تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٤

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٩٢

عطف على جملة (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) [الإسراء : ٧٣] تعدادا لسيئات أعمالهم. والضمائر متحدة.

والاستفزاز : الحمل على الترحل ، وهو استفعال من فزّ بمعنى بارح المكان ، أي كادوا أن يسعوا أن تكون فازا ، أي خارجا من مكة. وتقدم معنى هذا الفعل عند قوله : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ) في هذه السورة الإسراء [٦٤]. والمعنى : كادوا أن يخرجوك من بلدك. وذلك بأن همّوا بأن يخرجوه كرها ثم صرفهم الله عن ذلك ليكون خروجه بغير إكراه حين خرج مهاجرا عن غير علم منهم لأنهم ارتأوا بعد زمان أن يبقوه بينهم حتى يقتلوه.

والتعريف في (الْأَرْضِ) تعريف العهد ، أي من أرضك وهي مكة.

وقوله : (لِيُخْرِجُوكَ) تعليل للاستفزاز ، أي استفزازا لقصد الإخراج.

والمراد بالإخراج : مفارقة المكان دون رجوع. وبهذا الاعتبار جعل علة للاستفزاز لأن الاستفزاز أعم من الإخراج.

وجملة (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ) عطف على جملة (وَإِنْ كادُوا) ، أو هي اعتراض في آخر الكلام ، فتكون الواو للاعتراض و (إذا) ظرفا لقوله : (لا يَلْبَثُونَ) وهي (إذا) الملازمة الإضافة إلى الجملة.

ويجوز أن يكون (إذا) حرف جواب وجزاء لكلام سابق. وهي التي نونها حرف من الكلمة ولكن كثرت كتابتها بألف في صورة الاسم المنون. والأصل فيها أن يكون الفعل بعدها منصوبا ب (أن) مضمرة ، فإذا وقعت بعد عاطف جاز رفع المضارع بعدها ونصبه.

ويجوز أن تكون (إذا) ظرفا للزمان ، وتنوينها عوض عن جملة محذوفة على قول جماعة من نحاة الكوفة ، وهو غير بعيد. ألا ترى أنها إذا وقعت بعد عاطف لم ينتصب بعدها المضارع إلا نادرا لانتفاء معنى التسبب ، ولأنها حينئذ لا يظهر فيها معنى الجواب والجزاء.

والتقدير : وإذا أخرجوك أو وإذا خرجت لا يلبثون خلفك إلا قليلا.

وقرأ الجمهور (خَلْفَكَ).

و (خَلْفَكَ) أريد به بعدك. وأصل الخلف الوراء فاستعمل مجازا في البعدية ، أي لا

١٤١

يلبثون بعدك.

وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف (خِلافَكَ) وهو لغة في خلف. وتقدم عند قوله تعالى : (بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) [التوبة : ٨١].

واللبث : الاستقرار في المكان ، أي لا يستقرون في مكة بل يخرجون منها فلا يرجعون. وقد خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك مهاجرا وكانوا السبب في خروجه فكأنهم أخرجوه ، كما تقدم عند قوله تعالى : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) في سورة البقرة [١٩١] ، فلم يلبث الذين تسببوا في إخراجه وألبوا عليه قومهم بعده إلا قليلا ثم خرجوا إلى وقعة بدر فلقوا حتفهم هنالك فلم يرجعوا وحق عليهم الوعيد ، وأبقى الله عامتهم ودهاءهم لضعف كيدهم فأراد الله أن يدخلوا في الإسلام بعد ذلك.

وفي الآية إيماء إلى أن الرسول سيخرج من مكة وأن مخرجيه ، أي المتسببين في خروجه ، لا يلبثون بعده بمكة إلا قليلا.

والسنّة : العادة والسيرة التي يلتزمها صاحبها. وتقدم القول في أنها اسم جامد أو اسم مصدر عند قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) [آل عمران : ١٣٦] ، أي عادة الله في كل رسول أخرجه قومه أن لا يبقوا بعده ، خرج هود من ديار عاد إلى مكة ، وخرج صالح من ديار ثمود ، وخرج إبراهيم ولوط وهلكت أقوامهم ، فإضافة (سُنَّةَ) إلى (مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) لأدنى ملابسة ، أي سنتنا فيهم بدليل قوله : (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) فإضافته إلى ضمير الجلالة هي الإضافة الحقيقيّة.

وانتصب (سُنَّةَ) من (مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) على المفعولية المطلقة. فإن كانت (سُنَّةَ) اسم مصدر فهو بدل من فعله. والتقدير : سننّا ذلك لمن أرسلنا قبلك من رسلنا ، أي لأجلهم. فلما عدل عن الفعل إلى المصدر أضيف المصدر إلى المتعلق بالفعل إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع ؛ وإن كانت (سُنَّةَ) اسما جامدا فانتصابه على الحال لتأويله بمعنى اشتقاقي.

وجملة (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان سبب كون لبثهم بعده قليلا. وإنما سنّ الله هذه السنّة لرسله لأن تآمر الأقوام على إخراجهم يستدعي حكمة الله تعالى لأن تتعلق إرادته بأمره إياهم بالهجرة لئلا يبقوا مرموقين بعين الغضاضة بين قومهم وأجوارهم بشبه ما كان يسمى بالخلع عند العرب.

١٤٢

وجملة (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) اعتراض لتكملة البيان.

والمعنى : أن ذلك كائن لا محالة لأننا أجريناه على الأمم السالفة ولأن عادتنا لا تتحول.

والتعبير ب (لا تَجِدُ) مبالغة في الانتفاء كما في قوله : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) في سورة الأعراف [١٧].

والتحويل : تغيير الحال وهو التبديل. ومن غريب التفسير أن المراد : أن اليهود قالوا للنبي الحق بأرض الشام فإنها أرض الأنبياء فصدّق النبي قولهم فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله هذه الآية ، وهي رواية باطلة. وسبب غزوة تبوك معروف في كتب الحديث والسير ومن أجل هذه الرواية قال فريق : إن الآية مدنية كما تقدم في صدر السورة.

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨))

كان شرع الصلوات الخمس للأمة ليلة الإسراء ، كما ثبت في الحديث الصحيح ، ولكنه كان غير مثبت في التشريع المتواتر إنما أبلغه النبي أصحابه فيوشك أن لا يعلمه غيرهم ممن يأتي من المسلمين. وأيضا فقد عينت الآية أوقاتا للصلوات بعد تقرر فرضها ، فلذلك جاءت هذه الآية في هذه السورة التي نزلت عقب حادث الإسراء جمعا للتشريع الذي شرع للأمة أيامئذ المبتدأ بقوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الآيات [الإسراء : ٢٣].

فالجملة استئناف ابتدائي. ومناسبة موقعها عقب ما قبلها أن الله لما امتن على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعصمة وبالنصر ذكره بشكر النعمة بأن أمره بأعظم عبادة يعبده بها ، وبالزيادة منها طلبا لازدياد النعمة عليه ، كما دل عليه قوله في آخر الآية (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩].

فالخطاب بالأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن قد تقرر من اصطلاح القرآن أن خطاب النبي بتشريع تدخل فيه أمته إلا إذا دل دليل على اختصاصه بذلك الحكم ، وقد علم المسلمون ذلك وشاع بينهم بحيث ما كانوا يسألون عن اختصاص حكم إلا في مقام الاحتمال

١٤٣

القوي ، كمن سأله : ألنا هذه أم للأبد؟ فقال : بل للأبد.

والإقامة : مجاز في المواظبة والإدامة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) في أول سورة البقرة [٣].

واللام في (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) لام التوقيت ، وهي بمعنى (عند).

والدلوك : من أحوال الشمس ، فورد بمعنى زوال الشمس عن وسط قوس فرضيّ في طريق مسيرها اليومي. وورد بمعنى : ميل الشمس عن مقدار ثلاثة أرباع القوس وهو وقت العصر ، وورد بمعنى غروبها ، فصار لفظ الدلوك مشتركا في المعاني الثلاثة.

والغسق : الظلمة ، وهي انقطاع بقايا شعاع الشمس حين يماثل سواد أفق الغروب سواد بقية الأفق وهو وقت غيبوبة الشفق ، وذلك وقت العشاء ، ويسمى العتمة ، أي الظلمة.

وقد جمعت الآية أوقاتا أربعة ، فالدلوك يجمع ثلاثة أوقات باستعمال المشترك في معانيه ، والقرينة واضحة. وفهم من حرف (إلى) الذي للانتهاء أن في تلك الأوقات صلوات لأن الغاية كانت لفعل (أَقِمِ الصَّلاةَ) فالغاية تقتضي تكرر إقامة الصلاة. وليس المراد غاية لصلاة واحدة جعل وقتها متسعا ، لأن هذا فهم ينبو عنه ما تدل عليه اللام في قوله : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) من وجوب إقامة الصلاة عند الوقت المذكور لأنه الواجب أو الأكمل. وقد زاد عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيانا للآية.

وأما مقدار الاتساع فيعرف من أدلة أخرى وفيه خلاف بين الفقهاء. فكلمة «دلوك» لا تعادلها كلمة أخرى.

وقد ثبت في حديث أبي مسعود الأنصاري في «الموطأ» : أن أول الوقت هو المقصود. وثبت في حديث عطاء بن يسار مرسلا في «الموطأ» وموصولا عن أنس بن مالك عند ابن عبد البر وغيره : أن للصبح وقتا له ابتداء ونهاية. وهو أيضا ثابت لكل صلاة بآثار كثيرة عدا المغرب فقد سكت عنها الأثر. فترددت أنظار الفقهاء فيها بين وقوف عند المروي وبين قياس وقتها على أوقات غيرها ، وهذا الثاني أرجح ، لأن امتداد وقت الصلاة توسعة على المصلي وهي تناسب تيسير الدين.

وجعل الغسق نهاية للأوقات ، فعلم أن المراد أول الغسق كما هو الشأن المتعارف في الغاية بحرف (إلى) فعلم أن ابتداء الغسق وقت صلاة ، وهذا جمع بديع.

١٤٤

ثم عطف (قُرْآنَ الْفَجْرِ) على (الصَّلاةَ). والتقدير : وأقم قرآن الفجر ، أي الصلاة به. كذا قدر القراء وجمهور المفسرين ليعلم أن لكل صلاة من تلك الصلوات قرآنا كقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمّل : ٢٠] ، أي صلّوا به نافلة الليل.

وخص ذكر ذلك بصلاة الفجر دون غيرها لأنها يجهر بالقرآن في جميع ركوعها ، ولأن سنتها أن يقرأ بسور من طوال المفصل فاستماع القرآن للمأمومين أكثر فيها وقراءته للإمام والفذ أكثر أيضا.

ويجوز أن يكون عطف (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) عطف جملة والكلام على الإغراء ، والتقدير : والزم قرآن الفجر ، قاله الزجاج. فيعلم أن قراءة القرآن في كل صلاة حتم.

وهذا مجمل في كيفية الصلوات. ومقادير ما تشتمل عليه من القرآن بينته السنّة المتواترة والعرف في معرفة أوقات النهار والليل.

وجملة (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) استئناف بياني لوجه تخصيص صلاة الصبح باسم القرآن بأن صلاة الفجر مشهودة ، أي محضورة. وفسّر ذلك بأنها تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار ، كما ورد في الحديث : «وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح». وذلك زيادة في فضلها وبركتها. وأيضا فهي يحضرها أكثر المصلين لأن وقتها وقت النشاط وبعدها ينتظر الناس طلوع الشمس ليخرجوا إلى أعمالهم فيكثر سماع القرآن حينئذ.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩))

عطف على (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) [الإسراء : ٧٨] فإنه في تقدير جملة لكونه معمولا لفعل (أَقِمِ) [الإسراء : ٧٨].

وقدم المجرور المتعلق ب «تهجّد» على متعلقه اهتماما به وتحريضا عليه. وبتقديمه اكتسب معنى الشرط والجزاء فجعل متعلقه بمنزلة الجزاء فأدخلت عليه فاء الجزاء. وهذا مستعمل في الظروف والمجرورات المتقدمة على متعلقاتها ، وهو استعمال فصيح. ومنه قوله تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦] وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ففيهما فجاهد» ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) في سورة براءة[٧].

وجعل الزجاج والزمخشري قوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ) في معنى الإغراء بناء على أن نصب

١٤٥

(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) [الإسراء : ٧٨] على الإغراء فيكون (فَتَهَجَّدْ) تفريعا على الإغراء تفريع مفصل على مجمل ، وتكون (من) اسما بمعنى (بعض) كالتي في قوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) [النساء : ٤٦] وهو أيضا حسن.

وضمير (بِهِ) للقرآن المذكور في قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) [الإسراء : ٧٨] وإن كان المعاد مقيدا بكونه في الفجر والمذكور هنا مرادا مطلقه ، كقولك. عندي درهم ونصفه ، أي نصف درهم لا نصف الدرهم الذي عندك.

والباء للسببية.

والتهجد : الصلاة في أثناء الليل ، وهو اسم مشتق من الهجود ، وهو النوم. فمادة التفعل فيه للإزالة مثل التحرج والتأثم.

والنافلة : الزيادة من الأمر المحبوب.

واللام في (لَكَ) متعلقة ب (نافِلَةً) وهي لام العلة ، أي نافلة لأجلك. وفي هذا دليل على أن الأمر بالتهجد خاص بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالأمر للوجوب. وبذلك انتظم في عداد الصلوات الواجبة فبعضها واجب عليه وعلى الأمة ، وبعضها واجب عليه خاصة ويعلم منه أنه مرغب فيه كما صرحت به آية سورة المزمل [٢٠](إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) إلى قوله : (ما تَيَسَّرَ مِنْهُ). وفي هذا الإيجاب عليه زيادة تشريف له ، ولهذا أعقب بوعد أن يبعثه الله مقاما محمودا. فجملة (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ) تعليل لتخصيصه بإيجاب التهجد عليه ، والرجاء من الله تعالى وعد. فالمعنى : ليبعثك ربك مقاما محمودا.

والمقام : محل القيام. والمراد به المكان المعدود لأمر عظيم ، لأنه من شأنه أن يقوم الناس فيه ولا يجلسوا ، وإلا فهو المجلس.

وانتصب (مَقاماً) على الظرفية ل (يَبْعَثَكَ).

ووصف المقام بالمحمود وصف مجازي. والمحمود من يقوم فيه ، أي يحمد أثره فيه ، وذلك لغنائه عن أصحاب ذلك المقام ، ولذلك فسر المقام المحمود بالشفاعة العظمى.

وفي «صحيح البخاري» عن ابن عمر «أن الناس يصيرون يوم القيامة جثا ـ بضم

١٤٦

الجيم وتخفيف المثلثة ـ أي جماعات كل أمة تتبع نبيئها يقولون : يا فلان أشفع! حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود». وفي «جامع الترمذي» عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال : هي الشفاعة. قال : هذا حديث حسن صحيح».

وقد ورد وصف الشفاعة في صحيح البخاري» مفصلا. وذلك مقام يحمده فيه كل أهل المحشر.

(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠))

لما أمره الله تعالى بالشكر الفعلي عطف عليه الأمر بالشكر اللساني بأن يبتهل إلى الله بسؤال التوفيق في الخروج من مكان والدخول إلى مكان كيلا يضره أن يستفزه أعداؤه من الأرض ليخرجوه منها ، مع ما فيه من المناسبة لقوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] ، فلما وعده بأن يقيمه مقاما محمودا ناسب أن يسأل أن يكون ذلك حاله في كل مقام يقومه. وفي هذا التلقين إشارة إلهية إلى أن الله تعالى مخرجه من مكة إلى مهاجر. والظاهر أن هذه الآية نزلت قبيل العقبة الأولى التي كانت مقدمة للهجرة إلى المدينة.

والمدخل والمخرج ـ بضم الميم وبفتح الحرف الثالث ـ أصله اسم مكان الإدخال والإخراج. اختير هنا الاسم المشتق من الفعل المتعدي للإشارة إلى أن المطلوب دخول وخروج ميسران من الله تعالى وواقعان بإذنه. وذلك دعاء بكل دخول وخروج مباركين لتتم المناسبة بين المسئول وبين الموعود به وهو المقام المحمود. وهذا السؤال يعم كل مكان يدخل إليه ومكان يخرج منه.

والصدق : هنا الكمال وما يحمد في نوعه ، لأن ما ليس بمحمود فهو كالكاذب لأنه يخلف ظن المتلبس به.

وقد عمت هذه الدعوة جميع المداخل إلى ما يقدر له الدخول إليه وجميع المخارج التي يخرج منها حقيقة أو مجازا. وعطف عليه سؤال التأييد والنصر في تلك المداخل والمخارج وغيرها من الأقطار النائية والأعمال القائم بها غيره من أتباعه وأعدائه بنصر أتباعه وخذل أعدائه.

١٤٧

فالسلطان : اسم مصدر يطلق على السلطة وعلى الحجة وعلى الملك. وهو في هذا المقام كلمة جامعة ؛ على طريقة استعمال المشترك في معانيه أو هو من عموم المشترك ، تشمل أن يجعل له الله تأييدا وحجة وغلبة وملكا عظيما ، وقد آتاه الله ذلك كله ، فنصره على أعدائه ، وسخر له من لم ينوه بنهوض الحجة وظهور دلائل الصدق ، ونصره بالرعب.

ومنهم من فسر المدخل والمخرج بأن المخرج الإخراج إلى فتح مكة والمدخل الإدخال إلى بلد مكة فاتحا ، وجعل الآية نازلة قبيل الفتح ، فبنى عليه أنها مدنية ، وهو مدخول من جهات. وقد تقدم أن السورة كلها مكية على الصحيح.

والنصير : مبالغة في الناصر ، أي سلطانا ينصرني. وإذ قد كان العمل القائم به النبي هو الدعوة إلى الإسلام كان نصره تأييدا له فيما هو قائم به ، فصار هذا الوصف تقييدا للسلطان بأنه لم يسأل سلطانا للاستعلاء على الناس ، وإنما سأل سلطانا لنصره فيما يطلب النصرة وهو التبليغ وبث الإسلام في الناس.

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١))

أعقب تلقينه الدعاء بسداد أعماله وتأييده فيها بأن لقنه هذا الإعلان المنبئ بحصول إجابة الدعوة الملهمة بإبراز وعده بظهور أمره في صورة الخبر عن شيء مضى.

ولما كانت دعوة الرسول هي لإقامة الحق وإبطال الباطل كان الوعد بظهور الحق وعدا بظهور أمر الرسول وفوزه على أعدائه ، واستحفظه الله هذه الكلمة الجليلة إلى أن ألقاها يوم فتح مكة على مسامع من كانوا أعداءه فإنه لما دخل الكعبة ووجد فيها وحولها الأصنام جعل يشير إليها بقضيب ويقول : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) فتسقط تلك الأنصاب على وجوهها.

ومجيء الحق مستعمل مجازا في إدراك الناس إياه وعملهم به وانتصار القائم به على معاضديه تشبيها للشيء الظاهر بالشيء الذي كان غائبا فورد جائيا.

و (زَهَقَ) اضمحل بعد وجوده. ومصدره الزهوق والزهق. وزهوق الباطل مجاز في تركه أصحابه فكأنه كان مقيما بينهم ففارقهم. والمعنى : استقر وشاع الحق الذي يدعو إليه النبي وانقضى الباطل الذي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهى عنه.

١٤٨

وجملة (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) تذييل للجملة التي قبله لما فيه من عموم يشمل كل باطل في كل زمان. وإذا كان هذا شأن الباطل كان الثبات والانتصار شأن الحق لأنه ضد الباطل فإذا انتفى الباطل ثبت الحق.

وبهذا كانت الجملة تذييلا لجميع ما تضمنته الجملة التي قبلها. والمعنى : ظهر الحق في هذه الأمة وانقضى الباطل فيها ، وذلك شأن الباطل فيما مضى من الشرائع أنه لا ثبات له.

ودل فعل (كانَ) على أن الزهوق شنشنة الباطل ، وشأنه في كل زمان أنه يظهر ثم يضمحل ، كما تقدم في قوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) في صدر سورة يونس [٢].

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢))

عطف على جملة (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] على ما في تلك الجملة والجمل التي سبقتها من معنى التأييد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن الإغاظة للمشركين ابتداء من قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٧٣]. فإنه بعد أن امتن عليه بأن أيده بالعصمة من الركون إليهم وتبشيره بالنصرة عليهم وبالخلاص من كيدهم ، وبعد أن هددهم بأنهم صائرون قريبا إلى هلاك وأن دينهم صائر إلى الاضمحلال ، أعلن له ولهم في هذه الآية : أن ما منه غيظهم وحنقهم ، وهو القرآن الذي طمعوا أن يسألوا النبي أن يبدله بقرآن ليس فيه ذكر أصنامهم بسوء ، أنه لا يزال متجددا مستمرا ، فيه شفاء للرسول وأتباعه وخسارة لأعدائه الظالمين ، ولأن القرآن مصدر الحق ومدحض الباطل أعقب قوله : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] بقوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ) الآية. ولهذا اختير للإخبار عن التنزيل الفعل المضارع المشتق من فعّل المضاعف للدلالة على التجديد والتكرير والتكثير ، وهو وعد بأنه يستمر هذا التنزيل زمنا طويلا.

و (ما هُوَ شِفاءٌ) مفعول (نُنَزِّلُ). و (مِنَ الْقُرْآنِ) بيان لما في (ما) من الإبهام كالتي في قوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠] ، أي الرجس الذي هو الأوثان. وتقديم البيان لتحصيل غرض الاهتمام بذكر القرآن مع غرض الثناء عليه بطريق الموصولية بقوله : (ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ) إلخ ، للدلالة على تمكن ذلك الوصف منه

١٤٩

بحيث يعرف به. والمعنى : ننزل الشفاء والرحمة وهو القرآن. وليست (من) للتبعيض ولا للابتداء.

والشفاء حقيقته زوال الداء ، ويستعمل مجازا في زوال ما هو نقص وضلال وعائق عن النفع من العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة والأخلاق الذميمة تشبيها له ببرء السقم ، كقول عنترة :

ولقد شفى نفسي وابرأ سقمها

قيل الفوارس : ويك عنتر قدّم

والمعنى : أن القرآن كله شفاء ورحمة للمؤمنين ويزيد خسارة للكافرين ، لأن كل آية من القرآن من أمره ونهيه ومواعظه وقصصه وأمثاله ووعده ووعيده ، كل آية من ذلك مشتملة على هدي وصلاح حال للمؤمنين المتبعينه ، ومشتملة بضد ذلك على ما يزيد غيظ المستمرين على الظلم ، أي الشرك ، فيزدادون بالغيظ كراهية للقرآن فيزدادون بذلك خسارا بزيادة آثامهم واستمرارهم على فاسد أخلاقهم وبعد ما بينهم وبين الإيمان. وهذا كقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥].

وفي الآية دليل على أن في القرآن آيات يشتفى بها من الأدواء والآلام ورد تعيينها في الأخبار الصحيحة فشملتها الآية بطريقة استعمال المشترك في معنييه. وهذا مما بينا تأصيله في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير.

والأخبار الصحيحة في قراءة آيات معينة للاستشفاء من أدواء موصوفة بله الاستعاذة بآيات منه من الضلال كثيرة في «صحيح البخاري» و «جامع الترمذي» وغيرهما ، وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال : «بعثنا رسول الله في سرية ثلاثين راكبا فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا فلدغ سيد الحيّ فأتونا ، فقالوا : أفيكم أحد يرقي من العقرب؟ قال : قلت : نعم ولكن لا أفعل حتى يعطونا ، فقالوا : فإنا نعطيكم ثلاثين شاة ، قال : فقرأت عليه فاتحة الكتاب سبع مرات فبرأ» الحديث. وفيه : «حتى أتينا رسول الله فأخبرته فقال : وما يدريك أنها رقية ، قلت : يا رسول الله شيء ألقي في روعي (أي إلهام ألهمه الله) ، قال : كلوا وأطعمونا من الغنم». فهذا تقرير من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بصحة إلهام أبي سعيد ـ رضي‌الله‌عنه ـ.

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣))

١٥٠

لما كان القرآن نعمة عظيمة للناس ، وكان إعراض المشركين عنه حرمانا عظيما لهم من خيرات كثيرة ، ولم يكن من شأن أهل العقول السليمة أن يرضوا بالحرمان من الخير ، كان الإخبار عن زيادته الظالمين خسارا مستغربا من شأنه أن يثير في نفوس السامعين التساؤل عن سبب ذلك ، أعقب ذلك ببيان السبب النفساني الذي يوقع العقلاء في مهواة هذا الحرمان ، وذلك بعد الاشتغال بما هو فيه من نعمة هويها وأولع بها ، وهي نعمة تتقاصر عن أوج تلك النعم التي حرم منها لو لا الهوى الذي علق بها والغرور الذي أراه إياها قصارى المطلوب ، وما هي إلا إلى زوال قريب ، كما أشار إليه قوله تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمّل : ١١] وقوله : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران : ١٩٦ ـ ١٩٧].

فهذه الجملة مضمونها مقصود بذاته استفيد بيانها بوقوعها عقب التي قبلها.

والتعريف في (الْإِنْسانِ) تعريف الجنس ، وهو يفيد الاستغراق وهو استغراق عرفي ، أي أكثر أفراد الإنسان لأن أكثر الناس يومئذ كفار وأكثر العرب مشركون. فالمعنى : إذا أنعمنا على المشركين أعرضوا وإذا مسهم الشر يئسوا. وهذا مقابل حال أهل الإيمان الذين كان القرآن شفاء لأنفسهم وشكر النعمة من شيمهم والصبر على الضر من خلقهم.

والمراد بالإنعام : إعطاء النعمة. وليس المراد النعم الكاملة من الإيمان والتوفيق ، كما في قوله : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧]. وقوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) من النبيئين والصديقين [النساء : ٦٩].

والإعراض : الصد ، وضد الإقبال. وتقدم عند قوله تعالى : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في سورة النساء [٦٣] ، وقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) في سورة الأنعام [٦٨].

والنأي : البعد ، وتقدم في قوله تعالى : (وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) في سورة الأنعام [٢٦].

والجانب : الجنب. وهو الجهة من الجسد التي فيها اليد ، وهما جانبان : يمين ويسار.

والباء في قوله : (بِجانِبِهِ) للمصاحبة ، أي بعد مصاحبا لجانبه ، أي مبعدا جانبه. والبعد بالجانب تمثيل الإجفال من الشيء ، قال عنترة :

١٥١

وكأنما ينأى بجانب دفّها ال

وحشيّ من هزج العشي مؤوم (١)

فالمفاد من قوله : (وَنَأى بِجانِبِهِ) صد عن العبادة والشكر. وهذا غير المفاد من معنى (أَعْرَضَ) فليس تأكيدا له ، فالمعنى : أعرض وتباعد.

وحذف متعلق (أَعْرَضَ وَنَأى) لدلالة المقام عليه من قوله : (أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) ، أي أعرض عنا وأجفل منا ، أي من عبادتنا وأمرنا ونهينا.

وقرأ الجمهور (وَنَأى) بهمزة بعد النون وألف بعد الهمزة.

وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر وناء بألف بعد النون ثم همزة. وهذا من القلب المكاني لأن العرب قد يتطلبون تخفيف الهمزة إذا وقعت بعد حرف صحيح وبعدها مدة فيقلبون المدة قبل الهمزة لأن وقوعها بعد المد أخف. من ذلك قولهم : راء في رأى ، وقولهم : آرام في أرام ، جمع رئم ، وقيل : ناء في هذه القراءة بمعنى ثقل ، أي عن الشكر ، أي في معنى قوله تعالى : (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) [الأعراف : ١٧٦].

وجملة (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) احتراس من أن يتوهم السامع من التقييد بقوله: (وَإِذا أَنْعَمْنا) أنه إذا زالت عنه النعمة صلح حاله فبين أن حاله ملازم لنكران الجميل في السراء والضراء ، فإذا زالت النعمة عنه لم يقلع عن الشرك والكفر ويتب إلى الله ولكنه ييأس من الخير ويبقى حنقا ضيق الصدر لا يعرف كيف يتدارك أمره.

ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة فصلت [٥١](وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) كما سيأتي هنالك.

ودل قوله : (كانَ يَؤُساً) على قوة يأسه إذ صيغ له مثال المبالغة. وأقحم معه فعل (كان) الدال على رسوخ الفعل ، تعجيبا من حاله في وقت مس الضر إياه لأن حالة الضر أدعى إلى الفكرة في وسائل دفعه ، بخلاف حالة الإعراض في وقت النعمة فإنها حالة لا يستغرب فيها الازدهاء لما هو فيه من النعمة.

(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))

__________________

(١) أراد أنها مجفلة في سيرها نشطة ، فهي حين تسير تميل إلى جانبها كان هرا يخدش جانبها الأيسر فتميل إلى جهة اليمين ، أي لا تسير على استقامة ، وذلك من نشاط الدواب.

١٥٢

هذا تذييل ، وهو تنهية للغرض الذي ابتدئ من قوله : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [الإسراء : ٦٦] الراجع إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس في خلال الاستدلال على أنه المتصرف الوحيد ، وإلى التحذير من عواقب كفران النعم. وإذ قد ذكر في خلال ذلك فريقان في قوله : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) الآية [الإسراء : ٧١] ، وقوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢].

ولما في كلمة (كل) من العموم كانت الجملة تذييلا.

وتنوين (كُلٌ) تنوين عوض عن المضاف إليه ، أي كل أحد مما شمله عموم قوله : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) [الإسراء : ٧٢] وقوله : (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء : ٨٢] وقوله : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ) [الإسراء : ٨٣].

والشاكلة : الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها ونشأ عليها. وأصلها شاكلة الطريق ، وهي الشعبة التي تتشعب منه. قال النابغة يذكر ثوبا يشبه به بنيات الطريق :

له خلج تهوي فرادى وترعوي

إلى كل ذي نيرين بادي الشواكل

وهذا أحسن ما فسر به الشاكلة هنا. وهذه الجملة في الآية تجري مجرى المثل.

وفرع عليه قوله : (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) وهو كلام جامع لتعليم الناس بعموم علم الله ، والترغيب للمؤمنين ، والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم لعلهم ينظرون ، كقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً) الآية [سبأ : ٢٤].

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥))

وقع هذه الآية بين الآي التي معها يقتضي نظمه أن مرجع ضمير (يَسْئَلُونَكَ) هو مرجع الضمائر المتقدمة ، فالسائلون عن الروح هم قريش. وقد روى الترمذي عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل عنه ، فقالوا : سلوه عن الروح ، قال: فسألوه عن الروح ، فأنزل الله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية.

وظاهر هذا أنهم سألوه عن الروح خاصة وأن الآية نزلت بسبب سؤالهم. وحينئذ فلا

١٥٣

إشكال في إفراد هذا السؤال في هذه الآية على هذه الرواية. وبذلك يكون موقع هذه الآية بين الآيات التي قبلها والتي بعدها مسببا على نزولها بين نزول تلك الآيات.

واعلم أنه كان بين قريش وبين أهل يثرب صلات كثيرة من صهر وتجارة وصحبة. وكان لكل يثربي صاحب بمكة ينزل عنده إذا قدم الآخر بلده ، كما كان بين أمية بن خلف وسعد بن معاذ. وقصتهما مذكورة في حديث غزوة بدر من «صحيح البخاري».

روى ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بيثرب يسألانهم عن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال اليهود لهما : سلوه عن ثلاثة. وذكروا لهم أهل الكهف وذا القرنين وعن الروح كما سيأتي في سورة الكهف ، فسألته قريش عنها فأجاب عن أهل الكهف وعن ذي القرنين بما في سورة الكهف ، وأجاب عن الروح بما في هذه السورة.

وهذه الرواية تثير إشكالا في وجه فصل جواب سؤال الروح عن المسألتين الأخريين بذكر جواب مسألة الروح في سورة الإسراء وهي متقدمة في النزول على سورة الكهف.

ويدفع الإشكال أنه يجوز أن يكون السؤال عن الروح وقع منفردا أول مرة ثم جمع مع المسألتين الأخريين ثاني مرة.

ويجوز أن تكون آية سؤال الروح مما ألحق بسورة الإسراء كما سنبينه في سورة الكهف. والجمهور على أن الجميع نزل بمكة ، قال الطبري عن عطاء بن يسار : نزل قوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) بمكة.

وأما ما روي في «صحيح البخاري» عن ابن مسعود أنه قال : «بينما أنا مع النبي في حرث بالمدينة إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح ، فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يردّ عليهم شيئا ، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الآية. فالجمع بينه وبين حديث ابن عباس المتقدم: أن اليهود لما سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ظن النبي أنهم أقرب من قريش إلى فهم معنى الروح فانتظر أن ينزل عليه الوحي بما يجيبهم به أبين مما أجاب به قريشا ، فكرر الله تعالى إنزال الآية التي نزلت بمكة أو أمره أن يتلوها عليهم ليعلم أنهم وقريشا سواء في العجز عن إدراك هذه الحقيقة أو أن الجواب لا يتغير.

هذا ، والذي يترجح عندي : أن فيما ذكره أهل السير تخليطا ، وأن قريشا استقوا من

١٥٤

اليهود شيئا ومن النصارى شيئا فقد كانت لقريش مخالطة مع نصارى الشام في رحلتهم الصيفية إلى الشام ، لأن قصة أهل الكهف لم تكن من أمور بني إسرائيل وإنما هي من شئون النصارى ، بناء على أن أهل الكهف كانوا نصارى كما سيأتي في سورة الكهف ، وكذلك قصة ذي القرنين إن كان المراد به الإسكندر المقدوني يظهر أنها مما عني به النصارى لارتباط فتوحاته بتاريخ بلاد الروم ، فتعين أن اليهود ما لقنوا قريشا إلا السؤال عن الروح. وبهذا يتضح السبب في إفراد السؤال عن الروح في هذه السورة وذكر القصتين الأخريين في سورة الكهف. على أنه يجوز أن يتكرر السؤال في مناسبات وذلك شأن الذين معارفهم محدودة فهم يلقونها في كل مجلس.

وسؤالهم عن الروح معناه أنهم سألوا عن بيان ماهية ما يعبر عنه في اللغة العربية بالروح والتي يعرف كل أحد بوجه الإجمال أنها حالّة فيه.

والروح : يطلق على الموجود الخفي المنتشر في سائر الجسد الإنساني الذي دلت عليه آثاره من الإدراك والتفكير ، وهو الذي يتقوم في الجسد الإنساني حين يكون جنينا بعد أن يمضي على نزول النطفة في الرحم مائة وعشرون يوما. وهذا الإطلاق هو الذي في قوله تعالى: (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢]. وهذا يسمى أيضا بالنفس كقوله : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) [الفجر : ٢٧].

ويطلق الروح على الكائن الشريف المكون بأمر إلهي بدون سبب اعتيادي ومنه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] وقوله : (وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء : ١٧١].

ويطلق لفظ (الروح) على الملك الذي ينزل بالوحي على الرسل. وهو جبريل ـ عليه‌السلام ـ ومنه قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣].

واختلف المفسرون في الروح المسئول عنه المذكور هنا ما هو من هذه الثلاثة. فالجمهور قالوا : المسئول عنه هو الروح بالمعنى الأول ، قالوا لأنه الأمر المشكل الذي لم تتضح حقيقته ، وأما الروح بالمعنيين الآخرين فيشبه أن يكون السؤال عنه سؤالا عن معنى مصطلح قرآني. وقد ثبت أن اليهود سألوا عن الروح بالمعنى الأول لأنه هو الوارد في أول كتابهم وهو سفر التكوين من التوراة لقوله في الإصحاح الأول «وروح الله يرف على وجه المياه». وليس الروح بالمعنيين الآخرين بوارد في كتبهم.

١٥٥

وعن قتادة والحسن : أنهم سألوا عن جبريل ، والأصح القول الأول. وفي «الروض الأنف» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجابهم مرة ، فقال لهم : هو جبريل ـ عليه‌السلام ـ. وقد أوضحناه في سورة الكهف.

وإنما سألوا عن حقيقة الروح وبيان ماهيتها ، فإنها قد شغلت الفلاسفة وحكماء المتشرعين ، لظهور أن في الجسد الحي شيئا زائدا على الجسم ، به يكون الإنسان مدركا وبزواله يصير الجسم مسلوب الإرادة والإدراك ، فعلم بالضرورة أن في الجسم شيئا زائدا على الأعضاء الظاهرة والباطنة غير مشاهد إذ قد ظهر بالتشريح أن جسم الميت لم يفقد شيئا من الأعضاء الباطنة التي كانت له في حال الحياة.

وإذ قد كانت عقول الناس قاصرة عن فهم حقيقة الروح وكيفية اتصالها بالبدن وكيفية انتزاعها منه وفي مصيرها بعد ذلك الانتزاع ، أجيبوا بأن الروح من أمر الله ، أي أنه كائن عظيم من الكائنات المشرفة عند الله ولكنه مما استأثر الله بعلمه. فلفظ (أَمْرِ) يحتمل أن يكون مرادف الشيء. فالمعنى : الروح بعض الأشياء العظيمة التي هي لله ، فإضافة (أَمْرِ) إلى اسم الجلالة على معنى لام الاختصاص ، أي أمر اختص بالله اختصاص علم.

و (من) للتبعيض ، فيكون هذا الإطلاق كقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢]. ويحتمل أن يكون الأمر أمر التكوين ، فإما أن يراد نفس المصدر وتكون (من) ابتدائية كما في قوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ، أي الروح يصدر عن أمر الله بتكوينه ؛ أو يراد بالمصدر معنى المفعول مثل الخلق و (من) تبعيضية ، أي الروح بعض مأمورات الله فيكون المراد بالروح جبريل ـ عليه‌السلام ـ ، أي الروح من المخلوقات الذين يأمرهم الله بتبليغ الوحي ، وعلى كلا الوجهين لم تكن الآية جوابا عن سؤالهم.

وروى ابن العربي في الأحكام عن ابن وهب عن مالك أنه قال : «لم يأته في ذلك جواب» ا ه. أي أن قوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ليس جوابا ببيان ما سألوا عنه ولكنه صرف عن استعلامه وإعلام لهم بأن هذا من العلم الذي لم يؤتوه. والاحتمالات كلها مرادة ، وهي كلمة جامعة. وفيها رمز إلى تعريف الروح تعريفا بالجنس وهو رسم.

وجملة (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) يجوز أن تكون مما أمر الله رسوله أن يقوله للسائلين فيكون الخطاب لقريش أو لليهود الذين لقنوهم ، ويجوز أن يكون تذييلا أو اعتراضا فيكون الخطاب لكل من يصلح للخطاب ، والمخاطبون متفاوتون في القليل

١٥٦

المستثنى من المؤتى من العلم. وأن يكون خطابا للمسلمين.

والمراد بالعلم هنا المعلوم ، أي ما شأنه أن يعلم أو من معلومات الله. ووصفه بالقليل بالنسبة إلى ما من شأنه أن يعلم من الموجودات والحقائق.

وفي «جامع الترمذي» قالوا (أي اليهود) : «أوتينا علما كثيرا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا ، فأنزلت : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) الآية [الكهف : ١٠٩].

وأوضح من هذا ما رواه الطبري عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا : يا محمد ألم يبلغنا أنك تقول : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ، أفعنيتنا أم قومك؟ قال : كلّا قد عنيت. قالوا : فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء. فقال رسول الله : هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم ما إن عملتم به انتفعتم. فأنزل الله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[لقمان : ٢٧].

هذا ، والذين حاولوا تقريب شرح ماهية الروح من الفلاسفة والمتشرعين بواسطة القول الشارح لم يأتوا إلا برسوم ناقصة مأخوذة فيها الأجناس البعيدة والخواص التقريبية غير المنضبطة وتحكيم الآثار التي بعضها حقيقي وبعضها خيالي ، وكلها متفاوتة في القرب من شرح خاصاته وأماراته بحسب تفاوت تصوراتهم لماهيته المبنيات على تفاوت قوى مداركهم وكلها لا تعدو أن تكون رسوما خيالية وشعرية معبرة عن آثار الروح في الإنسان.

وإذا قد جرى ذكر الروح في هذه الآية وصرف السائلون عن مرادهم لغرض صحيح اقتضاه حالهم وحال زمانهم ومكانهم ، فما علينا أن نتعرض لمحاولة تعرف حقيقة الروح بوجه الإجمال فقد تهيأ لأهل العلم من وسائل المعرفة ما تغيرت به الحالة التي اقتضت صرف السائلين في هذه الآية بعض التغير ، وقد تتوفر تغيرات في المستقبل تزيد أهل العلم استعدادا لتجلي بعض ماهية الروح ، فلذلك لا نجاري الذين قالوا : إن حقيقة الروح يجب الإمساك عن بيانها لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمسك عنها فلا ينبغي الخوض في شأن الروح بأكثر من كونها موجودة. فقد رأى جمهور العلماء من المتكلمين والفقهاء منهم أبو بكر بن العربي في «العواصم» ، والنووي في «شرح مسلم» : أن هذه الآية لا تصد العلماء عن البحث عن الروح لأنها نزلت لطائفة معينة من اليهود ولم يقصد بها المسلمون. فقال جمهور

١٥٧

المتكلمين : إنها من الجواهر المجردة ، وهو غير بعيد عن قول بعضهم : هي من الأجسام اللطيفة والأرواح حادثة عند المتكلمين من المسلمين وهو قول أرسطاليس. وقال قدماء الفلاسفة : هي قديمة. وذلك قريب من مرادهم في القول بقدم العالم. ومعنى كونها حادثة أنها مخلوقة لله تعالى. فقيل : الأرواح مخلوقة قبل خلق الأبدان التي تنفخ فيها ، وهو الأصح الجاري على ظواهر كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي موجودة من الأزل كوجود الملائكة والشياطين ، وقيل : تخلق عند إرادة إيجاد الحياة في البدن الذي توضع فيه واتفقوا على أن الأرواح باقية بعد فناء أجسادها وأنها تحضر يوم الحساب.

[٨٦ ، ٨٧] (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧))

هذا متصل بقوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) [الإسراء : ٨٢] الآية أفضت إليه المناسبة فإنه لما تضمن قوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] تلقين كلمة علم جامعة ، وتضمن أن الأمة أوتيت علما ومنعت علما ، وأن علم النبوءة من أعظم ما أوتيته ، أعقب ذلك بالتنبيه إلى الشكر على نعمة العلم دفعا لغرور النفس ، لأن العلم بالأشياء يكسبها إعجابا بتميزها عمن دونها فيه ، فأوقظت إلى أن الذي منح العلم قادر على سلبه ، وخوطب بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن علمه أعظم علم ، فإذا كان وجود علمه خاضعا لمشيئة الله فما الظن بعلم غيره ، تعريضا لبقية العلماء. فالكلام صريحه تحذير ، وهو كناية عن الامتنان كما دل عليه قوله بعده (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) وتعريض بتحذير أهل العلم.

واللام موطئة للقسم المحذوف قبل الشرط.

وجملة (لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) جواب القسم. وهو دليل جواب الشرط ومغن عنه.

و (لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا) بمعنى لنذهبنه ، أي عنك ، وهو أبلغ من (نذهبه) كما تقدم في قوله : (الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١].

وما صدق الموصول القرآن.

و (ثم) للترتيب الرتبي ، لأن نفي الطمع في استرجاع المسلوب أشد على النفس من

١٥٨

سلبه. فذكره أدخل في التنبيه على الشكر والتحذير من الغرور.

والوكيل : من يوكل إليه المهم. والمراد به هنا المدافع عنك والشفيع لك. ولما فيه من معنى الغلبة عدي ب (على). ولما فيه من معنى التعهد والمطالبة عدي إلى المردود بالباء ، أي متعهدا بالذي أوحينا إليك. ومعنى التعهد : به التعهد باسترجاعه ، لأنه في مقابلة قوله : (لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، ولأن التعهد لا يكون بذات شيء بل بحال من أحواله فجرى ، الكلام على الإيجاز.

وذكر هنا (وَكِيلاً) وفي الآية قبلها (نَصِيراً) لأن معنى هذه على فرض سلب نعمة الاصطفاء ، فالمطالبة بإرجاع النعمة شفاعة ووكالة عنه ، وأما الآية قبلها فهي في فرض إلحاق عقوبة به ، فمدافعة تلك العقوبة أو الثأر بها نصر.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) منقطع فحرف الاستثناء فيه بمعنى الاستدراك. وهو استدراك على ما اقتضاه فعل الشرط من توقع ذلك ، أي لكن رحمة من ربك نفت مشيئة الذهاب بالذي أوحينا إليك فهو باق غير مذهوب به.

وهذا إيماء إلى بقاء القرآن وحفظه ، قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

وموقع (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) موقع التعليل للاستثناء المنقطع ، أي لكن رحمة من ربك منعت تعلق المشيئة بإذهاب الذي أوحينا إليك ، لأن فضله كان عليك كبيرا فلا يحرمك فضل الذي أوحاه إليك. وزيادة فعل (كان) لتوكيد الجملة زيادة على توكيدها بحرف التوكيد المستعمل في معنى التعليل والتفريع.

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨))

استئناف للزيادة في الامتنان. وهو استئناف بياني لمضمون جملة (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) [الإسراء : ٨٧]. وافتتاحه ب (قل) للاهتمام به. وهذا تنويه بشرف القرآن فكان هذا التنويه امتنانا على الذين آمنوا به وهم الذين كان لهم شفاء ورحمة ، وتحديا بالعجز على الإتيان بمثله للذين أعرضوا عنه وهم الذين لا يزيدهم إلا خسارا.

واللام موطئة للقسم.

١٥٩

وجملة (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) جواب القسم المحذوف.

وجرد الجواب من اللام الغالب اقترانها بجواب القسم كراهية اجتماع لامين : لام القسم ، ولام النافية.

ومعنى الاجتماع : الاتفاق واتحاد الرأي ، أي لو تواردت عقول الإنس والجن على أن يأتي كل واحد منهم بمثل هذا القرآن لما أتوا بمثله. فهو اجتماع الرأي لا اجتماع التعاون ، كما تدل عليه المبالغة في قوله بعده : (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

وذكر الجن مع الإنس لقصد التعميم ، كما يقال : «لو اجتمع أهل السماوات والأرض» ، وأيضا لأن المتحدّين بإعجاز القرآن كانوا يزعمون أن الجن يقدرون على الأعمال العظيمة.

والمراد بالمماثلة للقرآن : المماثلة في مجموع الفصاحة والبلاغة والمعاني والآداب والشرائع ، وهي نواحي إعجاز القرآن اللفظي والعلمي.

وجملة (لا يَأْتُونَ) جواب القسم الموطأ له باللام. وجواب (إن) الشرطيّة محذوف دل عليه جواب القسم.

وجملة (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) في موقع الحال من ضمير (لا يَأْتُونَ).

و (لو) وصلية ، وهي تفيد أن ما بعدها مظنة أن لا يشمله ما قبلها. وقد تقدم معناها عند قوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) في سورة آل عمران [٩١].

والظهير : المعين. والمعنى : ولو تعاون الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله فكيف بهم إذا حاولوا ذلك متفرقين.

وفائدة هذه الجملة تأكيد معنى الاجتماع المدلول بقوله : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) أنه اجتماع تظافر على عمل واحد ومقصد واحد.

وهذه الآية مفحمة للمشركين في التحدي بإعجاز القرآن.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

لما تحدى الله بلغاء المشركين بالإعجاز تطاول عليهم بذكر فضائل القرآن على ما

١٦٠