من هدى القرآن - ج ١٥

السيّد محمّد تقي المدرّسي

من هدى القرآن - ج ١٥

المؤلف:

السيّد محمّد تقي المدرّسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار محبّي الحسين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-5648-18-1
ISBN الدورة:
964-5648-03-3

الصفحات: ٤٣٦

وقيل : أصل الكلمة من الحور وهو البياض ، وإنّما سمّوا كذلك لبياض قلوبهم أو نقاء قلوبهم وصفائها في الولاء لعيسى ، ويبدو أنّ هذا أقرب وأبلغ دلالة على معناها المصطلح الذي يدل على أقرب الناس من الرسل والأوصياء ، وهذا المعنى يقابل النفاق ويرادف معنى المخلص.

وقيل أنّ عيسى ـ عليه السلام ـ بعث كلّ واحد من الحواريين إلى منطقة في أنحاء المعمورة لإبلاغ الرسالة ، ممّا يعكس مدى تفانيهم في سبيل الدعوة حيث أنّ الواحد منهم كان يمثّل أمة في دفاعه عن الحق وتحديه للباطل. (١)

(مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)

وهذا الشاهد من التاريخ يهدينا إلى أنه تعالى يؤيّد المجاهدين في سبيله ، وينصرهم على عدوّه وعدوهم.

__________________

(١) راجع المصدر تاريخ الطبري / ج ٣ ـ ص ٧٣٧ (طبعة أوروبا).

٣٦١
٣٦٢

سورة الجمعة

٣٦٣
٣٦٤

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل السورة :

في كتاب ثواب الأعمال بإسناده عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ «الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبح اسم ربك الأعلى ، وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين ، فإذا فعل ذلك فكأنّما يعمل بعمل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وكان جزاؤه وثوابه على الله الجنة».

نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٢٠

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : «من أدمن قراءتها كان له أجر عظيم ، وآمنه ممّا يخاف ويحذر ، وصرف عنه كلّ محذور»

ثواب الأعمال / ص ٢٠٩

٣٦٥
٣٦٦

الإطار العام

تذكّرنا سورة الجمعة بفضل الله الأكبر المتمثل في رسالات الله والتي سببت إصلاحا شاملا لحياة البشرية ، وبالذات الذين تنزّلت في محيطهم آيات الله ، فبالرسالة طهّر النبي أتباعه من أرجاس الجاهلية وأغلالها ، وعلّمهم الكتاب والحكمة ، ورسم خطا إصلاحيا ممتدا عبر الزمان والمكان ، ولولا الرسول لكان البشر يعود إلى جاهليته الأولى.

لأنّ حملة الرسالة وورثة علمها قد خانوا مسئولياتهم ، يتعرّض السياق إلى الذين لم يتحملوا مسئولية التوراة بعد أن حملوها مشبّها لهم بالحمار الذي يحمل أسفار العلم دون أن ينتفع بها في شيء ، وفي ذلك تحذير من طرف خفي للمسلمين ألّا يصبحوا مصداقا آخر لهذا المثل.

وإذا يذكّر بشيء من واقع الانحراف لدى اليهود ـ الذين من أبرز صفاتهم التشبث بالمادة والحياة الدنيا (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) (١) ـ يعطينا

__________________

(١) البقرة / ٩٦

٣٦٧

مقياسا دقيقا لمعرفة الداعية للحق عن المدّعي له وهو أن من يحمل الرسالة ويؤمن حقّا بمحتواها لا يبالي بالموت دفاعا عنها.

ثم يؤكّد أهمية صلاة الجمعة ليركز في المؤمنين التوجه نحو القيم بدل اللهو والمادة ، ولكي يثبّت للأمة الناشئة تميّزا عن الأمم الاخرى وشخصية مستقلة بفرضها مناسبة دينية اجتماعية في مقابل سبت اليهود وأحد النصارى.

وعند ما نتعمق في تدبرنا نجد علاقة وثيقة بين ابتداء السورة بالتسبيح وانتهائها بالدعوة إلى الصلاة والصبر عليها أمام إغراء التجارة واللهو ، ذلك أنّ الصلاة هي أظهر مصاديق التسبيح في حياة المؤمن.

٣٦٨

سورة الجمعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ

___________________

٥ [أسفارا] : الأسفار الكتب ، واحدها سفر ، وإنّما سمّي بذلك لأنّه يكشف عن المعنى بإظهاره ، يقال سفر الرجل عمامته إذا كشفها ، وسفرت المرأة عن وجهها فهي سافرة ، ومنه :

«والصبح إذا أسفر».

٣٦٩

الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

٣٧٠

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ

بينات من الآيات :

[١] لأنّ الله خلق الخلق للعبادة فقد أودع في ضميرهم الحاجة إليه ، وفطرهم على الإحساس بما هو مرتكز فيه من النقص والعجز ، والمهم المعرفة به حيث لا حدّ ولا نقيصة ولا ضعف ، لذلك فإنّ الخلق لا يرون لأنفسهم وجودا من دون فضله ولطفه وهباته ، ولا هدفا أسمى من التقرب إليه عبر تنزيهه وتسبيحه والاستزادة من فضله بذكر أسمائه الحسنى ، لذلك فالخليقة في تسبيح دائم له عز وجل.

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ)

كلّ بلغته وطريقته ، هذه هي مسيرة الكائنات ووجهتها ، وإذ يضع القرآن الإنسان أمام هذه الحقيقة الكبرى فلكي يدفعه نحو الالتحاق بها ، ويبيّن له أنّ عدم خضوعه لله شذوذ خطير يضعه في مسيرة معاكسة لإرادة ربه وللخليقة جميعا ، وبالتالي فإنه يواجه تحديات كبيرة تسحقه وتؤدي به إلى الدمار ، فلا طريق للنجاة منها

٣٧١

والوصول إلى الأهداف والتطلعات إلّا بمسايرة الوجود بقيمه وسننه في مسيرته الصواب ، من خلال الاعتراف بالعجز والنقص المرتكز فيه والمعرفة بكمال ربّه المطلق ، ومن ثمّ تسبيحه والخضوع له. ولأنّه تعالى لا تدرك ذاته الأبصار ولا العقول ولا الأوهام فقد جعل أسماءه وسيلتنا إليه وذكّرنا بها فقال :

(الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)

قال أبو جعفر (عليه السلام) : «خلقها وسيلة بينه وبين خلقه ، يتضرعون بها إليه ، ويعبدونه ، وهي ذكره» (١) وعن الرضا (عليه السلام) قال : «هو نفسه ، ونفسه هو ، قدرته نافذة فليس يحتاج أن يسمّي نفسه ، ولكنّه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها ، لأنّه إذا لم يدع باسمه لم يعرف» (٢)

وإذا كنّا نريد معرفته بأسمائه فلا بد أن نتيقن بأنّها غير ذاته سبحانه ، ففي الخبر عن الصادق (عليه السلام) : «فلو كان الاسم هو المسمّى لكان كلّ اسم منها إلها ، ولكنّ الله معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء ولكنّها غيره» (٣) ، ولا بد أن يتذكر الإنسان هذه الحقيقة وهو في طريق العرفان بربه حتى لا تذهب به المذاهب ، فيحاول كما فعل بعض الفلاسفة والمجسمة أن يتصور ربه بوهمه أو بعقله المحدود فيضلّ عنه إلى خلقه ، فقد «تاهت هناك عقولهم ، واستخفت حلومهم ، فضربوا له الأمثال ، وجعلوا له أندادا ، وشبّهوه بالأمثال ، ومثّلوه أشباها ، وجعلوه يزول ويحول ، فتاهوا في بحر عميق لا يدرون ما غوره ، ولا يدركون كنه بعده» (٤) ، فسبحان الله عمّا يصفون ويشركون. وأنّى للإنسان أن يتصوّر خالقه؟!

__________________

(١) نور الثقلين / ج ٥ ص ٢٩٥

(٢) المصدر

(٣) المصدر

(٤) المصدر عن الإمام الكاظم (ع)

٣٧٢

بلى. نحن نقول الملك والقدوس والعزيز والحكيم ولكن دون حدّ وتشبيه ، فهو واسع الملك ، عظيم القداسة ، دائم العزة ، ونافذ الحكمة. وتتجلّى هذه الأسماء حينما يعود الإنسان إلى نفسه يتفكر فيها أو يرمي ببصره في الآفاق من حوله.

نعم. إنّ ربنا الملك الذي لا حدّ لملكه ، وإنّما يملك كلّ شيء ملكا ، يملك شهوده وغيبه ، حاضره ومستقبله ، ويهيمن عليه بجميع أبعاده ، ولا يملك شيء ولا شخص شيئا إلّا بما يملّكه. وكلّ هذا آيات ملكوته وأكثر من هذا مما لا يمكن لنا أن نتصوره.

وهو قدوس بمعنى النزاهة المطلقة من كلّ نقص وعيب وحد ، فليس شيء ولا أحد أولى منه بالتسبيح والعبادة. كما أنّه القادر بالعزة على ما يشاء ، والذي لا يذل أو يحتاج إلى غيره. وحيث نسبّحه أو يدعونا إلى تسبيحه فليس لحاجة منه إلينا ولا إلى ذلك ، لأنّه سبّوح وعزيز وملك وقدوس بذاته ، وإنّما بحكمته تفضّل علينا بأن جعل تسبيحه طريقا لنا إلى رضوانه وثوابه وهو الحكيم. وهناك علاقات متينة بين الأسماء الحسنى المذكورة في الآية الكريمة بعضها مع بعض ، فالملك الحق لا بد أن يكون نزيها وقويّا وحكيما ، لكي يكون مهيمنا على ملكه. والعزة لا تكون إلّا بالملك ، كما لا يكون الملك إلّا بها ، وهكذا توجب القداسة العزة. ولم يقل تعالى عزيزا وحسب بل ذكر الحكمة أيضا فهو ملك ذو قوة في حكمة ، لا يدبّر الحياة بالقوة وحدها إنّما يهيمن عليها بالقوة ويدبّرها بالحكمة.

وهنا ينبغي التأكيد على مسألة مهمة وهي أنّ ما تقدم من التحقيق حول أسماء الله لا يعدو كونه محاولة محدودة لتقريب معانيها ليس أكثر ، وإلّا فإنّ الإنسان لا يستطيع أن يفي بالمعنى حينما يتحدث عنها.

[٢] والأسماء الأربعة الحسنى لله تجلّت عند ما انبعث إلى الناس رسولا من أنفسهم فجاء ليهديهم من الضلال ويعيدهم إلى مسيرة الكائنات بعد الابتعاد

٣٧٣

عنها ، وهكذا انطلقت مسيرة المجتمع الإصلاحية حيث تحوّل من الشتات إلى الألفة ، ومن الضعف إلى القوة ، ومن الجاهلية والتخلف إلى العلم والحضارة.

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ)

قال كثير من المفسرين أنّ «الأميين» هم الذين ينتسبون إلى مكة أم القرى ، ويحتمل أنّهم المتفرقون أمما وقيما ، والأظهر أنّهم الجاهليون ، إلّا أنّه ينبغي القول بأنّ الأمي والجاهلي ليس الذي لا يقرأ ولا يكتب فإنّ ذلك هو المعنى الحرفي الظاهر للكلمة ، فقد ينسب العالم الذي يقرأ ويكتب إلى الجاهلية والأميّة لأنه لا يتفاعل مع معارفه (١) ، وعدم القراءة والكتابة مظهر واحد من مظاهر التخلف والجهل ، وللجاهلية مظاهر شتى تصدق عليها جميعا كلمة الأمي التي يبدو أنّها غلبت لتشمل كلّ أبعاد الجاهلية ، ونستوحي ذلك من استخدام القرآن الحكيم لها في سياق حديثه عن أهل الكتاب وهم يقرءون ويكتبون وفيهم دعاة العلم إذ قال : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢) ، ولكن لماذا بعث الله في الأميين بالذات؟

١ / إذا أخذنا بالتفسير الأول (أنّهم أهل مكة) فذلك تجلّ لحكمة الله حيث يبعث رسله في مركز البلاد وأكبر مدنها وأهمها وحيث بؤرة الفساد والضلال ، فإنّ ذلك أكبر أثرا في التغيير.

٢ / وعلى التفسير الأظهر (أنّهم الجاهليون) نهتدي إلى أنّ الله يستنقذ البشرية

__________________

(١) قال الصادق (عليه السلام) : «كانوا يكتبون ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله ، ولا بعث إليهم رسول فنسبهم الله إلى الأميين» نور الثقلين ج ٥ ص ٣٢٢

(٢) البقرة / ٧٨

٣٧٤

حينما تتجه حضارتها نحو الدمار والانتهاء.

ثم إنّ الله حين بعث رسوله في هذا الوسط المتدني في العلم عرفنا بأنّ الرسالة لم تكن تكاملا ذاتيّا وصلت إليه البشرية والمدنية ، كلّا .. إنّها كالغيث الذي ينزل من السماء على أرض جرداء فيملأها خصبا وجمالا. إنّها كما أشعة الشمس تهبط على وديان الظلام فتنشر عليها الضياء والروعة. إنّها تأتي من خارج إطار السياق التاريخي فتحدث فيه ثورة بديعة وتحولا عظيما لا نجد له أيّ تفسير إلّا في الرسالة ، وليس كما يدّعي البعض بأنّها حجر وعامل مساعد لعوامل حضارية لدى العرب ، فإنّ الدلائل التاريخية كلها تشير إلى وجود جاهلية (أمية) شاملة في كلّ الأبعاد في المحيط الذي بعث فيه الرسول (صلّى الله عليه وآله) عبرت عنها فاطمة بنت محمد (عليها السلام) بقولها عن أبيها : «ابتعثه الله إتماما لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنفاذا لمقادير حكمته ، فرأى الأمم فرقا في أديانها ، عكّفا على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، ومنكرة لله مع عرفانها ، فأنار الله بأبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها ، وجلى عن الأبصار غممها ، وقام في الناس بالهداية ، فأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الصراط المستقيم» (١) ، وقالت (عليها السلام) : «وكنتم على شفا حفرة من النار مذقّة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقتاتون القدّ ، أذلّة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم» (٢).

وهناك سؤال : لماذا سمّي النبي أمّيّا ، وقال الذكر «رَسُولاً مِنْهُمْ» فما هي النعمة في أن يكون النبي أميا؟ قال الماوردي : الجواب من ثلاثة أوجه : أحدها لموافقته ما تقدّمت به بشارة الأنبياء ، الثاني : لمشاكلة حاله لأحوالهم فيكون أقرب

__________________

(١) الاحتجاج / ج ١ ص ٩٩

(٢) المصدر / ص ١٠٠

٣٧٥

إلى موافقتهم ، الثالث : لينتفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعا إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها (١).

بيد أنّ الجواب الأفضل هو ما ذكر في حديث شريف مأثور عن الامام الباقر (عليه السلام) كما سيأتي.

وهناك شبهة حاول البعض أن يدسّها عند قول الله عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) : «منهم» إذ نسبوا إلى النبي الأكرم الأمية والجهل ، وأئمة الهدى من جهتهم سعوا لدفعها بصورة منطقية ، فقد قيل للإمام الباقر (ع) : إنّ الناس يزعمون أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) لم يكتب ولا يقرأ ، فقال : «كذبوا لعنهم الله. أنّى يكون ذلك وقد قال عزّ وجلّ : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ) .. (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) فيكون يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن بقرأ أو يكتب؟» ، فسئل : فلم سمّي النبي الأمي؟ قال : «نسب إلى مكة ، وذلك قوله عزّ وجل : (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) فأم القرى مكة ، فقيل أمي لذلك» (٢) وقد جاء في حديث مأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام) : أنّ تسمية العرب بالأميين كان بسبب حرمانهم عن كتاب إلهي ، وعلى هذا فإنّ نسبة الرسول إلى ذلك كان بسبب انتمائه إلى ذلك القوم جغرافيّا ونسبيّا ، وليس لأنّه شخصيّا لم ينزل عليه الكتاب ، فقد نزل عليه أحسن الكتب فكيف يكون أميا بهذا المفهوم؟! والسؤال هنا : ما هو منهج الرسول في الإصلاح والسير بالإنسان نحو الحضارة والهدى؟

[١] هداية الناس إلى الله عزّ وجل ، ببثّ آياته بينهم وبيانها لهم آية تلو آية ، والذي من شأنه تفجير الطاقات الخيرة الكامنة داخل النفس البشرية ، ومن أهمها

__________________

(١) القرطبي / ج ١٨ ص ٩٢

(٢) نور الثقلين / ج ٥ ص ٣٢٢

٣٧٦

استثارة العقل في البحث عن الطريق لأنّ الآيات تبيّن معالم الطريق وهي أساس الهدى ، إلّا أنّ هنالك حاجة إلى تتميمها بتذكرة الإنسان بها مما يقوم به الأنبياء (عليه السلام) ، وهكذا نهتدي إلى أن أوّل ما يجب على الحركات الرسالية القيام به هو بث الثقافة الصحيحة بين الناس لكي يقتنعوا بالإصلاح ويتحسسوا ضرورته. ولعلّ الآية الكريمة تشير أيضا إلى ميزة الرسالات الإلهية عن الدعوات البشرية وهي كونها تبدأ من الله لتنتهي إليه.

(يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ)

[٢] تطهير الناس من عقد النفس وأغلالها التي تمنع انطلاقهم نحو الهدى كما قال تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (١) ولا يمكن لأمة مثقلة بعقد الأحقاد والأضغان ، والأغلال والحسد والاستئثار ، وأصر الخوف والتهيّب والانطواء ، لا يمكن لمثل هذه الأمة أن تنهض بمسؤولية الإصلاح والتقدم أو أن تكون أهلا لوحي الله وهداه ، لذلك عمد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهو ينشد النهضة بذلك المجتمع إلى تطهيره من أدران الشرك والتخلف والجاهلية.

(وَيُزَكِّيهِمْ)

قال ابن عباس : يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان ، وقال بعضهم : يعني يأخذ زكاة أموالهم ، وهو بعيد.

٣ ـ وإذا ما تفاعل المجتمع مع الآيات ، واهتدى بها إلى غاياتها ، وتزكّى بها

__________________

(١) الأعراف / ١٥٧

٣٧٧

وبتوجيهات المصلح ، أصبحت لديه القابلية العقلية والنفسية لتلقّي تعاليم الرسالة والتفاعل معها ، ولعلّه لذلك تقدّمت تلاوة الآيات والتزكية على التعليم.

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)

والكتاب هو القرآن الذي كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أوّل مفسر ومؤوّل لمعانيه ، وما أحوجنا وبالذات مجاميعنا العلمية أن نتعلّم ونعلّم كتاب الله الذي هو حبلة وبابه إلى الهدى والفلاح. إنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) طهّر النفوس والعقول من الأغلال والعقد ، ثم راح يعلّم الأمة معاني الكتاب بعد تلاوته عليهم ، ويستخرج لهم منها مناهج الحياة ، في السياسة والإقتصاد والاجتماع والعسكرية ، حتى أصبح القرآن بديلا حضاريّا شاملا عن المناهج الجاهلية الضالة بقضّها وقضيضها. واليوم حيث نريده العودة إلى الإسلام باعتباره الحل الأمثل للمشاكل المعوزة التي لا تستطيع البشرية الفرار منها لا بد أن نعود من الباب الذي ولجه المعلّم الأوّل للرسالة نبيّنا الكريم (صلّى الله عليه وآله) ، فنشرع بآيات الله نتلوها على الناس ، ونذكّرهم بربّهم حتى ينصهروا جميعا في بوتقة الوحدة الربّانية ، ثم نعلّمهم كتاب ربهم حتى يتشبعوا بقيمه المتسامية ، ويتسلّحوا برؤاه وبصائره ، وينبعثوا من آياته في كافة تصرفاتهم ومواقفهم.

ليكن القرآن أهم مادة دراسية في مجاميعنا العلمية ومدارسنا وجامعاتنا ومراكز دراستنا حتى ننظر من خلاله إلى كلّ شيء ونصبغ بصبغته كلّ عمل وموقف.

وحيث يريد الرسول لمن حوله أن يقودوا الحياة عمليّا بالقرآن علّمهم الحكمة أيضا ، ليحسنوا فهمه وتطبيقه على الواقع حسب اختلاف الظروف وتقدم الحياة وتطورها ، فبالحكمة تستنبط الحلول لمشاكل الحياة ومفرداتها. ولو كان الرسول

٣٧٨

(صلّى الله عليه وآله) يقتصر على تعليم نصّ القرآن للمسلمين وحسب دون إرشادهم لأصول الاجتهاد ومناهجه لكانوا يقعون في مشاكل لا تنتهي.

ويبدو أنّ الحكمة الإلهية تستوحى من الآيات المحكمة التي يردّ إليها كل آيات القرآن وكل الحوادث الواقعة في الحياة ، ذلك لأنّ محكمات القرآن هي التي تذكّر الإنسان بالقيم الفطرية المرتكزة في ضميره ، وتثير دفائن عقله بالحقائق الكبرى التي يعرفها بذاته بعد التبصير بها .. وبكلمة : المحكمات القرآنية هي مرتكزات العقل الإنساني كالتوحيد والعدل والحرية والمسؤولية وما أشبه ، وهي التي تعتبر مصدرا للتشريع الإلهي ، كما يزعم المشرّعون الوضعيّون أنّهم يعتمدونها في تشريعاتهم.

وحينما يبلغ الإنسان درجة متقدمة من الوعي بهذه المرتكزات ، ويعقلها عقل دراية ، ويتعمّق في معرفتها ، هنا لك يصبح فقيها قد أوتي الحكمة ، وآنئذ يستطيع أن يستنبط سائر أحكام الشريعة منها ، كما يتمكن من اعتمادها في مواقفه السياسية والاجتماعية المتغيرة.

وأعرف الناس بالحكمة ، وأقدرهم على استنباط الأحكام الفرعية منها ، وأوعاهم لبصائرها ، هو الجدير بحكم الأمة ، لأنّه أقرب إلى القرآن من غيره ، ولأنّ القرآن هو الحاكم الأوّل في الأمة الإسلامية ، وإنّما يمثّله أوعى الناس له وأقرب الناس إليه ..

لذلك فإنّ الحكمة هنا تعني الولاية الإلهيّة والقيادة الشرعية ، لأنّها وعاء الحكمة ، وعيبة المعارف الربّانية ، ومرتكز البصائر القرآنية.

من هنا جاءت النصوص المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تفسّر من جهة الحكمة بالولاية ، وتبيّن من جهة أخرى أنّ الحكمة هي التفقّه في الدين.

٣٧٩

قال الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله سبحانه : «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» : «طاعة الله ، ومعرفة الإمام» (١)

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية ذاتها : «إنّ الحكمة المعرفة والتفقّه في الدين ، فمن فقه منكم فهو حكيم ، وما أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من فقيه» (٢)

وروي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : «إنّ الله آتاني القرآن ، وآتاني من الحكمة مثل القرآن ، وما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة إلّا كان خرابا. ألا تفقّهوا وتعلّموا ولا تموتوا جهّالا» (٣)

وفي تفسير آخر مأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «والحكمة هي النجاة ، وصفة الحكمة الثبات عند أوائل الأمور ، والوقوف عند عواقبها ، وهو هادي خلق الله إلى الله» (٤)

وتكاد كلمات المفسرين في الحكمة تكون واحدة ، فقد فسرها مالك بن أنس أنّها الفقه في الدين ، وقال بعضهم : ويعلّمهم الحكمة فيدركون حقائق الأمور ، ويحسنون التقدير ، وتلهم أرواحهم صواب الحكم وصواب العمل ، وقال آخر : الكتاب : الوحي ، والحكمة : العقل ، وقال آخر : إنّ الحكمة هي العلم الذي يعمل به فيما يجتبي أو يجتنب من أمور الدّين والدنيا ..

وهكذا تتواصل تفسيراتهم للحكمة لتوضح أنّها بلوغ مستوى من علم الدين

__________________

(١) نور الثقلين / ج ١ ص ٢٨٧

(٢) المصدر

(٣) المصدر

(٤) المصدر / ص ٢٨٨

٣٨٠