تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٢

الإسراء بالنبيء ـ عليه الصلاة والسلام ـ ليلا ليرى من آيات الله تعالى من المناسبة لحالة موسى ـ عليه‌السلام ـ حين أوتي النبوة ، فقد أوتي النبوءة ليلا وهو سار بأهله من أرض مدين إذ آنس من جانب الطور نارا ، ولحاله أيضا حين أسري به إلى مناجاة ربه بآيات الكتاب.

والكتاب هو المعهود إيتاؤه موسى ـ عليه‌السلام ـ وهو التوراة. وضمير الغائب في (جَعَلْناهُ) للكتاب ، والإخبار عنه بأنه هدى مبالغة لأن الهدى بسبب العمل بما فيه فجعل كأنه نفس الهدى ، كقوله تعالى في القرآن : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

وخص بني إسرائيل لأنهم المخاطبون بشريعة التوراة دون غيرهم ، فالجعل الذي في قوله: (وَجَعَلْناهُ) هو جعل التكليف. وهم المراد ب «الناس» في قوله : (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) [الأنعام : ٩١] ، لأن الناس قد يطلق على بعضهم ، على أن ما هو هدى لفريق من الناس صالح لأن ينتفع بهديه من لم يكن مخاطبا بكتاب آخر ، ولذلك قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤].

وقرأ الجمهور (أَلَّا تَتَّخِذُوا) ـ بتاء الخطاب ـ على الأصل في حكاية ما يحكى من الأقوال المتضمنة نهيا ، فتكون (أن) تفسيرية لما تضمنه لفظ (الكتاب) من معنى الأقوال ، ويكون التفسير لبعض ما تضمنه الكتاب اقتصارا على الأهم منه وهو التوحيد. وقرأ أبو عمرو وحده ـ بياء الغيبة ـ على اعتبار حكاية القول بالمعنى ، أو تكون (أن) مصدرية مجرورة بلام محذوفة حذفا مطردا ، والتقدير : آتيناهم الكتاب لئلا يتخذوا من دوني وكيلا.

والوكيل : الذي تفوض إليه الأمور. والمراد به الرب ، لأنه يتكل عليه العباد في شئونهم ، أي أن لا تتخذوا شريكا تلجئون إليه. وقد عرف إطلاق الوكيل على الله في لغة بني إسرائيل كما حكى الله عن يعقوب وأبنائه (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) [يوسف : ٦٦].

(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))

يجوز أن يكون اعتراضا في آخر الحكاية ليس داخلا في الجملة التفسيرية. فانتصاب (ذُرِّيَّةَ) على الاختصاص لزيادة بيان بني إسرائيل بيانا مقصودا به التعريض بهم إذ لم يشكروا النعمة. ويجوز أن يكون من تمام الجملة التفسيرية ، أي حال كونكم ذرية من حملنا مع نوح ـ عليه‌السلام ـ ، أو ينتصب على النداء بتقدير حرف النداء ، أي يا ذرية من

٢١

حملنا مع نوح ، مقصودا به تحريضهم على شكر نعمة الله واجتناب الكفر به باتخاذ شركاء دونه.

والحمل وضع شيء على آخر لنقله ، والمراد الحمل في السفينة كما قال : (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١] أي ذرّيّة من أنجيناهم من الطوفان مع نوح ـ عليه‌السلام ـ.

وجملة (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) مفيدة تعليل النهي عن أن يتخذوا من دون الله وكيلا ، لأن أجدادهم حملوا مع نوح بنعمة من الله عليهم لنجاتهم من الغرق وكان نوح عبدا شكورا والذين حملوا معه كانوا شاكرين مثله ، أي فاقتدوا بهم ولا تكفروا نعم الله.

ويحتمل أن تكون هذه الجملة من تمام الجملة التفسيرية فتكون مما خاطب الله به بني إسرائيل ، ويحتمل أنها مذيلة لجملة (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) فيكون خطابا لأهل القرآن.

واعلم أن في اختيار وصفهم بأنهم ذرية من حمل مع نوح ـ عليه‌السلام ـ معاني عظيمة من التذكير والتحريض والتعريض لأن بني إسرائيل من ذرية سام بن نوح وكان سام ممن ركب السفينة.

وإنما لم يقل ذرية نوح مع أنهم كذلك قصدا لإدماج التذكير بنعمة إنجاء أصولهم من الغرق.

وفيه تذكير بأن الله أنجى نوحا ومن معه من الهلاك بسبب شكره وشكرهم تحريضا على الائتساء بأولئك.

وفيه تعريض بأنهم إن أشركوا ليوشكن أن ينزل بهم عذاب واستئصال ، كما في قوله : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) [هود : ٤٨].

وفيه أن ذرية نوح كانوا شقين شق بار مطيع ، وهم الذين حملهم معه في السفينة ، وشق متكبر كافر وهو ولده الذي غرق ، فكان نوح ـ عليه‌السلام ـ مثلا لأبي فريقين ، وكان بنو إسرائيل من ذرية الفريق البار ، فإن اقتدوا به نجوا وإن حادوا فقد نزعوا إلى الفريق الآخر فيوشك أن يهلكوا. وهذا التماثل هو نكتة اختيار ذكر نوح من بين أجدادهم الآخرين مثل إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ـ عليهم‌السلام ـ ، لفوات هذا المعنى في أولئك. وقد ذكر في هذه السورة استئصال بني إسرائيل مرتين بسبب إفسادهم في الأرض

٢٢

وعلوهم مرتين وأن ذلك جزاء إهمالهم وعد الله نوحا ـ عليه‌السلام ـ حينما نجاه.

وتأكيد كون نوح (كانَ عَبْداً شَكُوراً) بحرف (إنّ) تنزيل لهم منزلة من يجهل ذلك ؛ إما لتوثيق حملهم على الاقتداء به إن كانت الجملة خطابا لبني إسرائيل من تمام الجملة التفسيرية ، وإما لتنزيلهم منزلة من جهل ذلك حتى تورطوا في الفساد فاستأهلوا الاستئصال وذهاب ملكهم ، لينتقل منه إلى التعريض بالمشركين من العرب بأنهم غير مقتدين بنوح لأن مثلهم ومثل بني إسرائيل في هذا السياق واحد في جميع أحوالهم ، فيكون التأكيد منظورا فيه إلى المعنى التعريضي.

ومعنى كون نوح (عَبْداً) أنه معترف لله بالعبودية غير متكبر بالإشراك ، وكونه (شَكُوراً) ، أي شديدا لشكر الله بامتثال أوامره. وروي أنه كان يكثر حمد الله.

والاقتداء بصالح الآباء مجبولة عليه النفوس ومحل تنافس عند الأمم بحيث يعد خلاف ذلك كمثير للشك في صحة الانتساب.

وكان نوح ـ عليه‌السلام ـ مثلا في كمال النفس وكانت العرب تعرف ذلك وتنبعث على الاقتداء به. قال النابغة :

فألفيت الأمانة لم تخنها

كذلك كان نوح لا يخون

[٤ ، ٥] (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥))

عطف على جملة (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الإسراء : ٢] ، أي آتينا موسى الكتاب هدى ، وبينا لبني إسرائيل في الكتاب ما يحل بهم من جراء مخالفة هدي التوراة إعلاما لهذه الأمة بأن الله لم يدخر أولئك إرشادا ونصحا ، فالمناسبة ظاهرة.

والقضاء بمعنى الحكم وهو التقدير ، ومعنى كونه في الكتاب أن القضاء ذكر في الكتاب ، وتعدية (قَضَيْنا) بحرف (إلى) لتضمين (قَضَيْنا) معنى (أبلغنا) ، أي قضينا وأنهينا ، كقوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) في سورة الحجر [٦٦]. فيجوز أن يكون المراد ب (الكتاب) كتاب التوراة والتعريف للعهد لأنه ذكر الكتاب آنفا ، ويوجد في مواضع ، منها ما هو قريب مما في هذه الآية لكن بإجمال (انظر الإصحاح ٢٦ والإصحاح

٢٣

٢٨ والإصحاح ٣٠) ، فيكون العدول عن الإضمار إلى إظهار لفظ (الكتاب) لمجرد الاهتمام.

ويجوز أن يكون الكتاب بعض كتبهم الدينية. فتعريف (الكتاب) تعريف الجنس وليس تعريف العهد الذكري ، إذ ليس هو الكتاب المذكور آنفا في قوله : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الإسراء : ٢] لأنه لما أظهر اسم الكتاب أشعر بأنه كتاب آخر من كتبهم ، وهو الأسفار المسماة بكتب الأنبياء : أشعياء ، وأرميا ، وحزقيال ، ودانيال ، وهي في الدرجة الثانية من التوراة. وكذلك كتاب النبي ملاخي.

والإفساد مرتين ذكر في كتاب أشعياء وكتاب أرمياء.

ففي كتاب أشعياء نذارات في الإصحاح الخامس والعاشر. وأولى المرتين مذكورة في كتاب أرمياء في الإصحاح الثاني والإصحاح الحادي والعشرين وغيرهما. وليس المراد بلفظ الكتاب كتابا واحدا فإن المفرد المعرف ـ بلام الجنس ـ يراد به المتعدد. وعن ابن عباس الكتاب أكثر من الكتب. ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة وكتب الأنبياء ولذلك أيضا وقع بالإظهار دون الإضمار.

وجملة (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) ـ إلى قوله ـ (حَصِيراً) مبيّنة لجملة (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ). وأيّا ما كان فضمائر الخطاب في هذه الجملة مانعة من أن يكون المراد بالكتاب في قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) اللوح المحفوظ أو كتاب الله ، أي علمه.

وهذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين : حوادث بينهم وبين البابليين ، وحوادث بينهم وبين الرومانيين. فانقسمت بهذا الاعتبار إلى نوعين : نوع منهما تندرج فيه حوادثهم مع البابليين ، والنوع الآخر حوادثهم مع الرومانيين ، فعبر عن النوعين بمرتين لأن كل مرة منهما تحتوي على عدة ملاحم.

فالمرة الأولى هي مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ بالأسر البابلي وهي غزوات (بختنصر) ملك بابل وأشور بلاد أورشليم. والغزو الأول كان سنة ٦٠٦ قبل المسيح ، أسر جماعات كثيرة من اليهود ويسمى الأسر الأول. ثم غزاهم أيضا غزوا يسمى الأسر الثاني ، وهو أعظم من الأول ، كان سنة ٥٩٨ قبل المسيح ، وأسر ملك يهوذا وجمعا غفيرا من الإسرائيليين وأخذ الذهب الذي في هيكل سليمان وما فيه من الآنية

٢٤

النفيسة.

والأسر الثالث المبير سنة ٥٨٨ قبل المسيح غزاهم «بختنصر» وسبى كل شعب يهوذا ، وأحرق هيكل سليمان ، وبقيت أورشليم خرابا يبابا. ثم أعادوا تعميرها كما سيأتي عند قوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ) [الإسراء : ٦].

وأما المرة الثانية فهي سلسلة غزوات الرومانيين بلاد أورشليم. وسيأتي بيانها عند قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) [الإسراء : ٦] الآية.

وإسناد الإفساد إلى ضمير بني إسرائيل مفيد أنه إفساد من جمهورهم بحيث تعد الأمة كلّها مفسدة وإن كانت لا تخلو من صالحين.

والعلو في قوله : (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) مجاز في الطغيان والعصيان كقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤] وقوله : (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) [الدخان : ٣١] وقوله : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل : ٣١] تشبيها للتكبر والطغيان بالعلو على الشيء لامتلاكه تشبيه معقول بمحسوس.

وأصل (وَلَتَعْلُنَ) لتعلووننّ. وأصل (لَتُفْسِدُنَ) لتفسدونن.

والوعد مصدر بمعنى المفعول ، أي موعود أولى المرتين ، أي الزمان المقدر لحصول المرة الأولى من الإفساد والعلو ، كقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ)[الكهف : ٩٨].

ومثل ذلك قوله : (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) أي معمولا ومنفذا.

وإضافة (وَعْدُ) إلى (أُولاهُما) بيانية ، أي الموعود الذي هو أولى المرتين من الإفساد والعلو.

والبعث مستعمل في تكوين السير إلى أرض إسرائيل وتهيئة أسبابه حتى كأن ذلك أمر بالمسير إليهم كما مر في قوله : (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) في سورة الأعراف [١٦٧] ، وهو بعث تكوين وتسخير لا بعث بوحي وأمر.

وتعدية (بَعَثْنا) بحرف الاستعلاء لتضمينه معنى التسليط كقوله : (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ) [الأعراف : ١٦٧].

والعباد : المملوكون ، وهؤلاء عباد مخلوقية ، وأكثر ما يقال : عباد الله. ويقال : عبيد ، بدون إضافة ، نحو (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] ، فإذا قصد المملوكون

٢٥

بالرق قيل : عبيد ، لا غير. والمقصود بعباد الله هنا الأشوريون أهل بابل وهم جنود بختنصر.

والبأس : الشوكة والشدة في الحرب. ووصفه بالشديد لقوته في نوعه كما في آية سورة سليمان [النمل : ٣٣] : (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ).

وجملة (فَجاسُوا) عطف على (بَعَثْنا) فهو من المقضي في الكتاب. والجوس : التخلل في البلاد وطرقها ذهابا وإيابا لتتبع ما فيها. وأريد به هنا تتبّع المقاتلة فهو جوس مضرة وإساءة بقرينة السياق.

و (خلال) اسم جاء على وزن الجموع ولا مفرد له ، وهو وسط الشيء الذي يتخلل منه. قال تعالى : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) [الروم : ٤٨].

والتعريف في (الدِّيارِ) تعريف العهد ، أي دياركم ، وذلك أصل جعل (ال) عوضا عن المضاف إليه. وهي ديار بلد أورشليم فقد دخلها جيش بختنصر وقتل الرجال وسبى ، وهدم الديار ، وأحرق المدينة وهيكل سليمان بالنار. ولفظ (الديار) يشمل هيكل سليمان لأنه بيت عبادتهم ، وأسر كل بني إسرائيل وبذلك خلت بلاد اليهود منهم. ويدل لذلك قوله في الآية الآتية : (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

[٦ ـ ٨] (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))

(ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها).

عطف جملة (فَجاسُوا) [الإسراء : ٥] فهو من تمام جواب (إذا) من قوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) [الإسراء : ٥] ، ومن بقية المقضي في الكتاب ، وهو ماض لفظا مستقبل معنى ، لأن (إذا) ظرف لما يستقبل. وجيء به في صيغة الماضي لتحقيق وقوع ذلك. والمعنى : نبعث عليكم عبادا لنا فيجوسون ونرد لكم الكرة عليهم ونمددكم بأموال وبنين ونجعلكم أكثر نفيرا.

٢٦

و (ثم) تفيد التراخي الرتبي والتراخي الزمني معا.

والردّ : الإرجاع. وجيء بفعل (رَدَدْنا) ماضيا جريا على الغالب في جواب (إذا) كما جاء شرطها فعلا ماضيا في قوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا) [الإسراء : ٥] أي إذا يجيء يبعث.

والكرة : الرجعة إلى المكان الذي ذهب منه.

فقوله : (عَلَيْهِمْ) ظرف مستقر هو حال من (الْكَرَّةَ) ، لأن رجوع بني إسرائيل إلى أورشليم كان بتغلب ملك فارس على ملك بابل.

وذلك أن بني إسرائيل بعد أن قضوا نيفا وأربعين سنة في أسر البابليين وتابوا إلى الله وندموا على ما فرط منهم سلط الله ملوك فارس على ملوك بابل الأشوريين ؛ فإن الملك (كورش) ملك فارس حارب البابليين وهزمهم فضعف سلطانهم ، ثم نزل بهم (داريوس) ملك فارس وفتح بابل سنة ٥٣٨ قبل المسيح ، وأذن لليهود في سنة ٥٣٠ قبل المسيح أن يرجعوا إلى أورشليم ويجددوا دولتهم. وذلك نصر انتصروه على البابليين إذ كانوا أعوانا للفرس عليهم.

والوعد بهذا النصر ورد أيضا في كتاب أشعياء في الإصحاحات : العاشر ، والحادي عشر ، والثاني عشر ، وغيرها ، وفي كتاب أرميا في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين.

وقوله : (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) هو من جملة المقضي الموعود به. ووقع في الإصحاح التاسع والعشرين من كتاب أرميا «هكذا قال الرب إله إسرائيل لكل السبي الذي سبيته من أورشليم إلى بابل : ابنوا بيوتا واسكنوا ، واغرسوا جنات ، وكلوا ثمرها ، خذوا نساء ولدوا بنين وبنات ، وأكثروا هناك ولا تقلّوا».

و (نَفِيراً) تمييز «لأكثر» فهو تبيين لجهة الأكثرية ، والنفير. اسم جمع للجماعة التي تنفر مع المرء من قومه وعشيرته ، ومنه قول أبي جهل : «لا في العير ولا في النفير».

والتفضيل في (أكثر) تفضيل على أنفسهم ، أي جعلناكم أكثر مما كنتم قبل الجلاء ، وهو المناسب لمقام الامتنان. وقال جمع من المفسرين : أكثر نفيرا من أعدائكم الذين أخرجوكم من دياركم ، أي أفنى معظم البابليين في الحروب مع الفرس حتى صار عدد بني إسرائيل في بلاد الأسر أكثر من عدد البابليين.

٢٧

وقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) من جملة المقضي في الكتاب مما خوطب به بنو إسرائيل ، وهو حكاية لما في الإصحاح التاسع والعشرين من كتاب أرميا «وصلّوا لأجلها إلى الرب لأنه بسلامها يكون لكم سلام». وفي الإصحاح الحادي والثلاثين «يقول الرب أزرع بيت إسرائيل وبيت يهوذا ويكون كما سهرت عليهم للاقتلاع والهدم والقرض والإهلاك ، كذلك أسهر عليهم للبناء والغرس في تلك الأيام لا يقولون : الآباء أكلوا حصرما وأسنان الأبناء ضرست بل كل واحد يموت بذنبه كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه».

ومعنى (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أننا نرد لكم الكرة لأجل التوبة وتجدد الجيل وقد أصبحتم في حالة نعمة ، فإن أحسنتم كان جزاؤكم حسنا وإن أسأتم أسأتم لأنفسكم ، فكما أهلكنا من قبلكم بذنوبهم فقد أحسنا إليكم بتوبتكم فاحذروا الإساءة كيلا تصيروا إلى مصير من قبلكم.

وإعادة فعل (أَحْسَنْتُمْ) تنويه فلم يقل : إن أحسنتم فلأنفسكم. وذلك مثل قول الأحوص :

فإذا تزول تزول عن متخمّط

تخشى بوادره على الأقران

قال أبو الفتح ابن جني في شرح بيت الأحوص في الحماسة : إنما جاز أن يقول (فإذا تزول تزول) لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة. ومثله قول الله تعالى : (هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) [القصص : ٦٣] ، ولو قال : هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفد القول شيئا كقولك : الذي ضربته ضربته. وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما أخذناه (في الأصل أجزناه) غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك» ا ه.

والظاهر أن امتناع أبي علي من ذلك في هذه الآية أنه يرى جواز أن تكون (أَغْوَيْناهُمْ) تأكيدا «لأغوينا» وقوله : (كَما غَوَيْنا) استئنافا بيانيا ، لأن اسم الموصول مسند إلى مبتدأ وهو اسم الإشارة فتم الكلام بذلك ، بخلاف بيت الأحوص ومثال ابن جني : الذي ضربته ضربته ، فيرجع امتناع أبي علي إلى أن ما أخذه ابن جني غير متعين في الآية تعيّنه في بيت الأحوص.

وأسلوب إعادة الفعل عند إرادة تعلق شيء به أسلوب عربي فصيح يقصد به الاهتمام

٢٨

بذلك الفعل. وقد تكرر في القرآن ، قال تعالى : (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء: ١٣٠] وقال : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢].

وقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) جاء على طريقة التجريد بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها. فاللام ـ لتعدية فعل (أَحْسَنْتُمْ) ، يقال : أحسنت لفلان.

وكذلك قوله : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها). فقوله : (فَلَها) متعلق بفعل محذوف بعد فاء الجواب ، تقديره : أسأتم لها. وليس المجرور بظرف مستقر خبرا عن مبتدأ محذوف يدل عليه فعل (أَسَأْتُمْ) لأنه لو كان كذلك لقال فعليها ، كقوله في سورة فصلت [٤٦](مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها).

ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين أن آية فصلت ليس فيها تجريد ، إذ التقدير فيها : فعمله لنفسه وإساءته عليه ، فلما كان المقدر اسما كان المجرور بعده مستقرا غير حرف تعدية ، فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبر عنه نافعا فيخبر عنه بمجرور باللام ، أو ضارا يخبر عنه بمجرور ب (على) ، وأما آية الإسراء ففعل «أحسنتم وأسأتم» الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد فجاءا على أصل تعديتهما باللام لا لقصد نفع ولا ضر.

(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً)

تفريع على قوله : (وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] ، إذ تقدير الكلام فإذا أسأتم وجاء وعد المرة الآخرة.

وقد حصل بهذا التفريع إيجاز بديع قضاء لحقّ التقسيم الأول في قوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) [الإسراء : ٥] ، ولحقّ إفادة ترتب مجيء وعد الآخرة على الإساءة ، ولو عطف بالواو كما هو مقتضى ظاهر التقسيم إلى مرتين فاتت إفادة الترتب والتفرع.

و (الْآخِرَةِ) صفة لمحذوف دل عليه قوله : (مَرَّتَيْنِ) ، أي وعد المرة الآخرة.

وهذا الكلام من بقية ما قضي في الكتاب بدليل تفريعه بالفاء.

والآخرة ضد الأولى.

ولا مات «ليسوءوا ، وليدخلوا ، وليتبروا» للتعليل ، وليست للأمر لاتفاق القراءات

٢٩

المشهورة على كسر اللامين الثاني والثالث ، ولو كانا لامي أمر لكانا ساكنين بعد واو العطف ، فيتعين أن اللام الأول لام أمر (١) لا لام جر. والتقدير فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عبادا لنا ليسوؤا وجوهكم إلخ.

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، وأبو جعفر ، ويعقوب (لِيَسُوؤُا) بضمير الجمع مثل أخواته الأفعال الأربعة. والضمائر راجعة إلى محذوف دلّ عليه لام التعليل في قوله : (لِيَسُوؤُا) إذ هو متعلق بما دل عليه قوله في (وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) [الإسراء : ٥] ، فالتقدير : فإذا جاء وعد الآخرة بعثنا عليكم عبادا لنا ليسوءوا وجوهكم. وليست عائدة إلى قوله : (عِباداً لَنا) المصرح به في قوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) [الإسراء : ٥] ، لأن الذين أساءوا ودخلوا المسجد هذه المرة أمة غير الذين جاسوا خلال الديار حسب شهادة التاريخ وأقوال المفسرين كما سيأتي.

وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ليسوء بالإفراد والضمير لله تعالى. وقرأ الكسائي لنسوء بنون العظمة. وتوجيه هاتين القراءتين من جهة موافقة رسم المصحف أن الهمزة المفتوحة بعد الواو قد ترسم بصورة ألف ، فالرسم يسمح بقراءة واو الجماعة على أن يكون الألف ألف الفرق وبقراءتي الإفراد على أن الألف علامة الهمزة.

وضميرا «ليسوءوا وليدخلوا» عائدان إلى (عِباداً لَنا) [الإسراء : ٥] باعتبار لفظه لا باعتبار ما صدق المعاد ، على نحو قولهم : عندي درهم ونصفه ، أي نصف صاحب اسم درهم ، وذلك تعويل على القرينة لاقتضاء السياق بعد الزمن بين المرتين : فكان هذا الإضمار من الإيجاز.

وضمير (كَما دَخَلُوهُ) عائد إلى العباد المذكور في ذكر المرة الأولى بقرينة اقتضاء المعنى مراجع الضمائر كقوله تعالى : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها)[الروم :٩]، وقول عباس بن مرداس :

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

فالسياق دال على معاد (أحرزوا) ومعاد (جمّعوا).

__________________

(١) انظر أول الفقرة وما يجيء بعد في الفقرة الموالية (الناشر).

٣٠

وسوء الوجوه : جعل المساءة عليها ، أي تسليط أسباب المساءة والكآبة عليكم حتى تبدو على وجوهكم لأن ما يخالج الإنسان من غم وحزن ، أو فرح ومسرة يظهر أثره على الوجه دون غيره من الجسد ، كقول الأعشى :

وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق

أراد إذا ما تفرق الناس وتظهر علامات الفرق في أعينهم.

ودخول المسجد دخول غزو بقرينة التشبيه في قوله : (كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) المراد منه قوله : (فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) [الإسراء : ٥].

والتتبير : الإهلاك والإفساد.

و (ما عَلَوْا) موصول هو مفعول «يتبروا» ، وعائد الصلة محذوف لأنه متصل منصوب ، والتقدير : ما علوه ، والعلو علو مجازي وهو الاستيلاء والغلب.

ولم يعدهم الله في هذه المرة إلا بتوقع الرحمة دون رد الكرة ، فكان إيماء إلى أنهم لا ملك لهم بعد هذه المرة. وبهذا تبين أن المشار إليه بهذه المرة الآخرة هو ما اقترفه اليهود من المفاسد والتمرد وقتل الأنبياء والصالحين والاعتداء على عيسى وأتباعه ، وقد أنذرهم النبي ملّاخي في الإصحاحين الثالث والرابع من كتابه وأنذرهم زكرياء ويحيى وعيسى (١) فلم يرعووا فضربهم الله الضربة القاضية بيد الرومان.

وبيان ذلك : أن اليهود بعد أن عادوا إلى أورشليم وجددوا ملكهم ومسجدهم في زمن (داريوس) وأطلق لهم التصرف في بلادهم التي غلبهم عليها البابليون وكانوا تحت نفوذ مملكة فارس ، فمكثوا على ذلك مائتي سنة من سنة ٥٣٠ إلى سنة ٣٣٠ قبل المسيح ، ثم أخذ ملكهم في الانحلال بهجوم البطالسة ملوك مصر على أورشليم فصاروا تحت سلطانهم إلى سنة ١٦٦ قبل المسيح إذ قام قائد من إسرائيل اسمه (ميثيا) وكان من اللاويين فانتصر لليهود وتولى الأمر عليهم وتسلسل الملك بعده في أبنائه في زمن مليء بالفتن إلى سنة أربعين قبل المسيح. دخلت المملكة تحت نفوذ الرومانيين ، وأقاموا عليها أمراء من اليهود كان أشهرهم (هيرودس) ثم تمردوا للخروج على الرومانيين ، فأرسل فيصر رومية القائد (سيسيانوس) مع ابنه القائد (طيطوس) بالجيوش في حدود سنة أربعين بعد المسيح

__________________

(١) انظر الإصحاح الثالث من إنجيل مرقس الحوارى.

٣١

فخربت أورشليم واحترق المسجد ، وأسر (طيطوس) نيفا وتسعين ألفا من اليهود ، وقتل من اليهود في تلك الحروب نحو ألف ألف ، ثم استعادوا المدينة وبقي منهم شرذمة قليلة بها إلى أن وافاهم الأمبراطور الروماني (أدريانوس) فهدمها وخربها ورمى قناطير الملح على أرضها كيلا تعود صالحة للزراعة ، وذلك سنة ١٣٥ للمسيح. وبذلك انتهى أمر اليهود وانقرض ، وتفرقوا في الأرض ولم تخرج أورشليم من حكم الرومان إلا حين فتحها المسلمون في زمن عمر بن الخطاب سنة ١٦ ه‍ صلحا مع أهلها وهي تسمى يومئذ (إيلياء).

وقوله : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) عطف الترهيب على الترغيب.

ويجوز أن تكون معترضة والواو اعتراضية. والمعنى : بعد أن يرحمكم ربكم ويؤمنكم في البلاد التي تلجئون إليها ، إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى عقابكم ، أي عدنا لمثل ما تقدم من عقاب الدنيا.

وجملة (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) عطف على جملة (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) لإفادة أن ما ذكر قبله من عقاب إنما هو عقاب دنيوي وأن وراءه عقاب الآخرة.

وفيه معنى التذييل لأن التعريف في (لِلْكافِرِينَ) يعم المخاطبين وغيرهم. ويومئ هذا إلى أن عقابهم في الدنيا ليس مقصورا على ذنوب الكفر بل هو منوط بالإفساد في الأرض وتعدي حدود الشريعة. وأما الكفر بتكذيب الرسل فقد حصل في المرة الآخرة فإنهم كذبوا عيسى ، وأما في المرة الأولى فلم تأتهم رسل ولكنهم قتلوا الأنبياء مثل أشعياء ، وأرمياء ، وقتل الأنبياء كفر.

والحصير : المكان الذي يحصر فيه فلا يستطاع الخروج منه ، فهو إما فعيل بمعنى فاعل ، وإما بمعنى مفعول على تقدير متعلق ، أي محصور فيه.

[٩ ، ١٠] (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠))

استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الغرض الأهم من هذه السورة وهو تأييد

٣٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالآيات والمعجزات ، وإيتاؤه الآيات التي أعظمها آية القرآن كما قدمناه عند قوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الإسراء : ٢]. وأعقب ذلك بذكر ما أنزل على بني إسرائيل من الكتب للهدى والتحذير ، وما نالهم من جراء مخالفتهم ما أمرهم الله به ، ومن عدولهم عن سنن أسلافهم من عهد نوح. وفي ذلك فائدة التحذير من وقوع المسلمين فيما وقع فيه بنو إسرائيل ، وهي الفائدة العظمى من ذكر قصص القرآن ، وهي فائدة التاريخ.

وتأكيد الجملة مراعى فيه حال بعض المخاطبين وهم الذين لم يذعنوا إليه ، وحال المؤمنين من الاهتمام بهذا الخبر ، فالتوكيد مستعمل في معنييه دفع الإنكار والاهتمام ، ولا تعارض بين الاعتبارين.

وقوله : (هذَا الْقُرْآنَ) إشارة إلى الحاضر في أذهان الناس من المقدار المنزل من القرآن قبل هذه الآية.

وبينت الإشارة بالاسم الواقع بعدها تنويها بشأن القرآن.

وقد جاءت هذه الآية تنفيسا على المؤمنين من أثر القصص المهولة التي قصت عن بني إسرائيل وما حل بهم من البلاء مما يثير في نفوس المسلمين الخشية من أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك ، فأخبروا بأن في القرآن ما يعصمهم عن الوقوع فيما وقع فيه بنو إسرائيل إذ هو يهدي للطريق التي هي أقوم مما سلكه بنو إسرائيل ، ولذلك ذكر مع الهداية بشارة المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ونذارة الذين لا يؤمنون بالآخرة. وفي التعبير (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) نكتة لطيفة ستأتي. وتلك عادة القرآن في تعقيب الرهبة بالرغبة وعكسه.

و (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) صفة لمحذوف دل عليه (يَهْدِي) ، أي للطريق التي هي أقوم ، لأن الهداية من ملازمات السير والطريق ، أو للملة الأقوم ، وفي حذف الموصوف من الإيجاز من جهة ومن التفخيم من جهة أخرى ما رجح الحذف على الذكر.

والأقوم : تفضيل القويم. والمعنى : أنه يهدي للتي هي أقوم من هدى كتاب بني إسرائيل الذي في قوله : (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [الإسراء : ٢]. ففيه إيماء إلى ضمان سلامة أمة القرآن من الحيدة عن الطريق الأقوم ، لأن القرآن جاء بأسلوب من الإرشاد قويم ذي أفنان لا يحول دونه ودون الولوج إلى العقول حائل ، ولا يغادر مسلكا إلى ناحية من نواحي الأخلاق والطبائع إلا سلكه إليها تحريضا أو تحذيرا ، بحيث لا يعدم

٣٣

المتدبر في معانيه اجتناء ثمار أفنانه ، وبتلك الأساليب التي لم تبلغها الكتب السابقة كانت الطريقة التي يهدي إلى سلوكها أقوم من الطرائق الأخرى وإن كانت الغاية المقصود الوصول إليها واحدة.

وهذا وصف إجمالي لمعنى هدايته إلى التي هي أقوم لو أريد تفصيله لاقتضى أسفارا ، وحسبك مثالا لذلك أساليب القرآن في سد مسالك الشرك بحيث سلمت هذه الآية في جميع أطوارها من التخليط بين التقديس البشري وبين التمجيد الإلهي ، فلم تنزل إلى حضيض الشرك بحال ، فمحل التفضيل هو وسائل الوصول إلى الغاية من الحق والصدق ، وليس محل التفضيل تلك الغاية حتى يقال : إن الحق لا يتفاوت.

والأجر الكبير فسر بالجنة ، والعذاب الأليم بجهنم ، والأظهر أن يحمل على عموم الأجر والعذاب ، فيشمل أجر الدنيا وعذابها ، وهو المناسب لما تقدم من سعادة عيش بني إسرائيل وشقائه ، فجعل اختلاف الحالين فيهما موعظة لحالي المسلمين والمشركين.

(وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) عطف على (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) لأنه من جملة البشارة ، إذ المراد بالذين لا يؤمنون بالآخرة مشركو قريش وهم أعداء المؤمنين ، فلا جرم أن عذاب العدو بشارة لمن عاداه.

والاقتصار على هذين الفريقين هو مقتضى المقام لمناسبة تكذيب المشركين بالإسراء فلا غرض في الإعلام بحال أهل الكتاب.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١))

موقع هذه الآية هنا غامض ، وانتزاع المعنى من نظمها وألفاظها أيضا ، ولم يأت فيها المفسرون بما ينثلج له الصدر. والذي يظهر لي أن الآية التي قبلها لما اشتملت على بشارة وإنذار وكان المنذرون إذا سمعوا الوعيد والإنذار يستهزءون به ويقولون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يس : ٤٨] عطف هذا الكلام على ما سبق تنبيها على أن لذلك الوعد أجلا مسمى. فالمراد بالإنسان الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة كما هو في قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) و (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [مريم : ٦٦ ـ ٦٧] وإطلاق الإنسان على الكافر كثير في القرآن.

وفعل يدعوا مستعمل في معنى يطلب ويبتغي ، كقول لبيد :

٣٤

ادعو بهن لعاقر أو مطفل

بذلت لجيران الجميع لحامها

وقوله : (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) مصدر يفيد تشبيها ، أي يستعجل الشر كاستعجاله الخير ، يعني يستبطئ حلول الوعيد كما يستبطئ أحد تأخر خير وعد به.

وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) تذييل ، فالإنسان هنا مراد به الجنس لأنه المناسب للتذييل ، أي وما هؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة إلا من نوع الإنسان ، وفي نوع الإنسان الاستعجال فإن (كان) تدل على أن اسمها متصف بخبرها اتصافا متمكنا كقوله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف : ٥٤].

والمقصود من قوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) الكناية عن عدم تبصره وأن الله أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت الأشياء (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) [يونس : ١١] ، ولكنه درّج لهم وصول الخير والشر لطفا بهم في الحالين.

والباء في قوله : (بِالشَّرِّ) و (بِالْخَيْرِ) لتأكيد لصوق العامل بمعموله كالتي في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] ؛ أو لتضمين مادة الدعاء معنى الاستعجال ، فيكون كقوله تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها)[الشورى : ١٨].

وعجول : صيغة مبالغة في عاجل. يقال : عجل فهو عاجل وعجول.

وكتب في المصحف (وَيَدْعُ) بدون واو بعد العين إجراء لرسم الكلمة على حالة النطق بها في الوصل كما كتب (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨] ونظائرها. قال الفراء : لو كتبت بالواو لكان صوابا.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢))

عطف على (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ) [الإسراء : ١١] ، إلخ. والمناسبة أن جملة (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) تتضمن أن الإبطاء تأخير الوعد لا يرفعه وأن الاستعجال لا يجدي صاحبه لأن لكل شيء أجلا ، ولما كان الأجل عبارة عن أزمان كان مشتملا على ليل ونهار متقضّيين. وهذا شائع عند الناس في أن الزمان متقض وإن طال.

فلما أريد التنبيه على ذلك أدمج فيه ما هو أهم في العبرة بالزمنين وهو كونهما آيتين على وجود الصانع وعظيم القدرة ، وكونهما منتين على الناس ، وكون الناس ربما كرهوا

٣٥

الليل لظلمته ، واستعجلوا انقضاءه بطلوع الصباح في أقوال الشعراء وغيرهم ، ثم بزيادة العبرة في أنهما ضدان ، وفي كل منهما آثار النعمة المختلفة وهي نعمة السير في النهار. واكتفي بعدّها عن عدّ نعمة السكون في الليل لظهور ذلك بالمقابلة ، وبتلك المقابلة حصلت نعمة العلم بعدد السنين والحساب لأنه لو كان الزمن كله ظلمة أو كله نورا لم يحصل التمييز بين أجزائه.

وفي هذا بعد ذلك كله إيماء إلى ضرب مثل للكفر والإيمان ، وللضلال والهدى ، فلذلك عقب به قوله : (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الإسراء : ٢] الآية ، وقوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) إلى قوله : (أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً)[الإسراء : ٩ ـ ١٠] ، ولذلك عقب بقوله بعده (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) الآية [الإسراء : ١٥]. وكل هذا الإدماج تزويد للآية بوافر المعاني شأن بلاغة القرآن وإيجازه.

وتفريع جملة (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) اعتراض وقع بالفاء بين جملة (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) وبين متعلقة وهو (لِتَبْتَغُوا).

وإضافة آية إلى الليل وإلى النهار يجوز أن تكون بيانية ، أي الآية التي هي الليل ، والآية التي هي النهار. ويجوز أن تكون آية الليل الآية الملازمة له وهي القمر ، وآية النهار الشمس ، فتكون إعادة لفظ (آية) فيهما تنبيها على أن المراد بالآية معنى آخر وتكون الإضافة حقيقيّة ، ويصير دليلا آخر على بديع صنع الله تعالى وتذكيرا بنعمة تكوين هذين الخلقين العظيمين. ويكون معنى المحو أن القمر مطموس لا نور في جرمه ولكنه يكتسب الإنارة بانعكاس شعاع الشمس على كرته ، ومعنى كون آية النهار مبصرة أن الشمس جعل ضوؤها سبب إبصار الناس الأشياء ، ف (مُبْصِرَةً) اسم فاعل (أبصر) المتعدي ، أي جعل غيره باصرا. وهذا أدق معنى وأعمق في إعجاز القرآن بلاغة وعلما فإن هذه حقيقة من علم الهيئة ، وما أعيد لفظ (آية) إلا لأجلها.

والمحو : الطمس. وأطلق على انعدام النور ، لأن النور يظهر الأشياء والظلمة لا تظهر فيها الأشياء ، فشبه اختفاء الأشياء بالمحو كما دل عليه قوله في مقابله : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) ، أي جعلنا الظلمة آية وجعلنا سبب الإبصار آية. وأطلق وصف (مُبْصِرَةً) على النهار على سبيل المجاز العقلي إسنادا للسبب.

وقوله : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) علة لخصوص آية النهار من قوله : (آيَتَيْنِ

٣٦

وجاء التعليل لحكمة آية النهار خاصة دون ما يقابلها من حكمة الليل لأن المنة بها أوضح ، ولأن من التنبه إليها يحصل التنبه إلى ضدها وهو حكمة السكون في الليل ، كما قال : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) كما تقدم في سورة يونس [٦٧].

ثم ذكرت حكمة أخرى حاصلة من كلتا الآيتين. وهي حكمة حساب السنين ، وهي في آية الليل أظهر لأن جمهور البشر يضبط الشهور والسنين بالليالي ، أي حساب القمر.

والحساب يشمل حساب الأيام والشهور والفصول فعطفه على (عَدَدَ السِّنِينَ) من عطف العام على الخاص للتعميم بعد ذكر الخاص اهتماما به.

وجملة (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) تذييل لقوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) باعتبار ما سيق له من الإشارة إلى أن للشر والخير والموعود بهما أجلا ينتهيان إليه. والمعنى : أن ذلك الأجل محدود في علم الله تعالى لا يعدوه ، فلا يقرّبه استعجال ولا يؤخره استبطاء لأن الله قد جعل لكل شيء قدرا لا إبهام فيه ولا شك عنده.

أن للخير وللشر مدى (١)

 ...................

فلا تحسبوا ذلك وعدا سدى.

والتفصيل : التبيين والتمييز وهو مشتق من الفصل بمعنى القطع لأن التبيين يقتضي عدم التباس الشيء بغيره. وقد تقدم في قوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) صدر [هود : ١].

والتفصيل في الأشياء يكون في خلقها ، ونظامها ، وعلم الله بها ، وإعلامه بها. فالتفصيل الذي في علم الله وفي خلقه ونواميس العوالم عام لكل شيء وهو مقتضى العموم هنا. وأما ما فصله الله للناس من الأحكام والأخبار فذلك بعض الأشياء ، ومنه قوله تعالى. (يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) [الرعد : ٢] وقوله : (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأنعام : ٩٧]. وذلك بالتبليغ على السنة الرسل وبما خلق في الناس من إدراك العقول ، ومن جملة ما فصله للناس الإرشاد إلى التوحيد وصالح الأعمال والإنذار على العصيان. وفي هذا تعريض بالتهديد.

__________________

(١) صدر بيت وتمامه : «وكلا ذلك وجه وقبل». وهو لعبد الله بن الزبعرى.

٣٧

وانتصب (كُلَّ شَيْءٍ) بفعل مضمر يفسره (فَصَّلْناهُ) لاشتغال المذكور بضمير مفعول المحذوف.

[١٣ ، ١٤](وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤))

لما كان سياق الكلام جاريا في طريق الترغيب في العمل الصالح والتحذير من الكفر والسيئات ابتداء من قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) إلى قوله تعالى : (عَذاباً أَلِيماً) [الإسراء : ٩ ـ ١٠] وما عقبه مما يتعلق بالبشارة والنذارة وما أدمج في خلال ذلك من التذكير ثم بما دل على أن علم الله محيط بكل شيء تفصيلا ، وكان أهم الأشياء في هذا المقام إحاطة علمه بالأعمال كلها ، فأعقب ذكر ما فصله الله من الأشياء بالتنبيه على تفصيل أعمال الناس تفصيلا لا يقبل الشك ولا الإخفاء وهو التفصيل المشابه للتقييد بالكتابة ، فعطف قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ) إلخ على قوله : (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) [الإسراء : ١٢] عطف خاص على عام للاهتمام بهذا الخاص. والمعنى : وكل إنسان قدرنا له عمله في علمنا فهو عامل به لا محالة وهذا من أحوال الدنيا.

والطائر : أطلق على السهم ، أو القرطاس الذي يعين فيه صاحب الحظّ في عطاء أو قرعة لقسمة أو أعشار جزور الميسر ، يقال : اقتسموا الأرض فطار لفلان كذا ، ومنه قول أم العلاء الأنصارية في حديث الهجرة : «اقتسم الأنصار المهاجرين فطار لنا عثمان بن مظعون ...» وذكرت قصة وفاته.

وأصل إطلاق الطائر على هذا : إما لأنهم كانوا يرمون السهام المرقومة بأسماء المتقاسمين على صبر الشيء المقسوم المعدة للتوزيع. فكل من وقع السهم المرقوم باسمه على شيء أخذه. وكانوا يطلقون على رمي السهم فعل الطيران لأنهم يجعلون للسهم ريشا في قذذه ليخف به اختراقه الهواء عند رميه من القوس ، فالطائر هنا أطلق على الحظ من العمل مثل ما يطلق اسم السهم على حظ الإنسان من شيء ما.

وإما من زجر الطير لمعرفة بخت أو شؤم الزاجر من حالة الطير التي تعترضه في طريقه ، والأكثر أن يفعلوا ذلك في أسفارهم ، وشاع ذلك في الكلام فأطلق الطائر على حظ الإنسان من خير أو شر.

والإلزام : جعله لازما له ، أي غير مفارق ، يقال : لزمه إذا لم يفارقه.

٣٨

وقوله : (فِي عُنُقِهِ) يجوز أن يكون كناية عن الملازمة والقرب ، أي عمله لازم له لزوم القلادة. ومنه قول العرب تقلدها طوق الحمامة ، فلذلك خصت بالعنق لأن القلادة توضع في عنق المرأة. ومنه قول الأعشى :

والشعر قلدته سلامة ذا فا

ئش والشيء حيثما جعلا (١)

ويحتمل أن يكون تمثيلا لحالة لعلها كانت معروفة عند العرب وهي وضع علامات تعلق في الرقاب للذين يعيّنون لعمل ما أو ليؤخذ منهم شيء ، وقد كان في الإسلام يجعل ذلك لأهل الذمة ، كما قال بشار :

كتب الحبّ لها في عنقي

موضع الخاتم من أهله الذمم

ويجوز أن يكون (فِي عُنُقِهِ) تمثيلا بالبعير الذي يوسم في عنقه بسمة كيلا يختلط بغيره ، أو الذي يوضع في عنقه جلجل لكيلا يضل عن صاحبه.

والمعنى على الجميع أن كل إنسان يعامل بعمله من خير أو شر لا ينقص له منه شيء. وهذا غير كتابة الأعمال التي ستذكر عقب هذا بقوله : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) الآية.

وعطف جملة (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً) إخبار عن كون تلك الأعمال المعبر عنها بالطائر تظهر يوم القيامة مفصلة معينة لا تغادر منها صغيرة ولا كبيرة إلا أحصيت للجزاء عليها.

وقرأ الجمهور (وَنُخْرِجُ) بنون العظمة وبكسر الراء ، وقرأه يعقوب بياء الغيبة وكسر الراء ، والضمير عائد إلى الله المعلوم من المقام ، وهو التفات. وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة في أوله مبنيا للنائب على أن (لَهُ) نائب فاعل و (كِتاباً) منصوبا على المفعولية وذلك جائز.

والكتاب : ما فيه ذكر الأعمال وإحصاؤها. والنشر : ضد الطي.

ومعنى (يَلْقاهُ) يجده. استعير فعل يلقى لمعنى يجد تشبيها لوجدان النسبة بلقاء الشخص. والنشر كناية عن سرعة اطلاعه على جميع ما عمله بحيث إن الكتاب يحضر من

__________________

(١) كذا في تفسير ابن عطية ، والذي في ديوان الأعشى :

فلدتك الشعر يا سلامة ذا

التفضال والشيء حيثما جعلا

٣٩

قبل وصول صاحبه مفتوحا للمطالعة.

وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر (يَلْقاهُ) ـ بضم الياء وتشديد ، القاف ـ مبنيا للمجهول على أنه مضاعف لقي تضعيفا للتعدية ، أي يجعله لاقيا كقوله : (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) [الإنسان : ١١]. وأسند إلى المفعول بمعنى يجعله لاقيا. كقوله : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) [فصّلت : ٣٥] وقوله : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً)[الفرقان : ٧٥].

ونشر الكتاب إظهاره ليقرأ ، قال تعالى : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ)[التكوير : ١٠].

وجملة (اقْرَأْ كِتابَكَ) مقول قول محذوف دل عليه السياق.

والأمر في (اقْرَأْ) مستعمل في التسخير ومكنى به عن الإعذار لهم والاحتجاج عليهم كما دل عليه قوله : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) ، ولذلك كان معرفة تلك الأعمال من ذلك الكتاب حاصلة للقارئ.

والقراءة : مستعملة في معرفة ما أثبت للإنسان من الأعمال أو في فهم النقوش المخصوصة إن كانت هنالك نقوش وهي خوارق عادات.

والباء في قوله : (بِنَفْسِكَ) مزيدة للتأكيد داخلة على فاعل (كَفى) كما تقدم في قوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) في سورة النساء [٧٩].

وانتصب (حَسِيباً) على التمييز لنسبة الكفاية إلى النفس ، أي من جهة حسيب.

والحسيب : فعيل بمعنى فاعل مثل ضريب القداح بمعنى ضاربها ، وصريم بمعنى صارم ، أي الحاسب والضابط. وكثر ورود التمييز بعد (كفى بكذا).

وعدي ب (على) لتضمينه معنى الشهيد. وما صدق النفس هو الإنسان في قوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) فلذلك جاء (حَسِيباً) بصيغة التذكير.

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥))

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)

هذه الجملة بيان أو بدل اشتمال من جملة (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) مع توابعها. وفيه تبيين اختلاف الطائر بين نافع وضار ، فطائر الهداية نفع لصاحبه وطائر

٤٠