بحيث يكونون رعيته ومن جنده. وأما غيرهم فقد يستهويهم الشيطان ولكنهم لا يلبثون أن يثوبوا إلى الصالحات ، وكفاك من ذلك دوام توحيدهم لله ، وتصديقهم رسوله ، واعتبارهم أنفسهم

١٢٤

عبادا لله متطلبين شكر نعمته ، فشتان بينهم وبين أهل الشرك وإن سخفت في شأنهم عقيدة أهل الاعتزال. وقد تقدم معنى هذا عند قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) في سورة النحل [٩٩ ـ ١٠٠].

فالمؤمن لا يتولى الشيطان أبدا ولكنه قد ينخدع لوسواسه ، وهو مع ذلك يلعنه فيما أوقعه فيه من الكبائر ، وبمقدار ذلك الانخداع يقترب من سلطانه. وهذا معنى قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة حجة الوداع : «إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم».

فجملة (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) يجوز أن تكون تكملة لتوبيخ الشيطان ، فيكون كاف الخطاب ضمير الشيطان تسجيلا عليه بأنه عبد الله ، ويجوز أن تكون معترضة في آخر الكلام فتكون كاف الخطاب ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقريبا للنبي بالإضافة إلى ضمير الله. ومآل المعنى على الوجهين واحد وإن اختلف الاعتبار.

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦))

استئناف ابتدائي وهو عود إلى تقرير أدلة الانفراد بالتصريف في العالم المشوبة بما فيها من نعم على الخلق ، والدالة بذلك الشوب على إتقان الصنع ومحكم التدبير لنظام هذا العالم وسيادة الإنسان فيه وعليه. ويشبه أن يكون هذا الكلام عودا إلى قوله : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) [الإسراء : ١١] كما تقدم هناك فراجعه. فلما جرى الكلام على الإنذار والتحذير أعقب هنا بالاستدلال على صحة الإنذار والتحذير.

والخطاب لجماعة المشركين كما يقتضيه قوله عقبه : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) [الإسراء : ٦٧] ، أي أعرضتم عن دعائه ودعوتم الأصنام ، وقوله : (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧].

وافتتحت الجملة بالمسند إليه معرفا بالإضافة ومستحضرا بصفة الربوبية لاستدعاء إقبال السامعين على الخبر المؤذن بأهميته حيث افتتح بما يترقب منه خبر عظيم لكونه من شئون الإله الحق وخالق الخلق ومدبر شئونهم تدبير اللطيف الرحيم ، فيوجب إقبال السامع بشراشره إن مؤمنا متذكرا أو مشركا ناظرا متدبرا.

١٢٥

وجيء بالجملة الاسمية لدلالتها على الدوام والثبات.

وبتعريف طرفيها للدلالة على الانحصار ، أي ربكم هو الذي يزجي لكم الفلك لا غيره ممن تعبدونه باطلا وهو الذي لا يزال يفعل ذلك لكم.

وجيء بالصلة فعلا مضارعا للدلالة على تكرر ذلك وتحدده. فحصلت في هذه الجملة على إيجازها معان جمة خصوصية. وفي ذلك حد الإعجاز.

ويزجي : يسوق سوقا بطيئا شبه تسخير الفلك للسير في الماء بإزجاء الدابة المثقلة بالحمل.

والفلك هنا جمع لا مفرد. والبحر : الماء الكثير فيشمل الأنهار كالفرات والدجلة ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ) في سورة البقرة [١٦٤].

والابتغاء : الطلب. والفضل : الرزق ، أي للتجارة وتقدم عند قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في سورة البقرة [١٩٨]. وهذا امتنان على الناس كلّهم مناسب لعموم الدعوة ، لأنّ أهل مكة ما كانوا ينتفعون بركوب البحر وإنما ينتفع بذلك عرب اليمن وعرب العراق والناس غيرهم.

وجملة (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) تعليل وتنبيه لموقع الامتنان ليرفضوا عبادة غيره مما لا أثر له في هذه المنة.

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧))

بعد أن ألزمهم الحجة على حق إلهية الله تعالى بما هو من خصائص صنعه باعترافهم ، أعقبه بدليل آخر من أحوالهم المتضمنة إقرارهم بانفراده بالتصرف ثم بالتعجيب من مناقضة أنفسهم عند زوال اضطرارهم.

فجملة (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) خبر مستعمل في التقرير وإلزام الحجة إذ لا يخبر أحد عن فعله إخبارا حقيقيا.

وجملة (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) خبر مستعمل في التعجيب والتوبيخ.

وضر البحر : هو الإشراف على الغرق ؛ لأنه يزعج النفوس خوفا ، فهو ضر لها.

١٢٦

و (ضَلَ) بضاد ساقطة فعل من الضلال ، وهو سلوك طريق غير موصلة للمقصود خطأ.

والعدول إلى الموصولية لما تؤذن به الصلة من عمل اللسان ليتأتى الإيجاز ، أي من يتكرر دعاؤكم إياهم ، كما يدل عليه المضارع. فالمعنى غاب وانصرف ذكر الذين عادتكم دعاؤهم عن ألسنتكم فلا تدعونهم ، وذلك بقرينة ذكر الدعاء هنا الذي متعلقة اللسان ، فتعين أن ضلالهم هو ضلال ذكر أسمائهم ، وهذا إيجاز بديع.

والاستثناء من عموم الموصول ، لأن اسم الله مما يجري على ألسنتهم في الدعاء تارة كما تجري أسماء الأصنام ، فالاستثناء متصل.

ويجوز أن يكون اسم الموصول في قوله : (مَنْ تَدْعُونَ) خاصا بأصنامهم لأنهم يكثر دعاؤهم إياها دون اسم الله تعالى ، كما هو مقتضى التجدد فإذا اشتد بهم الضر دعوا الله كما قال تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥]. ويكون الاستثناء منقطعا. ونصب المستثنى لا يختلف في الوجهين جريا على اللغة الفصحى. ولعل هذا الوجه أرجح لأنه أنسب بقوله : (أَعْرَضْتُمْ).

والإعراض : الترك ، أي تركتم دعاء الله ، بقرينة الجمع بين مقتضى المضارع من إفادة التجدد وبين مقتضى الاستثناء من انحصار الدعاء في الكون باسمه تعالى.

وقوله : (إِلَى الْبَرِّ) عدي بحرف (إلى) لتضمين (نَجَّاكُمْ) معنى أبلغكم وأوصلكم.

وجملة (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) اعتراض وتذييل لزيادة التعجب منهم ومن أمثالهم. و «الكفور» صيغة مبالغة ، أي كثير الكفر. والكفر ضد الشكر.

والتعريف في (الْإِنْسانُ) تعريف الجنس وهو مفيد للاستغراق. فهذا الاستغراق يجوز أن يكون استغراقا عرفيا بحمله على غالب نوع الإنسان ، وهم أهل الإشراك وهم أكثر الناس يومئذ ، فتكون صيغة المبالغة من قوله : (كَفُوراً) راجعة إلى قوة صفة الكفران أو عدم الشكر فإن أعلاه إشراك غير المنعم مع المنعم في نعمة لا حظ له فيها.

ويجوز أن يكون الاستغراق حقيقيا ، أي كان نوع الإنسان كفورا ، أي غير خال من الكفران ، فتكون صيغة المبالغة راجعة إلى كثرة أحوال الكفران مع تفاوتها. وكثرة كفران الإنسان هي تكرر إعراضه عن الشكر في موضع الشكر ضلالا أو سهوا أو غفلة لإسناده النعم إلى أسبابها المقارنة دون منعمها ولفرضه منعمين وهميين لا حظ لهم في الإنعام.

١٢٧

وذكر فعل (كان) إشارة إلى أن الكفران مستقر في جبلة هذا الإنسان ، لأن الإنسان قلما يشعر بما وراء عالم الحس فإن الحواس تشغله بمدركاتها عن التفكر فيما عدا ذلك من المعاني المستقرة في الحافظة والمستنبطة بالفكر.

ولما كان الشكر على النعمة متوقفا على تذكر النعمة كانت شواغله عن تذكر النعم الماضية مغطية عليها ، ولأن مدركات الحواس منها الملائم للنفس وهو الغالب ، ومنها المنافر لها. فالإنسان إذا أدرك الملائم لم يشعر بقدره عنده لكثرة تكرره حتى صار عادة فذهل عما فيه من نفع ، فإذا أدرك المنافر استذكر فقدان الملائم فضج وضجر. وهو معنى قوله تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) [فصلت : ٥١]. ولهذا قال الحكماء : العافية تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى فهذا الاعتبار هو الذي أشارت له هذه الآية مع التي بعدها وهي (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) [الإسراء : ٦٨] الآية. ومن أجل ذلك كان من آداب النفس في الشريعة تذكيرها بنعم الله ، قال تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥] ليقوم ذكر النعمة مقام معاهدتها.

[٦٨ ، ٦٩] (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩))

تفريع على جملة (أَعْرَضْتُمْ) [الإسراء : ٦٧] ، وما بينهما اعتراض ، وفرع الاستفهام التوبيخي على إعراضهم عن الشكر وعودهم إلى الكفر.

والخسف : انقلاب ظاهر الأرض في باطنها من الزلزال. وتقدم في قوله : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) في سورة النحل [٤٥].

وفي هذا تنبيه على أن السلامة في البر نعمة عظيمة تنسونها فلو حدث لكم خسف لهلكتم هلاكا لا نجاة لكم منه بخلاف هول البحر. ولكن لما كانت السلامة في البر غير مدرك قدرها قلّ أن تشعر النفوس بنعمتها وتشعر بخطر هول البحر فينبغي التدرب على تذكر نعمة السلامة من الضر ثم إن محل السلامة معرض إلى الأخطار.

والاستفهام بقوله : (أَفَأَمِنْتُمْ) إنكاري وتوبيخي.

١٢٨

والجانب : هو الشق. وجعل البر جانبا لإرادة الشق الذي ينجيهم إليه ، وهو الشاطئ الذي يرسون عليه ، إشارة إلى إمكان حصول الخوف لهم بمجرد حلولهم بالبر بحيث يخسف بهم ذلك الشاطئ ، أي أن البر والبحر في قدرة الله تعالى سيان ، فعلى العاقل أن يستوي خوفه من الله في البر والبحر. وإضافة الجانب إلى البر إضافة بيانية.

والباء في (يَخْسِفَ بِكُمْ) لتعدية (يَخْسِفَ) بمعنى المصاحبة.

والحاصب : الرامي بالحصباء ، وهي الحجارة. يقال : حصبه ، وهو هنا صفة ، أي يرسل عليكم عارضا حاصبا ، تشبيها له بالذي يرمي الحصباء ، أي مطر حجارة ، أي برد يشبه الحجارة ، وقيل : الحاصب هنا بمعنى ذي الحصباء ، فصوغ اسم فاعل له من باب فاعل الذي هو بمعنى النسب مثل لابن وتامر.

والوكيل : الموكل إليه القيام بمهم موكله ، والمدافع عن حق موكله ، أي لا تجدوا لأنفسكم من يجادلنا عنكم أو يطالبنا بما ألحقناه بكم من الخسف أو الإهلاك بالحاصب ، أي لا تجدوا من قومكم وأوليائكم من يثأر لكم كشأن من يلحقه ضر في قومه أن يدافع عنه ويطالب بدمه أولياؤه وعصابته. وهذا المعنى مناسب لما يقع في البر من الحدثان.

و (أم) عاطفة الاستفهام ، وهي للإضراب الانتقالي ، أي بل أأمنتم ، فالاستفهام مقدر مع (أم) لأنها خاصة به ، أي أو هل كنتم آمنين من العود إلى ركوب البحر مرة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح.

والتارة : المرة المتكررة ، قيل عينه همزة ثم خففت لكثرة الاستعمال. وقيل : هي واو. والأول أظهر لوجوده مهموزا وهم لا يهمزون حرف العلة في اللغة الفصحى ، وأما تخفيف المهموز فكثير مثل : فأس وفاس ، وكأس وكاس.

ومعنى (أَنْ يُعِيدَكُمْ) أن يوجد فيكم الدواعي إلى العود تهيئة لإغراقكم وإرادة للانتقام منكم ، كما يدل عليه السياق وتفريع (فَيُرْسِلَ) عليه.

والقاصف : التي تقصف ، أي تكسر. وأصل القصف : الكسر. وغلب وصف الريح به. فعومل معاملة الصفات المختصة بالمؤنث فلم يلحقوه علامة التأنيث ، مثل (عاصِفٌ) في قوله : (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) في سورة يونس [٢٢]. والمعنى : فيرسل عليكم ريحا قاصفا ، أي تقصف الفلك ، أي تعطبه بحيث يغرق ، ولذلك قال : (فَيُغْرِقَكُمْ).

قرأ الجمهور (مِنَ الرِّيحِ) بالإفراد. وقرأ أبو جعفر من الرياح بصيغة الجمع.

١٢٩

والباء في (بِما كَفَرْتُمْ) للسببية. و (ما) مصدرية ، أي بكفركم ، أي شرككم.

و (ثم) للترتيب الرتبي كشأنها في عطفها الجمل. وهو ارتقاء في التهديد بعدم وجود منقذ لهم ، بعد تهديدهم بالغرق لأن الغريق قد يجد منقذا.

والتبيع : مبالغة في التابع ، أي المتتبع غيره المطالب لاقتضاء شيء منه. أي لا تجدوا من يسعى إليه ولا من يطالب لكم بثأر.

ووصف (تبيع) يناسب حال الضر الذي يلحقهم في البحر ، لأن البحر لا يصل إليه رجال قبيلة القوم وأولياؤهم ، فلو راموا الثأر لهم لركبوا البحر ليتابعوا آثار من ألحق بهم ضرا. فلذلك قيل هنا (تَبِيعاً) وقيل في التي قبلها (وَكِيلاً) كما تقدم.

وضمير (بِهِ) عائد إما إلى الإغراق المفهوم من (فَيُغْرِقَكُمْ) ، وإما إلى المذكور من إرسال القاصف وغيره.

وقرأ الجمهور ألفاظ (يَخْسِفَ) و (يُرْسِلَ) و (يُعِيدَكُمْ) و (فَيُرْسِلَ) و (فَيُغْرِقَكُمْ) خمستها بالياء التحتية. وقرأها ابن كثير وأبو عمرو ـ بنون العظمة ـ على الالتفات من ضمير الغيبة الذي في قوله : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ) إلى ضمير التكلم. وقرأ أبو جعفر ورويس عن يعقوب فتغرقكم بمثناة فوقية. والضمير عائد إلى (الرِّيحِ) على اعتبار التأنيث ، أو على الرياح على قراءة أبي جعفر.

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠))

اعتراض جاء بمناسبة العبرة والمنة على المشركين ، فاعترض بذكر نعمة على جميع الناس فأشبه التذييل لأنه ذكر به ما يشمل ما تقدم.

والمراد ببني آدم جميع النوع ، فالأوصاف المثبتة هنا إنما هي أحكام للنوع من حيث هو كما هو شأن الأحكام التي تسند إلى الجماعات.

وقد جمعت الآية خمس منن : التكريم ، وتسخير المراكب في البر ، وتسخير المراكب في البحر ، والرزق من الطيبات ، والتفضيل على كثير من المخلوقات.

فأما منة التكريم فهي مزية خص بها الله بني آدم من بين سائر المخلوقات الأرضية.

١٣٠

والتكريم : جعله كريما ، أي نفيسا غير مبذول ولا ذليل في صورته ولا في حركة مشيه وفي بشرته ، فإن جميع الحيوان لا يعرف النظافة ولا اللباس ولا ترفيه المضجع والمأكل ولا حسن كيفية تناول الطعام والشراب ولا الاستعداد لما ينفعه ودفع ما يضره ولا شعوره بما في ذاته وعقله من المحاسن فيستزيد منها والقبائح فيسترها ويدفعها ، بله الخلو عن المعارف والصنائع وعن قبول التطور في أساليب حياته وحضارته. وقد مثل ابن عباس للتكريم بأن الإنسان يأكل بأصابعه ، يريد أنه لا ينتهش الطعام بفمه بل برفعه إلى فيه بيده ولا يكرع في الماء بل يرفعه إلى فيه بيده ، فإن رفع الطعام بمغرفة والشراب بقدح فذلك من زيادة التكريم وهو تناول باليد.

والحمل : الوضع على المركب من الرواحل. فالراكب محمول على المركوب. وأصله في ركوب البر ، وذلك بأن سخر لهم الرواحل وألهمهم استعمالها.

وأما الحمل في البحر فهو الحصول في داخل السفينة. وإطلاق الحمل على ذلك الحصول استعارة من الحمل على الراحلة وشاعت حتى صارت كالحقيقة ، قال تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١]. ومعنى حمل الله الناس في البحر : إلهامه إياهم استعمال السفن والقلوع والمجاذيف ، فجعل تيسير ذلك كالحمل.

وأما الرزق من الطيبات فلأن الله تعالى ألهم الإنسان أن يطعم ما يشاء مما يروق له ، وجعل في الطعوم أمارات على النفع ، وجعل ما يتناوله الإنسان من المطعومات أكثر جدا مما يتناوله غيره من الحيوان الذي لا يأكل إلا أشياء اعتادها ، على أن أقرب الحيوان إلى الإنسية والحضارة أكثرها اتساعا في تناول الطعوم.

وأما التفضيل على كثير من المخلوقات ، فالمراد به التفضيل المشاهد لأنه موضع الامتنان. وذلك الذي جماعه تمكين الإنسان من التسلط على جميع المخلوقات الأرضية برأيه وحيلته ، وكفى بذلك تفضيلا على البقية.

والفرق بين التفضيل والتكريم بالعموم والخصوص ؛ فالتكريم منظور فيه إلى تكريمه في ذاته ، والتفضيل منظور فيه إلى تشريفه فوق غيره ، على أنه فضله بالعقل الذي به استصلاح شئونه ودفع الأضرار عنه وبأنواع المعارف والعلوم ، هذا هو التفضيل المراد.

وأما نسبة التفاضل بين نوع الإنسان وأنواع من الموجودات الخفية عنا كالملائكة والجن فليست بمقصودة هنا وإنما تعرف بأدلة توقيفية من قبل الشريعة. فلا تفرض هنا

١٣١

مسألة التفضيل بين البشر والملائكة المختلف في تفاصيلها بيننا وبين المعتزلة. وقد فرضها الزمخشري هنا على عادته من التحكك على أهل السنّة والتعسف لإرغام القرآن على تأييد مذهبه ، وقد تجاوز حد الأدب في هذه المسألة في هذا المقام ، فاستوجب الغضاضة والملام.

ولا شك أن إقحام لفظ (كَثِيرٍ) في قوله تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) مراد منه التقييد والاحتراز والتعليم الذي لا غرور فيه ، فيعلم منه أن ثم مخلوقات غير مفضل عليها بنو آدم تكون مساوية أو أفضل إجمالا أو تفصيلا ، وتبيينه يتلقى من الشريعة فيما بينته من ذلك ، وما سكتت فلا نبحث عنه.

والإتيان بالمفعول المطلق في قوله : (تَفْضِيلاً) لإفادة ما في التنكير من التعظيم ، أي تفضيلا كبيرا.

[٧١ ، ٧٢] (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))

انتقال من غرض التهديد بعاجل العذاب في الدنيا الذي في قوله : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) إلى قوله : (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) [الإسراء : ٦٦ ـ ٦٩] إلى ذكر حال الناس في الآخرة تبشيرا وإنذارا ، فالكلام استئناف ابتدائي ، والمناسبة ما علمت. ولا يحسن لفظ (يوم) للتعلق بما قبله من قوله : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٧٠] على أن يكون تخلصا من ذكر التفضيل إلى ذكر اليوم الذي تظهر فيه فوائد التفضيل ، فترجح أنه ابتداء مستأنف استئنافا ابتدائيا ، ففتحة (يَوْمَ) إما فتحة إعراب على أنه مفعول به لفعل شائع الحذف في ابتداء العبر القرآنية وهو فعل «اذكر» فيكون (يَوْمَ) هنا اسم زمان مفعولا للفعل المقدر وليس ظرفا.

والفاء في قوله : (فَمَنْ أُوتِيَ) للتفريع لأن فعل (اذكر) المقدر يقتضي أمرا عظيما مجملا فوقع تفصيله بذكر الفاء وما بعدها فإن التفصيل يتفرع على الإجمال.

وإما أن تكون فتحته فتحة بناء لإضافته اسم الزمان إلى الفعل ، وهو إما في محل رفع بالابتداء ، وخبره جملة (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ). وزيدت الفاء في الخبر على رأي الأخفش ، وقد حكى ابن هشام عن ابن برهان أن الفاء تزاد في الخبر عند جميع البصريين

١٣٢

ما عدا سيبويه ؛ وإما ظرف لفعل محذوف دل عليه التقسيم الذي بعده ، أعني قوله : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) إلى قوله : (وَأَضَلُّ سَبِيلاً). وتقدير المحذوف : تتفاوت الناس وتتغابن. وبيّن تفصيل ذلك المحذوف بالتفريع بقوله : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) إلخ.

والإمام : ما يؤتم به ، أي يعمل على مثل عمله أو سيرته. والمراد به هنا مبين الدين : من دين حق للأمم المؤمنة ومن دين كفر وباطل للأمم الضالة.

ومعنى دعاء الناس أن يدعى يا أمة فلان ويا أتباع فلان ، مثل : يا أمة محمد ، يا أمة موسى ، يا أمة عيسى ، ومثل : يا أمة زرادشت. ويا أمة برهما ، ويا أمة بوذا ، ومثل : يا عبدة العزى ، يا عبدة بعل ، يا عبدة نسر.

والباء لتعدية فعل (نَدْعُوا) لأنه يتعدى بالباء ، يقال : دعوته بكنيته وتداعوا بشعارهم.

وفائدة ندائهم بمتبوعيهم التعجيل بالمسرة لاتباع الهداة وبالمساءة لاتباع الغواة ، لأنهم إذا دعوا بذلك رأوا متبوعيهم في المقامات المناسبة لهم فعلموا مصيرهم.

وفرع على هذا قوله : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) تفريع التفصيل لما أجمله قوله : (نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) ، أي ومن الناس من يؤتى كتابه ، أي كتاب أعماله بيمينه.

وقوله : (فَمَنْ أُوتِيَ) عطف على مقدر يقتضيه قوله : (نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) أي فيؤتون كتبهم ، أي صحائف أعمالهم.

وإيتاء الكتاب باليمين إلهام صاحبه إلى تناوله باليمين. وتلك علامة عناية بالمأخوذ ، لأن اليمين يأخذ بها من يعزم عملا عظيما قال تعالى : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) [الحاقة : ٤٥] ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تصدق بصدقة من كسب طيب ـ ولا يقبل الله إلا طيبا ـ تلقاها الرحمن بيمينه وكلتا يديه يمين ...» إلخ ، وقال الشمّاخ :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

وأما أهل الشقاوة فيؤتون كتبهم بشمائلهم ، كما في آية الحاقة [٢٥](وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ).

والإتيان باسم الإشارة بعد فاء جواب (أما) ، للتنبيه على أنهم دون غيرهم يقرءون كتابهم ، لأن في اطلاعهم على ما فيه من فعل الخير والجزاء عليه مسرة لهم ونعيما بتذكر

١٣٣

ومعرفة ثوابه ، وذلك شأن كل صحيفة تشتمل على ما يسر وعلى تذكر الأعمال الصالحة ، كما يطالع المرء أخبار سلامة أحبائه وأصدقائه ورفاهة حالهم ، فتوفر الرغبة في قراءة أمثال هذه الكتب شنشنة معروفة.

وأما الفريق الآخر فسكت عن قراءة كتابهم هنا. وورد في الآية التي قبلها في هذه السورة (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٣ ـ ١٤].

والظلم مستعمل هنا بمعنى النقص كما في قوله تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] ، لأن غالب الظلم يكون بانتزاع بعض ما عند المظلوم فلزمه النقصان فأطلق عليه مجازا مرسلا. ويفهم من هذا أن ما يعطاه من الجزاء مما يرغب الناس في ازدياده.

والفتيل : شبه الخيط تكون في شق النواة وتقدم في قوله تعالى : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) في سورة النساء [٤٩] ، وهو مثل للشيء الحقير التافه ، أي لا ينقصون شيئا ولو قليلا جدا.

وعطف (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) عطف القسيم على قسيمه فهو من حيز «أما» التفصيلية ، والتقدير : وأما من كان في هذه أعمى ، ولما كان القسيم المعطوف عليه هم من أوتوا كتابهم باليمين علم أن المعطوف بضد ذلك يؤتى كتابه بالشمال فاستغني عن ذكر ذلك وأتي له بصلة أخرى وهي كونه أعمى حكما آخر من أحواله الفظيعة في ذلك اليوم.

والإشارة ب (هذِهِ) إلى معلوم من المقام وهو الدنيا ، وله نظائر في القرآن. والمراد بالعمى في الدنيا الضلالة في الدين ، أطلق عليها العمى على وجه الاستعارة.

والمراد بالعمى في الآخرة ما ينشأ عن العمى من الحيرة واضطراب البال ، فالأعمى أيضا مستعار لمشابه الأعمى بإحدى العلاقتين.

ووصف (أَعْمى) في المرتين مراد به مجرد الوصف لا التفضيل. ولما كان وجه الشبه في أحوال الكافر في الآخرة أقوى منه في حاله في الدنيا أشير إلى شدة تلك الحالة بقوله : (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) القائم مقام صيغة التفضيل في العمى لكون وصف (أعمى) غير قابل لأن يصاغ بصيغة التفضيل لأنه جاء بصيغة التفضيل في حال الوصف.

وعدل عن لفظ (أشد) ونحوه ما يتوسل به إلى التفضيل عند تعذر اشتقاق صيغة

١٣٤

(أفعل) ليتأتى ذكر السبيل ، لما في الضلال عن السبيل من تمثيل حال العمى وإيضاحه ، لأن ضلال فاقد البصر عن الطريق في حال السير أشد وقعا في الأضرار منه وهو قابع بمكانه ، فعدل عن اللفظ الوجيز إلى التركيب المطنب لما في الإطناب من تمثيل الحال وإيضاحه وإفظاعه وهو إطناب بديع. وقد أفيد بذلك أن عماه في الدارين عمى ضلال عن السبيل الموصل. ومعنى المفاضلة راجع إلى مفاضلة إحدى حالتيه على الأخرى في الضلال وأثره لا إلى حال غيره. فالمعنى : وأضل سبيلا منه في الدنيا.

ووجه كون ضلاله في الآخرة أشد أن ضلاله في الدنيا كان في مكنته أن ينجو منه بطلب ما يرشده إلى السبيل الموصل من هدي الرسول والقرآن مع كونه خليا عن لحاق الألم به ، وأما ضلاله في الآخرة فهو ضلال لا خلاص منه وهو مقارن للعذاب الدائم ، فلا جرم كان ضلاله في الآخرة أدخل في حقيقة الضلال وماهيته.

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣))

حكاية فن من أفانين ضلالهم وعماهم في الدنيا ، فالجملة عطف على جملة (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) [الإسراء : ٧٢] ، وهو انتقال من وصف حالهم وإبطال مقالهم في تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذكر حال آخر من حال معارضتهم وإعراضهم ، وهي حال طمعهم في أن يستنزلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن يقول قولا فيه حسن ذكر لآلهتهم ليتنازلوا إلى مصالحته وموافقته إذا وافقهم في بعض ما سألوه.

وضمائر الغيبة مراد منها كفار قريش ، أي متولو تدبير أمورهم.

وغيّر الأسلوب من خطابهم في آيات (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) [الإسراء : ٦٦] إلى الإقبال على خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتغير المقام من مقام استدلال إلى مقام امتنان.

والفتن والفتون : معاملة يلحق منها ضرّ واضطراب النفس في أنواع من المعاملة يعسر دفعها ، من تغلب على القوة وعلى الفكر ، وتقدم في قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) في سورة البقرة [١٩١].

وعدي (لَيَفْتِنُونَكَ) بحرف (عن) لتضمينه معنى فعل كان الفتن لأجله ، وهو ما فيه

١٣٥

معنى (يصرفونك).

والذي أوحي إليه هو القرآن.

هذا هو الوجه في تفسير الآية بما تعطيه معاني تراكيبها مع ملاحظة ما تقتضيه أدلة عصمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن تتطرق إليه خواطر إجابة المشركين لما يطمعون.

وللمفسرين بضعة محامل أخرى لهذه الآية استقصاها القرطبي ، فمنها ما ليس له حظ من القبول لوهن سنده وعدم انطباقه على معاني الآية ، ومنها ما هو ضعيف السند وتتحمله الآية بتكلف. ومرجع ذلك إلى أن المشركين راودوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يسويهم مع من يعدّونهم منحطين عنهم من المؤمنين المستضعفين عندهم مثل : بلال ، وعمار بن ياسر ، وخباب ، وصهيب ، وأنهم وعدوا النبي إن هو فعل ذلك ؛ بأن يجلسوا إليه ويستمعوا القرآن حين لا يكون فيه تنقيص آلهتهم ، وأن رسول الله هم بأن يظهر لهم بعض اللين رغبة في إقبالهم على سماع القرآن لعلهم يهتدون ، فيكون المراد من (الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) بعض الذي أوحينا إليك ، وهو ما فيه فضل المؤمنين مثل قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) الآية [الأنعام : ٥٢] ، أو ما فيه تنقيص الأصنام.

وسمات التخرص وضيق العطن في معنى الآية بحاقّ ألفاظها بادية على جميع هاته الأخبار. وإذ قد ملئت بها كتب التفسير لم يكن بد من تأويل الآية بأمثل ما يناسب تلك الأخبار لئلا تكون فتنة للناظرين فنقول :

إن رغبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في اقترابهم من الإسلام وفي تأمين المسلمين ، أجالت في خاطره أن يجيبهم إلى بعض ما دعوه إليه مما يرجع إلى تخفيف الإغلاظ عليهم أو إنظارهم ؛ أو إرضاء بعض أصحابه بالتخلي عن مجلسه حين يحضره صناديد المشركين وهو يعلم أنهم ينتدبون إلى ذلك لمصلحة الدين أو نحو ذلك مما فيه مصلحة لنشر الدين ، وليس فيه فوات شيء على المسلمين ، أي كادوا يصرفونك عن بعض ما أوحيناه إليك مما هو مخالف لما سألوه.

فالموصول في قوله : (الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) للعهد لما هو معلوم عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بحسب ما سأله المشركون من مخالفته. فهذه الآية مسوقة مساق المن على النبي بعصمة الله إياه من الخطأ في الاجتهاد ، ومساق إظهار ملل المشركين من أمر الدعوة الإسلامية وتخوفهم من عواقبها ، وفي ذلك تثبيت للنبي وللمؤمنين وتأييس للمشركين بأن ذلك لن

١٣٦

يكون.

وقوله : (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) متعلق ب (لَيَفْتِنُونَكَ) ، واللام للعلة ، أي يفعلون ذلك إضمارا منهم وطمعا في أن يفتري علينا غيره ، أي غير ما أوحي إليك. وهذا طمع من المشركين أن يستدرجوا النبي من سؤال إلى آخر ، فهو راجع إلى نياتهم. وليس في الكلام ما يقتضي أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ همّ بذلك كما فهمه بعض المفسرين ، إذ لام التعليل لا تقتضي أكثر من غرض فاعل الفعل المعلل ولا تقتضي غرض المفعول ولا علمه.

و (إن) من قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) مخففة من (إن) المشددة واسمها ضمير شأن محذوف ، واللام في (لَيَفْتِنُونَكَ) هي اللام الفارقة بين (إن) المخففة من الثقيلة وبين (إن) النافية فلا تقتضي تأكيدا للجملة.

وجملة (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً) عطف على جملة (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ). و (إذا) حرف جزاء والنّون التي بآخرها نون كلمة وليست تنوين تمكين فتكون جزاء لفعل (لَيَفْتِنُونَكَ) بما معه من المتعلقات مقحما بين المتعاطفين لتصير واو العطف مع (إذا) مفيدة معنى فاء التفريع.

ووجه عطفها بالواو دون الاقتصار على حرف الجزاء لأنه باعتبار كونه من أحوالهم التي حاوروا النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيها وألحوا عليه فناسب أن يعطف على جملة أحوالهم. والتقدير : فلو صرفوك عن بعض ما أوحينا إليك لاتخذوك خليلا. واللام في قوله : (لَاتَّخَذُوكَ) اللام الموطئة للقسم لأن الكلام على تقدير الشرط ، وهو لو صرفوك عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك خليلا.

واللام في قوله : (لَاتَّخَذُوكَ) لام جواب (لو) إذ كان فعلا ماضيا مثبتا.

والخليل : الصديق. وتقدم عند قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) في سورة النساء [١٢٥].

[٧٤ ، ٧٥] (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥))

يجوز أن يكون هذا كلاما مستقلا غير متصل بقوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ)

١٣٧

[الإسراء : ٧٣] بناء على ما نحوناه في تفسير الآية السابقة. وهذه منّة أخرى ومقام آخر من مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تجاه المشركين. ويجوز أن يكون من تكملة ما قبله فيكون الركون إليهم ركونا فيما سألوه منه على نحو ما ساقه المفسرون من الأخبار المتقدمة.

و (لو لا) حرف امتناع لوجود ، أي يقتضي امتناعا لوجود ، أي يقتضي امتناع جوابه لوجود شرطه ، أي بسبب وجود شرطه.

والتثبيت : جعل الشيء ثابتا ، أي متمكنا من مكانه غير مقلقل ولا مقلوع ، وهو مستعار للبقاء على حاله غير متغير. وتقدم عند قوله تعالى : (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) في سورة البقرة [٢٦٥].

وعدي التثبيت إلى ضمير النبي الدال على ذاته. والمراد تثبيت فهمه ورأيه ، وهذا من الحكم على الذات. والمراد بعض أحوالها بحسب دلالة المقام ، مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣]. فالمعنى : ولو لا أن ثبتنا رأيك فأقررناه على ما كان عليه في معاملة المشركين لقاربت أن تركن إليهم.

واللام في (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) يجوز أن تكون لام جواب (لو لا) ، وهي ملازمة لجوابها لتحقيق الربط بينه وبين الشرط.

والمعنى على الوجه الأول في موقع هذه الآية : أن الركون مجمل في أشياء هي مظنة الركون ولكن الركون منتف من أصله لأجل التثبيت بالعصمة كما انتفى أن يفتنه المشركون عن الذي أوحي إليه بصرف الله إياهم عن تنفيذ فتنتهم.

والمعنى على الوجه الثاني : ولو لا أن عصمناك من الخطأ في الاجتهاد وأريناك أن مصلحة الشدة في الدين والتنويه بأتباعه ، ولو كانوا من ضعفاء أهل الدنيا ، لا تعارضها مصلحة تأليف قلوب المشركين ، ولو كان المسلمون راضين بالغضاضة من أنفسهم استئلافا للمشركين ، فإن إظهار الهوادة في أمر الدين تطمع المشركين في الترقي إلى سؤال ما هو أبعد مدى مما سألوه ، فمصلحة ملازمة موقف الحزم معهم أرجح من مصلحة ملاينتهم وموافقتهم ، أي فلا فائدة من ذلك. ولو لا ذلك كله لقد كدت تركن إليهم قليلا ، أي تميل إليهم ، أي توعدتهم بالإجابة إلى بعض ما سألوك استنادا لدليل مصلحة مرجوحة واضحة وغفلة عن مصلحة راجحة خفية اغترارا بخفة بعض ما سألوه في جانب عظم ما وعدوا به من إيمانهم.

١٣٨

والركون : الميل بالركن ، أي بالجانب من الجسد واستعمل في الموافقة بعلاقة القرب. وتقدم في قوله : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) في سورة هود [١١٣] ، كما استعمل ضده في المخالفة في قوله تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) في هذه السورة الإسراء [٨٣].

وانتصب (شَيْئاً) على المفعول المطلق ل (تَرْكَنُ) ، أي شيئا من الركون. ووجه العدول عن مصدر (تَرْكَنُ) طلب الخفة لأن مصدر (تَرْكَنُ) وهو الركون فيه ثقل فتركه أفصح ، وإنما لم يقتصر على (قَلِيلاً) لأن تنكير (شَيْئاً) مفيد التقليل ، فكان في ذكره تهيئة لتوكيد معنى التقليل ، فإن كلمة (شيء) لتوغلها في إبهام جنس ما تضاف إليه أو جنس الموجود مطلقا مفيدة للتقليل غالبا كقوله تعالى : (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) [النساء : ٢٠].

و (إذن) الثانية جزاء ل (كِدْتَ تَرْكَنُ) ، ولكونها جزاء فصلت عن العطف إذ لا مقتضى له. فركون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم غير واقع ولا مقارب الوقوع لأن الآية قد نفته بأربعة أمور ، وهي : (لو لا) الامتناعية. وفعل المقاربة المقتضي أنه ما كان يقع الركون ولكن يقع الاقتراب منه ، والتحقير المستفاد من (شَيْئاً) ، والتقليل المستفاد من (قَلِيلاً).

أي لو لا إفهامنا إياك وجه الحق لخشي أن تقترب من ركون ضعيف قليل ولكن ذلك لم يقع. ودخلت (قد) في حيز الامتناع فأصبح تحقيقها معدوما ، أي لو لا أن ثبتناك لتحقق قرب ميلك القليل ولكن ذلك لم يقع لأنا ثبتناك.

وجملة (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ) جزاء لجملة (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ). والمعنى : لو تركن إليهم لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات. ولما في (إذن) من معنى الجزاء استغني عن ربط الجملة بحرف التفريع. والمعنى : لقد كدت تركن فلأذقناك.

والضعف ـ بكسر الضاد ـ : مماثل مقدار شيء ذي مقدار ، فهو لا يكون إلا مبينا بجنسه لفظا أو تقديرا مثل قوله تعالى : (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [النور : ٣٠] ، أي ضعفي ما أعد لتلك الفاحشة. ولما كان كذلك ساغ إطلاقه دون بيان اعتمادا على بيان السياق كما هنا ، فإن ذكر الإذاقة في مقام التحذير ينبئ بأنها إذاقة عذاب موصوف بأنه ضعف.

ثم إن الضعف أطلق هنا على القوي الشديد لعدم حمل الضعف على حقيقته إذ ليس ثمّ علم بمقدار العذاب يراد تضعيفه كقوله : (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) وتقدم ذلك في

١٣٩

سورة الأعراف [٣٨].

وإضافة الضعف إلى الحياة وإلى الممات على معنى (في) ، فإن تقدير معنى (في) بين المتضايفين لا يختص بإضافة ما يضاف إلى الأوقات. فالتقدير : لأذقناك ضعفا في الحياة وضعفا في الممات ، فضعف عذاب الحياة هو تراكم المصائب والأرزاء في مدة الحياة ، أي العمر بزوال ما كان يناله من بهجة وسرور بتمام دعوته وانتظام أمته ، ذلك أن يتمكن منه أعداؤه ، وعذاب الممات أن يموت مكمودا مستذلا بين كفار يرون أنهم قد فازوا عليه بعد أن أشرفوا على السقوط أمامه.

ويشبه أن يكون قوله : (وَضِعْفَ الْمَماتِ) في استمرار ضعف الحياة ، فيكون المعنى : لأذقناك ضعف الحياة حتى الممات.

فليس المراد من ضعف الممات عذاب الآخرة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو ركن إليهم شيئا قليلا لكان ذلك عن اجتهاد واجتلابا لمصلحة الدين في نظره ، فلا يكون على الاجتهاد عقاب في الآخرة إذ العقاب الأخروي لا يكون إلا على مخالفة في التكليف ، وقد سوغ الله لنبيه الاجتهاد وجعل للمخطئ في اجتهاده أجرا كما قرر في تفسير قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في سورة الأنفال [٦٨].

وأما مصائب الدنيا وأرزاؤها فهي مسببة على أسباب من الأغلاط والأخطاء فلا يؤثر في التفادي منها حسن النية إن كان صاحبها قد أخطأ وجه الصواب ، فتدبر في هذه المعاني تدبر ذوي الألباب ، ولهذا خولف التعبير المعتاد استعماله لعذاب الآخرة. وعبر هنا ب (ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ).

وجملة (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) معطوفة على جملة (لَأَذَقْناكَ).

وموقعها تحقيق عدم الخلاص من تلك الإذاقة. و (ثم) للترتيب الرتبي لأن عدم الخلاص من العذاب أهم من إذاقته ، فرتبته في الأهمية أرقى. والنصير : الناصر المخلص من الغلبة أو الذي يثأر للمغلوب ، أي لا تجد لنفسك من ينتصر لك فيصدنا عن إلحاق ذلك بك أو يثأر لك منا.

[٧٦ ، ٧٧] (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

١٤٠