تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٢

الضلال ضر لصاحبه. ولكون الجملة كذلك فصلت ولم تعطف على التي قبلها.

وجملة (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) واقعة موقع التعليل لمضمون جملة (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) لما في هذه من عموم الحكم فإن عمل أحد لا يلحق نفعه ولا ضره بغيره.

ولما كان مضمون هذه الجملة معنى مهما اعتبر إفادة أنفا للسامع ، فلذلك عطفت الجملة ولم تفصل. وقد روعي فيها إبطال أوهام قوم يظنون أن أوزارهم يحملها عنهم غيرهم. وقد روي أن الوليد بن المغيرة وهو من أئمة الكفر كان يقول لقريش : اكفروا بمحمد وعلي أوزاركم ، أي تبعاتكم ومؤاخذتكم بتكذيبه إن كان فيه تبعة. ولعله قال ذلك لما رأى ترددهم في أمر الإسلام وميلهم إلى النظر في أدلة القرآن خشية الجزاء يوم البعث ، فأراد التمويه عليهم بأنه يتحمل ذنوبهم إن تبين أن محمدا على حق ، وكان ذلك قد يروج على دهمائهم لأنهم اعتادوا بالحملات والكفالات والرهائن ، فبين الله للناس إبطال ذلك إنقاذا لهم من الاغترار به الذي يهوي بهم إلى المهالك مع ما في هذا البيان من تعليم أصل عظيم في الدين وهو (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). فكانت هذه الآية أصلا عظيما في الشّريعة ، وتفرع عنها أحكام كثيرة.

ولمّا روى ابن عمر عن النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنّ الميت ليعذّب ببكاء أهله عليه» قالت عائشة ـ رضي‌الله‌عنها ـ : «يرحم الله أبا عبد الرحمن ، ما قال رسول الله ذلك والله يقول : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

ولما مرّ برسول الله جنازة يهودية يبكي عليها أهلها فقال : «إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب».

والمعنى أن وزر أحد لا يحمله غيره فإذا كان قد تسبب بوزره في إيقاع غيره في الوزر حمل عليه وزر بوزر غيره لأنه متسبب فيه ، وليس ذلك بحمل وزر الغير عليه ولكنه حمل وزر نفسه عليها وهو وزر التسبب في الأوزار. وقد قال تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) ، وكذلك وزر من يسنّ للناس وزرا لم يكونوا يعملونه من قبل. وفي «الصحيح» : «ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك أنه أول من سن القتل».

وسكتت الآية عن أن لا ينتفع أحد بصالح عمل غيره اكتفاء إذ لا داعي إلى بيانه

٤١

لأنه لا يوقع في غرور ، وتعلم المساواة بطريق لحن الخطاب أو فحواه ، وقد جاء في القرآن ما يومئ إلى أن المتسبب لأحد في هدي ينال من ثواب المهتدي قال تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) [الفرقان : ٧٤] وفي الحديث : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير».

ومن التخليط توهم أن حمل الدية في قتل الخطأ على العاقلة مناف لهذه الآية ، فإن ذلك فرع قاعدة أخرى وهي قاعدة التعاون والمواساة وليست من حمل التبعات.

و (تَزِرُ) تحمل الوزر ، وهو الثقل. والوازرة : الحاملة ، وتأنيثها باعتبار أنها نفس لقوله قبله (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصّلت : ٤٦].

وأطلق عليها (وازِرَةٌ) على معنى الفرض والتقدير ، أي لو قدرت نفس ذات وزر لا تزاد على وزرها وزر غيرها ، فعلم أن النفس التي لا وزر لها لا تزر وزر غيرها بالأولى.

والوزر : الإثم لتشبيهه بالحمل الثقيل لما يجره من التعب لصاحبه في الآخرة ، كما أطلق عليه الثقل ، قال تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ)[العنكبوت : ١٣].

(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)

عطف على آية (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) الآية.

وهذا استقصاء في الإعذار لأهل الضلال زيادة على نفي مؤاخذتهم بأجرام غيرهم ، ولهذا اقتصر على قوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) دون أن يقال ولا مثيبين. لأن المقام مقام إعذار وقطع حجة وليس مقام امتنان بالإرشاد.

والعذاب هنا عذاب الدنيا بقرينة السياق وقرينة عطف (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها) [الإسراء : ١٦] الآية. ودلت على ذلك آيات كثيرة ، قال الله تعالى : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) [الشعراء : ٢٠٩] وقال : (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [يونس : ٤٧].

على أن معنى (حتى) يؤذن بأن بعثة الرسول متصلة بالعذاب شأن الغاية ، وهذا اتصال

عرفي بحسب ما تقتضيه البعثة من مدة للتبليغ والاستمرار على تكذيبهم الرسول والإمهال للمكذبين ، ولذلك يظهر أن يكون العذاب هنا عذاب الدنيا وكما يقتضيه الانتقال إلى الآية بعدها.

٤٢

على أننا إذا اعتبرنا التوسع في الغاية صح حمل التعذيب على ما يعم عذاب الدنيا والآخرة.

ووقوع فعل (مُعَذِّبِينَ) في سياق النفي يفيد العموم ، فبعثة الرسل لتفصيل ما يريده الله من الأمة من الأعمال.

ودلت الآية على أن الله لا يؤاخذ الناس إلا بعد أن يرشدهم رحمة منه لهم. وهي دليل بين على انتفاء مؤاخذة أحد ما لم تبلغه دعوة رسول من الله إلى قوم ، فهي حجة للأشعري ناهضة على الماتريدي والمعتزلة الذين اتفقوا على إيصال العقل إلى معرفة وجود الله ، وهو ما صرح به صدر الشريعة في التوضيح في المقدمات الأربع. فوجود الله وتوحيده عندهم واجبان بالعقل فلا عذر لمن أشرك بالله وعطل ولا عذر له بعد بعثة رسول.

وتأويل المعتزلة أن يراد بالرسول العقل تطوّح عن استعمال اللغة وإغماض عن كونه مفعولا لفعل (نَبْعَثَ) إذ لا يقال بعث عقلا بمعنى جعل. وقد تقدم ذلك في تفسير قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) في سورة النساء [١٦٥].

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦))

هذا تفصيل للحكم المتقدم قصد به تهديد قادة المشركين وتحميلهم تبعة ضلال الذين أضلوهم. وهو تفريع لتبيين أسباب حلول التعذيب بعد بعثة الرسول أدمج فيه تهديد المضلين. فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء على قوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ولكنه عطف بالواو للتنبيه على أنه خبر مقصود لذاته باعتبار ما يتضمنه من التحذير من الوقوع في مثل الحالة الموصوفة ، ويظهر معنى التفريع من طبيعة الكلام ، فالعطف بالواو هنا تخريج على خلاف مقتضى الظاهر في الفصل والوصل.

فهذه الآية تهديد للمشركين من أهل مكة وتعليم للمسلمين.

والمعنى أن بعثة الرسول تتضمن أمرا بشرع وأن سبب إهلاك المرسل إليهم بعد أن يبعث إليهم الرسول هو عدم امتثالهم لما يأمرهم الله به على لسان ذلك الرسول.

ومعنى إرادة الله إهلاك قرية التعلق التنجيزي لإرادته. وتلك الإرادة تتوجه إلى المراد

٤٣

عند حصول أسبابه وهي المشار إليها بقوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) إلى آخره.

ومتعلق (أَمَرْنا) محذوف ، أي أمرناهم بما نأمرهم به ، أي بعثنا إليهم الرسول وأمرناهم بما نأمرهم على لسان رسولهم فعصوا الرسول وفسقوا في قريتهم.

واعلم أن تصدير هذه الجملة ب (إذا) أوجب استغلاق المعنى في الربط بين جملة شرط (إذا) وجملة جوابه ، لأن شأن (إذا) أن تكون ظرفا للمستقبل وتتضمن معنى الشرط أي الربط بين جملتيها. فاقتضى ظاهر موقع (إذا) أن قوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) هو جواب (إذا) فيقتضي أن إرادة الله إهلاكها سابقة على حصول أمر المترفين سبق الشرط لجوابه ، فيقتضي ذلك أن إرادة الله تتعلق بإهلاك القرية ابتداء فيأمر الله مترفي أهل القرية فيفسقوا فيها فيحق عليها القول الذي هو مظهر إرادة الله إهلاكهم ، مع أن مجرى العقل يقتضي أن يكون فسوق أهل القرية وكفرهم هو سبب وقوع إرادة الله إهلاكهم ، وأن الله لا تتعلق إرادته بإهلاك قوم إلا بعد أن يصدر منهم ما توعدهم عليه لا العكس. وليس من شأن الله أن يريد إهلاكهم قبل أن يأتوا بما يسببه ، ولا من الحكمة أن يسوقهم إلى ما يفضي إلى مؤاخذتهم ليحقق سببا لإهلاكهم.

وقرينة السياق واضحة في هذا ، فبنا أن نجعل الواو عاطفة فعل (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) على (نَبْعَثَ رَسُولاً) فإن الأفعال يعطف بعضها على بعض سواء اتحدت في اللوازم أم اختلفت ، فيكون أصل نظم الكلام هكذا : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ونأمر مترفي قرية بما نأمرهم به على لسان الرسول فيفسقوا عن أمرنا فيحق عليهم الوعيد فنهلكهم إذا أردنا إهلاكهم.

فكان (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) شريطة لحصول الإهلاك ، أي ذلك بمشيئة الله ولا مكره له ، كم دلت عليه آيات كثيرة كقوله : (أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) [آل عمران : ١٢٧ ـ ١٢٨] وقوله : (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) [الأعراف : ١٠٠] وقوله : (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) [الإنسان : ٢٨] وقوله : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) [الإسراء : ١٨]. فذكر شريطة المشيئة مرتين.

وإنما عدل عن نظم الكلام بهذا الأسلوب إلى الأسلوب الذي جاءت به الآية لإدماج التعريض بتهديد أهل مكة بأنهم معرضون لمثل هذا مما حل بأهل القرى التي كذبت رسل الله.

٤٤

وللمفسرين طرائق كثيرة تزيد على ثمان لتأويل هذه الآية متعسفة أو مدخولة ، وهي متفاوتة ، وأقربها قول من جعل جملة (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) إلخ صفة ل (قَرْيَةً) وجعل جواب (إذا) محذوفا.

والمترف : اسم مفعول من أترفه إذا أعطاه الترفة. بضم التاء وسكون الراء ـ أي النعمة. والمترفون هم أهل النعمة وسعة العيش ، وهم معظم أهل الشرك بمكة. وكان معظم المؤمنين يومئذ ضعفاء قال الله تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمّل : ١١].

وتعليق الأمر بخصوص المترفين مع أن الرسل يخاطبون جميع الناس ، لأن عصيانهم الأمر الموجه إليهم هو سبب فسقهم وفسق بقية قومهم إذ هم قادة العامة وزعماء الكفر فالخطاب في الأكثر يتوجه إليهم ، فإذا فسقوا عن الأمر اتبعهم الدهماء فعم الفسق أو غلب على القرية فاستحقت الهلاك.

وقرأ الجمهور (أَمَرْنا) بهمزة واحدة وتخفيف الميم ، وقرأ يعقوب آمرنا بالمد بهمزتين همزة التعدية وهمزة فاء الفعل ، أي جعلناهم آمرين ، أي داعين قومهم إلى الضلالة ، فسكنت الهمزة الثانية فصارت ألفا تخفيفا ، أو الألف ألف المفاعلة ، والمفاعلة مستعملة في المبالغة ، مثل عافاه الله.

والفسق : الخروج عن المقر وعن الطريق. والمراد به في اصطلاح القرآن الخروج عما أمر الله به ، وتقدم عنه قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) في سورة البقرة [٢٦].

و (الْقَوْلُ) هو ما يبلغه الله إلى الناس من كلام بواسطة الرسل وهو قول الوعيد كما قال : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) [الصافات : ٣١].

والتدمير : هدم البناء وإزالة أثره ، وهو مستعار هنا للاستئصال إذ المقصود إهلاك أهلها ولو مع بقاء بنائهم كما في قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢]. وتقدم التدمير عند قوله تعالى : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) في سورة الأعراف [١٣٧]. وتأكيد (فَدَمَّرْناها) بالمصدر مقصود منه الدلالة على عظم التدمير لا نفي احتمال المجاز.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))

٤٥

ضرب مثال لإهلاك القرى الذي وصف سببه وكيفيته في الآية السابقة ، فعقب ذلك بتمثيله لأنه أشد في الكشف وأدخل في التحذير المقصود. وفي ذلك تحقيق لكون حلول العذاب بالقرى مقدما بإرسال الرسول إلى أهل القرية ، ثم بتوجيه الأوامر إلى المترفين ثم فسقهم عنها وكان زعماء الكفرة من قوم نوح مترفين وهم الذين قالوا : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود : ٢٧] وقال لهم نوح ـ عليه‌السلام ـ (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) [هود : ٣١].

فكان مقتضى الظاهر عطف هذه الجملة بالفاء لأنها كالفرع على الجملة قبلها ولكنها عطفت بالواو إظهارا لاستقلالها بوقع التحذير من جهة أخرى فكان ذلك تخريجا على خلاف مقتضى الظاهر لهذا الاعتبار المناسب.

و (كم) في الأصل استفهام عن العدد ، وتستعمل خبرية دالة على عدد كثير مبهم النوع ، فلذلك تحتاج إلى تمييز لنوع العدد ، وهي هنا خبرية في محل نصب بالفعل الواقع بعدها لأنها التزم تقديمها على الفعل نظرا لكون أصلها الاستفهام وله صدر الكلام. و (مِنَ الْقُرُونِ) تمييز للإبهام الذي اقتضته (كم).

والقرون جمع قرن ، وهو في الأصل المدة الطويلة من الزمن فقد يقدر بمائة سنة وبأربعين سنة ، ويطلق على الناس الذين يكونون في تلك المدة كما هنا. وفي الحديث «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» ، أراد أهل قرني ، أي أهل القرن الذي أنا فيه. وقال الله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨].

وتخصيص (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) إيجاز ، كأنه قيل من قوم نوح فمن بعدهم ، وقد جعل زمن نوح مبدأ لقصص الأمم لأنه أول رسول ، واعتبر القصص من بعده لأن زمن نوح صار كالمنقطع بسبب تجديد عمران الأرض بعد الطوفان ، ولأن العذاب الذي حل بقومه عذاب مهول وهو الغرق الذي أحاط بالعالم.

ووجه ذكره تذكير المشركين به وأن عذاب الله لا حد له ، والتنبيه على أن الضلالة تحول دون الاعتبار بالعواقب ودون الاتعاظ بما يحل بمن سبق وناهيك بما حل بقوم نوح من العذاب المهول.

وجملة (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) إقبال على خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخصوص ، لأن كل ما سبق من الوعيد والتهديد إنما مآله إلى حمل الناس على تصديق

٤٦

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به من القرآن بعد أن لجوا في الكفر وتفننوا في التكذيب ، فلا جرم ختم ذلك بتطمين النبي بأن الله مطلع على ذنوب القوم. وهو تعريض بأنه مجازيهم بذنوبهم بما يناسب فظاعتها ، ولذلك جاء بفعل (كَفى) وبوصفي (خَبِيراً بَصِيراً) المكنى بذكرهما عن عدم إفلات شيء من ذنوبهم المرئية والمعلومة من ضمائرهم أعني أعمالهم ونواياهم.

وقدم ما هو متعلق بالضمائر والنوايا لأن العقائد أصل الأعمال في الفساد والصلاح. وفي الحديث : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».

وفي ذكر فعل (كفى) إيماء إلى أن النبي غير محتاج إلى من ينتصر له غير ربه فهو كافيه وحسبه ، قال : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة : ١٣٧] ؛ أو إلى أنه في غنية عن الهم في شأنهم كقوله لنوح : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٦] فهذا إما تسلية له عن أذاهم وإما صرف له عن التوجع لهم.

وفي خطاب النبي بذلك تعريض بالوعيد لسامعيه من الكفار.

[١٨ ، ١٩] (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩))

هذا بيان لجملة (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي) [الإسراء : ١٥] وهو راجع أيضا إلى جملة (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣] تدريجا في التبيان للناس بأن أعمالهم من كسبهم واختيارهم ، فابتدءوا بأن الله قد ألزمهم تبعة أعمالهم بقوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) ثم وكل أمرهم إليهم ، وأن المسيء لا يضر بإساءته غيره ولا يحملها عنه غيره فقال : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) الآية [الإسراء : ١٥]. ثم أعذر إليهم بأنه لا يأخذهم على غرة ولا يأخذهم إلا بسوء أعمالهم بقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) إلى قوله : (خَبِيراً بَصِيراً) [الإسراء : ١٥ ـ ١٧]. ثم كشف لهم مقاصدهم من أعمالهم ، وأنهم قسمان :

قسم لم يرد إلا الدنيا فكانت أعماله لمرضاة شهواته معتقدا أن الدنيا هي قصارى مراتع النفوس لا حظ لها إلا ما حصل لها في مدة الحياة لأنه لا يؤمن بالبعث فيقصر عمله على ذلك.

٤٧

وقسم علم أن الفوز الحق هو فيما بعد هذه الحياة فعمل للآخرة مقتفيا ما هداه الله إليه من الأعمال بواسطة رسله وأن الله عامل كل فريق بمقدار همته.

فمعنى (كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) أنه لا يريد إلا العاجلة ، أي دون الدنيا بقرينة مقابلته بقوله : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) لأن هذه المقابلة تقوم مقام الحصر الإضافي إذ ليس الحصر الإضافي سوى جملتين إثبات لشيء ونفي لخلافه. والإتيان بفعل الكون هنا مؤذن بأن ذلك ديدنه وقصارى همه ، ولذلك جعل خبر (كان) فعلا مضارعا لدلالته على الاستمرار زيادة تحقيق لتمحض إرادته في ذلك.

و (الْعاجِلَةَ) صفة موصوف محذوف يعلم من السياق ، أي الحياة العاجلة ، كقوله: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها) [هود : ١٥].

والمراد من التعجيل العرفي وهو المبادرة المتعارفة ، أي أن يعطى ذلك في الدنيا قبل الآخرة ، فذلك تعجيل بالنسبة إلى الحياة الدنيا ، وقرينة ذلك قوله : (فِيها). وإنما زاد قيدي (ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) لأن ما يعطاه من أرادوا العاجلة يعطاه بعضهم بالمقادير التي شاء الله إعطاءها.

والمشيئة : الطواعية وانتفاء الإكراه.

وقوله : (لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من قوله : (لَهُ) بدل بعض من كل بإعادة العامل ، فضمير (لَهُ) عائد إلى من باعتبار لفظه ، وهو عام لكل مريد العاجلة فأبدل منه بعضه ، أي عجلنا لمن نريد منكم ، ومفعول الإرادة محذوف دل عليه ما سبقه ، أي لمن نريد التعجيل له ، وهو نظير مفعول المشيئة الذي كثر حذفه لدلالة كلام سابق. وفيه خصوصية البيان بعد الإبهام. ولو كان المقصود غير ذلك لوجب في صناعة الكلام التصريح به.

والإرادة : مرادف المشيئة ، فالتعبير بها بعد قوله : (ما نَشاءُ) تفنن. وإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه لتأكيد معنى التبعية وللاستغناء عن الربط بضمير المبدل منهم بأن يقال : من نريد منهم.

والمعنى : أن هذا الفريق الذي يريد الحياة الدنيا فقط قد نعطي بعضهم بعض ما يريد على حسب مشيئتنا وإرادتنا لأسباب مختلفة. ولا يخلوا أحد في الدنيا من أن يكون قد عجل له بعض ما يرغبه من لذات الدنيا.

وعطف جملة (جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) بحرف (ثم) لإفادة التراخي الرتبي. و (لَهُ) ظرف

٤٨

مستقر هو المفعول الثاني ل (جَعَلْنا) ، قدم على المفعول الأول للاهتمام.

وجملة (يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) بيان أو بدل اشتمال لجملة (جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ) و (مَذْمُوماً مَدْحُوراً) حالان من ضمير الرفع في (يَصْلاها) يقال : صلى النار إذا أصابه حرقها.

والذم الوصف بالمعايب التي في الموصوف.

والمدحور : المطرود. يقال : دحره ، والمصدر : الدحور ، وتقدم عند قوله تعالى : (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) في سورة الأعراف [١٨].

والاختلاف بين جملة (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) وجملة (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) بجعل الفعل مضارعا في الأولى وماضيا في الثانية للإيماء إلى أن إرادة الناس العاجلة متكررة متجددة. وفيه تنبيه على أن أمور العاجلة متقضية زائلة ، وجعل فعل إرادة الآخرة ، ماضيا لدلالة المضي على الرسوخ تنبيها على أن خير الآخرة أولى بالإرادة ، ولذلك جردت الجملة من (كان) ومن المضارع ، وما شرط في ذلك إلا أن يسعى للآخرة سعيها وأن يكون مؤمنا.

وحقيقة السعي المشي دون العدو ، فسعي الآخرة هو الأعمال الصالحة لأنها سبب الحصول على نعيم الآخرة ، فالعامل للصالحات كأنه يسير سيرا سريعا إلى الآخرة ليصل إلى مرغوبه منها. وإضافته إلى ضمير الآخرة من إضافة المصدر إلى مفعوله في المعنى ، أي السعي لها ، وهو مفعول مطلق لبيان النوع.

وفي الآية تنبيه على أن إرادة خير الآخرة من غير سعي غرور وأن إرادة كل شيء لا بد لنجاحها من السعي في أسباب حصوله. قال عبد الله بن المبارك :

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

وجملة (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) حال من ضمير (وَسَعى). وجيء بجملة (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) اسمية لدلالتها على الثبات والدوام ، أي وقد كان راسخ الإيمان ، وهو في معنى قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧] لما في (كان) من الدلالة على كون الإيمان ملكة له.

والإتيان باسم الإشارة في (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما سيخبر به عنهم لأجل ما وصفوا به قبل ذكر اسم الإشارة.

٤٩

والسعي المشكور هو المشكور ساعيه ، فوصفه به مجاز عقلي ، إذ المشكور المرضي عنه ، وإذ المقصود الإخبار عن جزاء عمل من أراد الآخرة وسعى لها سعيها لا عن حسن عمله لأنه قسيم لجزاء من أراد العاجلة وأعرض عن الآخرة ، ولكن جعل الوصف للعمل لأنه أبلغ في الإخبار عن عامله بأنه مرضي عنه لأنه في معنى الكناية الراجعة إلى إثبات الشيء بواسطة إثبات ملزومه.

والتعبير ب (كانَ) في (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) للدلالة على أن الوصف تحقق فيه من قبل ، أي من الدنيا لأن الطاعة تقتضي ترتب الشكر عاجلا والثواب آجلا. وقد جمع كونه مشكورا خيرات كثيرة يطول تفصيلها لو أريد تفصيله.

(كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠))

تذييل لآية (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) إلى آخرها [الإسراء : ١٨].

وهذه الآية فذلكة للتنبيه على أن الله تعالى لم يترك خلقه من أثر رحمته حتى الكفرة منهم الذين لا يؤمنون بلقائه فقد أعطاهم من نعمة الدنيا على حسب ما قدر لهم وأعطى المؤمنين خيري الدنيا والآخرة. وذلك مصداق قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الأعراف: ١٥٦] وقوله فيما رواه عنه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن رحمتي سبقت غضبي».

وتنوين (كُلًّا) تنوين عوض عن المضاف إليه ، أي كل الفريقين ، وهو منصوب على المفعولية لفعل (نُمِدُّ).

وقوله : (هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) بدل من قوله : (كُلًّا) بدل مفصل من مجمل.

ومجموع المعطوف والمعطوف عليه هو البدل كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر». والمقصود من الإبدال التعجيب من سعة رحمة الله تعالى.

والإشارة ب (هؤُلاءِ) في الموضعين إلى من كان يريد العاجلة ومن أراد الآخرة. والأصل أن يكون المذكور أول عائدا إلى الأول إلا إذا اتصل بأحد الاسمين ما يعين معاده. وقد اجتمع الأمران في قول المتلمس :

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته

وذا يشج فلا يرثي له أحد

والإمداد : استرسال العطاء وتعاقبه. وجعل الجديد منه مددا للسالف بحيث لا

٥٠

ينقطع.

وجملة (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) اعتراض أو تذييل ، وعطاء ربك جنس العطاء ، والمحظور : الممنوع ، أي ما كان ممنوعا بالمرة بل لكل مخلوق نصيب منه.

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١))

لما كان العطاء المبذول للفريقين هو عطاء الدنيا وكان الناس مفضلين فيه على وجه يدركون حكمته لفت الله لذلك نظر نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لفت اعتبار وتدبر ، ثم ذكّره بأن عطاء الآخرة أعظم عطاء ، وقد فضل الله به المؤمنين.

والأمر بالنظر موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترفيعا في درجات علمه ويحصل به توجيه العبرة إلى غيره.

والنظر حقيقته توجه آلة الحس البصري إلى المبصر. وقد شاع في كلام العرب استعماله في النظر المصحوب بالتدبر وتكرير مشاهدة أشياء في غرض ما ، فيقوم مقام الظن ويستعمل استعماله بهذا الاعتبار ، ولذلك شاع إطلاق النظر في علم الكلام على الفكر المؤدي إلى علم أو ظن ، وهو هنا كذلك. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في [النساء : ٥٠].

و (كيف) اسم استفهام مستعمل في التنبيه ، وهو معلّق فعل (انظر) عن العمل في المفعولين. والمراد التفضيل في عطاء الدنيا ، لأنه الذي يدركه التأمل والنظر وبقرينة مقابلته بقوله : (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ).

والمقصود من هذا التنظير التنبيه إلى أن عطاء الدنيا غير منوط بصلاح الأعمال ؛ ألا ترى إلى ما فيه من تفاضل بين أهل العمل المتحد ، وقد يفضل المسلم فيه الكافر ، ويفضل الكافر المسلم ، ويفضل بعض المسلمين بعضا ، وبعض الكفرة بعضا ، وكفاك بذلك هاديا إلى أن مناط عطاء الدنيا أسباب ليست من وادي العمل الصالح ولا مما يساق إلى النفوس الخيرة.

ونصب (دَرَجاتٍ) و (تَفْضِيلاً) على التمييز لنسبة (أَكْبَرُ) في الموضعين ، والمفضل عليه هو عطاء الدنيا.

٥١

والدرجات مستعارة لعظمة الشرف ، والتفضيل : إعطاء الفضل ، وهو الجدة والنعمة ، وفي الحديث : «ويتصدقون بفضول أموالهم». والمعنى : النعمة في الآخرة أعظم من نعم الدنيا.

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢))

تذييل هو فذلكة لاختلاف أحوال المسلمين والمشركين ، فإن خلاصة أسباب الفوز ترك الشرك لأن ذلك هو مبدأ الإقبال على العمل الصالح فهو أول خطوات السعي لمريد الآخرة ، لأن الشرك قاعدة اختلال التفكير وتضليل العقول ، قال الله تعالى في ذكر آلهة المشركين (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) [هود : ١٠١].

والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبع لخطاب قوله : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [الإسراء : ٢١]. والمقصود إسماع الخطاب غيره بقرينة تحقق أن النبي قائم بنبذ الشرك ومنح على الذين يعبدون مع الله إلها آخر.

و (فَتَقْعُدَ) مستعار لمعنى المكث والدوام. أريد بهذه الاستعارة تجريد معنى النهي إلى أنه نهي تعريض بالمشركين لأنهم متلبسون بالذم والخذلان. فإن لم يقلعوا عن الشرك داموا في الذم والخذلان.

والمذموم : المذكور بالسوء والعيب.

والمخذول : الذي أسلمه ناصره.

فأما ذمه فمن ذوي العقول ، إذ أعظم سخرية أن يتخذ المرء حجرا أو عودا ربا له ويعبده ، كما قال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) : [الصافات : ٩٥] ، وذمه من الله على لسان الشرائع.

وأما خذلانه فلأنه اتخذ لنفسه وليا لا يغني عنه شيئا (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) [فاطر ؛ ١٤] ، وقال إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] ، وخذلانه من الله لأنه لا يتولى من لا يتولّاه قال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمّد : ١١] وقال (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [غافر : ٥٠].

[٢٣ ، ٢٤](وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ

٥٢

الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤))

(وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

عطف على الكلام السابق عطف غرض على غرض تخلصا إلى أعمدة من شريعة الإسلام بمناسبة الفذلكة المتقدمة تنبيها على أن إصلاح الأعمال متفرع على نبذ الشرك كما قال تعالى : (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٣ ـ ١٧].

وقد ابتدئ تشريع للمسلمين أحكاما عظيمة لإصلاح جامعتهم وبناء أركانها ليزدادوا يقينا بارتفاعهم على أهل الشرك وبانحطاط هؤلاء عنهم ، وفي جميعها تعريض بالمشركين الذين كانوا منغمسين في المنهيات. وهذه الآيات أول تفصيل للشريعة للمسلمين وقع بمكة ، وأن ما ذكر في هذه الآيات مقصود به تعليم المسلمين. ولذلك اختلف أسلوبه عن أسلوب نظيره في سورة الأنعام الذي وجه فيه الخطاب إلى المشركين لتوقيفهم على قواعد ضلالتهم.

فمن الاختلاف بين الأسلوبين أن هذه الآية افتتحت بفعل القضاء المقتضي الإلزام ، وهو مناسب لخطاب أمة تمتثل أمر ربها ، وافتتح خطاب سورة الأنعام [١٥١] ب (تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) كما تقدم هنالك.

ومنها أن هذه الآية جعلت المقضي هو توحيد الله بالعبادة ، لأنه المناسب لحال المسلمين فحذرهم من عبادة غير الله. وآية الأنعام جعلت المحرم فيها هو الإشراك بالله في الإلهية المناسب لما كانوا عليه من الشرك إذ لا عبادة لهم.

وأن هذه الآية فصل فيها حكم البر بالوالدين وحكم القتل وحكم الإنفاق ولم يفصل ما في آية الأنعام.

وكان ما ذكر في هذه الآيات خمسة عشر تشريعا هي أصول التشريع الراجع إلى نظام المجتمع.

وأحسب أن هذه الآيات اشتهرت بين الناس في مكة وتناقلها العرب في الآفاق ، فلذلك ألمّ الأعشى ببعضها في قصيدته المروية التي أعدها لمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جاء يريد الإيمان فصدته قريش عن ذلك ، وهي القصيدة الدالية التي يقول فيها :

٥٣

أجدّك لم تسمع وصاة محمد

نبيء الإله حين أوصى وأشهدا

فإياك والميتات لا تأكلنها

ولا تأخذن سهما حديدا لتفصدا

وذا النصب المنصوب لا تنسكنه

ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

وذا الرحم القربى فلا تقطعنه

لفاقته ولا الأسير المقيدا

ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة

ولا تحسبن المال للمرء مخلدا

ولا تقربنّ جارة إن سرها

عليك حرام فانكحنّ أو تأبّدا (١)

وافتتحت هذه الأحكام والوصايا بفعل القضاء اهتماما به وأنه مما أمر الله به أمرا جازما وحكما لازما ، وليس هو بمعنى التقدير كقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) [الإسراء : ٤] لظهور أن المذكورات هنا مما يقع ولا يقع.

و (أن) يجوز أن تكون تفسيرية لما في (قضى) من معنى القول. ويجوز أن تكون مصدرية مجرورة بباء جر مقدرة ، أي قضى بأن لا تعبدوا. وابتدئ هذا التشريع بذكر أصل التشريعية كلها وهو توحيد الله ، فذلك تمهيد لما سيذكر بعده من الأحكام.

وجيء بخطاب الجماعة في قوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) لأن النهي يتعلق بجميع الناس وهو تعريض بالمشركين.

والخطاب في قوله : (رَبُّكَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالذي في قوله قبل : (مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) [الإسراء : ٢٠] ، والقرينة ظاهرة. ويجوز أن يكون لغير معين فيعم الأمة والمآل واحد.

وابتدئ التشريع بالنهي عن عبادة غير الله لأن ذلك هو أصل الإصلاح ، لأن إصلاح التفكير مقدم على إصلاح العمل ، إذ لا يشاق العقل إلى طلب الصالحات إلا إذا كان صالحا. وفي الحديث : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب». وقد فصلت ذلك في كتابي المسمى «أصول النظام الاجتماعي في الإسلام».

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً)

__________________

(١) التأبد : التعزب.

٥٤

هذا أصل ثان من أصول الشريعة وهو بر الوالدين.

وانتصب (إِحْساناً) على المفعولية المطلقة مصدر نائبا عن فعله. والتقدير : وأحسنوا إحسانا بالوالدين كما يقتضيه العطف على (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي وقضى إحسانا بالوالدين.

(وَبِالْوالِدَيْنِ) متعلق بقوله ؛ (إِحْساناً) ، والباء فيه للتعدية يقال : أحسن بفلان كما يقال أحسن إليه ، وقد تقدم قوله تعالى : (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي) في سورة يوسف [١٠٠]. وتقديمه على متعلقه للاهتمام به ، والتعريف في الوالدين للاستغراق باعتبار والدي كل مكلف ممن شملهم الجمع في (أَلَّا تَعْبُدُوا).

وعطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين على ما هو في معنى الأمر بعبادة الله لأن الله هو الخالق فاستحق العبادة لأنه أوجد الناس. ولما جعل الله الأبوين مظهر إيجاد الناس أمر بالإحسان إليهما ، فالخالق مستحق العبادة لغناه عن الإحسان ، ولأنها أعظم الشكر على أعظم منة ، وسبب الوجود دون ذلك فهو يستحق الإحسان لا العبادة لأنه محتاج إلى الإحسان دون العبادة ، ولأنه ليس بموجد حقيقي ، ولأن الله جبل الوالدين على الشفقة على ولدهما ، فأمر الولد بمجازاة ذلك بالإحسان إلى أبويه كما سيأتي (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).

وشمل الإحسان كل ما يصدق فيه هذا الجنس من الأقوال والأفعال والبذل والمواساة.

وجملة (إِمَّا يَبْلُغَنَ) بيان لجملة (إِحْساناً) ، و (إِمَّا) مركبة من (إن) الشرطية و (ما) الزائدة المهيئة لنون التوكيد ، وحقها أن تكتب بنون بعد الهمزة وبعدها (ما) ولكنهم راعوا حالة النطق بها مدغمة فرسموها كذلك في المصاحف وتبعها رسم الناس غالبا ، أي إن يبلغ أحد الوالدين أو كلاهما حد الكبر وهما عندك ، أي في كفالتك فوطّئ لهما خلقك ولين جانبك.

والخطاب لغير معين فيعم كل مخاطب بقرينة العطف على (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وليس خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لم يكن له أبوان يومئذ. وإيثار ضمير المفرد هنا دون ضمير الجمع لأنه خطاب يختص بمن له أبوان من بين الجماعة المخاطبين بقوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) فكان الإفراد أنسب به وإن كان الإفراد والجمع سواء في المقصود لأن خطاب

٥٥

غير المعين يساوي خطاب الجمع.

وخص هذه الحالة بالبيان لأنها مظنة انتفاء الإحسان بما يلقى الولد من أبيه وأمّه من مشقة القيام بشئونهما ومن سوء الخلق منهما.

ووجه تعدد فاعل (يَبْلُغَنَ) مظهرا دون جعله بضمير التثنية بأن يقال إما يبلغانّ عندك الكبر ، الاهتمام بتخصيص كل حالة من أحوال الوالدين بالذكر ، ولم يستغن بإحدى الحالتين عن الأخرى لأن لكل حالة بواعث على التفريط في واجب الإحسان إليهما ، فقد تكون حالة اجتماعهما عند الابن تستوجب الاحتمال منهما لأجل مراعاة أحدهما الذي الابن أشد حبّا له دون ما لو كان أحدهما منفردا عنده بدون الآخر الذي ميله إليه أشد ، فالاحتياج إلى ذكر أحدهما في هذه الصورة للتنبيه على وجوب المحافظة على الإحسان له. وقد تكون حالة انفراد أحد الأبوين عند الابن أخف كلفة عليه من حالة اجتماعهما ، فالاحتياج إلى (أَوْ كِلاهُما) في هذه الصورة للتحذير من اعتذار الابن لنفسه عن التقصير بأن حالة اجتماع الأبوين أحرج عليه ، فلأجل ذلك ذكرت الحالتان وأجري الحكم عليهما على السواء ، فكانت جملة (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) بتمامها جوابا ل (إما).

وأكد فعل الشرط بنون التوكيد لتحقيق الربط بين مضمون الجواب ومضمون الشرط في الوجود. وقرأ الجمهور (إِمَّا يَبْلُغَنَ) على أن (أَحَدُهُما) فاعل (يَبْلُغَنَ) فلا تلحق الفعل علامة لأنّ فاعله اسم ظاهر.

وقرأ حمزة والكسائي وخلف يبلغان بألف التثنية ونون مشددة والضمير فاعل عائد إلى الوالدين في قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، فيكون (أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) بدلا من ألف المثنى تنبيها على أنه ليس الحكم لاجتماعهما فقط بل هو للحالتين على التوزيع.

والخطاب ب (عِنْدَكَ) لكل من يصلح لسماع الكلام فيعم كل مخاطب بقرينة سبق قوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، وقوله اللاحق (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ)[الإسراء : ٢٥].

(أُفٍ) اسم فعل مضارع معناه أتضخر. وفيه لغات كثيرة أشهرها كلها ضم الهمزة وتشديد الفاء ، والخلاف في حركة الفاء ، فقرأ نافع ، وأبو جعفر ، وحفص عن عاصم ـ بكسر الفاء منونة ـ. وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ويعقوب ـ بفتح الفاء غير منونة ـ. وقرأ الباقون ـ بكسر الفاء غير منونة ـ.

٥٦

وليس المقصود من النهي عن أن يقول لهما (أُفٍ) خاصة ، وإنما المقصود النهي عن الأذى الذي أقله الأذى باللسان بأوجز كلمة ، وبأنها غير دالة على أكثر من حصول الضجر لقائلها دون شتم أو ذم ، فيفهم منه النهي مما هو أشد أذى بطريق فحوى الخطاب بالأولى.

ثم عطف عليه النهي عن نهرهما لئلا يحسب أن ذلك تأديب لصلاحهما وليس بالأذى. والنهر الزجر ، يقال : نهره وانتهره.

ثم أمر بإكرام القول لهما. والكريم من كل شيء : الرفيع في نوعه. وتقدم عند قوله تعالى : (وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) في سورة الأنفال [٤].

وبهذا الأمر انقطع العذر بحيث إذا رأى الولد أن ينصح لأحد أبويه أو أن يحذر مما قد يضر به أدى إليه ذلك بقول لين حسن الوقع.

ثم ارتقى في الوصاية بالوالدين إلى أمر الولد بالتواضع لهما تواضعا يبلغ حد الذل لهما لإزالة وحشة نفوسهما إن صارا في حاجة إلى معونة الولد ، لأن الأبوين يبغيان أن يكونا هما النافعين لولدهما. والقصد من ذلك التخلق بشكره على أنعامهما السابقة عليه.

وصيغ التعبير عن التواضع بتصويره في هيئة تذلل الطائر عند ما يعتريه خوف من طائر أشد منه إذ يخفض جناحه متذللا. ففي التركيب استعارة مكنية والجناح تخييل بمنزلة تخييل الأظفار للمنية في قول أبي ذؤيب :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

وبمنزلة تخييل اليد للشمال ـ بفتح الشين ـ والزمام للقرة في قول لبيد :

وغداة ريح قد كشفت وقرة

إذ أصبحت بيد الشمال زمامها

ومجموع هذه الاستعارة تمثيل. وقد تقدم في قوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) في سورة الحجر [٨٨].

والتعريف في (الرَّحْمَةِ) عوض عن المضاف إليه ، أي من رحمتك إياهما. و (من) ابتدائية ، أي الذل الناشئ عن الرحمة لا عن الخوف أو عن المداهنة. والمقصود اعتياد النفس على التخلق بالرحمة باستحضار وجوب معاملته إياهما بها حتى يصير له خلقا ، كما قيل :

٥٧

إن التخلق يأتي دونه الخلق

وهذه أحكام عامة في الوالدين وإن كانا مشركين ، ولا يطاعان في معصية ولا كفر كما في آية سورة العنكبوت.

ومقتضى الآية التسوية بين الوالدين في البر وإرضاؤهما معا في ذلك ، لأن موردها لفعل يصدر من الولد نحو والديه وذلك قابل للتسوية. ولم تتعرض لما عدا ذلك مما يختلف فيه الأبوان ويتشاحان في طلب فعل الولد إذا لم يمكن الجمع بين رغبتيهما بأن يأمره أحد الأبوين بضد ما يأمره به الآخر. ويظهر أن ذلك يجري على أحوال تعارض الأدلة بأن يسعى إلى العمل بطلبيهما إن استطاع.

وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة : أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال : أمك. قال : ثم من؟ قال : ثم أمّك. قال : ثم من؟ قال : ثم أمّك. قال : ثمّ من؟ قال : ثم أبوك».

وهو ظاهر في ترجيح جانب الأم لأن سؤال السائل دل على أنه يسأل عن حسن معاملته لأبويه.

وللعلماء أقوال :

أحدها : ترجيح الأم على الأب وإلى هذا ذهب الليث بن سعد ، والمحاسبي ، وأبو حنيفة. وهو ظاهر قول مالك ، فقد حكى القرافي في الفرق ٢٣ عن مختصر الجامع أن رجلا سأل مالكا فقال : إن أبي في بلد السودان وقد كتب إليّ أن أقدم عليه وأمي تمنعني من ذلك؟ فقال مالك : أطع أباك ولا تعص أمك. وذكر القرافي في المسألة السابعة من ذلك الفرق أن مالكا أراد منع الابن من الخروج إلى السودان بغير إذن الأم.

الثاني : قول الشافعية أن الأبوين سواء في البر. وهذا القول يقتضي وجوب طلب الترجيح إذا أمرا ابنهما بأمرين متضادين.

وحكى القرطبي عن المحاسبي في كتاب «الرعاية» أنه قال : لا خلاف بين العلماء في أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع. وحكى القرطبي عن الليث أن للأم ثلثي البر وللأب الثلث ، بناء على اختلاف رواية الحديث المذكور أنه قال : ثم أبوك بعد المرة الثانية أو بعد المرة الثالثة.

٥٨

والوجه أن تحديد ذلك بالمقدار حوالة على ما لا ينضبط وأن محمل الحديث مع اختلاف روايتيه على أن الأم أرجح على الإجمال.

ثم أمر بالدعاء لهما برحمة الله إياهما وهي الرحمة التي لا يستطيع الولد إيصالها إلى أبويه إلا بالابتهال إلى الله تعالى.

وهذا قد انتقل إليه انتقالا بديعا من قوله : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) فكان ذكر رحمة العبد مناسبة للانتقال إلى رحمة الله ، وتنبيها على أن التخلق بمحبة الولد الخير لأبويه يدفعه إلى معاملته إياهما به فيما يعلمانه وفيما يخفى عنهما حتى فيما يصل إليهما بعد مماتهما. وفي الحديث «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير».

وفي الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب لأن الله أذن فيه. والحديث المذكور مؤيد ذلك إذ جعل دعاء الولد عملا لأبويه.

وحكم هذا الدعاء خاص بالأبوين المؤمنين بأدلة أخرى دلت على التخصيص كقوله :(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] الآية.

والكاف في قوله : (كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) للتشبيه المجازي يعبر عنه النحاة بمعنى التعليل في الكاف ، ومثاله قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨] ، أي ارحمهما رحمة تكافئ ما ربياني صغيرا.

و (صَغِيراً) حال من ياء المتكلم.

والمقصود منه تمثيل حالة خاصة فيها الإشارة إلى تربية مكيفة برحمة كاملة فإن الأبوة تقتضي رحمة الولد ، وصغر الولد يقتضي الرحمة به ولو لم يكن ولدا فصار قوله : (كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) قائما مقام قوله كما ربياني ورحماني بتربيتهما. فالتربية تكملة للوجود ، وهي وحدها تقتضي الشكر عليها. والرحمة حفظ للوجود من اجتناب انتهاكه وهو مقتضى الشكر ، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة.

والأمر يقتضي الوجوب. وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط وهو بحسب حال كل امرئ في أوقات ابتهاله. وعن سفيان بن عيينة إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل.

ومقصد الإسلام من الأمر ببر الوالدين وبصلة الرحم ينحل إلى مقصدين :

٥٩

أحدهما : نفساني وهو تربية نفوس الأمة على الاعتراف بالجميل لصانعه ، وهو الشكر ، تخلقا بأخلاق الباري تعالى في اسمه الشكور ، فكما أمر بشكر الله على نعمة الخلق والرزق أمر بشكر الوالدين على نعمة الإيجاد الصوري ونعمة التربية والرحمة. وفي الأمر بشكر الفضائل تنويه بها وتنبيه على المنافسة في إسدائها.

والمقصد الثاني عمراني ، وهو أن تكون أواصر العائلة قوية العرى مشدودة الوثوق فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد العائلة ، وهو حسن المعاشرة ليربي في نفوسهم من التحاب والتواد ما يقوم مقام عاطفة الأمومة الغريزية في الأم ، ثم عاطفة الأبوة المنبعثة عن إحساس بعضه غريزي ضعيف وبعضه عقلي قوي حتى أن أثر ذلك الإحساس ليساوي بمجموعه أثر عاطفة الأم الغريزية أو يفوقها في حالة كبر الابن. ثم وزع الإسلام ما دعا إليه من ذلك بين بقية مراتب القرابة على حسب الدنو في القرب النسبي بما شرعه من صلة الرحم ، وقد عزز الله قابلية الانسياق إلى تلك الشرعة في النفوس.

جاء في الحديث : «أن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال الله : أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك». وفي الحديث : «إن الله جعل الرحم من اسمه الرحيم».

وفي هذا التكوين لأواصر القرابة صلاح عظيم للأمة تظهر آثاره في مواساة بعضهم بعضا ، وفي اتحاد بعضهم مع بعض ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) [الحجرات : ١٣].

وزاده الإسلام توثيقا بما في تضاعيف الشريعة من تأكيد شد أواصر القرابة أكثر مما حاوله كل دين سلف. وقد بينا ذلك في بابه من كتاب «مقاصد الشريعة الإسلامية».

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥))

تذييل لآية الأمر بالإحسان بالوالدين وما فصل به ، وما يقتضيه الأمر من اختلاف أحوال المأمورين بهذا الأمر قبل وروده بين موافق لمقتضاه ومفرط فيه ، ومن اختلاف أحوالهم بعد وروده من محافظ على الامتثال ، ومقصر عن قصد أو عن بادرة غفلة.

ولما كان ما ذكر في تضاعيف ذلك وما يقتضيه يعتمد خلوص النية ليجري العمل

٦٠