تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٢

أي فلو كانوا كذلك لقالوا : من يعيدنا ، أي لانتقلوا في مدارج السفسطة من إحالة الإعادة إلى ادعاء عدم وجود قادر على إعادة الحياة لهم لصلابة أجسادهم.

وبهذه الوجوه يلتئم نظم الآية وينكشف ما فيه من غموض.

والحديد : تراب معدني ، أي لا يوجد إلا في مغاور الأرض ، وهو تراب غليظ مختلف الغلظ ، ثقيل أدكن اللون ، وهو إما محتت الأجزاء وإما مورّقها ، أي مثل الورق.

وأصنافه ثمانية عشر باعتبار اختلاف تركيب أجزائه ، وتتفاوت ألوان هذه الأصناف ، وأشرف أصنافه الخالص ، وهو السالم في جميع أجزائه من المواد الغريبة. وهذا نادر الوجود وأشهر ألوانه الأحمر ، ويقسم باعتبار صلابته إلى صنفين أصليين يسميان الذكر والأنثى ، فالصلب هو الذكر واللين الأنثى. وكان العرب يصفون السيف الصلب القاطع بالذكر. وإذا صهر الحديد بالنار تمازجت أجزاؤه وتميع وصار كالحلواء فمنه ما يكون حديد صب ومنه ما يكون حديد تطريق ، ومنه فولاذ. وكل صنف من أصنافه صالح لما يناسب سبكه منه على اختلاف الحاجة فيها إلى شدة الصلابة مثل السيوف والدروع. ومن خصائص الحديد أن يعلوه الصدأ ، وهو كالوسخ أخضر ثم يستحيل تدريجا إلى أكسيد (كلمة كيمياوية تدل على تعلق أجزاء الأكسجين بجسم فتفسده) وإذا لم يتعهد الحديد بالصقل والزيت أخذ الصدأ في نخر سطحه ، وهذا المعدن يوجد في غالب البلاد. وأكثر وجوده في بلاد الحبشة وفي صحراء مصر. ووجدت في البلاد التونسية معادن من الحديد. وكان استعمال الحديد من العصور القديمة ؛ فإن الطور الثاني من أطور التاريخ يعرف بالعصر الحديدي ، أي الذي كان البشر يستعمل فيه آلات متخذة من الحديد ، وذلك من أثر صنعة الحديد ، وذلك قبل عصر تدوين التاريخ. والعصر الذي قبله يعرف بالعصر الحجري.

وقد اتصلت بتعيين الزمن الذي ابتدئ فيه صنع الحديد أساطير واهية لا ينضبط بها تاريخه. والمقطوع به أن الحديد مستعمل عند البشر قبل ابتداء كتابة التاريخ ولكونه يأكله الصدأ عند تعرضه للهواء والرطوبة لم يبق من آلاته القديمة إلا شيء قليل.

وقد وجدت في (طيبة) : ومدافن الفراعنة في (منفيس) بمصر صور على الآثار مرسوم عليها : صور خزائن شاحذين مداهم وقد صبغوها في الصور باللون الأزرق لون الفولاذ ، وذلك في القرن الحادي والعشرين قبل التاريخ المسيحي. وقد ذكر في التوراة وفي الحديث قصة الذبيح ، وقصة اختتان إبراهيم بالقدوم. ولم يذكر أن السكين ولا القدوم كانتا

١٠١

من حجر الصوان ، فالأظهر أنه بآلة الحديد ، ومن الحديد تتخذ السلاسل للقيد ، والمقامع للضرب ، وسيأتي قوله تعالى : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) في سورة الحج [٢١].

والخلق : يعنى المخلوق ، أي أو خلقا آخر مما يعظم في نفوسكم عن قبوله الحياة ويستحيل عندكم على الله إحياؤه مثل الفولاذ والنحاس.

وقوله : (مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) صفة (خَلْقاً).

ومعنى (يَكْبُرُ) يعظم وهو عظم مجازي بمعنى القوي في نوعه وصفاته ، والصدور : العقول ، أي مما تعدونه عظيما لا يتغير.

وفي الكلام حذف دل عليه الكلام المردود وهو قولهم : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الإسراء : ٤٩]. والتقدير : كونوا أشياء أبعد عن قبول الحياة من العظام والرفات.

والمعنى : لو كنتم حجارة أو حديدا لأحياكم الله ، لأنهم جعلوا كونهم عظاما حجة لاستحالة الإعادة ، فرد عليهم بأن الإعادة مقدرة لله تعالى ولو كنتم حجارة أو حديدا ، لأن الحجارة والحديد أبعد عن قبول الحياة من العظام والرفات إذ لم يسبق فيهما حلول الحياة قط بخلاف الرفات والعظام.

والتفريع في (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا) على جملة (قُلْ كُونُوا حِجارَةً) أي قل لهم ذلك فسيقولون لك : من يعيدنا.

وجعل سؤالهم هنا عن المعيد لا عن أصل الإعادة لأن البحث عن المعيد أدخل في الاستحالة من البحث عن أصل الإعادة ، فهو بمنزلة الجواب بالتسليم الجدلي بعد الجواب بالمنع فإنهم نفوا إمكان إحياء الموتى ، ثم انتقلوا إلى التسليم الجدلي لأن التسليم الجدلي أقوى ، في معارضة الدعوى ، من المنع.

والاستفهام في (مَنْ يُعِيدُنا) تهكمي. ولما كان قولهم هذا محقق الوقوع في المستقبل أمر النبي بأن يجيبهم عند ما يقولونه جواب تعيين لمن يعيدهم إبطالا للازم التهكم ، وهو الاستحالة في نظرهم بقوله : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) إجراء لظاهر استفهامهم على أصله بحمله على خلاف مرادهم ، لأن ذلك أجدر على طريقة الأسلوب الحكيم لزيادة المحاجة ، كقوله في محاجة موسى لفرعون (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ٢٥ ـ ٢٦].

١٠٢

وجيء بالمسند إليه موصولا لقصد ما في الصلة من الإيماء إلى تعليل الحكم بأن الذي فطرهم أول مرة قادر على إعادة خلقهم ، كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] فإنه لقدرته التي ابتدأ بها خلقكم في المرة الأولى قادر أن يخلقكم مرة ثانية.

والإنغاض : التحريك من أعلى إلى أسفل والعكس. فإنغاض الرأس تحريكه كذلك ، وهو تحريك الاستهزاء.

واستفهموا عن وقته بقولهم : (مَتى هُوَ) استفهام تهكم أيضا ؛ فأمر الرسول بأن يجيبهم جوابا حقا إبطالا للازم التهكم ، كما تقدم في نظيره آنفا.

وضمير (مَتى هُوَ) عائد إلى العود المأخوذ من قوله : (يُعِيدُنا) كقوله : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].

و (عسى) للرجاء على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والمعنى لا يبعد أن يكون قريبا.

و (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) بدل من الضمير المستتر في (يَكُونَ) من قوله : (أَنْ يَكُونَ قَرِيباً). وفتحته فتحة بناء لأنه أضيف إلى الجملة الفعلية.

ويجوز أن يكون ظرفا ل (يَكُونَ) ، أي يكون يوم يدعوكم ، وفتحته فتحة نصب على الظرفية.

والدعاء يجوز أن يحمل على حقيقته ، أي دعاء الله الناس بواسطة الملائكة الذين يسوقون الناس إلى المحشر.

ويجوز أن يحمل على الأمر التكويني بإحيائهم ، فأطلق عليه الدعاء لأن الدعاء يستلزم إحياء المدعو وحصول حضوره ، فهو مجاز في الإحياء والتسخير لحضور الحساب.

والاستجابة مستعارة لمطاوعة معنى (يَدْعُوكُمْ) ، أي فتحيون وتمثلون للحساب. أي يدعوكم وأنتم عظام ورفات. وليس للعظام والرفات إدراك واستماع ولا ثم استجابة لأنها فرع السماع وإنما هو تصوير لسرعة الإحياء والإحضار وسرعة الانبعاث والحضور للحساب بحيث يحصل ذلك كحصول استماع الدعوة واستجابتها في أنه لا معالجة في تحصيله وحصوله ولا ريث ولا بطء في زمانه.

١٠٣

وضمائر الخطاب على هذا خطاب للكفار القائلين (مَنْ يُعِيدُنا) والقائلين (مَتى هُوَ).

والباء في (بِحَمْدِهِ) للملابسة ، فهي في معنى الحال ، أي حامدين ، فهم إذا بعثوا خلق فيهم إدراك الحقائق فعلموا أن الحق لله.

ويجوز أن يكون (بِحَمْدِهِ) متعلقا بمحذوف على أنه من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والتقدير: انطق بحمده ، كما يقال : باسم الله ، أي ابتدئ ، وكما يقال للمعرس : باليمن والبركة ، أي احمد الله على ظهور صدق ما أنبأتكم به ، ويكون اعتراضا بين المتعاطفات.

وقيل : إن قوله : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) استئناف كلام خطاب للمؤمنين فيكون (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) متعلقا بفعل محذوف ، أي اذكروا يوم يدعوكم. والحمد على هذا الوجه محمول على حقيقته ، أي تستجيبون حامدين الله على ما منحكم من الإيمان وعلى ما أعد لكم مما تشاهدون حين انبعاثكم من دلائل الكرامة والإقبال.

وأما جملة (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) فهي عطف على (فَتَسْتَجِيبُونَ) ، أي وتحسبون أنكم ما لبثتم في الأرض إلا قليلا. والمراد : التعجيب من هذه الحالة ، ولذلك جاء في بعض آيات أخرى سؤال المولى حين يبعثون عن مدة لبثهم تعجيبا من حالهم ، قال تعالى : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ* قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون : ١١٢ ـ ١١٤] ، وقال : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) [البقرة : ٢٥٩]. وهذا التعجيب تنديم للمشركين وتأييد للمؤمنين. والمراد هنا : أنهم ظنوا ظنا خاطئا ، وهو محل التعجيب. وأما قوله في الآية الأخرى : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فمعناه : أنه وإن طال فهو قليل بالنسبة لأيام الله.

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣))

لما أعقب ما أمر النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بتبليغه إلى المشركين من أقوال تعظهم وتنهاهم من قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ) كما تقولون [الإسراء : ٤٢] وقوله : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً) [الإسراء : ٥٠] وقوله : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) [الإسراء : ٥١] ثني العنان إلى الأمر بإبلاغ المؤمنين تأديبا ينفعهم في هذا المقام على عادة القرآن في

١٠٤

تلوين الأغراض وتعقيب بعضها ببعض أضدادها استقصاء لأصناف الهدى ومختلف أساليبه ونفع مختلف الناس.

ولما كان ما سبق من حكاية أقوال المشركين تنبئ عن ضلال اعتقاد نقل الكلام إلى أمر المؤمنين بأن يقولوا أقوالا تعرب عن حسن النية وعن نفوس زكية. وأوتوا في ذلك كلمة جامعة وهي (يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

و (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) صفة لمحذوف يدل عليه فعل (يَقُولُوا). تقديره : بالتي هي أحسن. وليس المراد مقالة واحدة.

واسم التفضيل مستعمل في قوة الحسن. ونظيره قوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، أي بالمجادلات التي هي بالغة الغاية في الحسن ، فإن المجادلة لا تكون بكلمة واحدة.

فهذه الآية شديدة الاتصال بالتي قبلها وليست بحاجة إلى تطلب سبب لنزولها. وهذا تأديب عظيم في مراقبة اللسان وما يصدر منه. وفي الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره بأعمال تدخله الجنة ثم قال له : «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه وقال : كفّ عليك هذا. قال : قلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال : ثكلتك أمك وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم ، أو قال على مناخرهم ، إلا حصائد ألسنتهم».

والمقصد الأهم من هذا التأديب تأديب الأمة في معاملة بعضهم بعضا بحسن المعاملة وإلانة القول ، لأن القول ينم عن المقاصد ، بقرينة قوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ). ثم تأديبهم في مجادلة المشركين اجتنابا لما تثيره المشادة والغلظة من ازدياد مكابرة المشركين وتصلبهم فذلك من نزع الشيطان بينهم وبين عدوهم ، قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصّلت : ٣٤]. والمسلمون في مكة يومئذ طائفة قليلة وقد صرف الله عنهم ضر أعدائهم بتصاريف من لطفه ليكونوا آمنين ، فأمرهم أن لا يكونوا سببا في إفساد تلك الحالة.

والمراد بقوله : (لِعِبادِي) المؤمنون كما هو المعروف من اصطلاح القرآن في هذا العنوان. وروي أن قول التي هي أحسن أن يقولوا للمشركين : يهديكم الله ، يرحمكم الله ، أي بالإيمان. وعن الكلبي : كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول والفعل ،

١٠٥

فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله هذه الآية.

وجزم (يَقُولُوا) على حذف لام الأمر وهو وارد كثيرا بعد الأمر بالقول ، ولك أن تجعل (يَقُولُوا) جوابا منصوبا في جواب الأمر مع حذف مفعول القول لدلالة الجواب عليه. والتقدير : قل لهم : قولوا التي هي أحسن يقولوا ذلك. فيكون كناية على أن الامتثال شأنهم فإذا أمروا امتثلوا. وقد تقدم نظيره في قوله : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) في سورة إبراهيم [٣١].

والنزغ : أصله الطعن السريع ، واستعمل هنا في الإفساد السريع الأثر. وتقدم في قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) في سورة يوسف [١٠٠].

وجملة (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) تعليل للأمر بقول التي هي أحسن. والمقصود من التعليل أن لا يستخفوا بفاسد الأقوال فإنها تثير مفاسد من عمل الشيطان.

ولما كان ضمير (بَيْنَهُمْ) عائدا إلى عبادي كان المعنى التحذير من إلقاء الشيطان العداوة بين المؤمنين تحقيقا لمقصد الشريعة من بث الأخوة الإسلامية.

روى الواحدي : أن عمر بن الخطاب شتمه أعرابي من المشركين فشتمه عمر وهمّ بقتله فكاد أن يثير فتنة فنزلت هذه الآية. وأيّا ما كان سبب النزول فهو لا يقيد إطلاق صيغة الأمر للمسلمين بأن يقولوا التي أحسن في كل حال.

وجملة (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) تعليل لجملة (يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) ، وعلة العلة علة.

وذكر (كان) للدلالة على أن صفة العداوة أمر مستقر في خلقته قد جبل عليه. وعداوته للإنسان متقررة من وقت نشأة آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأنه يسول للمسلمين أن يغلظوا على الكفار بوهمهم أن ذلك نصر للدين ليوقعهم في الفتنة ، فإن أعظم كيد الشيطان أن يوقع المؤمن في الشر وهو يوهمه أنه يعمل خيرا.

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤))

هذا الكلام متصل بقوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ) إلى قوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٧ ، ٤٨]. فإن ذلك ينطوي على ما هو شأن نجواهم من التصميم على

١٠٦

العناد والإصرار على الكفر. وذلك يسوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحزنه أن لا يهتدوا ، فوجه هذا الكلام إليه تسلية له. ويدل لذلك تعقيبه بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً).

ومعنى (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) على هذا الكناية عن مشيئة هديه إياهم الذي هو سبب الرحمة ، أو مشيئة تركهم وشأنهم. وهذا أحسن ما تفسر به هذه الآية ويبين موقعها ، وما قيل غيره أراه لا يلتئم.

وأوتي بالمسند إليه بلفظ الرب مضافا إلى ضمير المؤمنين الشامل للرسول تذكيرا بأن الاصطفاء للخير شأن من معنى الربوبية التي هي تدبير شئون المربوبين بما يليق بحالهم ، ليكون لإيقاع المسند على المسند إليه بعد ذلك بقوله : (أَعْلَمُ بِكُمْ) وقع بديع ، لأن الذي هو الرب هو الذي يكون أعلم بدخائل النفوس وقابليتها للاصطفاء.

وهذه الجملة بمنزلة المقدمة لما بعدها وهي جملة (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) الآية ، أي هو أعلم بما يناسب حال كل أحد من استحقاق الرحمة واستحقاق العذاب.

ومعنى (أَعْلَمُ بِكُمْ) أعلم بحالكم ، لأن الحالة هي المناسبة لتعلق العلم.

فجملة (إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ) مبينة للمقصود من جملة (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ).

والرحمة والتعذيب مكنى بهما عن الاهتداء والضلال ، بقرينة مقارنته لقوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) الذي هو كالمقدمة. وسلك سبيل الكناية بهما لإفادة فائدتين : صريحهما وكنايتهما ، ولإظهار أنه لا يسأل عما يفعل ، لأنه أعلم بما يليق بأحوال مخلوقاته. فلما ناط الرحمة بأسبابها والعذاب بأسبابه ، بحكمته وعدله ، علم أن معنى مشيئته الرحمة أو التعذيب هو مشيئة إيجاد أسبابهما ، وفعل الشرط محذوف. والتقدير : إن يشأ رحمتكم يرحمكم أو إن يشأ تعذيبكم يعذبكم ، على حكم حذف مفعول فعل المشيئة في الاستعمال.

وجيء بالعطف بحرف (أو) الدالة على أحد الشيئين لأن الرحمة والتعذيب لا يجتمعان ف (أو) للتقسيم.

وذكر شرط المشيئة هنا فائدته التعليم بأنه تعالى لا مكره له ، فجمعت الآية الإشارة إلى صفة العلم والحكمة وإلى صفة الإرادة والاختيار.

١٠٧

وإعادة شرط المشيئة في الجملة المعطوفة لتأكيد تسلط المشيئة على الحالتين.

وجملة (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) زيادة لبيان أن الهداية والضلال من جعل الله تعالى ، وأن النبي غير مسئول عن استمرار من استمر في الضلالة. إزالة للحرج عنه فيما يجده من عدم اهتداء من يدعوهم ، أي ما أرسلناك لتجبرهم على الإيمان وإنما أرسلناك داعيا.

والوكيل على الشيء : هو المسئول به. والمعنى : أرسلناك نذيرا وداعيا لهم وما أرسلناك عليهم وكيلا ، فيفيد معنى القصر لأن كونه داعيا ونذيرا معلوم بالمشاهدة فإذا نفي عنه أن يكون وكيلا وملجئا آل إلى معنى : ما أنت إلا نذير.

وضمير (عَلَيْهِمْ) عائد إلى المشركين ، كما عادت إليهم ضمائر (عَلى قُلُوبِهِمْ) [الإسراء : ٤٦] وما بعده من الضمائر اللائقة بهم.

و (عَلَيْهِمْ) متعلق ب (وَكِيلاً). وقدم على متعلقه للاهتمام وللرعاية على الفاصلة.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥))

تماثل القرينتين في فاصلتي هذه الآية من كلمة (وَالْأَرْضِ) وكلمة (عَلى بَعْضٍ) ، يدل دلالة واضحة على أنهما كلام مرتبط بعضه ببعض ، وأن ليس قوله : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تكملة لآية (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) [الإسراء : ٥٤] الآية.

وتغيير أسلوب الخطاب في قوله : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ) بعد قوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ) [الإسراء : ٥٤] إيماء إلى أن الغرض من هذه الجملة عائد إلى شأن من شئون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم التي لها مزيد اختصاص به ، تقفية على إبطال أقوال المشركين في شئون الصفات الإلهية ، بإبطال أقوالهم في أحوال النبي. ذلك أن المشركين لم يقبلوا دعوة النبي بغرورهم أنه لم يكن من عظماء أهل بلادهم وقادتهم ، وقالوا : أبعث الله يتيم أبي طالب رسولا ، أبعث الله بشرا رسولا ، فأبكتهم الله بهذا الرد بقوله : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو العالم حيث يجعل رسالته.

وكان قوله : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كالمقدمة لقوله : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ) النبيئين الآية. أعاد تذكيرهم بأن الله أعلم منهم بالمستأهل للرسالة بحسب

١٠٨

ما أعده الله فيه من الصفات القابلة لذلك ، كما قال الله تعالى عنهم (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته في سورة الأنعام [١٢٤].

وكان الحكم في هذه المقدمة على عموم الموجودات لتكون بمنزلة الكلية التي يؤخذ منها كل حكم لجزئياتها ، لأن المقصود بالإبطال من أقوال المشركين جامع لصور كثيرة من أحوال الموجودات من البشر والملائكة وأحوالهم ؛ لأن بعض المشركين أحالوا إرسال رسول من البشر ، وبعضهم أحالوا إرسال رسول ليس من عظمائهم ، وبعضهم أحالوا إرسال من لا يأتي بمثل ما جاء به موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ. وذلك يثير أحوالا جمة من العصور والرجال والأمم أحياء وأمواتا. فلا جرم كان للتعميم موقع عظيم في قوله : (بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وهو أيضا كالمقدمة لجملة (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ) النبيئين على بعض ، مشيرا إلى أن تفاضل الأنبياء ناشئ على ما أودعه الله فيهم من موجبات التفاضل. وهذا إيجاز تضمن إثبات النبوءة وتقررها فيما مضى ما لا قبل لهم بإنكاره ، وتعدّد الأنبياء مما يجعل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بدعا من الرسل ، وإثبات التفاضل بين الأفراد من البشر ، فمنهم رسول ومنهم مرسل إليهم ، وإثبات التفاضل بين أفراد الصنف الفاضل. وتقرر ذلك فيما مضى تقررا لا يستطيع إنكاره إلا مكابر بالتفاضل حتى بين الأفضلين سنة إلهية مقررة لا نكران لها. فعلم أن طعنهم في نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طعن مكابرة وحسد. كما قال تعالى في شأن اليهود (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) في سورة النساء [٥٤].

وتخصيص داود ـ عليه‌السلام ـ بالذكر عقب هذه القضية العامة وجهه صاحب «الكشاف» ومن تبعه بأن فائدة التلميح إلى أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الأنبياء وأمته أفضل الأمم لأن في الزبور أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون. وهذا حسن. وأنا أرى أن يكون وجه هذا التخصيص الإيماء إلى أن كثيرا من الأحوال المرموقة في نظر الجاهلين وقاصري الأنظار بنظر الغضاضة هي أحوال لا تعوق أصحابها عن الصعود في مدارج الكمال التي اصطفاها الله لها ، وأن التفضيل بالنبوءة والرسالة لا ينشأ عن عظمة سابقة ؛ فإن داود ـ عليه‌السلام ـ كان راعيا من رعاة الغنم في بني إسرائيل ، وكان ذا قوة في الرمي بالحجر ، فأمر الله شاول ملك بني إسرائيل أن يختار داود لمحاربة جالوت الكنعاني ، فلما قتل داود جالوت آتاه الله النبوءة وصيره ملكا لإسرائيل ، فهو النبي الذي تجلى فيه اصطفاء الله تعالى لمن لم يكن ذا عظمة وسيادة.

١٠٩

وذكر إيتائه الزبور هو محل التعريض للمشركين بأن المسلمين سيرثون أرضهم وينتصرون عليهم لأن ذلك مكتوب في الزبور كما تقدم آنفا. وقد أوتي داود الزبور ولم يؤت أحد من أنبياء بني إسرائيل كتابا بعد موسى ـ عليه‌السلام ـ.

وذكر داود تقدم في سورة الأنعام وفي آخر سورة النساء.

وأما الزبور فذكر عند قوله تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) في آخر سورة النساء [١٦٣].

والزبور : اسم لمجموع أقوال داود ـ عليه‌السلام ـ التي بعضها مما أوحاه إليه وبعضها مما ألهمه من دعوات ومناجاة وهو المعروف اليوم بكتاب المزامير من كتب العهد القديم.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦))

لم أر لهذه الآية تفسيرا ينثلج له الصدر ، والحيرة بادية على أقوال المفسرين في معناها وانتظام موقعها مع سابقها ، ولا حاجة إلى استقراء كلماتهم. ومرجعها إلى طريقتين في محمل (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) إحداهما في «تفسير الطبري» وابن عطية عن ابن مسعود والحسن. وثانيتهما في «تفسير القرطبي» والفخر غير معزوة لقائل.

والذي أرى في تفسيرها أن جملة (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) إلى (تَحْوِيلاً) معترضة بين جملة (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ) النبيئين [الإسراء : ٥٥] وجملة (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) [الإسراء : ٥٧]. وذلك أنه لما جرى ذكر الأفضلين من الأنبياء في أثناء آية الرد على المشركين مقالتهم في اصطفاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرسالة واصطفاء أتباعه لولايته ودينه ، وهي آية (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الإسراء : ٥٥] إلى آخرها ، جاءت المناسبة لرد مقالة أخرى من مقالاتهم الباطلة وهي اعتذارهم عن عبادة الأصنام بأنهم ما يعبدونهم إلا ليقربوهم إلى الله زلفى ، فجعلوهم عبادا مقربين ووسائل لهم إلى الله ، فلما جرى ذكر المقربين حقا انتهزت مناسبة ذكرهم لتكون مخلصا إلى إبطال ما ادعوه من وسيلة أصنامهم على عادة إرشاد القرآن من اغتنام مناسبات الموعظة ، وذلك من أسلوب الخطباء. فهذه الآية متصلة المعنى بآية (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢]. فبعد أن أبطل أن يكون مع الله آلهة ببرهان العقل عاد

١١٠

إلى إبطال إلهيتهم المزعومة ببرهان الحسّ. وهو مشاهدة أنها لا تغني عنهم كشف الضر.

فأصل ارتباط الكلام هكذا : ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض وآتينا داود زبورا أولئك الذين يدعون يبتغون الآية. فبمناسبة الثناء عليهم بابتهالهم إلى ربهم ذكر ضد ذلك من دعاء المشركين آلهتهم. وقدم ذلك ، على الكلام الذي أثار المناسبة ، اهتماما بإبطال فعلهم ليكون إبطاله كالغرض المقصود ويكون ذكر مقابله كالاستدلال على ذلك الغرض. ولعل هذه الآية نزلت في مدة إصابة القحط قريشا بمكّة ، وهي السبع السنون التي هي دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف». وتسلسل الجدال وأخذ بعضه بحجز بعض حتى انتهى إلى هذه المناسبة.

والملك بمعنى الاستطاعة والقدرة كما في قوله : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ١٧] ، وقوله : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) في سورة العقود [٧٦].

والمقصود من ذلك بيان البون بين الدعاء الحق والدعاء الباطل. ومن نظائر هذا المعنى في القرآن قوله تعالى : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) في سورة الأعراف [١٩٦ ـ ١٩٧].

والكشف : مستعار للإزالة.

والتحويل : نقل الشيء من مكان إلى مكان ، أي لا يستطيعون إزالة الضر عن الجميع ولا إزالته عن واحد إلى غيره.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧))

والإشارة ب (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ) إلى النبيئين لزيادة تمييزهم.

والمعنى : أولئك الذين إن دعوا يستجب لهم ويكشف عنهم الضر ، وليسوا كالذين تدعونهم فلا يملكون كشف الضر عنكم بأنفسهم ولا بشفاعتهم عند الله كما رأيتم من أنهم لم يغنوا عنكم من الضر كشفا ولا صرفا.

وجملة (يَبْتَغُونَ) حال من ضمير (يَدْعُونَ) أو بيان لجملة (يَدْعُونَ).

والوسيلة : المرتبة العالية القريبة من عظيم كالملك.

١١١

و (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) يجوز أن يكون بدلا من ضمير (يَبْتَغُونَ) بدل بعض ، وتكون (أي) موصولة. والمعنى : الذي هو أقرب من رضى الله يبتغي زيادة الوسيلة إليه ، أي يزداد عملا للازدياد من رضى الله عنه واصطفائه.

ويجوز أن يكون بدلا من جملة (يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) ، و (أي) استفهامية ، أي يبتغون معرفة جواب : أيهم أقرب عند الله.

وأقرب : اسم تفضيل ، ومتعلقه محذوف دل عليه السياق. والتقدير : أيهم أقرب إلى ربهم.

وذكر خوف العذاب بعد رجاء الرحمة للإشارة إلى أنهم في موقف الأدب مع ربهم فلا يزيدهم القرب من رضاه إلا إجلالا له وخوفا من غضبه. وهو تعريض بالمشركين الذين ركبوا رءوسهم وتوغلوا في الغرور فزعموا أن شركاءهم شفعاؤهم عند الله.

وجملة (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) تذييل. ومعنى (كانَ مَحْذُوراً) أن حقيقته تقتضي حذر الموفقين إذ هو جدير بذلك.

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨))

لما عرض بالتهديد للمشركين في قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) [الإسراء : ٥٧] ، وتحداهم بقوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ) [الإسراء : ٥٦] جاء بصريح التهديد على مسمع منهم بأن كل قرية مثل قريتهم في الشرك لا يعدوها عذاب الاستيصال وهو يأتي على القرية وأهلها ، أو عذاب الانتقام بالسيف والذل والأسر والخوف والجوع وهو يأتي على أهل القرية مثل صرعى بدر ، كل ذلك في الدنيا. فالمراد : القرى الكافر أهلها لقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) في سورة هود [١١٧] ، وقوله : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) في سورة القصص [٥٩].

وحذف الصفة في مثل هذا معروف كقوله تعالى : (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩] أي كل سفينة صالحة ، بقرينة قوله : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [الكهف : ٧٩].

وليس المقصود شمول ذلك القرى المؤمنة ، على معنى أن لا بد للقرى من زوال

١١٢

وفناء في سنة الله في هذا العالم ، لأن ذلك معارض لآيات أخرى ، ولأنه مناف لغرض تحذير المشركين من الاستمرار على الشرك.

فلو سلمنا أن هذا الحكم لا تنفلت منه قرية من القرى بحكم سنّة الله في مصير كل حادث إلى الفناء لما سلمنا أن في ذكر ذلك هنا فائدة.

والتقييد بكونه (قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ) زيادة في الإنذار والوعيد ، كقوله : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) [طه : ١٢٧].

و (من) مزيدة بعد (إن) النافية لتأكيد استغراق مدخولها باعتبار الصفة المقدرة ، أي جميع القرى الكافرة كيلا يحسب أهل مكة عدم شمولهم.

والكتاب : مستعار لعلم الله وسابق تقديره ، فتعريفه للعهد ؛ أو أريد به الكتب المنزلة على الأنبياء ، فتعريفه للجنس فيشمل القرآن وغيره.

والمسطور : المكتوب ، يقال : سطر الكتاب إذا كتبه سطورا ، قال تعالى : (وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) [القلم : ١].

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩))

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) هذا كشف شبهة أخرى من شبه تكذيبهم إذ كانوا يسألون النبي أن يأتيهم بآيات على حسب اقتراحهم ، ويقولون : لو كان صادقا وهو يطلب منا أن نؤمن به لجاءنا بالآيات التي سألناه ، غرورا بأنفسهم أن الله يتنازل لمباراتهم.

والجملة معطوفة على جملة (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها) الآية [الإسراء : ٥٨] ، أي إنما أمهلنا المتمردين على الكفر إلى أجل نزول العذاب ولم نجبهم إلى ما طلبوا من الآيات لعدم جدوى إرسال الآيات للأولين من قبيلهم في الكفر على حسب اقتراحهم فكذبوا بالآيات.

وحقيقة المنع : كف الفاعل عن فعل يريد فعله أو يسعى في فعله ، وهذا محال عن الله تعالى إذ لا مكره للقادر المختار. فالمنع هنا مستعار للصرف عن الفعل وعدم إيقاعه

١١٣

دون محاولة إتيانه.

والإرسال يجوز أن يكون حقيقة فيكون مفعول (أَنْ نُرْسِلَ) محذوفا دل عليه فعل (نُرْسِلَ). والتقدير : أن نرسل رسولنا ، فالباء في قوله : (بِالْآياتِ) للمصاحبة ، أي مصاحبا للآيات التي اقتراحها المشركون. ويجوز أن يكون الإرسال مستعارا لإظهار الآيات وإيجادها ، فتكون الباء مزيدة لتأكيد تعلق فعل (نُرْسِلَ بِالْآياتِ) ، وتكون (بِالْآياتِ) مفعولا في المعنى كقوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦].

والتعريف في (بِالْآياتِ) على كلا الوجهين للعهد ، أي المعهودة من اقتراحهم كقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) ، [الإسراء : ٩٠] و (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [القصص : ٤٨] و (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) [الأنعام : ١٢٤] على أحد التأويلين.

و (أن) الأولى مفيدة مصدرا منصوبا على نزع الخافض ، وهو (من) التي يتعدى بها فعل المنع ، وهذا الحذف مطرد مع (أن).

و (أن) الثانية مصدرها فاعل (مَنَعَنا) على الاستثناء المفرغ.

وإسناد المنع إلى تكذيب الأولين بالآيات مجاز عقلي لأن التكذيب سبب الصرف.

والمعنى : أننا نعلم أنهم لا يؤمنون كما لم يؤمن من قبلهم من الكفرة لما جاءتهم أمثال تلك الآيات. فعلم الناس أن الإصرار على الكفر سجية للمشرك لا يقلعها إظهار الآيات ، فلو آمن الأولون عند ما أظهرت لهم الآيات لكان لهؤلاء أن يجعلوا إيمانهم موقوفا على إيجاد الآيات التي سألوها. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) كلمات (رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧].

والأظهر أن هذا تثبيت لأفئدة المؤمنين لئلا يفتنهم الشيطان ، وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحرصه على إيمان قومه فلعله يتمنى أن يجيبهم الله لما سألوا من الآيات ولحزنه من أن يظنوه كاذبا.

وجملة (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ) في محل الحال من ضمير الجلالة في (مَنَعَنا) ، أي وقد آتينا ثمودا آية كما سألوه فزادوا كفرا بسببها حتى عجل لهم العذاب.

ومعنى (مُبْصِرَةً) واضحة الدلالة ، فهو اسم فاعل أبصر المتعدي إلى مفعول ، أي

١١٤

جعل غيره مبصرا وذا بصيرة. فالمعنى : أنها مفيدة البصيرة ، أي اليقين ، أي تجعل من رآها ذا بصيرة وتفيده أنها آية. ومنه قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) [النمل : ١٣].

وخص بالذكر ثمود وآيتها لشهرة أمرهم بين العرب ، ولأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من أهل مكة يبصرها صادرهم وواردهم في رحلاتهم بين مكة والشام.

وقوله : (فَظَلَمُوا بِها) يجوز أن يكون استعمل الظلم بمعنى الكفر لأنه ظلم النفس ، وتكون الباء للتعدية لأن فعل الكفر يعدى إلى المكفور بالباء. ويجوز أن يكون الظلم مضمنا معنى الجحد ، أي كابروا في كونها آية ، كقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤]. ويجوز بقاء الظلم على حقيقته ، وهي الاعتداء بدون حق ، والباء صلة لتوكيد التعدية مثل الباء في (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] ، أي ظلموا الناقة حين عقروها وهي لم تجن عليهم ، فكان عقرها ظلما. والاعتداء على العجماوات ظلم إذا كان غير مأذون فيه شرعا كالصيد.

(وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً)

هذا بيان لحكمة أخرى في ترك إرسال الآيات إلى قريش ، تشير إلى أن الله تعالى أراد الإبقاء عليهم ليدخل منهم في الإسلام كثير ويكون نشر الإسلام على يد كثير منهم.

وتلك مكرمة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو أرسل الله لهم الآيات كما سألوا مع أن جبلتهم العناد لأصروا على الكفر فحقت عليهم سنّة الله التي قد خلت في عباده وهي الاستئصال عقب إظهار الآيات ، لأن إظهار الآيات تخويف من العذاب والله أراد الإبقاء على هذه الأمة قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣] الآية ، فعوضنا تخويفهم بدلا عن إرسال الآيات التي اقترحوها.

والقول في تعدية (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ) كالقول في (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) معنى وتقديرا على الوجهين.

والتخويف : جعل المرء خائفا.

والقصر في قوله : (إِلَّا تَخْوِيفاً) لقصر الإرسال بالآيات على علة التخويف ، وهو قصر إضافي ، أي لا مباراة بين الرسل وأقوامهم أو لا طمعا في إيمان الأقوام فقد علمنا

١١٥

أنهم لا يؤمنون.

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) هذه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حزنه من تكذيب قومه إياه ، ومن إمهال عتاة أعداء الدين الذين فتنوا المؤمنين ، فذكره الله بوعده نصره.

وقد أومأ جعل المسند إليه لفظ الرب مضافا إلى ضمير الرسول أن هذا القول مسوق مساق التكرمة للنبي وتصبيره ، وأنه بمحل عناية الله به إذ هو ربه وهو ناصره ؛ قال تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨].

فجملة (وَإِذْ قُلْنا لَكَ) إلخ يجوز أن تكون معطوفة على جملة (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) [الإسراء : ٥٩] ويجوز أن تكون معترضة.

و (إذ) متعلقة بفعل محذوف ، أي اذكر إذ قلنا لك كلاما هو وعد بالصبر ، أي اذكر لهم ذلك وأعده على أسماعهم ، أو هو فعل «اذكر» على أنه مشتق من الذّكر ـ بضم الذال ـ وهو إعادة الخبر إلى القوة العقلية الذاكرة.

والإحاطة لما عدي فعلها هنا إلى ذات الناس لا إلى حال من أحوالهم تعين أنها مستعملة في معنى الغلبة ، كما في قوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) في سورة يونس [٢٢]. وعبّر بصيغة المضي للتنبيه على تحقيق وقوع إحاطة الله بالناس في المستقبل القريب. ولعل هذا إشارة إلى قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الرعد : ٤١].

والمعنى : فلا تحزن لافترائهم وتطاولهم فسننتقم منهم.

(وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)

عطف على جملة (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) [الإسراء : ٥٩] وما بينهما معترضات.

والرؤيا أشهر استعمالها في رؤيا النوم ، وتستعمل في رؤية العين كما نقل عن

١١٦

ابن عباس في هذه الآية ، قال : هي رؤيا عين أريها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس ، رواه الترمذي وقال : إنه قول عائشة ومعاوية وسبعة من التابعين ، سماهم الترمذي. وتأولها جماعة أنها ما رآه ليلة أسري به إذ رأى بيت المقدس وجعل يصفه للمشركين ، ورأى عيرهم واردة في مكان معين من الطريق ووصف لهم حال رجال فيها فكان كما وصف. ويؤيد هذا الوجه قوله : (الَّتِي أَرَيْناكَ) فإنه وصف للرؤيا ليعلم أنها رؤية عين. وقيل : رأى أنه يدخل مكة في سنة الحديبية فرده المشركون فلم يدخلها فافتتن بعض من أسلموا فلما كان العام المقبل دخلها.

وقيل : هي رؤيا مصارع صناديد قريش في بدر أريها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذلك أي بمكة. وعى هذين القولين فهي رؤيا نوم ورؤيا الأنبياء وحي.

والفتنة : اضطراب الرأي واختلال نظام العيش ، وتطلق على العذاب المكرر الذي لا يطاق ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [البروج : ١٠] ، وقال : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣]. فيكون المعنى على أول القولين في الرؤيا أنها سبب فتنة المشركين بازدياد بعدهم عن الإيمان ، ويكون على القول الثاني أن المرئي وهو عذابهم بالسيف فتنة لهم.

(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ)

(وَالشَّجَرَةَ) عطف على الرؤيا ، أي ما جعلنا ذكر الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. وهذا إشارة إلى قوله تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) في سورة الصافات [٦٤ ـ ٦٦] ، وقوله: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) الآية في سورة الدخان [٤٣ ـ ٤٤] ، وقوله : (إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) في سورة الواقعة [٥١ ـ ٥٢].

روي أن أبا جهل قال : «زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ؛ ثم يقول بأن في النار شجرة لا تحرقها النار». وجهلوا أن الله يخلق في النار شجرة لا تأكلها النار. وهذا مروي عن ابن عباس وأصحابه في «أسباب النزول» للواحدي و «تفسير الطبري». وروي أن ابن الزبعرى قال : الزقوم التمر بالزبد بلغة اليمن ، وأن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه : تمزقوا. فعلى هذا التأويل فالمعنى : أن شجرة الزقوم سبب فتنة مكفرهم وانصرافهم عن الإيمان. ويتعين أن يكون معنى جعل شجرة الزّقوم فتنة على

١١٧

هذا الوجه أن ذكرها كان سبب فتنة بحذف مضاف وهو ذكر بقرينة قوله : (الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) لأن ما وصفت به في آيات القرآن لعن لها.

ويجوز أن يكون المعنى : أن إيجادها فتنة. أي عذاب مكرر ، كما قال : (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) [الصافّات : ٦٣].

والملعونة أي المذمومة في القرآن في قوله : (طَعامُ الْأَثِيمِ) [الدخان : ٤٤] وقوله: (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) [الصافات : ٦٥] وقوله : كالمهل تغلي (فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) [الدخان : ٤٥ ـ ٤٦]. وقيل معنى الملعونة : أنها موضوعة في مكان اللعنة وهي الإبعاد من الرحمة ، لأنها مخلوقة في موضع العذاب. وفي «الكشاف» : قيل تقول العرب لكل طعام ضار : ملعون.

(وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً).

عطف على جملة (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [الإسراء: ٥٩] الدال على أنهم متصلبون في كفرهم مكابرون معاندون. وهذه زيادة في تسلية النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا يأسف من أن الله لم يرهم آيات ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريص على إيمانهم ، كما قال موسى ـ عليه‌السلام ـ (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٨٨].

ويوجد في بعض التفاسير أن ابن عباس قال : في الشجرة الملعونة بنو أمية. وهذا من الأخبار المختلفة عن ابن عباس ، ولا إخالها إلا مما وضعه الوضاعون في زمن الدعوة العباسية لإكثار المنفرات من بني أمية ، وأن وصف الشجرة بأنها الملعونة في القرآن صريح في وجود آيات في القرآن ذكرت فيها شجرة ملعونة وهي شجرة الزقوم كما علمت. ومثل هذا الاختلاق خروج عن وصايا القرآن في قوله : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [الحجرات : ١١].

وجيء بصيغة المضارع في (نُخَوِّفُهُمْ) للإشارة إلى تخويف حاضر ، فإن الله خوفهم بالقحط والجوع حتى رأوا الدخان بين السماء والأرض وسألوا الله كشفه فقال تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) [الدخان : ١٥] فذلك وغيره من التخويف الذي سبق فلم يزدهم إلا طغيانا. فالظاهر أن هذه الآية نزلت في مدة حصول بعض المخوفات.

وقد اختير الفعل المضارع في (نُخَوِّفُهُمْ) و (يَزِيدُهُمْ) لاقتضائه تكرر التخويف

١١٨

وتجدده ، وأنه كلما تجدد التخويف تجدد طغيانهم وعظم.

والكبير : مستعار لمعنى الشديد القوى في نوع الطغيان. وقد تقدم عند قوله تعالى : (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) في سورة البقرة [٢١٧].

[٦١ ، ٦٢] (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢))

عطف على جملة (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) [الإسراء : ٦٠] أي واذكر إذ قلنا للملائكة. والمقصود من هذا هو تذكير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لقي الأنبياء قبله من معاندة الأعداء والحسدة من عهد آدم حين حسده إبليس على فضله. وأنهم لا يعدمون مع ذلك معترفين بفضلهم وهم خيرة زمانهم كما كانت الملائكة نحو آدم ـ عليه‌السلام ـ ، وأن كلا الفريقين في كل عصر يمتّ إلى أحد الفريقين الذي في عهد آدم ، فلفريق الملائكة المؤمنون ولفريق الشيطان الكافرون ، كما أومأ إليه قوله تعالى : (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) [الإسراء : ٦٣] الآية ، ففي ذلك تسلية للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ. فأمر الله نبيئه بأن يذكر ذلك يتضمن تذكيره إياه به ، وذكر النبي ذلك موعظة للناس بحال الفريقين لينظر العاقل أين يضع نفسه.

وتفسير قصة آدم وبيان كلماتها مضى في سورة البقرة وما بعدها.

والاستفهام في (أَأَسْجُدُ) إنكار ، أي لا يكون.

وجملة (قالَ أَأَسْجُدُ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن استثناء إبليس من حكم السجود لم يفد أكثر من عدم السجود. وهذا يثير في نفس السامع أن يسأل عن سبب التخلف عن هذا الحكم منه ، فيجاب بما صدر منه حين الاتصاف بعدم السجود أنه عصيان لأمر الله ناشئ عن جهله وغروره.

وقوله : (طِيناً) حال من اسم الموصول ، أي الذي خلقته في حال كونه طينا ، فيفيد معنى أنك خلقته من الطين. وإنما جعل جنس الطين حالا منه للإشارة إلى غلبة العنصر الترابي عليه لأن ذلك أشد في تحقيره في نظر إبليس.

وجملة (قالَ أَرَأَيْتَكَ) بدل اشتمال من جملة (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) باعتبار ما

١١٩

تشتمل عليه من احتقار آدم وتغليط الإرادة من تفضيله. فقد أعيد إنكار التفضيل بقوله : (أَرَأَيْتَكَ) المفيد الإنكار. وعلل الإنكار بإضمار المكر لذريته ، ولذلك فصلت جملة (قالَ أَرَأَيْتَكَ) عن جملة (قالَ أَأَسْجُدُ) كما وقع في قوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) [طه : ١٢٠].

و (أَرَأَيْتَكَ) تركيب يفتتح بها الكلام الذي يراد تحقيقه والاهتمام به. ومعناه : أخبرني عما رأيت ، وهو مركب من همزة استفهام ، و (رأى) التي بمعنى علم وتاء المخاطب المفرد المرفوع ، ثم يزاد على ضمير الخطاب كاف خطاب تشبه ضمير الخطاب المنصوب بحسب المخاطب واحدا أو متعددا. يقال : أرأيتك وأ رأيتكم كما تقدم في قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) في سورة الأنعام [٤٠]. وهذه الكاف عند البصريين تأكيد لمعنى الخطاب الذي تفيده تاء الخطاب التي في محل رفع ، وهو يشبه التوكيد اللفظي. وقال الفراء : الكاف ضمير نصب ، والتركيب : أرأيت نفسك. وهذا أقرب للاستعمال ، ويسوغه أن أفعال الظن والعلم قد تنصب على المفعولية ما هو ضمير فاعلها نحو قول طرفة :

فما لي أراني وابن عمي مالكا

متى أذن منه ينأ عني ويبعد

أي أرى نفسي.

واسم الإشارة مستعمل في التحقير ، كقوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٣٦]. والمعنى أخبرني عن نيتك أهذا الذي كرمته عليّ بلا وجه.

وجملة (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) إلخ مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، وهي جملة قسمية ، واللام موطئة للقسم المحذوف مع الشرط ، والخبر مستعمل في الدعاء فهو في معنى قوله : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [ص : ٧٩].

وهذا الكلام صدر من إبليس إعرابا عما في ضميره وإنما شرط التأخير إلى يوم القيامة ليعم بإغوائه جميع أجيال ذرية آدم فلا يكون جيل آمنا من إغوائه.

وصدر ذلك من إبليس عن وجدان ألقي في نفسه صادف مراد الله منه فإن الله لما خلقه قدر له أن يكون عنصر إغواء إلى يوم القيامة وأنه يغوي كثيرا من البشر ويسلم منه قليل منهم.

وإنما اقتصر على إغواء ذرية آدم ولم يذكر إغواء آدم وهو أولى بالذكر ـ إذ آدم هو

١٢٠