تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٢

على ذلك الخلوص كاملا لا تكلف فيه ولا تكاسل ، فلذلك ذيله بأنه المطلع على النفوس والنوايا ، فوعد الولد بالمغفرة له إن هو أدى ما أمره الله به لوالديه وافيا كاملا. وهو مما يشمله الصلاح في قوله : (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) أي ممتثلين لما أمرتم به. وغير أسلوب الضمير فعاد إلى ضمير جمع المخاطبين لأن هذا يشترك فيه الناس كلهم فضمير الجمع أنسب به.

ولما شمل الصلاح الصلاح الكامل والصلاح المشوب بالتقصير ذيله بوصف الأوابين المفيد بعمومه معنى الرجوع إلى الله ، أي الرجوع إلى أمره وما يرضيه ، ففهم من الكلام معنى احتباك بطريق المقابلة. والتقدير إن تكونوا صالحين أوابين إلى الله فإنه كان للصالحين محسنا وللأوابين غفورا. وهذا يعم المخاطبين وغيرهم ، وبهذا العموم كان تذييلا.

وهذا الأوب يكون مطردا ، ويكون معرضا للتقصير والتفريط ، فيقتضي طلب الإقلاع عما يخرمه بالرجوع إلى الحالة المرضية ، وكل ذلك أوب وصاحبه آئب ، فصيغ له مثال المبالغة (أواب) لصلوحية المبالغة لقوة كيفية الوصف وقوة كميته. فالملازم للامتثال في سائر الأحوال المراقب لنفسه أواب لشدة محافظته على الأوبة إلى الله ، والمغلوب بالتفريط يئوب كلما راجع نفسه وذكر ربه ، فهو أواب لكثرة رجوعه إلى أمر ربه ، وكل من الصالحين.

وفي قوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) ما يشمل جميع أحوال النفوس وخاصة حالة التفريط وبوادر المخالفة. وهذا من رحمة الله تعالى بخلقه.

وقد جمعت هذه الآية مع إيجازها تيسيرا بعد تعسير مشوبا بتضييق وتحذير ليكون المسلم على نفسه رقيبا.

[٢٦ ، ٢٧] (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧))

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ).

القرابة كلها متشعبة عن الأبوة فلا جرم انتقل من الكلام على حقوق الأبوين إلى الكلام على حقوق القرابة.

٦١

وللقرابة حقّان : حق الصلة ، وحق المواساة. وقد جمعهما جنس الحق في قوله ؛ (حَقَّهُ). والحوالة فيه على ما هو معروف وعلى أدلة أخرى.

والخطاب لغير معين مثل قوله : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ) [الإسراء : ٢٣].

والعدول عن الخطاب بالجمع في قوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) [الإسراء : ٢٥] الآية إلى الخطاب بالإفراد بقوله : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى) تفنن لتجنب كراهة إعادة الصيغة الواحدة عدة مرات ، والمخاطب غير معين فهو في معنى الجمع. والجملة معطوفة على جملة (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] لأنها من جملة ما قضى الله به.

والإيتاء : الإعطاء. وهو حقيقة في إعطاء الأشياء ، ومجاز شائع في التمكين من الأمور المعنوية كحسن المعاملة والنصرة. ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها» الحديث.

وإطلاق الإيتاء هنا صالح للمعنيين كما هي طريقة القرآن في توفير المعاني وإيجاز الألفاظ.

وقد بينت أدلّة شرعية حقوق ذي القربى ومراتبها : من واجبة مثل بعض النفقة على بعض القرابة مبينة شروطها عند الفقهاء ، ومن غير واجبة مثل الإحسان.

وليس لهاته تعلق بحقوق قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن حقوقهم في المال تقررت بعد الهجرة لما فرضت الزكاة وشرعت المغانم والأفياء وقسمتها. ولذلك حمل جمهور العلماء هذه الآية على حقوق قرابة النسب بين الناس. وعن علي زين العابدين أنها تشمل قرابة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والتعريف في (الْقُرْبى) تعريف الجنس ، أي القربى منك ، وهو الذي يعبر عنه بأن (ال) عوض عن المضاف إليه. وبمناسبة ذكر إيتاء ذي القربى عطف عليه من يماثله في استحقاق المواساة.

وحق المسكين هو الصدقة. قال تعالى : (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر: ١٨] وقوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد : ١٤ ـ ١٦]. وقد بينت آيات وأحاديث كثيرة حقوق المساكين وأعظمها آية الزكاة ومراتب الصدقات الواجبة وغيرها.

٦٢

(وَابْنَ السَّبِيلِ) هو المسافر يمر بحي من الأحياء ، فله على الحي الذي يمر به حق ضيافته.

وحقوق الأضياف جاءت في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة». وكانت ضيافة ابن السبيل من أصول الحنيفية مما سنّة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ قال الحريري : «وحرمة الشيخ الذي سن القرى».

وقد جعل لابن السبيل نصيب من الزكاة.

وقد جمعت هذه الآية ثلاث وصايا مما أوصى الله به بقوله : (وَقَضى رَبُّكَ) الآيات [الإسراء : ٢٣].

فأما إيتاء ذي القربى فالمقصد منه مقارب للمقصد من الإحسان للوالدين رعيا لاتحاد المنبت القريب وشدّا لآصرة العشيرة التي تتكون منها القبيلة. وفي ذلك صلاح عظيم لنظام القبيلة وأمنها وذبها عن حوزتها.

وأما إيتاء المسكين فلمقصد انتظام المجتمع بأن لا يكون من أفراده من هو في بؤس وشقاء ، على أن ذلك المسكين لا يعدو أن يكون من القبيلة في الغالب أقعده العجز عن العمل والفقر عن الكفاية.

وأما إيتاء ابن السبيل فلإكمال نظام المجتمع ، لأن المارّ به من غير بنيه بحاجة عظيمة إلى الإيواء ليلا ليقيه من عوادي الوحوش واللصوص ، وإلى الطعام والدفء أو التظلل وقاية من إضرار الجوع والقر أو الحر.

(وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) لما ذكر البذل المحمود وكان ضده معروفا عند العرب أعقبه بذكره للمناسبة.

ولأن في الانكفاف عن البذل غير المحمود الذي هو التبذير استبقاء للمال الذي يفي بالبذل المأمور به ، فالانكفاف عن هذا تيسير لذاك وعون عليه ، فهذا وإن كان غرضا مهما من التشريع المسوق في هذه الآيات قد وقع موقع الاستطراد في أثناء الوصايا المتعلقة بإيتاء المال ليظهر كونه وسيلة لإيتاء المال لمستحقيه ، وكونه مقصودا بالوصاية أيضا لذاته. ولذلك سيعود الكلام إلى إيتاء المال لمستحقيه بعد الفراغ من النهي عن التبذير بقوله : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) الآية ، [الإسراء : ٢٨] ثم يعود الكلام إلى ما يبين أحكام التبذير

٦٣

بقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) [الإسراء : ٢٩].

وليس قوله : (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) متعلقا بقوله : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) إلخ .. لأنّ التبذير لا يوصف به بذل المال في حقّه ولو كان أكثر من حاجة المعطى (بالفتح).

فجملة (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) معطوفة على جملة (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] لأنها من جملة ما قضى الله به ، وهي معترضة بين جملة (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) الآية وجملة (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) الآية [الإسراء : ٢] ، فتضمنت هذه الجملة وصية سادسة مما قضى الله به.

والتبذير : تفريق المال في غير وجهه ، وهو مرادف الإسراف ، فإنفاقه في الفساد تبذير ، ولو كان المقدار قليلا ، وإنفاقه في المباح إذا بلغ حد السرف تبذير ، وإنفاقه في وجوه البر والصلاح ليس بتبذير. وقد قال بعضهم لمن رآه ينفق في وجوه الخير : لا خير في السرف ، فأجابه المنفق : لا سرف في الخير ، فكان فيه من بديع الفصاحة محسن العكس.

ووجه النهي عن التبذير هو أن المال جعل عوضا لاقتناء ما يحتاج إليه المرء في حياته من ضروريات وحاجيات وتحسينات. وكان نظام القصد في إنفاقه ضامن كفايته في غالب الأحوال بحيث إذا أنفق في وجهه على ذلك الترتيب بين الضروري والحاجي والتحسيني أمن صاحبه من الخصاصة فيما هو إليه أشد احتياجا ، فتجاوز هذا الحد فيه يسمى تبذيرا بالنسبة إلى أصحاب الأموال ذات الكفاف ، وأما أهل الوفر والثروة فلأن ذلك الوفر آت من أبواب اتسعت لأحد فضاقت على آخر لا محالة لأن الأموال محدودة ، فذلك الوفر يجب أن يكون محفوظا لإقامة أود المعوزين وأهل الحاجة الذين يزداد عددهم بمقدار وفرة الأموال التي بأيدي أهل الوفر والجدة ، فهو مرصود لإقامة مصالح العائلة والقبيلة وبالتالي مصالح الأمة.

فأحسن ما يبذل فيه وفر المال هو اكتساب الزلفى عند الله ، قال تعالى : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة : ٤١] ، واكتساب المحمدة بين قومه. وقديما قال المثل العربي «نعم العون على المروءة الجدة». وقال ... «اللهم هب لي حمدا ، وهب لي مجدا ، فإنه لا حمد إلا بفعال ، ولا فعال إلا بمال».

والمقصد الشرعي أن تكون أموال الأمة عدة لها وقوة لابتناء أساس مجدها والحفاظ

٦٤

على مكانتها حتى تكون مرهوبة الجانب مرموقة بعين الاعتبار غير محتاجة إلى من قد يستغل حاجتها فيبتز منافعها ويدخلها تحت نير سلطانه.

ولهذا أضاف الله تعالى الأموال إلى ضمير المخاطبين في قوله : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) [النساء : ٥] ولم يقل أموالهم مع أنها أموال السفهاء ، لقوله بعده : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) [النساء : ٦] فأضافها إليهم حين صاروا رشداء.

وما منع السفهاء من التصرف في أموالهم إلا خشية التبذير. ولذلك لو تصرف السفيه في شيء من ماله تصرف السداد والصلاح لمضى.

وذكر المفعول المطلق (تَبْذِيراً) بعد (وَلا تُبَذِّرْ) لتأكيد النهي كأنه قيل : لا تبذر ، لا تبذر ، مع ما في المصدر من استحضار جنس المنهي عنه استحضارا لما تتصور عليه تلك الحقيقة بما فيها من المفاسد.

وجملة (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) تعليل للمبالغة في النهي عن التبذير.

والتعريف في (الْمُبَذِّرِينَ) تعريف الجنس ، أي الذين عرفوا بهذه الحقيقة كالتعريف في قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

والإخوان جمع أخ ، وهو هنا مستعار للملازم غير المفارق لأن ذلك شأن الأخ ، كقولهم : أخو العلم ، أي ملازمه والمتصف به ، وأخو السفر لمن يكثر الأسفار. وقول عدي بن زيد :

وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج

لة تجبي إليه والخابور

يريد صاحب قصر الحضر ، وهو ملك بلد الحضر المسمى الضيزن بن معاوية القضاعي الملقّب السيطرون.

والمعنى : أنهم من أتباع الشياطين وحلفائهم كما يتابع الأخ أخاه.

وقد زيد تأكيد ذلك بلفظ (كانُوا) المفيد أن تلك الأخوة صفة راسخة فيهم ، وكفي بحقيقة الشيطان كراهة في النفوس واستقباحا.

ومعنى ذلك : أن التبذير يدعو إليه الشيطان لأنه إما إنفاق في الفساد وإما إسراف يستنزف المال في السفاسف واللذات فيعطل الإنفاق في الخير وكل ذلك يرضي الشيطان ،

٦٥

فلا جرم أن كان المتصفون بالتبذير من جند الشيطان وإخوانه.

وهذا تحذير من التبذير ، فإن التبذير إذا فعله المرء اعتاده فأدمن عليه فصار له خلقا لا يفارقه شأن الأخلاق الذميمة أن يسهل تعلقها بالنفوس كما ورد في الحديث «إن المرء لا يزال يكذب حتى يكتب عند الله كذابا» ، فإذا بذر المرء لم يلبث أن يصير من المبذرين ، أي المعروفين بهذا الوصف ، والمبذرون إخوان الشياطين ، فليحذر المرء من عمل هو من شأن إخوان الشياطين ، وليحذر أن ينقلب من إخوان الشياطين. وبهذا يتبين أن في الكلام إيجاز حذف تقديره : ولا تبذر تبذيرا فتصير من المبذرين إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين. والذي يدل على المحذوف أن المرء يصدق عليه أنه من المبذرين عند ما يبذر تبذيرة أو تبذيرتين.

ثم أكد التحذير بجملة (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً). وهذا تحذير شديد من أن يفضي التبذير بصاحبه إلى الكفر تدريجا بسبب التخلق بالطبائع الشيطانية ، فيذهب يتدهور في مهاوي الضلالة حتى يبلغ به إلى الكفر ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١]. ويجوز حمل الكفر هنا على كفر النعمة فيكون أقرب درجات إلى حال التخلق بالتبذير ، لأن التبذير صرف المال في غير ما أمر الله به فهو كفر لنعمة الله بالمال. فالتخلق به يفضي إلى التخلق والاعتياد لكفران النعم.

وعلى الوجهين فالكلام جار على ما يعرف في المنطق بقياس المساواة ، إذ كان المبذر مؤاخيا للشيطان وكان الشيطان كفورا ، فكان المبذّر كفورا بالمآل أو بالدرجة القريبة.

وقد كان التبذير من خلق أهل الجاهلية ، ولذلك يتمدحون بصفة المتلاف والمهلك المال ، فكان عندهم الميسر من أسباب الإتلاف ، فحذر الله المؤمنين من التلبس بصفات أهل الكفر ، وهي من المذام ، وأدبهم بآداب الحكمة والكمال.

(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨))

عطف على قوله : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ) [الإسراء : ٢٦] لأنه من تمامه.

والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب. والمقصود بالخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه على وزان نظم قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] فإن المواجهة

٦٦

ب (رَبُّكَ) في القرآن جاءت غالبا لخطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويعدله ما روي أن النبي كان إذا سأله أحد مالا ولم يكن عنده ما يعطيه يعرض عنه حياء فنبهه الله إلى أدب أكمل من الذي تعهده من قبل ويحصل من ذلك تعليم لسائر الأمة.

وضمير (عَنْهُمُ) عائد إلى ذي القربى والمسكين وابن السبيل.

والإعراض : أصله ضد الإقبال مشتق من العرض ـ بضم العين ـ أي الجانب ، فأعرض بمعنى أعطى جانبه (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ)[الإسراء : ٨٣]، وهو هنا مجاز في عدم الإيتاء أو كناية عنه لأن الإمساك يلازمه الإعراض ، أي إن سألك أحدهم عطاء فلم تجبه إليه أو إن لم تفتقدهم بالعطاء المعروف فتباعدت عن لقائهم حياء منهم أن تلاقيهم بيد فارغة فقل لهم قولا ميسورا.

والميسور : مفعول من اليسر ، وهو السهولة ، وفعله مبني للمجهول. يقال : يسر الأمر ـ بضم الياء وكسر السين ـ كما يقال : سعد الرجل ونحس ، والمعنى : جعل يسيرا غير عسير ، وكذلك يقال : عسر. والقول الميسور : اللين الحسن المقبول عندهم ؛ شبه المقبول بالميسور في قبول النفس إياه لأن غير المقبول عسير. أمر الله بإرفاق عدم الإعطاء لعدم الموجدة بقول لين حسن بالاعتذار والوعد عند الموجدة ، لئلا يحمل الإعراض على قلة الاكتراث والشح.

وقد شرط الإعراض بشرطين : أن يكون إعراضا لابتغاء رزق من الله ، أي إعراضا لعدم الجدة لا اعتراضا لبخل عنهم ، وأن يكون معه قول لين في الاعتذار. وعلم من قوله : (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) أنه اعتذار صادق وليس تعللا كما قال بشار :

وللبخيل على أمواله علل

رزق العيون عليها أوجه سود

فقوله : (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) حال من ضمير (تُعْرِضَنَ) مصدر بالوصف ، أي مبتغيا رحمة من ربك. و (تَرْجُوها) صفة ل (رَحْمَةٍ). والرحمة هنا هي الرزق الذي يتأتى منه العطاء بقرينة السياق. وفيه إشارة إلى أن الرزق سبب للرحمة لأنه إذا أعطاه مستحقه أثيب عليه ، وهذا إدماج.

وفي ضمن هذا الشرط تأديب للمؤمن إن كان فاقدا ما يبلغ به إلى فعل الخير أن يرجو من الله تيسير أسبابه ، وأن لا يحمله الشح على السرور بفقد الرزق للراحة من البذل بحيث لا يعدم البذل الآن إلا وهو راج أن يسهل له في المستقبل حرصا على فضيلته ،

٦٧

وأنه لا ينبغي أن يعرض عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل إلا في حال رجاء حصول نعمة فإن حصلت أعطاهم.

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩))

عود إلى بيان التبذير والشح ، فالجملة عطف على جملة (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) [الإسراء: ٢٦]. ولو لا تخلل الفصل بينهما بقوله ؛ (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) [الإسراء : ٢٨] الآية لكانت جملة (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) غير مقترنة بواو العطف لأن شأن البيان أن لا يعطف على المبين ، وأيضا على أن في عطفها اهتماما بها يجعلها مستقلة بالقصد لأنها مشتملة على زيادة على البيان بما فيها من النهي عن البخل المقابل للتبذير.

وقد أتت هذه الآية تعليما بمعرفة حقيقة من الحقائق الدقيقة فكانت من الحكمة. وجاء نظمها على سبيل التمثيل فصيغت الحكمة في قالب البلاغة.

فأما الحكمة فإذ بينت أن المحمود في العطاء هو الوسط الواقع بين طرفي الإفراط والتفريط ، وهذه الأوساط هي حدود المحامد بين المذام من كل حقيقة لها طرفان. وقد تقرر في حكمة الأخلاق أن لكل خلق طرفين ووسطا ، فالطرفان إفراط وتفريط وكلاهما مقر مفاسد للمصدر وللمورد ، وأن الوسط هو العدل ، فالإنفاق والبذل حقيقة أحد طرفيها الشح وهو مفسدة للمحاويج ولصاحب المال إذ يجر إليه كراهية الناس إياه وكراهيته إياهم. والطرف الآخر التبذير والإسراف ، وفيه مفاسد لذي المال وعشيرته لأنه يصرف ماله عن مستحقه إلى مصارف غير جديرة بالصرف ، والوسط هو وضع المال في مواضعه وهو الحد الذي عبر عنه في الآية بنفي حالين بين (لا ولا).

وأما البلاغة فبتمثيل الشح والإمساك بغل اليد إلى العنق ، وهو تمثيل مبني على تخيل اليد مصدرا للبذل والعطاء ، وتخيّل بسطها كذلك وغلها شحا ، وهو تخيل معروف لدى البلغاء والشعراء ، قال الله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) ثم قال : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] وقال الأعشى :

يداك يدا صدق فكف مفيدة

وكف إذا ما ضن بالمال تنفق

ومن ثم قالوا : له يد على فلان ، أي نعمة وفضل ، فجاء التمثيل في الآية مبنيا على

٦٨

التصرف في ذلك المعنى بتمثيل الذي يشح بالمال بالذي غلّت يده إلى عنقه ، أي شدت بالغلّ ، وهو القيد من السير يشد به يد الأسير ، فإذا غلت اليد إلى العنق تعذر التصرف بها فتعطل الانتفاع بها فصار مصدر البذل معطلا فيه ، وبضده مثّل المسرف بباسط يده غاية البسط ونهايته وهو المفاد بقوله : (كُلَّ الْبَسْطِ) أي البسط كله الذي لا بسط بعده ، وهو معنى النهاية. وقد تقدم من هذا المعنى عند قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) إلى قوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) في سورة العقود [المائدة : ٦٤]. هذا قالب البلاغة المصوغة في تلك الحكمة.

وقوله : (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) جواب لكلا النهيين على التوزيع بطريقة النشر المرتب ، فالملوم يرجع إلى النهي عن الشح ، والمحسور يرجع إلى النهي عن التبذير ، فإن الشحيح ملوم مذموم. وقد قيل :

إن البخيل ملوم حيثما كانا وقال زهير :

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله

على قومه يستغن عنه ويذمم

والمحسور : المنهوك القوى. يقال : بعير حسير ، إذا أتعبه السير فلم تبق له قوة ، ومنه قوله تعالى : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٤] ، والمعنى : غير قادر على إقامة شئونك. والخطاب لغير معين. وقد مضى الكلام على «تقعد» آنفا.

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠))

موقع هذه الجملة موقع اعتراض بالتعليل لما تقدم من الأمر بإيتاء ذي القربى والمساكين ، والنهي عن التبذير ، وعن الإمساك المفيد الأمر بالقصد ، بأن هذا واجب الناس في أموالهم وواجبهم نحو قرابتهم وضعفاء عشائرهم ، فعليهم أن يمتثلوا ما أمرهم الله من ذلك. وليس الشح بمبق مال الشحيح لنفسه ، ولا التبذير بمغن من يبذر فيهم المال فإن الله قدر لكل نفس رزقها.

فيجوز أن يكون الكلام جاريا على سنن الخطاب السابق لغير معين. ويجوز أن يكون قد حول الكلام إلى خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجّه بالخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه الأولى بعلم هذه الحقائق العالية ، وإن كانت أمته مقصودة بالخطاب تبعا له ، فتكون هذه الوصايا مخللة بالإقبال على خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦٩

(وَيَقْدِرُ) ضد (يَبْسُطُ). وقد تقدم عند قوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) في سورة الرعد [٢٦].

وجملة (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) تعليل لجملة (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) إلى آخرها ، أي هو يفعل ذلك لأنه عليم بأحوال عباده وما يليق بكل منهم بحسب ما جبلت عليه نفوسهم ، وما يحف بهم من أحوال النظم العالمية التي اقتضتها الحكمة الإلهية المودعة في هذا العالم.

والخبير : العالم بالأخبار. والبصير : العالم بالمبصرات. وهذان الاسمان الجليلان يرجعان إلى معنى بعض تعلق العلم الإلهي.

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١))

عطف جملة حكم على جملة حكم للنهي عن فعل ينشأ عن اليأس من رزق الله. وهذه الوصية السابعة من الأحكام المذكورة في آية (وَقَضى رَبُّكَ) الآية [الإسراء : ٢٣]. وغيّر أسلوب الإضمار من الإفراد إلى الجمع لأن المنهي عنه هنا من أحوال الجاهلية زجرا لهم عن هذه الخطيئة الذميمة ، وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة الأنعام ؛ ولكن بين الآيتين فرقا في النظم من وجهين :

الأول : أنه قيل هنا (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) وقيل في آية الأنعام (مِنْ إِمْلاقٍ) [الأنعام : ١٥١]. ويقتضي ذلك أن الذين كانوا يئدون بناتهم يئدونهن لغرضين :

إما لأنهم فقراء لا يستطيعون إنفاق البنت ولا يرجون منها إن كبرت إعانة على الكسب فهم يئدونها لذلك ، فذلك مورد قوله في الأنعام (مِنْ إِمْلاقٍ) ، فإن (من) التعليلية تقتضي أن الإملاق سبب قتلهن فيقتضي أن الإملاق موجود حين القتل.

وإما أن يكون الحامل على ذلك ليس فقر الأب ولكن خشية عروض الفقر له أو عروض الفقر للبنت بموت أبيها ، إذ كانوا في جاهليتهم لا يورثون البنات ، فيكون الدافع للوأد هو توقع الإملاق ، كما قال إسحاق بن خلف ، شاعر إسلامي قديم :

إذا تذكرت بنتي حين تندبني

فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم

أحاذر الفقر يوما أن يلم بها

فيهتك الستر عن لحم على وضم

٧٠

تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا

والموت أكرم نزّال على الحرم

أخشى فظاظة عمّ أو جفاء أخ

وكنت أخشى عليها من أذى الكلم

فلتحذير المسلمين من آثار هذه الخواطر ذكروا بتحريم الوأد وما في معناه. وقد كان ذلك في جملة ما تؤخذ عليه بيعة النساء المؤمنات كما في آية سورة الممتحنة. ومن فقرات أهل الجاهلية : دفن البنات. من المكرمات. وكلتا الحالتين من أسباب قتل الأولاد تستلزم الأخرى وإنما التوجيه للمنظور إليه بادئ ذي بدء.

الوجه الثاني : فمن أجل هذا الاعتبار في الفرق للوجه الأول قيل هنالك (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) بتقديم ضمير الآباء على ضمير الأولاد ، لأن الإملاق الدافع للوأد المحكي به في آية الأنعام هو إملاق الآباء فقدم الإخبار بأن الله هو رازقهم وكمل بأنه رازق بناتهم.

وأما الإملاق المحكي في هذه الآية فهو الإملاق المخشي وقوعه. والأكثر أنه توقع إملاق البنات كما رأيت في الأبيات ، فلذلك قدم الإعلام بأن الله رازق الأبناء وكمل بأنه رازق آبائهم. وهذا من نكت القرآن.

والإملاق : الافتقار. وتقدم الكلام على الوأد عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) في سورة الأنعام [١٣٧].

وجملة (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ) معترضة بين المتعاطفات. وجملة (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) تأكيد للنهي وتحذير من الوقوع في المنهي ، وفعل (كانَ) تأكيد للجملة.

والمراد بالأولاد خصوص البنات لأنهن اللاتي كانوا يقتلونهن وأدا ، ولكن عبر عنهن بلفظ الأولاد في هذه الآية ونظائرها لأن البنت يقال لها : ولد. وجرى الضمير على اعتبار اللفظ في قوله (نَرْزُقُهُمْ).

و (الخطء) ـ بكسر الخاء وسكون الطاء ـ مصدر خطئ بوزن فرح ، إذا أصاب إثما ، ولا يكون الإثم إلا عن عمد ، قال تعالى : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) [القصص : ٨] وقال : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) [العلق : ١٦].

وأما الخطأ ـ بفتح الخاء والطاء ـ فهو ضد العمد. وفعله : أخطأ. واسم الفاعل مخطئ ، قال تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب : ٥]. وهذه التفرقة هي سر العربية وعليها المحققون من أئمتها.

٧١

وقرأ الجمهور (خِطْأً) ـ بكسر الخاء وسكون الطاء بعدها همزة ـ ، أي إثما. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ، وأبو جعفر (خِطْأً) ـ بفتح الخاء وفتح الطاء ـ. والخطأ ضد الصواب ، أي أن قتلهم محض خطأ ليس فيه ما يعذر عليه فاعله.

وقرأه ابن كثير خطاء ـ بكسر الخاء وفتح الطاء وألف بعد الطاء بعده همزة ممدودا ـ. وهو فعال من خطئ إذا أجرم ، وهو لغة في خطء ، وكأن الفعال فيها للمبالغة. وأكد ب (إن) لتحقيقه ردا على أهل الجاهلية إذ كانوا يزعمون أن وأد البنات من السداد ، ويقولون : دفن البنات من المكرمات. وأكد أيضا بفعل (كان) لإشعار (كان) بأن كونه إثما أمرا استقر.

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢))

عطف هذا النهي على النهي عن وأد البنات إيماء إلى أنهم كانوا يعدون من أعذارهم في وأد البنات الخشية من العار الذي قد يلحق من جراء إهمال البنات الناشئ عن الفقر الرامي بهن في مهاوي العهر ، ولأن في الزنى إضاعة نسب النسل بحيث لا يعرف للنسل مرجع يأوي إليه وهو يشبه الوأد في الإضاعة.

وجرى الإضمار فيه بصيغة الجمع كما جرى في قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] لمثل ما وجه به تغيير الأسلوب هنالك فإن المنهي عنه هنا كان من غالب أحوال أهل الجاهلية.

وهذه الوصية الثامنة من الوصايا الإلهية بقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣].

والقرب المنهي عنه هو أقل الملابسة ، وهو كناية عن شدة النهي عن ملابسة الزنا ، وقريب من هذا المعنى قولهم : ما كاد يفعل.

والزنى في اصطلاح الإسلام مجامعة الرجل امرأة غير زوجة له ولا مملوكة غير ذات الزوج. وفي الجاهلية الزنى : مجامعة الرجل امرأة حرة غير زوج له وأما مجامعة الأمة غير المملوكة للرجل فهو البغاء.

وجملة (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) تعليل للنهي عن ملابسته تعليلا مبالغا فيه من جهات بوصفه بالفاحشة الدال على فعلة بالغة الحد الأقصى في القبح ، وبتأكيد ذلك بحرف

٧٢

التوكيد ، وبإقحام فعل (كان) المؤذن بأن خبره وصف راسخ مستقر ، كما تقدم في قوله : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) [الإسراء : ٢٧].

والمراد : أن ذلك وصف ثابت له في نفسه سواء علمه الناس من قبل أم لم يعلموه إلا بعد نزول الآية.

وأتبع ذلك بفعل الذم وهو (ساءَ سَبِيلاً) ، والسبيل : الطريق. وهو مستعار هنا للفعل الذي يلازمه المرء ويكون له دأبا استعارة مبنية على استعارة السير للعمل كقوله تعالى : (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) [طه : ٢١] ، فبني على استعارة السير للعمل استعارة السبيل له بعلاقة الملازمة. وقد تقدم نظيرها في قوله : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) في سورة النساء [٢٢].

وعناية الإسلام بتحريم الزنى لأن فيه إضاعة النسب وتعريض النسل للإهمال إن كان الزنى بغير متزوجة وهو خلل عظيم في المجتمع ، ولأن فيه إفساد النساء على أزواجهن والأبكار على أوليائهن ، ولأن فيه تعريض المرأة إلى الإهمال بإعراض الناس عن تزوجها ، وطلاق زوجها إياها ، ولما ينشأ عن الغيرة من الهرج والتقاتل ، قال امرؤ القيس :

عليّ حراصا لو يسرون مقتلي

فالزنى مئنة لإضاعة الأنساب ومظنّة للتقاتل والتهارج فكان جديرا بتغليظ التحريم قصدا وتوسلا. ومن تأمل ونظر جزم بما يشتمل عليه الزنى من المفاسد ولو كان المتأمل ممن يفعله في الجاهلية فقبحه ثابت لذاته ، ولكن العقلاء متفاوتون في إدراكه وفي مقدار إدراكه ، فلما أيقظهم التحريم لم يبق للناس عذر. وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية مدنية كما تقدم في صدر السورة ولا وجه لذلك الزعم. وقد أشرنا إلى إبطال ذلك في أول السورة.

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣))

معلومة حالة العرب في الجاهلية من التسرع إلى قتل النفوس فكان حفظ النفوس من أعظم القواعد الكلية للشريعة الإسلامية. ولذلك كان النهي عن قتل النفس من أهم الوصايا التي أوصى بها الإسلام أتباعه في هذه الآيات الجامعة. وهذه هي الوصية التاسعة.

٧٣

والنفس هنا الذات كقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] وقوله : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢] وقوله : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٣٤]. وتطلق النفس على الروح الإنساني وهي النفس الناطقة.

والقتل : الإماتة بفعل فاعل ، أي إزالة الحياة عن الذات.

وقوله : (حَرَّمَ اللهُ) حذف العائد من الصلة إلى الموصول لأنه ضمير منصوب بفعل الصلة وحذفه كثير. والتقدير : حرمها الله. وعلق التحريم بعين النفس ، والمقصود تحريم قتلها.

ووصفت النفس بالموصول والصلة بمقتضى كون تحريم قتلها مشهورا من قبل هذا النهي ، إما لأنه تقرر من قبل بآيات أخرى نزلت قبل هذه الآية وقبل آية الأنعام حكما مفرقا وجمعت الأحكام في هذه الآية وآية الأنعام ، وإما لتنزيل الصلة منزلة المعلوم لأنها مما لا ينبغي جهله فيكون تعريضا بأهل الجاهلية الذين كانوا يستخفون بقتل النفس بأنهم جهلوا ما كان عليهم أن يعلموه ، تنويها بهذا الحكم. وذلك أن النظر في خلق هذا العالم يهدي العقول إلى أن الله أوجد الإنسان ليعمر به الأرض ، كما قال تعالى : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) [هود : ٦١] ، فالإقدام على إتلاف نفس هدم لما أراد الله بناءه ، على أنه قد تواتر وشاع بين الأمم في سائر العصور والشرائع من عهد آدم صون النفوس من الاعتداء عليها بالإعدام ، فبذلك وصفت بأنها التي حرم الله ، أي عرفت بمضمون هذه الصلة.

واستثني من عموم النهي القتل المصاحب للحق ، أي الذي يشهد الحق أن نفسا معينة استحقت الإعدام من المجتمع ، وهذا مجمل يفسره في وقت النزول ما هو معروف من أحكام القود على وجه الإجمال.

ولما كانت هذه الآيات سيقت مساق التشريع للأمة وإشعارا بأن سيكون في الأمة قضاء وحكم فيما يستقبل أبقي مجملا حتى تفسره الأحكام المستأنفة من بعد ، مثل آية (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) إلى قوله : (وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) [النساء: ٩٢ ـ ٩٣].

فالباء في قوله : (بِالْحَقِ) للمصاحبة ، وهي متعلّقة بمعنى الاستثناء ، أي إلا قتلا

٧٤

ملابسا للحق.

والحق بمعنى العدل ، أو بمعنى الاستحقاق ، أي حق القتل ، كما في الحديث : فإذا قالوها (أي لا إله إلا الله) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها».

ولما كان الخطاب بالنهي لجميع الأمة كما دل عليه الفعل في سياق النهي كان تعيين الحق المبيح لقتل النفس موكولا إلى من لهم تعيين الحقوق.

ولما كانت هذه الآية نازلة قبل الهجرة فتعيين الحق يجري على ما هو متعارف بين القبائل ، وهو ما سيذكر في قوله تعالى عقب هذا : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) الآية.

وحين كان المسلمون وقت نزول هذه الآية مختلطين في مكة بالمشركين ولم يكن المشركون أهلا للثقة بهم في الطاعة للشرائع العادلة ، وكان قد يعرض أن يعتدي أحد المشركين على أحد المسلمين بالقتل ظلما أمر الله المسلمين بأن المظلوم لا يظلم ، فقال : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) أي قد جعل لولي المقتول تصرفا في القاتل بالقود أو الدية.

والسلطان : مصدر من السلطة كالغفران ، والمراد به ما استقر في عوائدهم من حكم القود.

وكونه حقا لولي القتيل يأخذ به أو يعفو أو يأخذ الدية ألهمهم الله إليه لئلا ينزوا أولياء القتيل على القاتل أو ذويه ليقتلوا منهم من لم تجن يداه قتلا. وهكذا تستمر الترات بين أخذ ورد ، فقد كان ذلك من عوائدهم أيضا.

فالمراد بالجعل ما أرشد الله إليه أهل الجاهلية من عادة القود.

والقود من جملة المستثنى بقوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) ، لأن القود من القاتل الظالم هو قتل للنفس بالحق. وهذه حالة خصها الله بالذكر لكثرة وقوع العدوان في بقية أيام الجاهلية ، فأمر الله المسلمين بقبول القود. وهذا مبدأ صلاح عظيم في المجتمع الإسلامي ، وهو حمل أهله على اتباع الحق والعدل حتى لا يكون الفساد من طرفين فيتفاقم أمره ، وتلك عادة جاهلية. قال الشميذر الحارثي :

فلسنا كمن كنتم تصيبون سلّة

فنقبل ضيما أو نحكم قاضيا

ولكن حكم السيف فينا مسلط

فنرضى إذا ما أصبح السيف راضيا

٧٥

فنهى الله المسلمين عن أن يكونوا مثالا سيئا يقابلوا الظلم بالظلم كعادة الجاهلية بل عليهم أن يتبعوا سبيل الإنصاف فيقبلوا القود ، ولذلك قال : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ).

والسرف : الزيادة على ما يقتضيه الحق ، وليس خاصا بالمال كما يفهم من كلام أهل اللغة. فالسرف في القتل هو أن يقتل غير القاتل ، أما مع القاتل وهو واضح كما قال المهلهل في الأخذ بثأر أخيه كليب :

كل قتيل في كليب غرّة

حتى يعمّ القتل آل مرّة

وأما قتل غير القاتل عند العجز عن قتل القاتل فقد كانوا يقتنعون عن العجز عن القاتل بقتل رجل من قبيلة القاتل. وكانوا يتكايلون الدماء ، أي يجعلون كليها متفاوتا بحسب شرف القتيل ، كما قالت كبشة بنت معديكرب :

فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له

بواء ولكن لا تكايل بالدم

البواء : الكفء في الدم. تريد فيقتل القاتل وهو المسمّى جبرا ، وإن لم يكن كفؤا لعبد الله أخيها ، ولكن الإسلام أبطل التكايل بالدم.

وضمير (يُسْرِفْ) بياء الغيبة ، في قراءة الجمهور ، يعود إلى الولي مظنة السرف في القتل بحسب ما تعودوه. وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بتاء الخطاب ـ أي خطاب للولي.

وجملة (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) استئناف ، أي أن ولي المقتول كان منصورا بحكم القود فلما ذا يتجاوز الحد من النصر إلى الاعتداء والظلم بالسرف في القتل. حذرهم الله من السرف في القتل وذكرهم بأنه جعل للولي سلطانا على القاتل.

وقد أكد ذلك بحرف التوكيد وبإقحام (كان) الدال على أن الخبر مستقر الثبوت. وفيه إيماء إلى أن من تجاوز حد العدل إلى السرف في القتل لا ينصر.

ومن نكت القرآن وبلاغته وإعجازه الخفي الإتيان بلفظ (سلطان) هنا الظاهر في معنى المصدر ، أي السلطة والحق والصالح لإرادة إقامة السلطان ، وهو الإمام الذي يأخذ الحقوق من المعتدين إلى المعتدى عليهم حين تنتظم جامعة المسلمين بعد الهجرة. ففيه إيماء إلى أن الله سيجعل للمسلمين دولة دائمة ، ولم يكن للمسلمين يوم نزول الآية سلطان.

٧٦

وهذا الحكم منوط بالقتل الحادث بين الأشخاص وهو قتل العدوان ، فأما القتل الذي هو لحماية البيضة والذب عن الحوزة ، وهو الجهاد ، فله أحكام أخرى. وبهذا تعلم التوجيه للإتيان بضمير جماعة المخاطبين على ما تقدم في قوله تعالى (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] وما عطف عليه من الضمائر.

واعلم أن جملة (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) معطوفة على جملة (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) عطف قصة على قصة اهتماما بهذا الحكم بحيث جعل مستقلا ، فعطف على حكم آخر ، وإلا فمقتضى الظاهر أن تكون مفصولة ، إما استئنافا لبيان حكم حالة تكثر ، وإما بدل بعض من جملة (إِلَّا بِالْحَقِ).

و (من) موصولة مبتدأ مراد بها العموم ، أي وكل الذي يقتل مظلوما. وأدخلت الفاء في جملة خبر المبتدأ لأن الموصول يعامل معاملة الشرط إذا قصد به العموم والربط بينه وبين خبره.

وقوله تعالى : (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) هو في المعنى مقدمة للخبر بتعجيل ما يطمئن نفس ولي المقتول. والمقصود من الخبر التفريع بقوله تعالى : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) ، فكان تقديم قوله تعالى : (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) تمهيدا لقبول النهي عن السرف في القتل ، لأنه إذا كان قد جعل له سلطان فقد صار الحكم بيده وكفاه ذلك شفاء لغليله.

ومن دلالة الإشارة أن قوله : (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) إشارة إلى إبطال تولي ولي المقتول قتل القاتل دون حكم من السلطان ، لأن ذلك مظنة للخطإ في تحقيق القاتل ، وذريعة لحدوث قتل آخر بالتدافع بين أولياء المقتول وأهل القاتل ، ويجر إلى الإسراف في القتل الذي ما حدث في زمان الجاهلية إلا بمثل هذه الذريعة ، فضمير (فَلا يُسْرِفْ) عائد إلى «وليه».

وجملة (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) تعليل للكف عن الإسراف في القتل ، والضمير عائد إلى «وليه».

و (في) من قوله : (فِي الْقَتْلِ) للظرفية المجازية ، لأن الإسراف يجول في كسب ومال ونحوه ، فكأنه مظروف في جملة ما جال فيه.

ولما رأى بعض المفسرين أن الحكم الذي تضمنته هذه الآية لا يناسب إلا أحوال المسلمين الخالصين استبعد أن تكون الآية نازلة بمكة فزعم أنها مدنية ، وقد بينا وجه

٧٧

مناسبتها وأبطلنا أن تكون مكية في صدر هذه السورة.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤))

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)

هذا من أهم الوصايا التي أوصى الله بها في هذه الآيات ، لأن العرب في الجاهلية كانوا يستحلون أموال اليتامى لضعفهم عن التفطن لمن يأكل أموالهم وقلة نصيرهم لإيصال حقوقهم ، فحذر الله المسلمين من ذلك لإزالة ما عسى أن يبقى في نفوسهم من أثر من تلك الجاهلية. وقد تقدم القول في نظير هذه الآية في سورة الأنعام. وهذه الوصية العاشرة.

والقول في الإتيان بضمير الجماعة المخاطبين كالقول في سابقيه لأن المنهي عنه من أحوال أهل الجاهلية.

(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) أمروا بالوفاء بالعهد. والتعريف في (الْعَهْدَ) للجنس المفيد للاستغراق يشمل العهد الذي عاهدوا عليه النبي ، وهو البيعة على الإيمان والنصر. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ)

في سورة النحل [٩١] وقوله : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) في سورة الأنعام [١٥٢].

وهذا التشريع من أصول حرمة الأمة في نظر الأمم والثقة بها للانزواء تحت سلطانها. وقد مضى القول فيه في سورة الأنعام. والجملة معطوفة على التي قبلها. وهي من عداد ما وقع بعد (أن) التفسيرية من قوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا) الآيات [الإسراء : ٢٣]. وهي الوصية الحادية عشرة.

وجملة (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) تعليل للأمر ، أي للإيجاب الذي اقتضاه ، وإعادة لفظ (الْعَهْدَ) في مقام إضماره للاهتمام به ، ولتكون هذه الجملة مستقلة فتسري مسرى المثل.

وحذف متعلق (مَسْؤُلاً) لظهوره ، أي مسئولا عنه ، أي يسألكم الله عنه يوم القيامة.

٧٨

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥))

هذان حكمان هما الثاني عشر والثالث عشر من الوصايا التي قضى الله بها. وتقدم القول في نظيره في سورة الأنعام.

وزيادة الظرف في هذه الآية وهو (إِذا كِلْتُمْ) دون ذكر نظيره في آية الأنعام لما في (إذا) من معنى الشرطية فتقتضي تجدد ما تضمنه الأمر في جميع أزمنة حصول مضمون شرط (إذا) الظرفية الشرطية للتنبيه على عدم التسامح في شيء من نقص الكيل عند كل مباشرة له. ذلك أن هذا خطاب للمسلمين بخلاف آية الأنعام فإن مضمونها تعريض بالمشركين في سوء شرائعهم وكانت هنا أجدر بالمبالغة في التشريع.

وفعل (كال) يدل على أن فاعله مباشر الكيل ، فهو الذي يدفع الشيء المكيل ، وهو بمنزلة البائع ، ويقال للذي يقبض الشيء المكيل : مكتال. وهو من أخوات باع وابتاع ، وشرى واشترى ، ورهن وارتهن ، قال تعالى : (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين : ٢ ـ ٣].

و «القسطاس» ـ بضم القاف ـ في قراءة الجمهور. وقرأه ـ بالكسر ـ حفص ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف. وها لغتان فيه ، وهو اسم للميزان أي آلة الوزن ، واسم للعدل ، قيل : هو معرب من الرومية مركب من كلمتين قسط ، أي عدل ، وطاس وهو كفة الميزان. وفي «صحيح البخاري» «وقال مجاهد : القسطاس : العدل بالرومية». ولعل كلمة قسط اختصار لقسطاس لأن غالب الكلمات الرومية تنتهي بحرف السين. وأصله في الرومية مضموم الحرف الأول وإنما غيّره العرب بالكسر على وجه الجواز لأنهم لا يتحرون في ضبط الكلمات الأعجمية. ومن أمثالهم «أعجمي فالعب به ما شئت».

ومعنى العدل والميزان صالحان هنا ، لكن التي في الأنعام جاء فيها (بِالْقِسْطِ) فهو العدل لأنها سيقت مساق التذكير للمشركين بما هم عليه من المفاسد فناسب أن يذكروا بالعدل ليعلموا أن ما يفعلونه ظلم. والباء هنالك للملابسة. وهذه الآية جاءت خطابا للمسلمين فكانت أجدر باللفظ الصالح لمعنى آلة الوزن ، لأن شأن التشريع بيان تحديد العمل مع كونه يومئ إلى معنى العدل على استعمال المشترك في معنييه. فالباء هنا ظاهرة في معنى الاستعانة والآلة ، ومفيدة للملابسة أيضا.

والمستقيم : السوي ، مشتق من القوام ـ بفتح القاف ـ وهو اعتدال الذات. يقال :

٧٩

قومته فاستقام. ووصف الميزان به ظاهر. وأما العدل فهو وصف له كاشف لأن العدل كله استقامة.

وجملة (ذلِكَ خَيْرٌ) مستأنفة. والإشارة إلى المذكور وهو الكيل والوزن المستفاد من فعلي (كِلْتُمْ) و (زِنُوا).

و (خَيْرٌ) تفضيل ، أي خير من التطفيف ، أي خير لكم. فضل على التطفيف تفضيلا لخير الآخرة الحاصل من ثواب الامتثال على خير الدنيا الحاصل من الاستفضال الذي يطففه المطفف ، وهو أيضا أفضل منه في الدنيا لأن انشراح النفس الحاصل للمرء من الإنصاف في الحق أفضل من الارتباح الحاصل له باستفضال شيء من المال.

والتأويل : تفعيل من الأول ، وهو الرجوع. يقال : أوله إذا أرجعه ، أي أحسن إرجاعا ، إذا أرجعه المتأمل إلى مراجعه وعواقبه ، لأن الإنسان عند التأمل يكون كالمنتقل بماهية الشيء في مواقع الأحوال من الصلاح والفساد فإذا كانت الماهية صلاحا استقر رأي المتأمل على ما فيها من الصلاح ، فكأنه أرجعها بعد التطواف إلى مكانها الصالح بها وهو مقرها ، فأطلق على استقرار الرأي بعد التأمل اسم التأويل على طريقة التمثيل ، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة.

ومعنى كون ذلك أحسن تأويلا : أن النظر إذا جال في منافع التطفيف في الكيل والوزن وفي مضار الإيفاء فيهما ثم عاد فجال في مضار التطفيف ومنافع الإيفاء استقر وآل إلى أن الإيفاء بهما خير من التطفيف ، لأن التطفيف يعود على المطفف باقتناء جزء قليل من المال ويكسبه الكراهية والذم عند الناس وغضب الله والسحت في ماله مع احتقار نفسه في نفسه ، والإيفاء بعكس ذلك يكسبه ميل الناس إليه ورضى الله عنه ورضاه عن نفسه والبركة في ماله فهو أحسن تأويلا. وتقدم ذكر التأويل بمعانيه في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير.

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦))

القفو : الاتباع ، يقال : قفاه يقفوه إذا اتبعه ، وهو مشتق من اسم القفا ، وهو ما وراء العنق. واستعير هذا الفعل هنا للعمل. والمراد ب (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) الخاطر النفساني الذي لا دليل عليه ولا غلبة ظن به.

٨٠