من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (١).

أما الذي يعتقد بالدنيا وحدها فسعيه سوف يكون من أجل إشباع الشهوات ، وجمع الزينة ، وستزيده زينتها انغماسا فيها وبعدا عن الحق. ومن مظاهر الاهتمام الزائد بالزينة التوجه الى القشور ، على حساب اللباب. بينما المؤمن بالآخرة يحس بالمسؤولية فلا يسترسل في اتباع شهواته ، ولا يندفع في الزينة التي تخالف مصالحه الحقيقية.

(وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ)

والتفاخر هو الآخر مما يتلهى به الإنسان ويستعيض به عن اهدافه الحقيقية ، وإذا كان اللعب واللهو والزينة تحكي الجانب الفردي من الاغترار بالدنيا ، فان التفاخر هو الجانب الاجتماعي لذات الحالة ، ويأتي التفاخر نتيجة مباشرة للافتتان بالزينة إذ يرى الشخص نفسه كاملا وأفضل من غيره من خلالها ، فيركبه الخيلاء والفخر.

ثم تتحول هذه الحالة النفسية الاجتماعية الى فعل خارجي يمارسه المختال الفخور ليثبت عظمته على غيره من خلال التكاثر والتسابق المادي ، قال تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) (... وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ (وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً* وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) (٢). انظر هكذا يتحول حب الدنيا وزينتها الى حالة نفسية داخلية (الغرور والظلم) فاجتماعية (التباهي والتفاخر).

__________________

(١) الكهف / ٢٨

(٢) الكهف / ٣٢ ـ ٣٥

٨١

(وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ)

الممتلكات من العملات والعقارات ، والمشاريع وما أشبه.

(وَالْأَوْلادِ)

الأبناء والأنصار ، وقد يتحول هذا التسابق صراعا بين الناس في غالب الأحيان ، ويركز فيهم حب الدنيا ضمن أطر سياسية واجتماعية واقتصادية ، وأظهر صورة صراع القوى الاستكبارية وتسابقها في نهب ثروات العالم ، واستغلالهم في صالحها ، والسيطرة عليهم بضمهم الى نفوذها.

تعالوا نمعن النظر في هذه الحياة الدنيا التي استحوذت على أفئدتنا (هذا اللعب واللهو ، هذه الزينة ، وهذا التفاخر والتكاثر) ما هي عاقبتها؟ بل ما هي حقيقتها بل هل لها ـ أساسا ـ حقيقة أم انها أضغاث أحلام تراود النائمين فاذا ماتوا انتبهوا ، وعرفوا انها لم تكن سوى سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، أو حفنة رماد في كف الاعصار.

ولكن انّى لنا ان نفكر في الدنيا ولا زلنا في أسر سحرها الجذاب؟! لا تكاد لحظة تمر علينا إلّا ونحن في دوامة امنية نسعى إليها ، أو فتنة نعيش في لهبها ، أو صراع نحترق في اتونه ، وحتى في النوم تلاحقنا كوابيس النهار في صورة أحلام مزعجة! إذا كيف الخلاص من أغلال هذه الشهوات لنفكر بحرية وموضوعية في واقعنا؟

إن للقرآن الحكيم مناهج شتى تساعد على التفكر السليم ، وما يشير اليه السياق هنا من أبرزها : ان ننظر الى الطبيعة ودوراتها السريعة ، ونتساءل : أليست هذه

٨٢

هي الدنيا؟! أو ليست حياة النبات في دورتها السريعة شبيهة بحياة الإنسان في دورة أبطأ قليلا ولكن بذات النسق ، يقول عنها ربنا في آية كريمة : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً* الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (١)؟! ويقول ربنا في هذه الآية :

(كَمَثَلِ غَيْثٍ)

مطر نزل على الأرض ، فسقاها ، واختلط بما فيها من بذور فصارت نباتا.

(أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ)

أي أدخل الى نفس الفلاح العجب والاغترار به ، كما تدخل زينة الدنيا في نفوس الكافرين بالآخرة ، ولا شك ان هذه الحالة سوف تجعله يعتقد ببقائه ، ويلهو عن نهايته حيث يصير حطاما ، والنبات هو المزروعات الصغيرة التي لا تبقى كالقمح والذرة ، ويقال لها نباتا في أطوارها الاولى حيث تشق التربة.

(ثُمَّ يَهِيجُ)

ويترعرع ، ويثمر حينما يبلغ أقصى القوة ، ولكنه لا يبقى طويلا حتى تبدأ مسيرته الى النهاية.

(فَتَراهُ مُصْفَرًّا)

أول الأمر. والملاحظ ان العطف جاء بالفاء وهي أقرب الحروف عطفا.

__________________

(١) الكهف / ٤٥ ـ ٤٦.

٨٣

(ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً)

إذا أكمل دورته الحياتية ، إذ تيبس وتتكسر أوراقه وأعواده ، وهذه بالضبط مسيرة الحياة عند الإنسان في الدنيا ، يبدأ طفلا كالنبات ، ثم ينشط ويهيج عند المراهقة والشباب ، ولكنك تراه يتنكس في الخلق شيئا فشيئا ، ويفقد قوته وزينته ليصير كهلا فشيخا عجوزا قد وهن عظمه وخارت قواه ، ولا يطول به الأمد حتى تراه جثة هامدة محمولة على الأكتاف الى قبر ضيق يستحيل فيه هيكلا ، فأوصالا ، فحطاما ، فترابا تذروه الرياح ، فلما ذا يتشبث الإنسان بالحطام والمتاع الزائل اذن وهو مقبل على الاخرة؟

ثانيا : ما هي أهدافه في الدنيا وكيف يصل بها؟

وحينما يطمئن الإنسان الى حقيقة الدنيا فسيعلم ان حطامها ليس بالذي يشبع طموحاته ويحقق تطلعاته ، إنّه يريد السعادة ولا تتم له فيها ، ويريد الخلود وهيهات ذلك؟ ، فلا بد ان يبحث له عن هدف سام يجده أهل للسعي له ، وهذا لا يمكن حتى يضيف الى علمه بحقيقة الدنيا علما بحقيقة الآخرة ، ومن هذا المنطلق يعطف الله على قوله (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) قوله تعالى :

(وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ)

فكل إنسان يحس بفطرته ، ان طموحاته أكبر من الدنيا وما فيها ، ولكنّه إذا غفل عن الاخرة فسيبقى مصرا على التشبث بالدنيا ، طمعا في تحقيق ما يقدر عليه منها مما كان متواضعا ، ولذلك نجد القرآن يرسي قاعدة الايمان بالآخرة في النفس ليحقق التوازن المطلوب في نفس البشر لكي لا ينساق وراء التكاثر في جمع حطامها ، ظنا منه انه يحقق تطلعاته بذلك. كلا .. أنت مخلوق لما هو أكبر منه وأبقى ، فما

٨٤

الذي يعطيك هذا التفاخر والتكاثر؟ هب انك بلغت ما بلغ سليمان ذلك النبي الكريم الذي سخرت له الريح ، واستخدم الجن وعلم منطق الطير ، ولكن أتعلم اين سليمان اليوم؟ واين ملكه الكبير؟ وأين عزته الشامخة؟ أفلا نعتبر بمصير الملوك الذين حققوا عند الناس طموحاتهم فاذا بهم ينقلون من قصورهم الى قبورهم تأكل أبدانهم الديدان قبل ان تصبح رميما ثم ترابا تذروه الرياح؟

أما المؤمن بالآخرة فان نفسه قانعة بما لديها ، راضية بما آتاها الله ، وتائقة الى ما عنده. هل سمعت نبأ الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) كيف خرج عن أمواله جميعا لله مرة وقاسم الله أمواله مرات؟ أم هل عرفت زهد الامام علي عليه السلام؟ وهكذا المؤمن يستبدل الدنيا بالآخرة ، ولن يمتنع عن الإنفاق في سبيل الله.

وعلى أساس الايمان بأن الآخرة هي دار الجزاء والخلود ـ فأما عذاب شديد ، أو مغفرة ورضوان من الله حسب ما يقدم الإنسان في الدنيا ليوم الحساب ـ فانه لا ريب سيعرف أهمية الحياة الدنيا ، ودورها الحاسم في مستقبله الابدي ، وحينها لن يدع الهزال والمزاح واللعب يأخذ من وقته شيئا ، لان الغاية عظيمة ، والخطر كبير ، والفرصة قصيرة ، بل سوف يخشع قلبه لذكر الله خوفا من عذابه ، وطمعا في مغفرته ورضوانه.

وأعظم هدف يسعى اليه هو الخلاص من النار ، لان صراط الجنة يمر من فوقها. أو ليس طريق الجنة محفوفا بالمكاره التي ينبغي للإنسان تحملها والصبر عليها ، وبالشهوات التي ينبغي ان يتحداها ويجتنبها ، فان لم يتحمل ولم يصبر ، أو لم يتحد ويتجنب فسوف يقع في الجحيم وقودا لنيرانها ويعذب فيها بقدر فشله؟ وهذه الغاية من أعظم طموحات المتقين «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً

٨٥

سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (١). وأعظم بها من غاية فاز والله من أصابها (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) (٢).

والهدف الآخر هو الدخول الى الجنة ، وذلك لا يمكن من دون مغفرة الله ورضوانه ، إذ لا يدخل أحد الجنة بعمله ـ بل بفضل الله ـ حتى الأنبياء ، وذلك لا يتحقق الا بالانابة الى الله والاعتراف له بالخطإ ، والسعي الدائب للإصلاح.

(وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ)

هذه هي الاهداف الحقيقية التي يجب على كل إنسان السعي من أجلها ، وبها تصبح الدنيا آخرة ، والحياة فيها ذات معنى ، وكل ساعة فيها أعظم من ساعات الآخرة. أما بدونها فتصبح لعبا ولهوا ، وتتحول الى أداة للغرور.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)

المتاع هو الزاد ، والغرور الانخداع ، قال تعالى : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٣) ، وشبّه ربنا الدنيا بزاد الغرور ، لأنها لا تشبع عند المنخدع بها حاجة حقيقية ، إلا غروره الكاذب الباطل ، الذي ينتهي عند الموت ، فلا تبقى عنده ذرة من غرور.

وإذا نظرنا الى حديث القرآن عن الدنيا ، والى السياق الذي تقع ضمنه في كل مرة ، فاننا سوف نلاحظ ورود ذكرها في مواضع كثيرة وعلاجا لمشاكل مختلفة مما يثير فينا التساؤل : لماذا؟ وقد يتكرر النص الواحد في موارد متعددة ، وسياقات مختلفة ، ويجيب عن ذلك الحديث المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) :

__________________

(١) آل عمران / ١٩١

(٢) آل عمران / ١٨٥

(٣) لقمان / ٣٣

٨٦

حب الدنيا رأس كل خطيئة فمهما وجدت انحرافا أو خطأ في حياة الإنسان (فردا وجماعة) فانك تجده متصلا بحب الدنيا ، والاغترار بها.

[٢١] وإذا تحول نظر الإنسان وقلبه الى تلك الاهداف السامية ، فهو لا ريب سيتحول موقفه من الدنيا وسلوكه فيها ، فالاهداف عظيمة والفرصة قصيرة ، إذا لا بد من ترك اللعب واللهو الى الجد والاجتهاد ، وترك الزينة الى ما ينفع ، والتفاخر والتكاثر في الأموال والأولاد الى التسابق في الخير والصالحات الباقيات.

إن تلك الاهداف كفيلة بان تجعله في ذروة الفاعلية ، وتحيل المجتمع الى بركان متفجر من الحيوية والاجتهاد وروادا في فضيلة التسليم للقيادة الرسالية ، والاستجابة لدعوتها.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)

وانبعثوا انبعاثة نحو الجنة العريضة ، بدل الدنيا ، وقاوموا جاذبية المادة طلبا لرضوان الله.

(وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ)

وهذا هو الأجر وهو ـ في ذات الوقت ـ النور الذي وعد به الله تعالى الصديقين والشهداء في الآية (١٩).

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ)

فلا يظنن أحد أنّه يمن على ربه بالايمان ، أو انه يحصل عليه بجهده ، أو يدخل الجنة بسعيه ، إنما بفضل الله ومنه يحظى الإنسان بالايمان ، ويدخل الجنة ، بلى. ان

٨٧

ارادة الإنسان وسعيه ضروري ، كما قال ربنا : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١) ، ولكن التوفيق الى ذلك جزء من فضله تعالى.

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

وما دمنا في مقام رب عظيم ، ذي فضل عظيم ، ومغفرة عظيمة ورضوان ، فمن السفه ان نرضى لأنفسنا بالأدنى ، ونشتغل بالتوافه تاركين وراءنا ذلك الفضل العظيم.

ويأتي الأمر الالهي بالتسابق الذي يستهدف (المغفرة والرضوان) ، وهو أعلى مراحل السعي الايجابي وحالاته ، في مقابل التكاثر في الأموال والأولاد ، الذي يستهدف جمع أكبر قدر من حطام الدنيا ، ويمثل أسفل دركات العلاقة والانشداد بها ، بالرغم من اعتقاد الإنسان بأنه يبلغ الكمال عندها. ويصل التسابق الى أقصاه حينما ينبذ المؤمنون الغرور بالعمل والاماني ، وينطلقون من الاحساس بالتقصير ، لان الاحساس بالكمال يوقفهم عن السعي والاستزادة ، ولذلك قال تعالى (إِلى مَغْفِرَةٍ) ، وهذه من صفات المتقين «لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متهمون ، ومن أعمالهم مشفقون ، إذا زكي أحد منهم خاف مما يقال له ، فيقول : انا أعلم بنفسي من غيري ، وربي أعلم بي من نفسي! اللهم لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني أفضل مما يظنون ، واغفر لي ما لا يعلمون» (٢) وهذه الصفة هي التي تصنع الإبداع والفاعلية في الفرد والمجتمع ، وتجعله يتقدم الى الامام أبدا.

__________________

(١) الإسراء / ١٩

(٢) نهج / ح ١٩٣ ص ٣٠٤

٨٨

ثالثا : ما هو الموقف السليم من متغيرات الدنيا؟

[٢٢ ـ ٢٣] وحيث يعيش المؤمنون في الدنيا ، ويسابقون الى فضل الله ، فلا بد ان يستوعبوا طبيعتها المتغيرة لكي لا تترك آثارها السلبية عليهم ، ففيها الغنى والفقر ، والشفاء والمرض ، والقوة والضعف ، والنصر والهزيمة ، والزيادة والنقص ، ولا بد ان يستقيموا على كل حال ، فالذي يتغير مع الظروف والمتغيرات لا يصل الى اهدافه وطموحاته ، لأنه تضله النعمة بطرا ، والمصيبة يأسا ، أو يعطي ويسابق حيث تسود هذه الحالة المجتمع ويلقى التشجيع إليها ، ولكنه يتوقف حيث توقف الآخرون ، أو ثبطوه ، فكيف يحصل الإنسان على الثبات؟

أولا : بالمعرفة العميقة بطبيعة الدنيا على ضوء الآية الكريمة (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ .. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) والرغبة في فضل الله ، مما يزهد الإنسان فيها ، فلا يفرح حين تقبل عليه ، ولا يحزن حين تدبر عنه ، لأنها ليست بذات شأن عظيم عنده.

قال الامام علي (ع) : الناس ثلاثة : زاهد وصابر وراغب ، فاما الزاهد فقد خرجت الأحزان والأفراح من قلبه ، فلا يفرح بشيء من الدنيا ، ولا يأسى على شيء منها فاته فهو مستريح» (١) ، وقال (ع) : «الزهد كله بين كلمتين في القرآن ، قال الله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) ومن لم يأس على الماضي ، ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه (٢).

ونقل عن الإمام الباقر (ع) انه رأى جابر بن عبد الله (رضي) وقد تنفس الصعداء (التنفس الطويل من همّ أو تعب) فقال (ع) : يا جابر على م تنفسك

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٤٨

(٢) المصدر / ص ٢٤٩

٨٩

أعلى الدنيا»؟! فقال جابر : نعم ، فقال له : «يا جابر ملاذ الدنيا سبعة : المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، والمنكوح ، والمركوب ، والمشموم ، والمسموع ، فألذّ المأكولات العسل وهو بصق من ذبابه ، وأحلى المشروبات الماء ، وكفى بإباحته وسباحته على وجه الأرض ، وأعلى الملبوسات الديباج وهو من لعاب دودة ، وأعلى المنكوحات النساء وهو مبال في مبال ، ومثال لمثال وو انما يراد أحسن ما في المرأة لأقبح ما فيها ، وأعلى المركوبات الخيل وهو قواتل ، وأجل المشمومات المسك وهو دم من سرة دابة ، وأجل المسموعات الغناء والترنم وهو إثم ، فما هذه صفته لم يتنفس عليه عاقل».

قال جابر : فو الله ما خطرت الدنيا بعدها على قلبي (١).

ثانيا : الرضى والتسليم بالقضاء الذي يأذن به الله فيقع ، وهو أرفع درجة من الزهد ، بل أرفع درجات الايمان لقول الامام علي بن الحسين (ع) وقد سئل عن الزهد : «الزهد عشرة أجزاء ، فأعلى درجات الزهد أدنى درجات الورع ، وأعلى درجات الورع أدنى درجات اليقين ، وأعلى درجات اليقين ادنى درجات الرضى» (٢) ، ولا يسمو الإنسان اليه الا إذا آمن بأن كل ما يحدث في الوجود بتقدير مسبق من الله (القدر) ، فذلك بدل ان يؤثر فيه سلبا باتجاه الانحراف يؤكد فيه الانتماء الى مسيرة الحق ، والتوحيد المخلص لله بدل الشرك ، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٣) ، لأنهم يعتقدون بهذه الحقيقة :

__________________

(١) بح / ج ٧٨ ص ١١

(٢) بحار الأنوار / ج ٧٨ ص ١٣٦

(٣) البقرة / ١٥٥ ـ ١٥٦

٩٠

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ)

خارجية من حولكم ، قال صاحب المجمع : مثل قحط المطر : وقلة النبات ، ونقص الثمرات.

(وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ)

مباشرة «من الأمراض والثكل بالأولاد» (١) أو ما أشبه.

(إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها)

فهي مكتوبة على الإنسان في قدر الله قبل الخلق الاول لنفسه ، وتحولها الى الواقع انما هو تصويب للقدر بإنفاذ القضاء ، ومن الصعب على الإنسان ان يستوعب هذه الحقيقة انطلاقا من النظر الى نفسه وقدراته المحدودة ، ولكنّه إذا فكر فيها من خلال ارادة الله وعلمه فالأمر هين عنده تعالى.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)

وكيف لا يكون كذلك «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»؟

ولهذه الآية الكريمة علاقة وثيقة بالدعوة الى التسابق ، وهي ان المتغيرات السلبية في حياة الإنسان (المصيبة) قد تصيبه بالإحباط النفسي الذي يفقده الفاعلية اللازمة للتسابق ، ولا شك ان الايمان بالقضاء والقدر مانع عن الإحباط في الضراء كما هو حاجز عن الاغترار في السراء.

(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ)

__________________

(١) المجمع عند الآية

٩١

لأن اليأس (التثبط والهزيمة الداخلية) بسبب التغير السلبي يسلبنا الفاعلية والتحرك. ولماذا نسعى ونسابق الى هدف لا نصل اليه؟ هذا هو الاحساس والتساؤل الذي يرتسم عند المصيبة ، ولكن لماذا اليأس ، فالمصيبة إما بإرادة الهية لا سبيل فيها إلا الاعتراف بها والتسليم لارادة ربنا وحكمته ، واما تكون بسببنا فنحن إذا قادرون على مقاومتها وتغييرها بتغيير ما في أنفسنا. ولا داعي لليأس ، فقد نجاهد العدو فنفشل وننهزم لاننا متفرقون ، منهزمون نفسيا ، ولكننا نستطيع الانتصار عليه إذا اعترفنا بعوامل الهزيمة عندنا فتجنبناها ، وأسباب الانتصار عند العدو فأخذنا بها.

وكذلك النعمة يجب ان لا تدفعنا الى الغرور والفخر ، فنعتمد عليها بدل الاعتماد على الله ، وهي لا تبقى ، أو ننسى العوامل التي تسببت فيها فتزول.

(وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)

لان الفرح (الغرور والاحساس بالكمال) يدعونا الى التوقف ، كاليأس ولكن بصورة أخرى ، حيث لا نجد دافعا الى السعي والاستزادة ، وقد بلغنا القمة عند أنفسنا ، بل قد يدعونا الى الشرك وذلك للشعور بالاستغناء عن الله تعالى.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)

كائنا من كان ، لأنهما صفتان سلبيتان منبوذتان عنده تعالى ، لا يبررهما حسب ولا نسب ولا منصب ولا فضل مادي أو معنوي. ونستلهم من الآية :

أولا : ان الفرح (والاعجاب بما نملك) يسبب التكبر على الناس والفخر.

ثانيا : ان علاجه يتم بالايمان بالقضاء والقدر ، وان ما نملك لم نحصل عليه من

٩٢

عند أنفسنا بل بفضل الله سبحانه ، فلا داعي للتعالي على الناس به أو الفخر والغرور.

ثالثا : ان من يعيش التكبر والفخر يخسر ما آتاه الله ، لان الله لا يحب كل مختال فخور ، وإذا كانت النعمة من الله فان زوالها سيكون بيده.

[٢٤] ويضرب الله مثلا على المختالين الذين يفخرون ، ويبين لنا انعكاس فرحهم بالنعم على نفوسهم وسلوكهم بالنسبة للإنفاق ، بعد بيان انعكاسه في النفس والمجتمع.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ)

وانما يبخلون لاسباب أهمها أمران ، الاول : لأنهم يريدون التفاخر والتكاثر ، فهم يزعمون أنّ الإنفاق يقلل ما يملكون ، وجاء في الحديث «ما فتح على عبد بابا من أمر الدنيا إلّا وفتح عليه من الحرص مثليه» (١) والثاني : لأنهم يحسون بالاستغناء عن كل أحد ، وهذا يتضخم في نفوسهم حتى يشعرون بعدم الحاجة الى ثواب الله ، فاذا بهم لا يستجيبون لدعوته بالإنفاق ، ولا يدعمون مسيرة الحق.

(وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ)

الذي لا يحتاج الى أحد ، وانما أمر بالإنفاق لصالح الناس ولابتلائهم.

(الْحَمِيدُ)

فهو يواصل فضله على عباده ، ولكن لماذا يأمرون الناس بالبخل؟

__________________

(١) بح / ج ٧٣ ص ١٦٠

٩٣

١ ـ لكي يبرروا بخلهم بخلق تيار من البخلاء في المجتمع حتى لا يرى بخلهم شذوذا.

٢ ـ حفاظا على الحالة الطبقية التي تمهد لهم الاستبداد والاستغلال والفخر والخيلاء ، أما إذا ردمت الهوة بين الطبقتين الأغنياء والفقراء فعلى من يختالون ويفتخرون ، ومن يستغلون ويستبدون؟! والرأسمالية الموجودة الآن هي أحد إفرازات الفلسفات والأفكار الاغريقية القديمة العفنة ، والتي تقسم الناس الى طبقات حتمية ، وذاتها موجودة الآن في الفلسفات البرهماتية في الهند.

٣ ـ كما ان المنافقين يتخذون تثبيط الناس عن الإنفاق ، ودعوتهم الى البخل سبيلا للصد عن سبيل الله ، ومحاربة الرسول ورسالته الداعيان الى العدالة والوقوف ضد الطبقية المقيتة ، واستغلال الناس و. و. مما يتعارض مع مصالحهم. قال الله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) (١) وهذه الاية تشير الى الهدف الأخير للأمر بالبخل ، ولعل الاية من سورة الحديد اشارة الى دور المنافقين في محاربة الرسالة ، والدعوة الى التولي عن الرسول والحق.

وفي الاخبار روايات كثيرة في ذم البخل والبخلاء إليك بعضها :

قال الرسول (صلى الله عليه وآله) : «البخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، قريب من النار» (٢) وقال الامام علي (عليه السلام) : «البخل جامع لمساوئ العيوب ، وهو زمام يقاد به الى كل سوء» (٣) وقال : «النظر الى البخيل يقسي

__________________

(١) المنافقون / ٧ ـ ٨

(٢) بح / ج ٣٠٨٧٣

(٣) المصدر / ص ٣٠٧

٩٤

القلب» (١) وقال الامام الصادق (عليه السلام) : «حسب البخيل من بخله سوء الظن بربه ، من أيقن بالخلف جاد بالعطية» (٢) وعن الامام الرضا عليه السلام :«إيّاكم والبخل فانها عاهة لا تكون في حر ولا مؤمن. إنّها خلاف الايمان» (٣).

__________________

(١) بح / ج ٧٨ ص ٥٣

(٢) بح / ج ٧٧ ص ١٤٧

(٣) بح / ج ٧٨ ص ٣٤٦

٩٥

لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ

___________________

٢٥ [بأس] : عذاب بالقتل أو القصاص ونحوهما.

٩٦

وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

___________________

٢٨ [قفّينا] اتبعنا.

[ورهبانيّة] مشتقّة من الرهبة ، بمعنى ما يظهر من العبادة على الجوارح من آثار رهبة القلب.

٩٧

لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ

هدى من الآيات :

إقامة العدالة وفق القيم الالهية أحد أهم وأبرز الاهداف التي تنزلت من أجلها رسالات الله ، وسعى إليها الأنبياء والرسل ، كما ينبغي ان يسعى إليها كل مؤمن بل كل إنسان ، ولا يجوز أن ينتظر رسولا يبعثه الله ليتحمّلها ، فإذا لم يحدث ذلك اعتزل الواقع ، وبالغ في الترهّب انتظارا للمنقذ ، كما فعل الكثير من أهل الكتاب ، فإن ذلك يصير بهم الى الظلم والتخلّف في الدنيا ، والعذاب والغضب الإلهيين في الآخرة .. وإذا رفع راية العدالة شخص أو تجمّع فان على سائر الناس ان ينصروه ان وثقوا منه ومن اهدافه ، ولا يدعوه وحده في مواجهة الظالمين ، فذلك هو المحك الذي يثبت شخصية الامة الحقيقية ، كما أنّه الطريق الى كفلين من رحمة الله : هدى ورحمة في الدنيا ، وجنّة ومغفرة في الآخرة.

٩٨

بينات من الآيات :

[٢٥] ما هي السمات الاساسية للحركة الصادقة؟ وما هو هدفها والمنهج الالهي الكفيل بالوصول اليه؟ ومن هو المسؤول عن تطبيقه؟ عن هذه الأسئلة الحساسة تتحدّث آية الحديد التي تنتهي إليها بصائر هذه السورة التي سميت باسمها.

إنّ أهم السمات في الحركة الصادقة والتي تعد بيّنات على سلامتها هي التالية :

الأولى : الانبعاث باسم الله رب العالمين ، أمّا الانطلاقة الضالة التي تبدأ من ثقافة الشرك والجحود فانها آية واضحة على خطأ الحركات التي ترتكز عليها ، والرسل وحدهم انطلقوا باسم الله وبأمره الذي تلقوه عبر الوحي بعد اختيارهم من قبله تعالى ، وحيث ختم الله عهد هذا النوع من الحركات بنبيّه محمّد (ص) فان الحركة الصادقة هي التي تكون امتدادا لهم وبزعامة الأوصياء والربانيين والعلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه والأولياء والقادة الرساليين.

الثانية : المنهج الرباني الأصيل ، والمتمثل في الرسالات التي أكملها وختمها ربنا بالقرآن الذي حفظه من التحريف ، وجعله مهيمنا على الكتب ، فانّه المنهج الأصيل والوحيد الذي يجب اتباعه ، واتباع هداه وبصائره ، اما المناهج القائمة على الجهالة والإفراط واتباع الأهواء فهي لا تصلح وسيلة مناسبة للنجاح ، لأنها إذا أخرجت الناس من ظلمات فلكي تدخلهم في مثلها ، أو أنقذتهم من عبودية فالى عبودية مثلها أو أسوء منها.

الثالثة : الاهداف السامية ، والتي يلخّصها القرآن في العدل (قيام الناس

٩٩

بالقسط) ، ولكن ليس بالمفهوم الضيّق له المتمثّل في ردم الهوة بين الطبقات الاجتماعية ، بل التزام الحق والإنصاف من قبل الإنسان في كل أبعاد حياته وعلاقاته ، في علاقته بربه وقيادته ، وفي علاقته بنفسه ومجتمعة ، وفي علاقته بالخليقة من حوله ، وانما يعرف مدى قيامه بالقسط من خلال الميزان (الفطرة ، والعقل ، والكتاب ، والقيادة ، ...).

والحركة الصادقة هي التي تسعى الى ذلك بالكلمة الصادقة أو بالقوة والسلاح ، وهي التي يجب على الناس تبنّيها ، ومساعدتها ، والانتماء الى صفوفها ، لأنها تجاهد للحق ومن أجل سعادتهم ، ولأنها المحك في نصرتهم لله ولمسيرة الأنبياء والمرسلين.

والآية تشير الى هذه السمات إذ تقول :

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا)

دليلا الى الله ، وتعريفا للناس به تعالى ، فهم يتحمّلون مسئولية محددة هي تبليغ رسالة الخالق الى المخلوقين ، وهدايتهم الى معرفته ، والايمان به ، والعمل برسالته ، قال النبي (ص) : «بعث إليهم الرسل لتكون له الحجة البالغة على خلقه ، ويكون رسله إليهم شهداء عليهم ، وابتعث فيهم النبيين مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيى من حي عن بينة ، وليعقل العباد عن ربهم ما جهلوه ، فيعرفوه بربوبيته بعد ما أنكروا ، ويوحّدوه بالالهية بعد ما عضدوا (أشركوا)» (١) ، وقال الامام علي (ع) : «بعث رسله بما خصهم به من وحيه ، وجعلهم حجة له على خلقه ، لئلا تجب الحجة لهم بترك الاعذار إليهم» (٢) ، فهم

__________________

(١) توحيد المفضل / ص ٤٥

(٢) نهج / خ ١٤٤

١٠٠